السبت 22 شباط (فبراير) 2020

احمد الدبش: المعرفة في خدمة الهيمنة

السبت 22 شباط (فبراير) 2020

المعرفة في خدمة الهيمنة (1 ـ 3)

جذور ودواعي الانشغال الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط

أحمد الدبش*
الكتاب: “أورشليم القديمة” و“أورشليم الجديدة”
المؤلف: ماثيو إف جايكوبز
ترجمة: الدكتورة فاطمة نصر
الناشر: دار سطور الجديدة 2011
عدد الصفحات: 384 صفحة من الحجم المتوسط.

صدرعن دار سطور الجديدة، كتاب بعنوان: “أورشليم القديمة” و“أورشليم الجديدة”: مطامع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ومهمتها المقدسة (1918 ـ 1967). المعرفة في خدمة الهيمنة" (ط1، 2011)، للكاتب ماثيو إف جايكوبز، ونقلته إلى العربية المترجمة، الدكتورة فاطمة نصر. يقع الكتاب في 384 صفحة من الحجم المتوسط، ويتكون الكتاب من مقدمة، وخمسة فصول، وخاتمة.

المقدمة:

ينطلق المؤلف من الفرضية الأساسية، التي يعمل عليها، وهي “أن ممارسة الولايات المتحدة للقوة والسطوة ثقافياً، اقتصادياً، عسكرياً، وسياسياً فى الشرق الأوسط، ظلت ممكنة، ومسوغة، ومستدامة، ومدعومة من خلال الأساليب المحددة، التي يفكر بها الأمريكيون في المنطقة، وفي الشعوب التي تسكنها، والقوى النشطة هناك، ويفسرونها وفقاً لذلك(...)ويتفحص المؤلف في الكتاب الأساليب التي بها فهم الخبراء، والأكاديميون، ورجال الأعمال، ومسؤولو الحكومة، والصحفيون في الولايات المتحدة، والذين كانوا يتلقون الأموال من أجل تفسير الشرق الأوسط للجماهير الأمريكية، أساليب فهمهم للمنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، تقريباً، وحتى السنوات الأخيرة من ستينيات القرن العشرين” (ص 8 ـ 9).

الفصل الأول: المهمة تناط بالمتخصصين في المنطقة

يشير المؤلف إلى دراسة نشرها أن إى. إيه. سبايزر، من جامعة بنسلفانيا، في العام 1947، عن الشرق الأوسط، ومصالح الولايات المتحدة هناك. دعا فيها إلى “تبني منهج جديد في دراسات الشرق الأوسط بالولايات المتحدة (بعد أن وجه) نقده إلى نمط إنتاج المعرفة المتخصصة، ونظامه الذي يمثله هو” (ص 41).

يُقيم المؤلف مزاعم سبايزر حول إنتاج المعرفة عن الشرق الأوسط، واستهلاكها في الولايات المتحدة الأمريكية، فيقول: “إن الأمريكيين الذين تخيلوا الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، أو زاروه فعلوا ذلك في سياق سياسي دولي كان آخذا في التغير سريعاً” (ص 43).

“لم يتعاط المبشرون، وكتاب الأسفار، والمتخصصون في الشرق القديم(...) بصراحة، ووضوح مع تضمينات تلك التطورات. أنيطت المهمة بطبقة علمانية جديدة من الاستراتيجيين، ومفكرى السياسة الخارجية، والصحفيين، وبيروقراطي الحكومة(...) هنا خطأ، من تلك الفجوة” (ص 44).

زعم المُنظر البحري ألِفرد ثاير مِهان، “من خلال حماس المبشرين، والإجراءات الحكومية، سيكون بوسع مزايا المشروع الأمريكي المقدس، والعلماني الانتشار بالخارج، والوصول إلى آسيا بخاصة. كانت آراء مِهان عن المنطقة التي سرعان ما أطلق عليها مصطلح (الشرق الأوسط) ذات مركزية بالنسبة للمدركات الجديدة عن المنطقة، وتركزت على الاهتمامات العلمانية بالتقابل مع المقدسة. في كتابه (مشكلة آسيا) عام 1900، حدد مِهان مكاناً(...) أسماه (وسط آسيا). زعم(...) أنها ستكون موضع التنافس الدولي طوال المستقبل المنظور” (ص 45).

حذر مِهان من أنه “ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون على وعى، واهتمام متنامٍ بمن يتحكم وسط آسيا، وبخاصة في نقاط الوصول، وخطوط الاتصال، التي يضمها النصف الغربي من المنطقة (يضم خطوط الاتصال والسفر ـ قناة السويس، البحر الأحمر، والخليج الفارسي)، وأن تستعد للدفاع عن مصالحها هناك إذا اقتضى الأمر” (ص 45).

لفت مِهان النظر، في مقال كتبه عام 1902، إلى أهمية الخليج الفارسي. و“أكد على وجود روابط بين مستقبل مصالح الولايات المتحدة هناك، وفي آسيا بعامة، وبين الحفاظ على الهيمنة البريطانية في المنطقة(...) يخلص المؤلف إلى أن كتابات مِهان تدعم الأساليب التي كانت موجودة لتخيل المشرق(...)بالإضافة إلى عرضه مادته بأسلوب أكاديمي علماني” (ص 47).

بُعيد كتابة مِهان عن أهمية الشرق الأوسط، اضطلعت وزارة الخارجية “بمهمة إعادة تخيلها الخاص للمنطقة، بصفتها منطقة مصالح اقتصادية، واستراتيجية متناهية للولايات المتحدة” (ص 48). و“أصبح (الشرق الأدنى) و(الشرق الأوسط) جوهرياً مصطلحين قابلين للتبادل في التخيلات البازغة عن المنطقة الشعبية، والمتخصصة معاً” (ص 49). ظهرت مجموعة تنظيم (التقصي The Inquiry) للتخطيط لاتفاقية سلام بعد الحرب العالمية الأولى. ومن ثم، “يمكن القول إن عمل Inquiry كان يعكس الأهمية المتزايدة للشرق الأوسط في فكر صناع السياسة، والمستشارين الأمريكيين(...) تمسكوا (أعضاء جنوب آسيا) بالرواية السائدة التي من خلالها كان الأمريكيون قد تخيلوا المنطقة طوال القرن التاسع عشر” (ص 51).

فقد “أتى الأفراد الذين شاركوا في تلك المحاولة معهم بنظرة القرن التاسع عشر المتمايزة، وأضفوها على جهودهم” (ص 52). بعد اكتشاف النفط، ظهر “مكتب العلاقات الخارجية” إلى الوجود من بقايا تنظيم Inquiry، ومن ثم، كانت أول مجموعة كونها “مجموعة دراسات الشرق الأوسط” (1927)؛ “على الرغم من أن تلك الخبرات اتسمت بطبيعة أكثر علمانية، واستراتيجية، فقد ظل المتخصصون الأوروبيون، هم المهيمنون، ومعهم طرق التفكير الاستشراقية(...) طرح إدوارد ميد إيرل، مؤرخ الشؤون العسكرية، والدبلوماسية، في عام 1923، مطلباً بمزيد من تدخل الولايات المتحدة في المنطقة، وأيضاً بتشكيل مجموعة جديدة من المتخصصين لإدارة مصالحها هناك (الشرق)” (ص 55 ـ 56).

في عام 1929، تحدى إيرل الإطار التبشيري، والاستشراقي لتخيل المنطقة بالقول: “قدموا صورة قاصرة، مشوهة، بل وجرتسكية بشعة أحياناً(...) ينبغي على المبشرين العثور على نهج جديد في تعاطيهم مع جمهور أتباعهم في الشرق الأدنى، وأيضاً في تقاريرهم لأصدقائهم، وداعميهم في الوطن” (ص 58).

أوضحت الحرب العالمية الثانية، أوجه القصور الفكرية للخبرات القائمة، وقلة عدد العاملين في آن. “كان ثمة عدد من التنظيمات واللجان بالداخل ـ مثلاً (مكتب الخدمات الاستراتيجية للإستخبارات) الـ OSS، ولجان التخطيط المختلفة لما بعد الحرب ـ في أمس الحاجة إلى عاملين من ذوي الاطلاع، والمعرفة. وهكذا، زاد الطلب بدرجة هائلة على الأمريكيين الذين لديهم معرفة بالشرق الأوسط،(...) سرعان ما استجاب ورثة قدامى المبشرين، ورجال البر للطلب المتنامي على الخبرة في المنطقة، بأن عرضوا صلاتهم، وتجاربهم، ومعرفتهم للاستخدام الحكومي فيما بدأت الحرب العالمية الثانية، يمثل أفراد ثلاثة ـ هارولد هوسكينز، ووليام إدى، وجون بادو ـ المسار الوظيفي لهذه المجموعة” (ص 59).

“على الرغم من أن أحداً من هؤلاء الثلاثة لم يتلق أي تدريب محدد في الشرق الأوسط المعاصر، أو كمحلل سياسي قبل الحرب، فقد اعترف الآخرون بهم خبراء في تلك المجالات بناء على معرفتهم بالعربية، وخبراتهم في المنطقة، والصلات التي كانت لهم روابط بأفراد فيها، كما عززت المهام التي اضطلعوا بها أثناء الحرب مصداقيتهم كمراقبين للشؤون الإقليمية في فترة ما بعد الحرب(...) جذبت الحرب العالمية الثانية مزيداً من المطلعين على المنطقة كانوا أركولوجيين، ومتخصصين في فقة اللغة، وباحثين في الدراسات الدينية” (ص 62).

يرى المؤلف، أن سمات إى. إيه. سبايزر، تتسق “مع سمات نموذج (الخبراء) في زمن الحرب العالمية الثانية” (ص 63). و“أتاحت ندرة المعروض من الخبراء في الشرق الأوسط المعاصر أثناء الحرب العالمية الثانية الفرصة لورثة الإرساليات التبشيرية، ورجال البر للعودة إلى البروز” (ص 64).

أتاحت الحرب تفعيل برامج جديدة أولية يمكن فيها تدريب المتخصصين الجدد. فاستثمر جايكوب كولمان هوورويتز الفرصة، “ليصبح أول أكاديمي تدرب كمتخصص في الشرق الأوسط المعاصر” (ص 65). وأرست جامعات عدة في الولايات المتحدة بإقامة برامج خاصة للتدريب. “وبداية من سنوات القرن العشرين المبكرة، وحتى عام 1945، أدت مصالح الولايات المتحدة المتوسعة، وتدخلها في أنحاء العالم بعدد متزايد من المجموعات المتخصصة المهنية، والعلمانية بالحكومة، والدوائر الأكاديمية، والإعلام، وعالم رجال الأعمال إلى مزيد من الاهتمام بالشرق الأوسط المعاصر” (ص 67).

يقول المؤلف: “انتهز سبايزر، وآخرون فرصة الحرب الباردة البازغة، والتزامهم بها للحصول على موارد لخلق تشكيل من خبرات الشرق الأوسط ذي صبغة مؤسسية” (ص 68). “جعلت الحرب الباردة العثور على أموال لتوسيع مجال دراسات الشرق الأوسط من السهولة بمكان، لكنها لم تقدم سوى قليل من العون للتعاطي مع المشكلة ـ التي كانت على نفس القدر من الأهمية، أى مشكلة إيجاد أشخاص ينفذون تلك الأجندة، حيث لم يكن هناك سوى عدد قليل من الأشخاص في الولايات المتحدة مدربين كمتخصصين في الشرق الأوسط الحديث” (ص 71).

“تغلبت هارفارد، والجامعات الأخرى، التي أنشأت مراكز مماثلة في الخمسينيات، والستينيات على ندرة المعروض من الخبرة، في ذلك المجال، بأن اجتذبت باحثين، وأكاديميين مرموقين من أوروبا، وكندا، بل، ومن الشرق الأوسط نفسه” (ص 72). فقد “أضفت الصبغة المؤسسية على هذا المجال، وشجعت على انبثاق أكبر لشبكة عبر/ دولية من الأفراد، والمنظمات المهتمة بتحليل المنطقة بما يتسق مع أطر المنظور السياسي الدولى للولايات المتحدة(...) كان مجلس العلاقات الخارجية في حد ذاته شبكة من مسؤولي الحكومة، والأكاديميين، والصحفيين، ورجال الأعمال من ذوي المكانة، والارتباطات الجيدة، مهتمين بعلاقات الولايات الخارجية” (ص 76).

و“شكل معهد الشرق الأوسط العقدة الثانية في شبكة المتخصصين عبر/ الدولية غير الرسمية” (ص 78). وبذا تم “إضفاء الصبغة المؤسسية على المعرفة عن الشرق الأوسط، والخبرة في هذا المجال” (ص 80). “أن النفط، وصراع الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي كانا يبرران اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، وتدخلها بالمنطقة، وكانا يتطلبان إنتاج مزيد من المعرفة عنه” (ص 83).

الفصل الثاني: مخاطر الإسلام السياسي

في كانون أول (ديسمبر) 1948، تحدث وولتر ليفينجستون (ليفي) رايت، عن خاصيات الإسلام الجامعة بقوله: إن “الثقافة الإسلامية نسيج جامع من قطعة واحدة (لا تتكون من وصلات) ـ يغطي العالم الإسلامى بكامله” (ص 87). وجاء في تقرير عام 1953، الصادر من مجلس الاستراتيجية النفسية، “لا يمكن دراسة الذهنية العربية التقليدية بدون الأخذ في الاعتبار تأثير العقيدة الإسلامية المهيمنة بالكامل على التفكير العربي” (ص 89). وقامت وزارة الحرب بتوزيع مذكرة في عام 1955، على أعضاء مجلس الأمن القومي تبرر دراسة الدين ـ وبخاصة الإسلام. فالضرورة “تقتضى تطور فهم عملياتي (يتم العمل وفقه) للإسلام، ودوره في الشؤون الدولية” (ص 92).

يتفحص المؤلف جهود أعضاء الشبكة عبر/ الدولية غير الرسمية، لإنتاج معرفة عن الدين تساعدهم على تطور فهم عملياتي لدوره في الشؤون الإقليمية، والدولية. تخيل المراقبون، والمحللون، الشرق الأوسط بصفته “(الأرض المقدسة)، ولعبت التوترات الدينية دوراً مركزياً في فهم أوروبا الغربية أثناء السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، لما كان يسمى (المسألة الشرقية)، أو (رجل أوروبا المريض)” (ص 94).

يكشف مقالان كتبهما السير فالنتين تشيرول، الصحفي البريطاني، بوضوح المشاعر السائدة عن الإسلام في تلك اللحظة الزمانية. ففي مقاله بعنوان “الإسلام وبريطانيا”، عبر فيه عن اعتقاده بأن “الهوية المشتركة (ستوحد) جميع المسلمين للقيام بـ (عمليات مشتركة)، وفاعلة ضد الغرب(...) فهم كالنمور التي لا تستطيع أبداً تغيير رقطات جلدها” (ص 97). عاد تشيرول إلى نشر مقال آخر، تحت عنوان (سقوط الخلافة)، عبر عن عظيم تفاؤله لإلغاء “الخلافة التي كانت قد أسست عليها زعمها في حقها لقيادة الإسلام” (ص 98). فإن “الإسلام لم يعد باستطاعته أن يكون على نفس درجة الخطورة التي كانها حينما كان موحداً تحت القيادة التركية” (ص 99).

ظهر نوع جديد من التفكير، “يؤكد على التصدعات داخل ما افتُرض، وأنه جماعة إسلامية كوكبية تمثل كتلة متناغمة، حيث رأى مراقبون كثيرون، أن المسلمين يبدون وأنهم يمرون بأزمة هوية، يشكل من الصراع بين الأصالة والحداثة” (ص 100).

يستعرض المؤلف أعمال هميلتون إيه. أر. جيب، الباحث البريطاني، وويليام بوك، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط بجامعة هارفارد، وروبرت مونتان، المتخصص الفرنسي في شؤون أفريقيا، وويلفرد كانتول سميث، الأكاديمي المتخصص في الشئون الدينية. ويشير المؤلف إلى جزمهم “وجود مأزق روحاني في الإسلام،(...) ما رأوه مجموعتان متناقضتان تماماً تتنافسان على التحكم السياسي، والديني في الشرق الأوسط” (ص 103).

يتطرق المؤلف إلى دوافع جماعة (الإخوان المسلمين) بقوله: “في واقع الأمر، فقد رأت الجماعة أنه بالإمكان القيام بالتحديث، والإصلاح داخل إطار إسلامي، وأن ذلك لا يتطلب العلمنة، بل إن تأكيد الجماعة على التحديث القائم على المبادئ الدينية لعب دوراً حاسماً في تناميها السريع” (ص 106).

يذهب المؤلف إلى أنه “أثناء العقد الأول الذي تلا الحرب العالمية الثانية، تخيل أعضاء الشبكة عبر/ الدولية غير الرسمية، أن المسلمين يقفون في مفترق الطرق، وأن أحد تلك الطرق قد يؤدي إلى الإسلام الراديكالي، والذي كان كثير من المحللين يعتقدون أن كثيراً من سكان المنطقة قد يجدونه الأكثر جاذبية. بيد أنهم زعموا أن شعوب المنطقة إذا تخيرت هذا الطريق، فسيستمرون في استلهام خريطة عقلية لن يكون باستطاعتها أبداً أن تقودهم إلى الحداثة” (ص 111).

اعتبر المتخصصون في الشرق الأوسط، الدين الإسلامي، “قوة سياسية منذرة محتملة” (ص 112). وكان “لدى المتخصصين في الشرق الأوسط نزوع لرؤية الإسلام على أنه معاد للديمقراطية، هذا على الرغم من اعترافهم أحياناً بوجود بعض الملامح المؤيدة للديمقراطية في الإسلام” (ص 113 ـ 114). أن غالبية خبراء الشرق الأوسط، اعتقدوا أن الإسلام يحدد السلوك اليومي لمعتنقية، فقد كان “الاعتقاد الشائع بأن الجماهير المسلمة، التي تنساق وراء عواطفها، كانت تدعم أنماطاً بعينها من القادة، وتنزع إلى الحروب، والغزو” (ص 115).

ويحدثنا المؤلف عن شخصية المفتي، الحاج أمين الحسيني، الذي اعتبره كثير من المراقبين أقوى شخصية في الشرق الأوسط بقوله: “على الرغم من أن التقييمات الحكومية، والأكاديمية للمفتى لم تكن بهذا القدر من المبالغة، والوضوح، إلا أنها تطابقت مع المدركات الشائعة عن العلاقة بين المستبدين، والجماهير العاطفية، أو المتعصبة التابعين لهم بما يؤدى إلى الشمولية” (ص 118). أن تركيز المتخصصين المُتعمد على المفتى، يوضح بحسب المؤلف، “على تخيل الإسلام، في نهاية الأربعينيات، وبداية الخمسينيات، من خلال منظور (الشمولية)”(ص 119). وهكذا عمل استخدام مصطلح (الشمولية) لتعريف الشرق الأوسط في نهاية الأربعينيات على خدمة هدف محدد، هو أنه “ينبغى على الولايات المتحدة، أن تكون مستعدة لمواجهتهم” (ص 120).

الإسلام والشيوعية:

ألقى جورج كنان، المتخصص البارز في الشأن السوفييتي، خطاباً بكلية الحرب القومية، في آذار (مارس) 1947، جاء فيه: “أن الشرق الأوسط هو من شؤون الأمن القومي الأمريكي، ومن ثم فإنه ينبغي على الولايات المتحدة فعل كل ما في استطاعتها للحيلولة دون سقوط المنطقة في أيدٍ سوفييتية(...) لكنه عبر عن شكوكه الجادة في استطاعة الاتحاد السوفييتي تخصيص موارد كافية (لنشر الشيوعية) بالتدخل العسكري المباشر للهيمنة على البلاد الإسلامية” (ص 123). “إلا أنه (كنان) رأى أن الأمريكيين سيلحقون بأنفسهم ضرراً كبيراً إن هم اكتفوا بالحفاظ على (هدوئهم) في مواجهة تلك القدرات السوفييتية المحدودة” (ص 124).

ويذهب ويليام إدى وفقاً لتحليلاته، “أن جماهير الشرق الأوسط، وربما بمساعدة من القيادات الدينية، أو بناء على طلبهم، قد تتغاضى عن الخلافات الأيديولوجية المهمة مع الشيوعيين، وتتحالف مع الاتحاد السوفييتي من أجل شن حملة تحد خطيرة ضد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة” (ص 126).

وعلى الرغم من أنه لم ينتج إجماع واضح عن محاولات تفحص ما إذا كان الإسلام عائقاً في سبيل انتشار الشيوعية في الشرق الأوسط، أو مشجعاً لمثل هذا الانتشار. خلصت ورقة (الجيش) البحثية، عام 1955، إلى أن الإسلام قد أصبح “قوة عالمية لا تقل عن الشيوعية، وعلى الاستراتيجيين أن يتعاطوا معه بصفته هذه” (ص 129).

الإسلام والقومية:

كان ثمة اهتمام، منذ وقت طويل، بالعلاقة بين الدين والقومية في الشرق الأوسط. في نهاية الأربعينيات، وبدايات الخمسينيات، تصاعدت الدعوات إلى وحدة الأمة الإسلامية، “تلك الدعوات التي أسهمت أيضاً في وجود مخاوف على نطاق واسع حول توجهات الإسلام الشمولية(...) تملك القلق من المسؤولين بوزارة الخارجية، فيما جسدت حركات الوحدة الإسلامية نفسها، في سلسلة من المؤاتمرات عُقدت بين عامي 1949 و1955” (ص 130).

و“على الرغم، من أن المؤتمرات لم تنجز شيئاً ملموساً، فقد ولدت مخاوف كافية من احتمال انتشار الإسلام السياسي الشمولي” (ص 131). ووجدت وزارة الخارجية أن الحل الأمثل، هو محاكاة الطريق الذي سار فيه مصطفي كمال أتاتورك في تركيا. واعتبرت الوزارة أن “محاكاة سياسة الأتراك هذه هدفاً مرغوباً فيه” (ص 134).

أدت الآراء البازغة القائلة بأن “الإسلام، والقومية، ليسا بالضرورة الشيء ذاته، أو أنهما حتى يدعمان بعضهما، أدت بالخبراء إلى إعادة النظر في الإسلام” (ص 135). تظهر النقلة في مقاربة الإسلام جلية في ردود الأفعال على تنامي تيار القومية العربية العلمانية في منتصف الخمسينيات، وبخاصة بعد أن تولى جمال عبد الناصر، والضباط الأحرار السلطة في مصر. بحث “أيزنهاور عن أساليب قابلة للحياة لمجابهة طموح ناصر، ومكانته في المنطقة(...) وقع اختيار أيزنهاور على سعود ملك المملكة العربية السعودية للقيام بهذا الدور في تلك المنطقة(...) ويعتبر السعوديون أعمق الشعوب العربية تديناً. ومن ثم، فبالإمكان إعداد الملك للعب دور الزعيم الروحاني” (ص 137).

“كشفت تلك السياسة عن تناقض جوهري في الأسلوب الذي تخيل به صناع السياسة، والخبراء الآخرون في الولايات المتحدة الشرق الأوسط، في أواخر الخمسينيات(...) كان يمثل تحدياً لذلك الحس الدائم بالمهمة المقدسة، والدنيوية (العلمانية) التي هيمنت على تخيلات الأمريكيين للشرق الأوسط” (ص 138).

في عام 1958، توصلت مجموعة من (مجلس العلاقات الخارجية) لدراسة (الشرق الأوسط والإسلام الحديث)، “إلى أن الشرق الأوسط قد برهن في نهاية الخمسينيات على أنه منطقة قوية في حد ذاتها ترفض الخضوع للهيمنة الأجنبية” (ص 139). وبحسب المؤلف، “نظر المراقبون إلى صعود آية الله الخميني، وحركة المعارضة الدينية في إيران، وسقوطهما الظاهري في أواسط الستينات على أنه يدعم تفسيرهم الجديد الذي يذهب إلى أن القومية العلمانية كانت في سبيلها إلى تخطي الإسلام” (ص 142).

المعرفة في خدمة الهيمنة (2 من 3)

لماذا تغير موقف واشنطن من الحركات القومية في الشرق الأوسط؟

أحمد الدَبَشْ *

يواصل الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش، في الجزء الثاني من قراءته لكتاب «(أورشليم القديمة) و(أورشليم الجديدة). مطامع الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط ومهمتها المقدسة (1918 ــ 1967). المعرفة في خدمة الهيمنة»، للكاتب ماثيو إف جايكوبز، حيث يتناول هذا الجزء، الفصل الثالث: تفسيرات جديدة للسياسات الجماهيرية العلماني، والفصل الرابع: تخيل شرق أوسط متغير.

الفصل الثالث: تفسيرات جديدة للسياسات الجماهيرية العلمانية.

يتناول المؤلف هنا الكيفية التي فهموا بها السياسة الجماهيرية العلمانية في المنطقة مع تركيز خاص على الحركات القومية التركية، والعربية، والإيرانية. «كان المراقبون في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى يدركون بوضوح الرغبات القومية المتنامية الآخذه في الانتشار في أنحاء المنطقة» (ص 151). «ظهر أول إدراك مستدام لصناع السياسة، والمحللين الأمريكيين بالتيارات القومية في الشرق الأوسط، مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى (...)[اعترف بعض المستشارين] بظهور حركات قومية معادية للاستعمار في الشرق الأوسط، وذكروا أن العرب كان لديهم قدر من الحس الغامض بوجود هوية مشتركة، بيد أن أعضاء تنظيم (Inquiry)، اعتقدوا أن تلك المشاعر المشتركة يمكن إثباطها بسهولة من خلال الهويات، والارتباطات القبلية، والعشائرية المحلية» (ص 152). «عكست أنشطة، وأساليب لجنة كينج/ كراين، التي أرسلت لتقييم المشاعر العامة حول تفعيل نظام الانتداب، عكست عدم استعداد مماثل لأخذ الأشكال المحلية من القومية في الشرق الأوسط على محمل الجد(...). [فقد] ظهرت النقاشات عن القومية فقط في سياق صلتها بقضايا أخرى، ومن ثم، بدّت عرَضية، أو هامشية (...) اعتقدا عضوا اللجنة [كينج/ كراين] أن غالبية المسلمين [في سوريا] كانوا يدعمون مثل هذه الأجندة، فيما رأيا أن المسيحيين بدوا أكثر تشككاً في القومية السورية (الجديدة الهزيلة) ، وبنظره أعم على المنطقة» (ص 153). علاوة على ذلك، مثل إعلان الجمهورية التركية بقيادة أتاتورك،«أول إمكانية لظهور أنظمة علمانية بالمنطقة» (ص 155).

وقدمت إصلاحات رضا شاه في إيران، على أنه «يقود بلاده من التخلف إلى الحداثة» (ص 156). وبحسب بروس هوبر، المتخصص في الشأن الفارسي بجامعة هارفارد،«لم يعد الإسلام منذ، وقتئذ هو الرابطة التي تضمن الوحدة القومية» (ص 157). لم تكن جميع النقاشات، التي دارت حول رضا شاه إيجابية، فقد كشف خلاف بين إيران، والولايات المتحدة الأمريكية، في عام 1936 عن هذا الجانب. «سعى رضاه شاه لتقليص حجم اعتماده على السلع الصناعية المستوردة، وإقامة صناعات إيرانية» (ص 157). و«سحب ممثليه في الولايات المتحدة الأمريكية» (ص 158). أشاد هانس كون، في مقال له 1934، بتجربة ابن سعود بقوله قد قطع شوطاً في الطريق، لأن «يصبح السيد بدون منازع الذي يتحكم في مملكة شبة الجزيرة الموحدة، ذات التنظيم القوى، والتي تخوض عملية تحديثية بحرص، وثبات» (ص 158). نشر جويل كارمايكل، مقالاً في يوليو 1942 بعنوان «أمير العرب» قال فيه: «عبد العزيز بن سعود، وبالرغم من موقع بلاده القصى، يلوح في الأفق عملاقاً ضخماً قوياً (...) الوهابية والإسلام بعامة سينالهما الضعف في نهاية المطاف. إذ قال [كون]، في مؤتمر عام 1952: إن القومية هي بشكل أساسي حركة علمانية، ولا يمكن تحققها إلا في مجتمع مُعلمن» (ص 160). لم يتوافق المحللون جميعهم عما «إن كان النزوع إلى الوحدة العربية أمراً طيباً، أم خبيثاً، أو على إمكانيات نجاحه» (ص 161). لم يعتقد الاكاديمي، والأركيولوجي، دايفيد هوجارث،«أنه بالإمكان إنجاز الوحدة العربية سياساً على أرض الواقع حتى في نطاق بلد واحد كسوريا، لأن نجاحها يقتضى من شعب سوريا، وشعوب الشرق الأوسط التغلب على الهويات المحلية، وهو أمر مستحيلاً» (ص 162). اعترف هوجارث بأن الوضع بدا مختلفاً في شبة الجزيرة العربية، «المقومات تُسهم فقط في إقامة إمبراطورية عربية لا في الحفاظ عليها. حيث إن التعصب، والحماس الوهابي لا يمكن الحفاظ عليهما على أرض الواقع (...) ليس ثمة إشارة تدل على أن المسلمين الآن، أو في المستقبل، سيوحدون قواهم في جهد مشترك لاستعادة هيمنتهم كما هيمن الخلفاء الأوائل، أو أنهم يستطيعون ذلك» (ص 163). لعب كتاب (الصحوة العربية) لجورج انطونيوس (1938)، «دوراً حاسماً في تقرير الحدود الأساسية التي في إطارها تخيل الأمريكيون القومية العربية في العقود المبكرة التالية للحرب العالمية الثانية. (...) استند جورج انطونيوس إلى خبرته الشخصية، حيث أنه كان قد عاش وعمل بالشرق الأوسط» (ص 164).

«تحدى أنطونيوس بطرحه قضية القومية العربية بصفتها حركة تدعمها الجماهير، ويقودها رجال متعلمون أذكياء عقلانيين لديهم أهداف محدودة، تحدى تنميطات العرب بصفتهم قتاليين، غير عقلانيين، ينساقون وراء عواطفهم» (ص 165). يحاول المؤلف إعادة قراءة كتاب (الصحوة العربية)، وينتقده بقوله: «يظل كتاب (الصحوة العربية) خلافياً لأسباب عديدة» (ص 168). وينقل عن ألبرت حورانى قوله: «أن كتاب (الصحوة العربية)، بتجاهله بعامة أعراف البحث الأكاديمي مثل الهوامش، والبيلوجرافيا، يضاعف من شعورالقارئ بعدم الارتياح إذ أنه لا يمكن التأكد من كثير مما يزعمه أنطونيوس. اعتقد المتخصصون في فترة ما بعد الحرب، أن الحركات القومية العربية، كانت تاريخياً، حركات منعزلة، ومن ثم ظلت بؤرتها هي التخلص من التدخلات الأجنبية؛ في حين أن القوميين الآن [أى بعد الحرب] قد يرون أنفسهم جزءاً من حركة معادية للاستعمار تعم أنحاء العالم» (ص 169). أيضاً، «قام متخصصون بعد الحرب، بتعديل تفسير أنطونيوس، وتطويعه بطريقة ثانية بأن ركزوا على التغيرات الثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية الواسعة التي كانت تحدث بالمنطقة» (ص 170). وبحسب المؤلف، «أولى الأمريكيون اهتماماً بالنزاع على فلسطين، بأكثر من أنطونيوس (...) فقد ساعد الصراع على فلسطين، ليس فقط على تحديد هوية القومية شرق الأوسطية، بل، والمشهد الإقليمي السياسي الأوسع (...).[فقد] اكتسب الصراع على فلسطين الدور المفتاح في تحديد توجهات القومية شرق الأوسطية» (ص 171).

في خمسينيات القرن العشرين، وستينياته، توصل المختصصون إلى أن الحركات القومية شرق الأوسطية، «قوة غير حميدة (...) كان مصدر [ذلك] هو محمد مصدق في إيران، حيث بدت سياساته القومية، وأنها تهديد للمصالح الأمريكية، والبريطانية هناك. (...) ساعدت [أمريكا] على إعداد المسرح للتخلص منه من خلال انقلاب رعته السي آي أيه، في أغسطس عام 1953. [وأيضاً] الزعيم المصري جمال عبد الناصر، الذى حظى في البداية بقبول المراقبين. ثم انقلبوا عليه بعد ذلك، وتبنوا تجاهه نهجاً يماثل ذلك الذي تبنوه تجاه مصدق» (ص 173). «نتج عن ذلك أسلوب جديد لتخيل القومية شرق الأوسطية، وتصويرها على أنها أكثر راديكالية، ومحملة بالأخطار» (ص 174). بدأ الأمريكيون في تخيل القومية شرق الأوسطية بصفتها قوة ينبغى عليهم أن يقاوموها.

يستعرض المؤلف، شخصيتين رئيسيتين في الشرق الأوسط، هما: مصدق، وناصر. ونظره المتخصصون لهما. وبحسب المؤلف، «عملت التجربة مع مصدق وناصر معاً على تولّد تحدٍ جوهري للمهمة المقدسة، والدنيوية لأمريكا في المنطقة، والتي كانت قد ظلت قائمة لزمن طويل» (ص 192).

في نهاية عام 1958، بدأت إعادة تقييم ثاقب لتأويلات الولايات المتحدة الأمريكية، للقوميين شرق الأوسطيين، وسياستها تجاههم.

الفصل الرابع: تخيل شرق أوسط متغير.

في سبتمبر 1969، أرسل مكتب الاستخبارات، والأبحاث التابع لوزارة الخارجية، ورقة بحثية مطولة إلى وزير الخارجية. حاولت الورقة المؤلفة من إحدى وثلاثين صفحة، والتي كان عنوانها «جذور مقاومة العرب للتحديث»، تفسير أسباب «الفشل الذي يواجههة عرب الشرق الأوسط، في تحقيق طموحاتهم بأن يصبحوا رجالاً عصريين بمعنى اللفظ، كما هو مفهوم غي أوروبا، ونصف الكرة الغربي» (ص 213). وجاء في الفقرة الأخيرة للتقرير «ما يقتضيه التحديث من العرب، هو اجتثاث عروبتهم، والتخلص منها» (ص 216).

يتناول المؤلف تحليلات المتخصصين التابعين للشبكة غير الرسمية عبر/ الدولية، وإحباطهم في نهاية الستينات.

من المؤكد، أن الرغبة القوية في تغير الشرق الأوسط، كانت بين دوافع أنشطة كثير من الأمريكيين الذين عملوا بالمنطقة. بدأوا، ولأول مرة، «في الربط بين رغباتهم في تغير المنطقة، وبين مصالح الولايات المتحدة الأمريكية الآخذه في التوسع هناك، في فترة ما بين الحربين العالميتين (...) أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي أعقابها مباشرة، كان للحاجة الملموسة إلى تغيير الشرق الأوسط أثر كبير على الكيفيه التي فكر بها المتخصصون، وصناع السياسة في التخطيط لما بعد الحرب» (ص 217- 218). عبرت كتابات جورج لويس بير، المؤرخ، وعضو تنظيم Inquiry ، وتقرير كينج/ كراين عن «الاعتقاد بأن الشرق الأوسط كان بحاجة للخضوع إلى تغيير جوهري، لكنهم فعلوا ذلك دعماً منهم لنظام انتداب لم تشارك فيه الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية المطاف. من ثم، فإنه ومن بداية الثلاثينيات، وحتى بداية الخمسينيات، فقد كانت شركات النفط الأمريكية هي من اضطلعت بتعزيز الحس بمهمة أمريكا المقدسة، والدنيوية لتغير الشرق الأوسط أكثر من أى فرد، أو تنظيم آخر» (ص 222).

يسرد المؤلف،أنشطة تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في صناعة النفط السعودية بقوله:«يوفر لنا تاريخ للشركة [أرامكو] كُتب في أواسط الخمسينيات، وكانت الشركة قد فوضت الروائي دالاس ستجنر لكتابته، ولم ينشر حتى نهاية الستينيات (...) [تحت عنوان] (كتاب الاكتشاف! قصة أرامكو وقتئذ)» (ص 224). وفي سرد ستجنر، لأنشطة أرامكو، «ذهب ستجنر إلى أن الشركة، والعاملين بها لعبوا دوراً هدفه تغيير المملكة العربية السعودية (...).[ويصف ستجنر العاملين بأرامكوا بالقول:] مبشرين (...)[فقد أسهموا في] رسم الخرائط، والإنشاءات، المشروعات الزراعية، استصلاح الأراضي، حفظ المياه، الصحة العامة، التعليم» (ص 225).

«الفكرة هي وصف التنمية الهائلة التي يمكن أن تحدث في بضع السنوات القادمة من خلال رأس المال الأمريكي، والبريطاني الخاص، إذا قام العرب بتشجيع نوع التنمية هذا بدلاً من فرض القيود على تلك الشركات، وإخضاعها للقوانين الجزائية» (ص 227). «كان قبول أسطورة أرامكو عن دورهما في السعودية جزءاً حاسماً من صميم حس الأمريكيين الأوسع بالمعرفة المقدسة، والدنيوية بالشرق الأوسط» (ص 229). كانت التنموية الليبرالية النهج المهيمن، في تدخل الولايات المتحدة في كثير من أنحاء العالم طوال النصف الأول من القرن العشرين. «بدا، وأن محاولات إنجاح التنموية الليبرالية في إيران بين عامي 1947 و1951، دعمت المخاوف من أن تلك السياسة لا تستطيع وحدها تغير الشرق الأوسط » (ص 230). «فشلت السياسة التنموية الليبرالية في إيران، لأسباب عديدة. كان الإيرانيون بوعيهم السياسي يخشون بالفعل، من التدخلات الأجنبية المفرطة في بلادهم. (...) كانت إيران، في نهاية الأربعينيات، وبداية الخمسينيات، غارقة في أوحال الاضطرابات السياسية (...) كشفت التجربتان الإيرانية والسعودية عن قصور التنموية الليبرالية كوسيلة لتحقيق الرسالة المقدسة، والدنيوية لإمريكا بالشرق الأوسط» (ص 231).

يلخص المؤلف مواقف المراقبون من الشرق الأوسط عبر قراءته لمذكرة وزارة الخارجية إلى ترومان، ومجموعة دراسات عن العلاقات الدولية، كتبها الأكاديمي جيه. سي. هوورويتز، في عام 1952، وكتاب (التحدى والإستجابة في الشرق الأوسط: السعى إلى الازدهار 1919 ــ 1951) للقنصل الأمريكي السابق بفلسطين وتركيا، ومستشار شئون الشرق الأوسط، هدلى كووك. ودراسة دورين وارينر، المتخصصة البريطانية في الشرق الأوسط، بعنوان (الأرض والفقر في الشرق الأوسط)، التي كتبتها عام 1948. وما كتبه ويليام بوك، المتخصص في شئون الشرق الأوسط، في مقاله (ما يفكر فيه العرب)، المنشور في 1952.

كانت أسباب التخلف المُتخيل للشرق الأوسط ، كما أوضحها المراقبون كالآتي:«(1) الشرق الأوسط، ومناخه يمارسان تأثيراً مفرطاً، على أوضاعه (...) (2) السبات الطويل (...) (3) البيئة الإجتماعية، وبخاصة بيئة السكان العرب المسلمين (...) (4) الناس أنفسهم (...) (5) الإسلام ذاته هو المشكلة » (ص 236 ــ 239).

«ركز المحللون جل اهتمامهم على الهدف المُعقد لكيفيه إمكان أن تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على إحداث تغيير في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فيما تضمن الاستقرار السياسي، والاستقرار الاجتماعى، والنظام في آن» (ص 243). أدى ذلك بصناع السياسة إلى تغير تركيزهم «باتجاه المساعدات الخارجية المباشرة، من أجل إحداث تغيير متحكم به بالشرق الأوسط» (ص 246). وهكذا، «وفي نهاية الأربعينيات، وبداية الخمسينيات، غدت المساعدات التقنية، نهج صناع السياسة المفضل لتعزيز التنمية، والاستقرار (...) بدأ صناع السياسة في تبنى مبادرتين أخريين للمساعدات في أوائل الخمسينيات (...) أولى هاتين المبادرتين هي (برنامج الأمن المتبادل)، الذي تبناه الكونجرس عام 1951. (...) كان برنامج المساعدات الثاني، ذا صلة مباشرة بالصراع العربي ــ الإسرائيلي تحديداً، وخصص أموالاً لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (ص 246 ــ 248). وبإيجاز، «أن المساعدة التقنية مجرد بداية، لكنها البداية فقط، وعلاوة على ذلك، فهي بداية هزيلة» (ص 250).

انتقل التوجه خلال السنوات الأخيرة من الخمسينيات، «إلى التركيز على التنمية كأفضل وسيلة للتحكم في التغير الثوري بالشرق الأوسط» (ص 251). وبحسب المؤلف، «ركزت دراسات ثلاث مختلفة (...) على وجوب فهم المجتمعات التي تمر بتغيرات ثورية ككيانات مفردة لها مكوناتها الاقتصادية، والسياسة، والاجتماعية الخاصة بها» (ص 252). والدراسات الثلاث التي استعان بها المؤلف هي: دراسة بعنوان (اختفاء المجتمع التقليدي) لعالم الاجتماع، والمتخصص بالشرق الأوسط، دانتييل لونر، التي نشرها في عام 1958. وكتاب (مراحل النمو الاقتصادى مانيفستو غير شيوعي) (1960)، للمؤرخ الاقتصادي، وولت روستو. والدراسة الثالثة لعالم السياسة، مانفرد هالبرن، في كتابه (سياسات التغير الإجتماعي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا).

يذهب المؤلف إلى أن «أفكار لرنر، وروستو، وهالبرن، وغيرهم من منظري التحديث [وجدت] قدراً هائلاً من القبول من جانب المتخصصين في المنطقة، وصناع السياسة من الذين كانت تملؤهم الهواجس من التغييرات الثورية في مناطق مثل الشرق الأوسط» (ص 259). ولكن بحسب المؤلف، أن نظرية التحديث أغفلت «أن تأخذ في الحسبان وجود قادة في الدول المختلفة يتبعون أجنداتهم الخاصة ويحاولون تنفيذها» (ص 261). علاوة على ذلك، رأى من كرسوا حياتهم للنضال ضد التدخل الأجنبي في بلادهم أن «استناد الولايات المتحدة الأمريكية إلى نظرية التحديث من أجل التحكم في التغير الثوري مرادفاً لتشجيع (الغربنة)» (ص 262).

«مثلت الثورة العراقية في عام 1958، أولى الفرص المتاحة لمنظرى التحديث، وصناع السياسة لتوظيف أفكارهم في محاولة منهم للشروع في تنفيذ تحول متحكم به في الشرق الأوسط» (ص 261). «وطوال منتصف الخمسينيات، حاول صناع السياسة التحكم في نظام ناصر، والتغير الثوري الذي تبناه النظام من خلال فرض العزلة على مصر، ولكن أحداث العراق أدت إلى أن يُعيد أعضاء الشبكة، وصناع السياسة النظر في سياستهم تجاه مصر الثورة، والبحث عن أساليب بديلة للتحكم في التغير الثوري من خلال استخدام مصر، وإشراكها معهم (...) كانت الخطوات الأولى لاستمالة مصر، وإشراكها صغيرة جداً، استغلت مفهوم (الطعام مقابل السلام) أساساً لمبادرة سياسية تجاه ناصر أكثر شمولاً بكثير» (ص 265- 266). «أدرك صناع السياسة والمتخصصون (...)[أن] برنامج المعونة لمصر لن يؤدى أبداً إلى اتفاق ناصر، وصناع السياسة بالولايات المتحدة حول إسرائيل، أو الأنظمة الملكية المحافظة بالشرق الأوسط، أو الدعوة إلى الوحدة العربية» (ص 272). «كان اختبار استخدام نظرية التحديث وسيلة لاحتواء التغير الثوري، أكثر اكتمالاً في إيران (...) حيث كان إيران بالتقابل مع مصر، حليفاً للولايات المتحدة (...) علاوة على أن علاقة الشاه مع إسرائيل كانت جيدة إلى حد معقول» (ص 274).

«انتهى بهم الأمر للاعتماد عليه [الشاه]، وبأكثر من أى وقت سابق، لحماية مصالح الولايات المتحدة بالمنطقة» (ص 280). وبحسب المؤلف، «أثبتت إيران أن نظرية التحديث كانت محدودة القيمة كوسيلة لإنجاز رسالة أمريكا المقدسة، والدنيوية لتغير الشرق الأوسط» (ص 281).

المعرفة في خدمة الهيمنة (3 ـ 3)
أمريكا توظف الصراع العربي ـ الإسرائيلي لتغيير الشرق الأوسط

أحمد الدبش*

الكتاب: “أورشليم القديمة” و“أورشليم الجديدة”
المؤلف: ماثيو إف جايكوبز
ترجمة: الدكتورة فاطمة نصر
الناشر: دار سطور الجديدة 2011
عدد الصفحات: 384 صفحة من الحجم المتوسط.

يواصل الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش،في الجزء الثالث والأخير من قراءته لكتاب “أورشليم القديمة وأورشليم الجديدة. مطامع الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط ومهمتها المقدسة (1918 ـ 1967).. المعرفة في خدمة الهيمنة”، للكاتب ماثيو إف جايكوبز، حيث يتناول هذا الجزء، الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وحدود المشكلة، وتخيل الشرق الأوسط (1918 ـ 1967).

الفصل الخامس: الصراع العربي ـ الإسرائيلي وحدود المشكلة

قبل الحرب العالمية الثانية، لم يوضح الأعضاء الأوائل للشبكة غير الرسمية البازغة اهتماماً بالصراع المتنامى في فلسطين سوى إلى فترات متقاطعة. “كان الكثير من هؤلاء قد عبروا عن آرائهم لصالح إقامة دولة يهودية في فلسطين” (ص 290).

“اتسم عمل Inquiry (...) بملمحين رئيسيين: أولاً، ومثل بقية أعمالها عن الشرق الأوسط، كانت تقاريرها عن فلسطين معيبة(...). ثانياً، افترض التقرير مسبقاً نتيجة محددة للصراع، حيث أنه(...) افترض قيام دولة يهودية” (ص 292).

بحلول عام 1922، دعمت الولايات المتحدة الأمريكية، “إقامة وطن قومي لليهود بفلسطين” (ص 293). “بمنتصف العشرينيات، ظهر مجهود قوى لإقامة قاعدة عريضة لدعم قضية الصهاينة بين صناع السياسة، والأشخاص المهتمين بالسياسة، والمتبرعين المحتملين” (ص 294). عمد “الموالون للصهيونية، إلى الجمع بين الرابطة المتقبلة بعامة بين اليهود، والأرض المقدسة، وبين الرغبة القديمة، والتي لم تتوف عن التطور باطراد لخلاص المنطقة، وتغير وجهها” (ص 296).

يعرض المؤلف مقالة بعنوان (اليهود في فلسطين)، للكاتب الصهيوني البريطاني، لينارد شتاين، بيد أن أهم ما جاء بالمقال هو، “الكيفية التي من خلالها عمل على إقناع الأخرين، كي يتخيلوا فلسطين يهودية، استناداً إلى مدركات الخلاص، والتحول الثابتة كي يدافع عن المطلب الصهيوني، ويوضحه، ويعبر عن رؤية مستقبلية لتعايش سلمي بين اليهود، والعرب في فلسطين(...) فعل ذلك بأسلوب عرض به فلسطين اليهودية بصفتها امتداداً طبيعياً حديثاً لحضارة غربية في الشرق الأوسط، حضارة مقدسة وعلمانية في آن” (ص 297). “أثارت أعمال العنف المميتة بين اليهود، والفلسطينيين، في آب (أغسطس) عام 1929، التساؤل حول تلك الرؤية للتعايش السلمي التي روّج لها شتاين وآخرون” (ص 298). “تجاهل الصهيوني البريطاني، هنري نفينسون، أي دور محتمل لليهود في أعمال العنف(...) من المحتمل أن بعض الأمريكيين، قد وجدوا تصوير نفينسون، لأحداث عام 1929، بأنها نتيجة لصراع حضارات، أمراً متقبلاً لا اعتراض عليه” (ص 299).

مصالح أمريكا في فلسطين

تبنى المحامي، والناشط بالحزب الديمقراطي، فليكس فرانكفورتر، أفكار شتاين، في مقال بعنوان (إعادة صياغة الوضع في فلسطين)، الذي نشره عام 1931. أمل فرانكفورتر “في إعادة توجيه انتباه الشعب الأمريكي إلى الحياة العضوية متناغمة الأجزاء لحضارة جديدة آخذة في التكشف باطراد في فلسطين منذ عام 1920. أكد أنه على الرغم من أن الوجود اليهودي هناك هو العامل الحاسم في تلك الحضارة الجديدة” (ص 300). “أدى المناخ السائد في عامي 1936 و1937، إلى أن يضاعف الصهاينة جهودهم لكسب الداعمين المحتملين، وصناع السياسة بالولايات المتحدة إلى جانبهم” (ص 302).

في نهاية الثلاثينيات، تم “إضافة الوجود اليهودي في فلسطين إلى قائمة تلك المصالح(...). وتم التركيز على مصالح الولايات المتحدة النفطية في المنطقة” (ص 306). “كانت غالبية تلك المصالح موجودة في مناطق يتحكم فيها عرب مناهضون لإقامة دولة يهودية بفلسطين” (ص 307)، حيث ذهب لوى هندرسون، سفير الولايات المتحدة الأمريكية في العراق اثناء الحرب إلى أن “دعم قيام دولة يهودية سيؤدي إلى أن يتوجه العالمان العربي والإسلامي إلى مكان آخر من أجل الدعم بدلاً من أن يتوجهوا إلى الغرب(...) أيضاً، اعتقد بعض المتخصصين الحكوميين، أن دعم الولايات المتحدة الأمريكية للوجود اليهودي في فلسطين الآخذ في التوسع يعمل على تقويض الصورة الإيجابية التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد طورتها في أنحاء المنطقة على مدى العقود السابقة” (ص 308 ـ 309).

بحسب المؤلف، عارض مكتب شؤون الشرق الأدنى، “إنشاء دولة يهودية في فلسطين في الفترة من أواسط الأربعينيات، وحتى نهايتها. أيضاً بقايا البعثات التبشيرية، والاستشراقيين، وقفوا بحزم ضد الخطة، وكان الإثنان الأبرز بين هؤلاء، هما ويليام إدى، وكرميت”كيم“روزفلت. كان إدى قد عبر علانية عن معارضته لمشروع دولة يهودية بفلسطين، ثم أعقب ذلك باستقالته في نهاية عام 1947 من وزارة الخارجية” (ص 311). و“هناك تنظيمات يهودية، لا صهيونية، أو معادية للصهيونية، عبرت عن معارضتها لقيام دولة يهودية في فلسطين. كاللجنة اليهودية الأمريكية والمجلس اليهودي الأمريكي” (ص 312).

أضافت الأطروحات المبكرة بإنجاز تحول في فلسطين من خلال توسع التواجد اليهودي هناك، أطروحتين هما: “أولي الأطروحتين(...) الوجود اليهودي في فلسطين، ليس فقط مصلحة للولايات المتحدة الأمريكية، كما كان الصهاينة يؤكدون، بل بإمكانه أيضاً أن يكون ذا دور مركزي في كسب الحرب، وبخاصة في الشرق الأوسط. أما الأطروحة الثانية ـ القائمة على أساس الإلزام الأخلاقي بالسماح لليهود بقيام دولة خاصة بهم ــ لم تكن جديدة في حد ذاتها، إلا أن الهولوكست أكسبتها معنى أعظم)” (ص 314 ـ 315).

وبحسب المؤلف إن “المعركة على فلسطين كانت، في واقع الأمر، صراعاً على السلطة السياسية، وعلى عقل الرئيس، وأنها معركة كانت فيها المجموعات المؤيدة للهجرة، والداعمة للصهاينة بعامة، هي الرابحة طوال الأربعينيات” (ص 316).

“يرى المؤرخ بيتر هان، أن صناع السياسة الأمريكية، فيما بين عامي 1945 و1961، قد أمسك بهم في ورطة الشرق الأوسط، أثناء سعيهم لضمان مصالح الولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة(...) فيما انتهى بهم المطاف إلى اغتراب جميع الأطراف عنهم. بالإمكان أيضاً، أن نقول نفس الشيء تقريباً عن المتخصصين في الشرق الأوسط من أعضاء الشبكة غير الرسمية في الفترة التي من نهاية الأربعينيات، وإلى حوالى عام 1960. وفيما كان ثمة استثناءات مثل ويليام إدى، فقد اعترف غالبية هؤلاء المتخصصين بأنه لا خيار أمامهم سوى القبول بوجود إسرائيل” (ص 322 ـ 323).

إسرائيل ووجه الشرق الأوسط

تصور المتخصصون التواجد اليهودي في فلسطين على أنه يعمل على تغير وجه الشرق الأوسط، وبصفته حليفاً محتملاً للولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة(...)، وبأن الوجود اليهودي قاعدة ديمقراطية غربية متقدمة في الشرق الأوسط التقليدي“(ص 324). وانتشرت خطابات تقوم”على أساس العرق، والإثنية(...) عززت هذا الحس القوي بالهوية المشتركة بين الإسرائيليين والأمريكيين في الخمسينيات" (ص 325).

أيضاً، “كان للخطابات المقدسة، والدنيوية أثرها على الكيفية التي تخيل بها المتخصصون، والأمريكيون الآخرون إسرائيل” (ص 326). وهكذا، “فقد كان للخطابات الاجتماعية/ الثقافية(...) وفرت هذه الخطابات التي دعمتها الأفلام السينمائية، والأعمال الأدبية(...). الأرضية لتقوية العلاقة الأمريكية / الإسرائيلية” (ص 327). وفي هذا السياق الثقافي، والسياسي، “ركز أعضاء الشبكة غير الرسمية من المتخصصين على قضيتين أساسيتين(...) أن الصراع يعزز عدم وجود استقرار خطير في المنطقة، ويهدد مصالح الولايات المتحدة في أنحائها” (ص 331).

ومن ثم شجع أعضاء الشبكة نهجاً من شعبتين لمقاربة هذا الوجه من الصراع،“أولاً، اقترحوا أن تقبل إسرائيل وضعها كدولة شرق أوسطية، لا كدولة غربية(...). ثانياً، حث العرب على القبول بإسرائيل كجار لهم” (ص 332- 333).

“كان المجال الرئيسي لقلق الشبكة(...)، هو قضية اللاجئين، التي بدت لهم مشكلة جوهرية بحاجة إلى حل قبل أن يحدث أي تقدم على أي من الجبهات الأخرى” (ص 335). “عكس تقييم المتخصصين لأزمة اللاجئين مزيجاً من الاهتمام الإنساني، وحساً بأنها كانت تتسق مع الصور الثابتة للعرب، والمسلمين بصفتهم أناساً متخلفين، كسالى، تتجاذبهم تقلباتهم العاطفية” (ص 336).

قضية اللاجئين

“بحلول السنوات النهائية من الخمسينيات، وأوائل الستينيات، كان أعضاء الشبكة من المتخصصين قد أصابهم الإحباط من عدم إحراز أي تقدم بشأن قضية اللاجئين، أو تشجيع علاقات أفضل بين إسرائيل، والدول العربية، وانتهوا إلى أن البيئة الإقليمية في نهاية الخمسينيات لم تكن مواتية لحل الصراع العربي/ الإسرائيلي/ الفلسطيني” (ص 340).

غدت جهود أعضاء الشبكة غير الرسمية من المتخصصين لتخيل حل سلمي صعبة المنال طوال الستينيات، فقد “أجبر سباق التسلح المتصاعد في المنطقة، والذي أسهم فيه الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة معاً، وظهور حركات سياسية فلسطينية، وحرب 1967، أجبر المشاركين في الشبكة على إعادة التفكير في محاولاتهم السابقة لإدارة الخلافات. وجدت الشبكة نفسها، في مواجهة مع ما اعتبروه صراعاً أكثر تعقيداً وزخماً عما كان سابقاً(...). مع دخول مزيد من الأطراف في الصراع، ووجود علاقات إسرائيلية/ أمريكية أقوى، واحتلال إسرائيلي لأرض عربية وفلسطينية، بدا وجود حل للصراع إمكانية بعيدة المنال” (ص 341).

“وفي مواجهة تلك الأوضاع، تشعبت جهود الشبكة لتخيل حل للصراع العربي/ الإسرائيلي/ الفلسطيني إلى مسارين منفصلين: اعترف الأول،(...) بعدم احتمال التوصل إلى تسوية شاملة، لكنه حث صناع السياسة على مواصلة الجهود في ذلك الاتجاه، فيما يحاولون، في الوقت ذاته، التفاوض على حلول لأوجه متفرقة من الصراع، بيد أن ذلك الاحتمال غدا أكثر صعوبة(...). أما البديل الثاني يقوم على فرضية الاعتقاد بأن الصراع العربي/ الإسرائيلي، وبالرغم من أهميته، والاهتمام الذي يلقاه، ليس هو القضية الوحيدة في المنطقة، كما أنه ليس الأكثر حسماً في العلاقات الواقعية بين القوى العظمى” (ص 354).

الخاتمة: تخيل الشرق الأوسط (1918 ـ 1967)

منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى سنوات الستينيات الأخيرة، كان ثمة شبكة ناشئة غير رسمية من المتخصصين ـ عبر/ دولية في مداها ـ تضم أفراداً من المجال الأكاديمي، وعالم الأعمال، والحكومة، والإعلام مسؤولة عن تفسير الشرق الأوسط للجماهير الأمريكية.

“تخيل المشاركون في هذه الشبكة الشرق الأوسط في الماضي، والحاضر، وما سيكون عليه في المستقبل بتركيزهم على أربع تيمات مفاتيح رئيسية. اتجه المتخصصون أولاً للإسلام، وما اعتقدوا أنه طبيعته السياسية، والشمولية المتأصلة، بصفته المعْلَم الأول الأكثر وضوحاً للاختلاف بين الولايات المتحدة، والشرق الأوسط(...) كانت التيمة الثانية،(...)، تأويليْن للقومية شرق الأوسطية، صور أحدهما القومية على أنها نتاج للحركات الفكرية المعادية للاستعمار(...) وركز التفسير الثاني، على الشخصيات الكاريزمية، من أمثال مصطفى كمال أتاتورك، وعبد العزيز بن سعود، ورضا خان، كنقاط مركزيرة انطلقت منها قوة حميدة. أما التيمة الثالثة،(...) اتباع سياسة تنموية ليبرالية في فترة ما بين الحربين، وأعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة (...) ووظف الصراع العربي/ الإسرائيلي كتيمة رابعة” (ص 358 ـ 361).
أخيراً، “كان سعي أمريكا، والذي ظل قائماً منذ وقت طويل لإنجاز ما اعتبرته مهمتها المقدسة، والدنيوية في الشرق الأوسط، اقتضت المهمة المقدسة، والدنيوية أن تبذل (أورشليم الجديدة) الولايات المتحدة الأمريكية الجهد من أجل خلاص ما زُعم أنه أورشليم القديمة المتخلفة، والمُدنسة، وكان للإيمان بتلك المهمة جذوره في تأسيس الولايات المتحدة ذاتها” (ص 365).

“أدت عملية تخيل الشرق الأوسط في نهاية الستينيات، ومطلع السبعينيات إلى تغييرات مهمة في الشبكة غير الرسمية ذاتها، وفي طبيعة مرجعية شؤون الشرق الأوسط، والخبرة بها” (ص 365). “أدت حرب 1967، ومعها كثير من الأحداث(...) إلى إعادة تقييم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية الأمنية بالمنطقة طوال سنوات منتصف السبيعينيات، تزامن حدوث انكماش اقتصادي بالولايات المتحدة الأمريكية، تسببت فيه جزئياً الإتفاقات الهائلة من أجل تمويل حرب فيتنام في الخارج(...)، إضافة إلى التنافس المتصاعد من جانب أوروبا، وآسيا، تزامن مع صعود منظمة أوبك(...). تطبيق مقاطعة لمبيعات النفط للولايات المتحدة أثناء حرب 1973(...)، وصول الاتحاد السوفييتي إلى مرحلة شبه تكافؤ نووي مع الولايات المتحدة الأمريكية(...) أعادت الثورة الإيرانية، المخاوف من الإسلام إلى الواجهة” (ص 366 ـ 367).

على الرغم من ذلك، فإن “الأساليب المقدسة، والدنيوية لتخيل الشرق الأوسط، قد ظلت مستمرة في مرحلة ما بعد 1967. ثمة مثالان موجزان للبرهان على هذا، يتعلق الأول، بدعم الولايات المتحدة لإسرائيل الذي غدا أكثر وضوحاً، وشيوعاً على مدى العقود الأربعة الأخيرة. يتمثل الأسلوب الدنيوي لتخيل المنطقة(...) غدوا ينظرون لإسرائيل بصفتها (أيقونة). أما الأسلوب المقدس(...)، يتمثل بالرأى المترسخ لدى المسيحيين الإنجليين، والذي يرى دعم إسرائيل بصفته إلزاماً دينياً. أما المثال الثاني، فيتعلق بالحرب على العراق التي بدأت في عام 2003 (...)،كفرصة سانحة لتجديد مهمة أمريكا المقدسة، والدنيوية لتغير وجه الشرق الأوسط” (ص 375).

إن هذا المعنى، هو الذي ظلت تقوم عليه كل طبقات الفهم، والتأويلات اللاحقة، ظل استناده إلى المعرفة، والمهمة المقدسة، والدنيوية، ومازال، قوة دافعة في كيفية تخيل الأمريكيين للشرق الأوسط.

*كاتب وباحث فلسطيني



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 63 / 2183989

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ملفات  متابعة نشاط الموقع دراسات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2183989 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40