السبت 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019

الاخبار: الضفة تغلي والعدّو يحتجز جثث الشهداء

السبت 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019

- أسبوع جحيم في الضفة / عبد القادر عقل

جاء «إعلان بومبيو» كحلقة جديدة من فيلم الرعب الذي يُخيّم على الفلسطينيين في الضفة المحتلة. تلكؤ رسمي فلسطيني عن اتخاذ قرار حقيقي، وخذلان عربي وصمت دولي... كلّ هذا قد يكون مستوعَباً، لكن «دولة المستوطنين الخاصة» التي انطلق جنونها بعد الإعلان الأميركي الأخير، بسلسلة متدحرجة من الاعتداءات، تنقل المعادلة إلى مكان آخر

سلفيت | لم يكفِ واشنطن أن تعترف بالقدس المحتلة عاصمة للعدو، وأن تنقل السفارة الأميركية إليها العام الماضي، ولا أيضاً الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، أو المشاركة في مراسم تهويد ما تبقى من القدس، بل أطلّ «الشبح الأميركي» على هيئة وزير خارجية ليُعلن أن المستوطنين هم أصحاب أرض، وأن تَمدّد مستوطناتهم على حساب الفلسطينيين «شرعي ولم يعد يخالف القانون الدولي». جاء كلام مايك بومبيو بعد أسبوع من الهدوء النسبي في الضفة المحتلة ميدانياً، لتنطلق بعده «عصابات تدفيع الثمن» الاستيطانية وتزيد التنكيل بالفلسطينيين ومهاجمة ممتلكاتهم، في أسبوعٍ بدا كالجحيم، من شمال غرب نابلس (شمال) وليس انتهاءً بالأراضي المحتلة عام 1948.

فعقب ساعات قليلة من «إعلان بومبيو» في الثامن عشر من الشهر الجاري، احتفى المستوطنون بالعودة إلى محيط مستوطنة «حومش» المُخلاة تحت ضربات «انتفاضة الأقصى»، فانطلقوا من هناك لإشعال حرائق في مساحات شاسعة من أراضي الفلسطينيين القريبة من بلدة برقة. وفي مساء اليوم نفسه، نصب مستوطنون لوحات رخامية تحمل شعار «الشمعدان» لأول مرة في أسواق البلدة القديمة في مدينة الخليل (جنوب)، فيما أغلق جيش العدو المسجد الإبراهيمي بحجة «احتفال المستوطنين بعيد سارة». لكن اليوم التالي شهد الهجوم الأعنف للمستوطنين، وهو «هجومٌ ليلي منسق ومنظمٌ» كما يصفه مسؤول ملف الاستيطان في شمال الضفة، غسان دغلس، بعدما «عربد مئات المستوطنين في الخليل القديمة، واعتدوا على بيوت الفلسطينيين، ليصاب أكثر من عشرة، من بينهم طفلٌ رشقاً بالحجارة وآخر بالضرب». يقول دغلس لـ«الأخبار»، إن «الإعلان الأميركي ساهم في تصاعد هجمات المستوطنين»، وذلك بالاعتداء على نحو 50 مركبة في بلدات في وسط الضفة وشمالها، وهو «ما يَشي بهجوم مُرتّب له، وهو الأوسع منذ عام». ويضيف إن «اتساع رقعة الهجوم هو المسألة المفاجئة والخطيرة هذه المرة، ففي الهجمات السابقة كان المستوطنون على مدار سنوات أشبه بالقطعان الصغيرة المنفردة التي تُركز على منطقة واحدة، ولا يتعدّى عدد المركبات المستهدفة 10 مثلاً. أما ليلة 22، فنتحدث عن أكثر من 50 مركبة تعرّضت للإعطاب أو خطّ شعارات معادية».

الهجوم استهدف بلدات لم يقتحمها المستوطنون منذ 15 عاماً

الهجوم الأوسع استهدف بلدات بيت دجن وقبلان ومجدل بني فاضل. ووفق مصدر محلي، فإن هذه البلدات تحديداً لم يستهدفها المستوطنون ولم يقتحموها منذ أكثر من 15 عاماً، بخلاف كفر الديك (غرب سلفيت) التي كانت في دائرة الهجوم الأخير، إذ تكرر استهداف المستوطنين لها هذا العام. وبحسب الصحافي بركات الأزعر، وهو من بلدة قبلان جنوب نابلس، فإن البلدات الثلاث لا تشهد اقتحامات واعتداءات للمستوطنين، وإن بلدته قبلان لم تتعرّض منذ سنوات لاقتحام، لكن هذه المرة خطّ المستوطنون شعارات معادية قرب مدخلها الواقع على الشارع الاستيطاني الالتفافي الذي يسلكه المستوطنون دائماً. «منطقة عسكرية مغلقة»، «منطقة عسكرية دائمة»، شعاران خَطَّهما المستوطنون حيث حلّوا بما يوحي بأنهم يتصرفون كقوة سيادة على الأرض، علماً بأنهم يعتمدون عادة شعارات مختلفة؛ أبرزها: «الموت للعرب»، «بلدة المخربين»، وشعارات معادية للإسلام. ولا يرى مسؤول «ملف الاستيطان» في ذلك داعياً للاستغراب، إذ إن «الوضع المقبل هو دولة مستوطنين بكل ما تعنيه الكلمة». في السادس والعشرين من الشهر الجاري، أحرق مستوطنون أراضي شاسعة من قرية مادما جنوبي نابلس، وفي الليلة نفسها أضرموا النار في 25 دونماً من كروم الزيتون قرب المنطقة الأثرية في بلدة سبسطية شمالي غربي نابلس. أما جنوبي بيت لحم، فهاجم مستوطنون قرية الجبعة بحراسة جيش العدو وخطّوا شعارات معادية وأعطبوا أكثر من 11 مركبة فلسطينية. رام الله أيضاً كانت لها حصة من هجوم المستوطنين فجر أمس، إذ أحرقوا مركبة وخطّوا شعارات معادية في قريتَي الطيبة ودير عمار.
«أسبوع الجحيم» لم يتوقف عند الضفة، بل امتدّ دراماتيكياً إلى الأراضي المحتلة عام 1948 ليلة الخميس، حيث هاجم مستوطنون أكثر من 80 مركبة وأعطبوا إطاراتها في حيّ واحد داخل بلدة جلجولية في منطقة المثلث، وخطّوا شعارات معادية على حافلة بالمكان. ووفقاً لإحصائية وصلت «الأخبار»، فإن الفلسطينيين في الضفة تعرّضوا لأكثر من أحد عشر اعتداء مباشراً نفذها مستوطنون على ممتلكاتهم عقب «إعلان بومبيو» حتى أمس، ويُسثتنى من ذلك هجوم المستوطنين على الخليل بحجة «عيد سارة». كما سبق هذا الأسبوع «شهر الزيتون» الذي حوّله المستوطنون إلى «شهر الجحيم» بعدما نفذوا أكثر من 97 هجوماً مباشراً على قاطفي الزيتون، وفق دغلس.
يُذكَر أن عصابات «تدفيع الثمن» ظهرت منتصف 2008 لأول مرة عبر شعارات خطّتها وحملت توقيعها في الضفة، وهي الآن تنشط في أنحاء فلسطين، لكن هجماتها تترّكز في جنوب نابلس. ويعود ذلك إلى كون هذه المنطقة «تضمّ المعقل اليميني الأكثر تطرفاً والمتمثل في مدارس دينية تضمّ القتلة في مستوطنة يتسهار» التي تقضم أراضي فلسطينية من جنوب نابلس وشرقها، كما أنها تتمدّد عاماً تلو الآخر.

بومبيو مصرّ على رأيه
دافع مايك بومبيو عن قرار شرعنة المستوطنات في الضفة بالقول إن القرار «صحيح ويصبّ في مصلحة أمن إسرائيل»، مضيفاً: «من الواضح جداً أن المستوطنات... ليست في حدّ ذاتها غير قانونية بموجب القانون الدولي». ونقلت صحيفة «يسرائيل هيوم» عنه أن إدارته تتصور أن «الأمر غير المنطقي هو الاعتقاد بأن أيّ نشاط استيطاني يعتبر غير قانوني بطبيعته، لمجرد أنه استيطان في المنطقة نفسها».

- تجدّد الاتصالات مع «حماس»: العدو متفائل بتهدئة طويلة / هاني إبراهيم

تجدّدت الاتصالات المصرية والأممية والقطرية مع حركة «حماس» لضمان حالة الهدوء في قطاع غزة وصولاً إلى «تهدئة بعيدة الأمد»، في وقت تواصلت فيه حالة الاستنفار لدى المقاومة الفلسطينية خشية تصعيد إسرائيلي، خصوصاً في ظلّ استمرار التحليق المكثف لجميع أنواع طائرات الاستطلاع في مختلف مناطق القطاع. ويكشف مصدر في «حماس» أنه تجدّدت خلال اليومين الماضيين الاتصالات، ولا سيما مع المخابرات المصرية، فيما يُتوقع وصول المنسّق الخاص للأمم المتحدة لـ«عملية السلام» في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف، للقاء قيادة «حماس»، استكمالاً لمباحثات التهدئة، ولبحث «إمكانية التوصل إلى اتفاق تهدئة طويل مع إنهاء عدد من الملفات، أبرزها رفع الحصار وإنهاء ملف الجنود الإسرائيليين الأسرى»، بعد أيام من لقاء ملادينوف وزير الأمن الإسرائيلي نفتالي بينيت، في تل أبيب. وعلى ما يبدو، يريد المستوى العسكري في إسرائيل تهدئةً بعد تأييد بينيت لها، لكنه يشترط لتقديم تسهيلات اقتصادية ألّا يكون مصدرها أموالاً إسرائيلية، وأن تُعزَّز «قوة الردع بالردّ على أيّ اعتداء ينطلق من القطاع»، وفق ما ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت». وكانت هيئة الأركان العامة في الجيش أيّدت قبل أيام «منح تسهيلات واسعة النطاق لغزة مقابل ضمان الهدوء»، في حين يبدي «جهاز الأمن العام» (الشاباك) بعض التحفّظات، فضلاً عن وجود خلاف حول السماح للعمال الغزّيين بالدخول إلى الأراضي المحتلة.

وبالتوازي مع الأنباء الإسرائيلية عن التسهيلات، أعلنت «الهيئة العليا لمسيرات العودة» إلغاء المسيرات للمرة الثالثة على التوالي، مُرجِعةً ذلك إلى «الظروف الأمنية الخطيرة جداً، في ضوء تهديدات (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو بشنّ عدوان شامل جديد على غزة، لحماية نفسه من الملاحقة بتهم الفساد، عبر الإيغال في دماء الأبرياء من المشاركين في مسيرات العودة خاصة». وعلى رغم التفاؤل الإسرائيلي باتفاق طويل الأمد، بعد تنفيذ تحسينات، منها إدخال المستشفى الأميركي الميداني، وتوفير المكونات الأولى لمحطة تحلية مياه بتمويل تركي، وتثبيت خطّ كهرباء جديد، إلا أن الفصائل الفلسطينية لا تزال تعيش حالة طوارئ، في ظلّ وجود احتمال أن يكون حديث التهدئة الطويلة غطاءً لـ«تورية مساعي توجيه ضربة عسكرية كبيرة». وفي هذا السياق، يأتي تنفيذ الجناح العسكري لـ«حماس»، «كتائب القسام»، مناورة ميدانية داخل عدد من مناطق القطاع، على رغم التحليق المكثف لجميع أنواع الطائرات المسيّرة في سمائه. مناورات يبدو أن الهدف منها اختبار الاستعداد لإمكانية تنفيذ الاحتلال عمليات أمنية كالاغتيالات، أو محاولة الوصول إلى الجنود الأسرى في يد «حماس».

- جديد فصول محاربة «الأونروا»: مشروع إسرائيلي لحظرها في القدس / بيروت حمود

في العام المقبل، قد لا يعود لـ«الأونروا» مكتب في القدس. نير بركات، رئيس بلدية الاحتلال الأسبق في المدينة والنائب الحالي عن حزب «الليكود»، يتابع ما بدأه قبل عام من محاولات لمصادرة الخدمات التي تقدّمها الوكالة إلى مئة ألف لاجئ هناك. وجديده اليوم اقتراحه قانوناً أمام «الكنيست» ينصّ على حظر أنشطة «الأونروا» بشكل كامل في القدس

تتناسق الجهود الأميركية - الإسرائيلية الرامية إلى إنهاء دور «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا) في كلّ المناطق التي تُقدّم فيها خدماتها، سواء بالخنق المادي أو بمحاولات نقل الوصاية على اللاجئين إلى «المفوضية السامية لشؤون اللاجئين». وفي إطار تلك الجهود، طرح رئيس بلدية القدس الأسبق، النائب الحالي عن حزب «الليكود»، نير بركات، مشروع قانون يهدف إلى حظر نشاط الوكالة في فلسطين المحتلة عامةً، وفي القدس المحتلة خاصة. مشروع القانون، الذي يأتي طرحه بعد أيام على تجديد ولاية «الأونروا» لثلاث سنوات مقبلة بأغلبية ساحقة خلال تصويت في الأمم المتحدة، لاقى تأييداً شاملاً من معسكر اليمين، إذ وقّع عليه رؤساء الكتل البرلمانية لكلّ من«الليكود» و«إسرائيل بيتنا» و«شاس» و«يهودية التوراة» و«البيت اليهودي» و«اليمين الجديد».

ويهدف مشروع القانون الجديد إلى «تعزيز وتطبيق السيادة الإسرائيلية على القدس»، وفقاً لـ«قانون أساس القدس عاصمة إسرائيل» ذي المكانة الدستورية، وهو ينصّ على «حظر أنشطة الوكالة في إسرائيل» بدءاً من 2020. وبذلك، تتوقف «الأونروا» عن تقديم خدماتها إلى مئة ألف لاجئ فلسطيني في شؤون الصحة والتعليم والنظافة. كلّ هذا بادعاء أن الوكالة الأممية، وفق بركات، «تُستخدم كمنصة تحريضية من خلال التعليم والتربية على كراهية الإسرائيليين والمسّ بالمواطنين اليهود»، وهي «تُدرِّس في المدارس التي تديرها في القدس مضامين معادية للسامية، تشيد بالإرهابيين الذين قتلوا نساءً وأطفالاً (إسرائيليين)». ولم يسلم مكتب الوكالة في غزة أيضاً من تلك الاتهامات، إذ وصفه بركات بأنه «مخزن للصواريخ»، قائلاً إن «المنظمات الفلسطينية تستخدمه لتخزين الصواريخ من أجل إطلاقها تجاه إسرائيل». وبدأ بركات منذ أن كان رئيساً لبلدية المدينة المحتلة بالضغط والتضييق على أنشطة الوكالة التي لا تقدّم كما يقول سوى خدمة «إلى أقلّ من اثنين في المئة من السكان العرب في القدس». وهو طرح في السابق خطة بديلة الهدف منها أن تتولى البلدية إدارة المؤسسات التربوية والاجتماعية لِمَن «كانوا لاجئين»، في ما يعني عملياً عدم إبقاء أيّ لاجئ في القدس، ومصادرة الأراضي التي أقيمت عليها مخيمات مثل شعفاط.
وقبل عام من الآن، أطلّ النائب «الليكودي» في مؤتمر عقدته «شركة الأخبار الإسرائيلية»، متوعّداً أمام الحاضرين بطرد الوكالة من القدس. وقال آنذاك إن «حظر الأونروا وإنهاءها في المدينة (القدس) سيقلّلان التحريض والإرهاب، ويُحسّنان الخدمات للسكان، كما أنهما يقودان إلى أسرلة شرق المدينة وتعزيز السيادة الإسرائيلية وتوحيد القدس الكبرى. إن الأونروا هي كيان أجنبي غير ضروري، وكلّ جانب فيها فشل فشلاً ذريعاً». وأبدى بركات ثقته بأن إسرائيل ستنهي «معضلة اللاجئين في القدس» مستندةً إلى الدعم الأميركي لترسيخ السيادة الإسرائيلية على المدينة، والذي تجلّى في أكثر من قرار، منها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها من تل أبيب، ثم تأييد المشاريع الاستيطانية وعلى رأسها «نفق طريق الحج اليهودي» أسفل البلدة القديمة، والذي شارك السفير الأميركي ديفيد فريدمان شخصياً في افتتاحه.
إذاً، تُوّجت خطة بركات التي أعلنها سابقاً بمشروع قانون سينهي دور الوكالة فعلياً. أمّا مصادرة خدماتها، فهي قضية هامشية مقارنة بالهدف النهائي، المتمثل في «أسرلة» مئة ألف فلسطيني (سواء كان تعريفهم لاجئين أم مقيمين مؤقتين) بصورة ناعمة، وذلك عبر المدرسة والشارع والمشاريع الخدمية.

- استشهاد الأسير أبو دياك: حين يصبح شكل الموت حُلماً / بيروت حمود
«لا نكترث إن متنا، نحن الأحرار،

من أجل أن نرى زهرة الحديقة،
ومن أجل أن تَرفع ياقوتيات الكرم البسيطة رؤوسها،
لتبقى شامخة»
(«كتابات من السجن»، بوبي ساندز)

استُشهد في سجون العدو الإسرائيلي الأسير الفلسطيني سامي أبو دياك. كانت له أمنية بسيطة لم تتحقّق: أراد أن يعود إلى نقطة البداية، حيث قد ينتهي كلّ شيء كما اعتقد. غير أن ألمه كان يتضاعف في خط دائري مغلق. يكبر ويكبر بلا استراحة في زنزانة السجن الباردة. كلّ ما أراده هو الموت في حضن والدته، متكوّراً فيه مثل جنين، بعدما أفقده السرطان/ الاحتلال لحمه ودمه، فتقلّص جسده إلى أن بدا هيكلاً عظمياً غير قادرٍ على الحركة. مع ذلك، ظلّ يراهن بروحه وإرادته على أن ثمّة شيئاً قد يحدث في لحظة ما، فيبدّل ذلك الموت الأسود المالح إلى موت هادئ جميل. راهَن على أبناء شعبه، الذين فداهم بسني عمره الغضّ، أولئك الذين قدّم إليهم لحمه ودمه وجسده وفكرته... قبل 17 عاماً.
لكن لم يفعل أحدٌ شيئاً سوى بعض مَن حملوا صورته، فجابوا الشوارع صارخين كي تسمع سلطات الاحتلال مطلبهم بالإفراج عن الأسير ومرضه المأسور معه! أدرك هؤلاء ضمناً أن مطلبهم لن يتحقق، لكنهم حاولوا على الأقلّ. وحدهم الأسرى رفاقه في السجون الموزّعة من شمال فلسطين إلى جنوبها كان غضبهم صادقاً وواثقاً وحقيقياً، وهم يطرقون بأيديهم المتشقّقة وأجسادهم الهزيلة بوّابات زنازنهم مكبرين. أمّا المسؤولون، فلهم حكاية أخرى. ستظلّ كلمات سامي تلاحقهم إلى الأبد وكيفما أداروا وجوههم: «لن أسامحكم»، كما خاطبهم في رسالته الأخيرة. هؤلاء ملعونون بلعنة سجنه ومرضه، ودموع أمه وقهرها، وتفاني شقيقه الأسير، سامر، الذي دأب على حراسة موته الصامت منذ خمسةِ أعوام.
إذاً، استشهد سامي... وأيُّ «متفائل» قد يجرؤ على توقّع غير ذلك في زمن مثل هذا، بعدما سقط آخر «خطّ أحمر» أعلنه أولئك المسؤولون أنفسهم؟ إذ لم يعد في ضرب الأسرى المحررين، أو قطع مخصّصاتهم أو اعتقالهم أو تخريب خيمة اعتصامهم، أيُّ وصمة عار قد يشعرون بها؟ وحدها والدته كانت قوية بما فيه الكفاية لتحلم. ولعلّها وصلت ليلها بنهارها وهي تصلّي إلى الله كي يغيّر شيئاً. ربما قالت له في السر: إنه لكَ، أنت منحتني إياه يا رب، وجعلتني أحبه وأتعلق به، ربيته من أجلك. كلّ ما فعلته كان من أجلك. لقد سلك درباً من نار، قاتل أعداءنا بشراسة، قبل أن يشتبك معهم ذات صيف، سنة 2002، ويُصاب، ثم يُؤسر ويُعذّب 75 يوماً في أقبية التحقيق، ثم يُحكَم بالمؤبّد ثلاث مرات. لقد رضيت بكلّ شيء، والآن بعدما أصابوه بالسرطان - أولئك الجلّادون بثياب الأطباء في المستشفى - لا أطلب منك سوى أن تعيده إلى حضني لكي يموت. وإلى أن ينتقل إليك، أريد أن أنتحب فوق عظام جبينه الناتئة وأقبّل خدّيه الغائرين حتى يحمرّا. أريد أن أظلّ أبكي فوقه حتى ينقطع النَّفَس.
تلك الأم المسكينة حُلمها البسيط لم يتحقّق أيضاً. لقد حملتها قدماها قبل أيام إلى المستشفى. هناك، ودّعت الجسد الذي حملته ذات يوم في بطنها. لقد تحدثت معه، تمنّت أن يعرفها وأن يبادلها الحديث على الأقل، أرادت أن تعتذر منه لأنها لم تقوَ على فعل شيء له، لأن العجز ربط الألسنة، وأقعد الأجساد على امتداد وطنه. ربما أرادت أن تُذكّره بشيء قد يريحه، أن تروي له مثلاً مشاكساته في الصغر، أو عن أولاد الجيران، أو أيّ جديد في هذا العالم البائس... لكنها صمتت مثله إلى الأبد، فهو منذ مدّة غير قادرٍ على الحركة أو الكلام.
استُشهد الأسير، وفي هذه العبارات المتواترة ما يحمل على الحزن والغضب، ليس في استشهاد سامي بحيثيّاته الأليمة فحسب، وإنما في الفكرة نفسها: أن يُفني المقاوم روحه في طريق العذاب، مدركاً أن شعبه سيتذكّره ليوم أو اثنين أو أسبوع ثم ينساه كما نسي البقية. مع ذلك، ثمّة من يتابع هذا الطريق، الذي يبدو كأنه بلا نهاية، من دون مشروع جامع. وربما تلك هذه الحقيقة التي جسّدها استشهاد أبو دياك، فقد قضى من دون أن يوقف فعل موته البطيء أيّ أحد... أيّ أحد.

رحلة المقاومة
في السنة الثانية من انتفاضة الأقصى، وتحديداً في 17/7/2002، تمكّنت قوة خاصة في جيش العدو من اعتقال سامي أبو دياك، بعدما اقتحمت قريته سيلة الظهر في جنين، واشتبكت معه ورفاقه ليصاب هو بجروح في يده ورأسه، فيما استُشهد رفيقاه. وبعد اعتقاله، خضع للتحقيق المكثّف 75 يوماً في أقبية سجن «الجلمة»، حيث تعرّض لتعذيب جسدي وحشي نُقل على إثره ثلاث مرات إلى المستشفى. لاحقاً، حكمت محكمة الاحتلال العسكرية عليه بالسجن ثلاثة مؤبدات وثلاثين عاماً، تنقّل خلال 17 عاماً منها (الأعوام التي سبقت استشهاده) بين معظم السجون، متعرّضاً للقمع والعزل الإفرادي لأشهر عدة.

لم يعد في ضرب المحرَّرين أو قطع مخصّصاتهم أيّ وصمة عار!

بدأت المعاناة الفعلية لأبو دياك عام 2015، بعدما دبّت فيه آلام البطن. ظلّت عيادة السجن تعطيه المسكّنات من دون إخضاع حالته للتشخيص. وبعد أسبوعين، فقد الوعي أخيراً، فنقلته إدارة السجن إلى «مستشفى سوروكا» حيث أجريت له عملية جراحية لإزالة الزائدة الدودية. لم يمضِ يومان حتى نُقل سامي إلى عيادة «سجن الرملة»، وهناك كان تشخيص الطبيب بأن وضعه غير طبيعي وأوجاعه مستمرة، فنقل مرة أخرى إلى «سوروكا». وفي المستشفى، عاينه طبيب آخر وادّعى أن «صحته بخير». خلال 48 ساعة، تنقّل الشهيد خمس مرات ما بين «الرملة» و«سوروكا»، ثم تقرّر نقله إلى مستشفى «أساف هروفيه»، الذي أخضعه لعملية استُؤصل فيها 30 سم من أمعائه، وأبلغه الأطباء بأنه مصاب بالسرطان. خلال وجوده في ذلك المستشفى، أُجريت له أربع عمليات جراحية، ومكث أربعة أشهر دخل خلالها في غيبوبة 34 يوماً نتيجة لوضعه الحرج الذي تفاقم بفعل «خطأ طبي» نجم عن إجراء عملية الزائدة الدودية له في «سوروكا»، كما قالت الطبيبة التي أجرت له عملية استئصال الأمعاء.
في أثناء غيبوبته، استدعت إدارة سجن «هداريم» شقيقه لتبلّغه أن سامي قد وصل إلى مرحلة حرجة، وتدعوه وأفراد عائلته إلى إلقاء نظرة الوداع على ابنهم. وفي اليوم التالي، أحضرت سلطات الاحتلال عائلة الأسير لإلقاء نظرة الوداع، باعتبار أن حالته ميؤوس منها، وستتمّ إزالة الأجهزة الطبية عنه. لكن في اللحظات الأخيرة، حرّك أصابعه وفتح إحدى عينيه، فتقرّر عدم إزالة الأجهزة. ومنذ ذلك الحين، بدأ الشهيد - بعد نقله إلى «الرملة» - مرحلة العلاج الكيمياوي، والذي استمرّ ثمانية أشهر، قبل أن يُنقل إلى سجن «ريمون». مجدّداً في سنة 2017، تفاقمت حالة أبو دياك، ونُقل إلى «الرملة». وبعد إجراء الفحوصات له، تبيّن أن هناك كتلة سرطانية في أعلى بطنه، ولذلك عاد إلى العلاج الكيمياوي 12 شهراً أخرى. وفي بداية علاجه للمرة الثانية، تحدث الطبيب مع سامر، وأبلغه أن المرض منتشر في أمعاء شقيقه، وأن الدواء لا يعطي نتيجة. ومنذ أواخر 2017، انتقل سامر إلى «الرملة» كمساعد لشقيقه.
وعلى رغم أن حالة أبو دياك كان ميؤوساً منها، رفضت «لجنة الإفراج المبكر»، التابعة لإدارة سجون الاحتلال، النظر في الطلب المُقدّم للإفراج المبكر عنه. وجاء قرار الرفض بعد تطبيق اللجنة «قانون مكافحة الإرهاب لعام 2016 وتعديلاته»، وهو ينصّ على أن «الأسرى الذين وُجِّهت إليهم تهمة القتل العمد ومساعدة القتل، بموجب قانون مكافحة الإرهاب، لن يتمّ منحهم الفرصة لتقصير عقوبتهم». أمس، انتهى عذاب أبو دياك باستشهاده أخيراً. ولكنه مات حزيناً في «عيادة الرملة»، المكان الأكثر فظاعة من السجن نفسه. لم تكن أمه بجانبه كما أراد، بل أولئك الجلّادون بـ«روب» أبيض، وبقي هناك وحيداً في كيس أسود!

أسير أردني

يأتي استشهاد سامي أبو دياك بعد وقت قصير على إثارة ملف الأسرى الأردنيين، الذين يُعدّ واحداً منهم؛ كونه يحمل، إلى جانب الهوية الفلسطينية، الجنسية الأردنية أيضاً. وكما كانت المملكة عاجزة عن فعل أيّ شيء في حق الأسرى من مواطنيها، فهي لن تفعل الآن أكثر من طلب نقل جثمانه إلى الأردن لدفنه هناك، بعدما كانت عائلته طالبت الحكومة الأردنية بالضغط على العدو ليكمل ابنها محكوميّته في سجون المملكة... كحدّ أدنى من العذاب.

- العدّو يحتجز جثث الشهداء

في تصعيد جديد ضدّ الفلسطينيين، طلب وزير الأمن الإسرائيلي نفتالي بينيت من جيش العدو والدوائر الأمنية وقف تسليم جثث الشهداء الفلسطينيين الذين يُقتلون خلال العمليات الفدائية. وقال بينيت إنّ قراره جاء بعد سلسلة مشاورات أجراها مع مسؤولين كبار في الأجهزة الأمنية. وبحسب بيان صادر عنه، اعتبر وزير الأمن الإسرائيلي أنّه «سينظر في حالات استثنائية حين تعود الجثث لقاصرين». أُحيل هذا الإجراء على المجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت)، للمصادقة عليه، وذلك ضمن إجراءات واسعة ينوي بينيت اتّخاذها ضدّ الفلسطينيين.

وكشف موقع «واللا» الإلكتروني عن وجود خلافات شديدة حول قرار بينيت وأنّ مسؤولين أمنيين عبّروا عن غضبهم من القرار، وشدّدوا على أنّ الجيش الإسرائيلي والشاباك يعارضانه. وبحسب الموقع «اعتبر المسؤولون الأمنيون أنّ بينيت كذب في بيانه، وقالوا إنّه جرت مناقشة الموضوع في الأيام الأخيرة، لكن لم يتم تقديم تقارير أمنية حوله ولم يتم اتّخاذ قرار نهائي».
ونقلت القناة 13 التلفزيونية الإسرائيلية عن وزير كبير في «الكابينت» قوله إنّ «بيان بينيت يأتي في أعقاب ضغط مارسته عائلة هدار غولدين (أسير لدى المقاومة الفلسطينية)».
إلى ذلك، طلبت السفارة الأردنية في تل أبيب من «إسرائيل» نقل جثة الأسير الشهيد سامي أبو دياك، الذي توفي أمس في المعتقل، إلى ذويه في الأردن لدفنه. كما طلبت السفارة تزويدها بالتفاصيل حول ظروف وفاة أبو دياك ووضعه الصحي خلال فترة اعتقاله. وكان والدا الأسير الشهيد قد اجتمعا أمس في عمان مع الملك الأردني عبد الله الثاني، وطلبا منه التدخّل لإعادة جثة ابنهما.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 31 / 2184662

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع صحف وإعلام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2184662 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40