السبت 18 أيار (مايو) 2019

محور المقاومة: مناورات لحرب في عدة ساحات

ملف الاخبار
السبت 18 أيار (مايو) 2019

- «الضغوط القصوى» ونقطة اللاعودة المحتملة

وليد شرارة

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عالق في فخّ نَصَبه بنفسه. الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران كان كافياً ليظهر لناخبيه أنه من صنف الرؤساء الذين يفون بوعودهم، أملاً في الحفاظ على معدّلات شعبيته استعداداً للانتخابات الرئاسية القادمة. الحسابات الانتخابية وحدها، التي تطغى على أي اعتبارات أخرى في ذهنه، لم تكن تقتضي هذا القدر الكبير من التوتير المحفوف بالمخاطر مع إيران. لكن جموحه، وجهله المطبق بشؤون السياسة الدولية، دفعاه إلى تبنّي أطروحات وخطط مجموعة من أصحاب العقليات التآمرية مِمَّن أحاط نفسه بهم، من دون إدراك المآلات شبه المحسومة لمثل هذا التبنّي.

فعندما وافق ترامب على سياسة «الضغوط القصوى»، المستلهمة حسب عرّابيها من استراتيجية إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان، ضد الاتحاد السوفياتي، والتي سرّعت في اعتقادهم بانهياره، ظنّ أنها كفيلة بالسماح بانتصار على إيران بلا حرب. فهي قُدّمت له على هذا الأساس: أسقطنا الاتحاد السوفياتي من دون أي مواجهة عسكرية مباشرة معه، ونستطيع بسهولة أكبر تكرار الكرة مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
وبمعزل عن مدى صحة هذا التفسير لأسباب انهيار النظام السوفياتي، نسيت المجموعة التآمرية أن تُذكّر الرئيس بحقيقة بديهية، وهي أن الولايات المتحدة، نظراً الى توازن الرعب النووي بينها وبين هذا النظام، لم تكن تستطيع الذهاب إلى حرب. الأمر مختلف مع إيران. وإذا كانت «الضغوط القصوى» التي اعتُمدت ضد السوفيات هدفها إضعافهم من دون حرب، فإن هدفها في حالة إيران هو إيصال الأمور إلى نقطة اللاعودة، أي الحرب.

خنق إيران لدفعها إلى الرد
لم تكتف إدارة ترامب بالإجراءات الهادفة إلى تصفير تصدير النفط الإيراني. لا يمرّ يوم إلا تُتخذ فيه خطوات تصعيدية في إطار خطة معلنة لخنق إيران اقتصادياً. وبما أن هذه السياسة في الحقيقة من تدبير عقل إسرائيلي الهوى، ناجم عن انحيازات أيديولوجية أو عقائدية كما في حالة الثنائي بولتون ــــ بومبيو، يستخدم عضلات أميركية لتطبيقها، فإن الأوساط السياسية والعسكرية في إسرائيل تتابع يومياً وبدقة هذه العملية. زفي باريل، الكاتب في «هآرتس» المقرب من هذه الأوساط، والباحث في مركز الدراسات الإيرانية في الجامعة العبرية، يرى أن العقوبات الجديدة المفروضة على صناعة المعادن في إيران (تبلغ حصتها من الصادرات الإيرانية 10 %)، وهي الثانية من حيث الأهمية بعد صناعة النفط، «لن تؤثر فقط على مداخيل الحكومة، بل كذلك على سوق العمل. يعمل في ميدان هذه الصناعة حوالى 600 ألف شخص، يعيلون 3 ملايين تقريباً. وستتضرّر من هذه العقوبات أيضاً صناعة السيارات، التي يعمل في مجالها مليون شخص. 6% من اليد العاملة الإيرانية تعمل في هاتين الصناعتين. وحتى قبل العقوبات الأخيرة، كان مستوى إنتاجية صناعة السيارات قد تراجع 40 %. من المحتمل اليوم أن يفقد مئات الآلاف من العاملين في هاتين الصناعتين وظائفهم من دون إيجاد أخرى بديلة منها في المدى المنظور... الضربة الموجهة إلى صناعة المعادن، وإلى القطاعات الرئيسة التي تتمركز فيها قوة العمل، تعتبر في إيران جزءاً من مؤامرة لقلب النظام. مئات الآلاف من العمال الذين فقدوا فجأة وظائفهم، من المحتمل أن يقوموا باحتجاجات أوسع نطاقاً من تلك التي شهدتها البلاد في السنوات الماضية. تقول الولايات المتحدة إنها لا تسعى إلى إسقاط النظام، لكن من المستحيل تجاهل التداعيات السياسية للعقوبات».

استعان بولتون وبومبيو للبرهان على فعالية مخططهما بكتاب تبسيطي وشديد البلاهة

أعلن الرئيس الأميركي بوضوح أنه لا يريد الحرب مع إيران، وطلب من نظيره السويسري أن تقوم بلاده بدور قناة الاتصال بين واشنطن وطهران. وسبق ذلك الإعلان قوله إنه ينتظر اتصالاً من الإيرانيين. قد يكون النجاح الأبرز للثنائي بولتون ــــ بومبيو، وهما يعرفان حذره الشديد من اللجوء إلى الخيار العسكري، هو إقناعه بأن الإيرانيين، نتيجة هشاشة مفترضة في أوضاعهم الداخلية، لن يكون بوسعهم احتمال العقوبات. ومع قليل من الحظ، وتفاقم الأزمات الداخلية والانقسامات بفعلها، سيضطر صنّاع القرار في طهران إلى الإذعان للمطالب الأميركية، أو حتى قد يصل الأمر إلى انهيار النظام. وقد استعان الثنائي للتدليل على فعالية مخططهما بكتاب تبسيطي وشديد البلاهة، من نوع الكتب التي يقدر ترامب على قراءتها وفهمها، بات مرجع الإدارة في معركتها مع إيران، وهو «الانتصار: استراتيجية إدارة ريغان السرّية التي سرّعت انهيار الاتحاد السوفياتي» للكاتب والصحافي بيتر شوايتزر. وقد كشف موقع «بازفيد نيوز»، في 25 أيلول/ سبتمبر 2018، أن مارك دوبوفيتز، مدير «معهد الدفاع عن الديموقراطية»، هو من أعطى الكتاب لمايك بومبيو، عندما عُيّن مديراً للمخابرات المركزية، أي قبل أن يعاد تعيينه وزيراً للخارجية بدلاً من ريكس تيلرسون. وللعلم، فإن «معهد الدفاع عن الديموقراطية»، كما اعترفت مديرة وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية في فيلم وثائقي أعدّته «الجزيرة» عن اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، هو مجرد أداة بيد هذه الوزارة، وهي تشرف على أنشطته مباشرة. أي أن موظفاً إسرائيلياً هو من سلّم الكتاب لمدير المخابرات المركزية الذي قرأه ووزّعه على فريقه في الوكالة، ومن ثم على فريقه في وزارة الخارجية ليصبح بعد ذلك مرجعاً ودليلاً.
لن تبادر إيران إلى الاتصال بدونالد ترامب على أساس المواقف التي أعلنها والشروط التي يضعها. إيران قدّمت تنازلات كبيرة عندما وافقت على الاتفاق النووي مقابل الخروج، ولو النسبي، من حالة الحصار المفروضة عليها وتطبيع علاقاتها الاقتصادية والتجارية والسياسية مع دول الغرب. حظي الاتفاق بدعم قطاع واسع من الإيرانيين، على رغم تحفّظ جهات وازنة عليه. ليس بمستطاع ترامب فهم ما يعنيه قيامه بإلغاء الاتفاق بالنسبة إلى الغالبية الساحقة من هؤلاء، بمن فيهم الأوساط الأكثر حماسةً للانفتاح على الولايات المتحدة والغرب، وتلك النقدية لنظام الجمهورية الإسلامية.
إصرار الرئيس الأميركي على خنق إيران، على رغم إقرار بقية العالم والمؤسسات الدولية المعنية بالتزامها بالاتفاق النووي، يعيد تذكير الإيرانيين بحقيقة موقف الولايات المتحدة من حق بلادهم في الاستقلال والتقدّم والازدهار، وبمسؤولياتها عن المآسي التي حلّت بهم في التاريخ المعاصر، بدءاً من إسقاط حكومة محمد مصدق الوطنية وإعادة الشاه إلى السلطة، وصولاً إلى الحرب التي شنّها العراق بدعم أميركي عليهم، وأدت إلى مقتل مئات آلاف الإيرانيين. وعلى أغلب الظن، وبعكس ما يأمله ترامب، فإن موقف الرأي العام الإيراني مساوٍ في تشدده لموقف النظام، إن لم يكن أكثر تشدداً. انطلاقاً من هذا الواقع، من المستبعد جداً أن يطرأ أي تغيير على المقاربة الإيرانية. أمام ترامب، إن أراد تجنب مخاطر اندلاع حرب، خيار وحيد وشديد المرارة، لأن انعكاساته الداخلية على صورته كرئيس قوي ستكون سلبية، هو تراجعه عن سياسته التصعيدية الحالية حيال إيران. أما المضيّ في سياسة الحصار والخنق، في سياق إقليمي قابل أكثر من أي مرحلة سابقة للاشتعال، وفي ظلّ إشراف خبراء الخداع والتآمر، بولتون وبومبيو، على عملية المواجهة، فهو الوصفة الأكيدة لتسريع اندلاع الحرب في أي لحظة.

- تطوّر النظرة الإسرائيلية إلى العراق: «الحشد» والمقاومة مصدر قلق دائم

علي حيدر

تطوّر النظرة الإسرائيلية إلى العراق: «الحشد» والمقاومة مصدر قلق دائم
مثّل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 منشأ رهانات إسرائيلية استراتيجية (أ ف ب )

شكّل انتصار الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979 محطة فاصلة في تطور النظرة الإسرائيلية إلى موقع العراق ودوره في استراتيجية تل أبيب الإقليمية. قبل الثورة في إيران، شكّل العراق مصدراً محتملاً للتهديد، انطلاقاً مما يُمثِّله من عمق استراتيجي عربي لسوريا وللجبهة الشرقية. أما بعد سقوط الشاه، وإقامة نظام معادٍ بالمطلق للكيان الصهيوني، باتت النظرة الإسرائيلية إلى العراق مُركَّبة من كونه مصدراً دائماً للتهديد، وفي الوقت نفسه منطقة استراتيجية عازلة وسدّاً منيعاً أمام إيران. إزاء هذا المستجد الإقليمي، تحوّل العراق إلى كونه القوة الإقليمية التي راهن عليها الغرب وإسرائيل لمواجهة إيران بهدف إسقاطها، ولاحقاً بهدف احتوائها. وشكَّلت الحرب الإيرانية ــــ العراقية التي استمرت نحو 8 سنوات، من المنظور الإسرائيلي، فرصةً لاستنزاف البلدين وإشغالهما بعضهما ببعض. فرصة استغلّتها تل أبيب في عام 1981 لاتخاذ قرار بتدمير المفاعل النووي العراقي من دون أي رد عقابي عملاني.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، بادرت الولايات المتحدة، على رأس تحالف دولي، إلى تدمير البنية التحتية الاقتصادية والعسكرية للعراق، بعدما احتلّت قواته العسكرية الكويت في الثاني من شهر آب 1990، ليعقب ذلك اعتماد استراتيجية «الاحتواء المزدوج» تجاه كلّ من إيران والعراق. انهيار المعسكر الشرقي وتدمير العراق شكَّلا بالنسبة إلى الدولة العبرية، بما فيها حزب «الليكود» اليميني، فرصة من أجل فرض صيغة تسوية للصراع العربي الإسرائيلي تلبّي المطالب والطموحات الإسرائيلية، كما يقول بنيامين نتنياهو في كتابه «مكان بين الأمم».
شكّل تولي جورج بوش الابن رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، مطلع عام 2001، ومن خلفه المحافظين الجدد، تحوّلاً في النظرة الأميركية إلى العراق؛ فانتقلت واشنطن، مدفوعةً بمجموعة من الخلفيات، إلى مرحلة احتلال العراق بما ينطوي عليه من ثروات نفطية هائلة، وبما يمثله من موقع جغرافي واستراتيجي تجاه كلّ من إيران وسوريا ودول النفط في الخليج... بهدف تجذير وتكريس الهيمنة على المنطقة والعالم. وقد مثّل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 منشأ رهانات إسرائيلية استراتيجية بلغت حدّ السماء، إذ إن تل أبيب اعتبرت أن ذلك سيؤدي إلى تعزيز مكانتها الاستراتيجية في المنطقة، وتعزَّزت لديها الرهانات على شطب إمكانية إعادة تشكّل الجبهة الشرقية في المستقبلين المنظور والمتوسط، وعلى تطويق الجبهة الشمالية، وبلغت بها الآمال حدّ إمكانية تطويع النظام السوري والقضاء على حزب الله، كما كشف عن ذلك رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء عاموس يادلين (2006 – 2010)، خلال كلمة له أمام معهد أبحاث الأمن القومي الذي يترأسه بمناسبة مرور عقد على حرب لبنان الثانية، فضلاً عن الرهان على فرض صيغة تسوية نهائية على المسار الفلسطيني.

« فشل الرهان على «داعش» أدى إلى بلورة قوة إقليمية في العراق»

لكن فشل المخطّط الأميركي في العراق والمنطقة، ثم الانسحاب من العراق من دون التمكن من فرض نظام سياسي يتبنى سياسة الولايات المتحدة، وتحديداً في مواجهة إيران وسوريا، بدّد الآمال الإسرائيلية في ما يتعلّق بالجبهة الشرقية، وبات كيان العدو أمام واقع استراتيجي جديد، وخاصة أن التوجهات الإقليمية للنظام السياسي العراقي اتضحت معالمها بشكل حاد في الموقف من المخطط الدولي العربي لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. وهو أمرٌ دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى التحذير، في خطابه أمام الكنيست في 28/12/2011، من أن «الوضع الجديد الناشئ في العراق من شأنه أن يجعل إسرائيل تواجه تحديات مردُّها الشرق (إشارة إلى الجبهة الشرقية) بصورة لم نعهدها ولم نتعامل معها منذ 10 سنوات تقريباً»، وما قد يمثله لاحقاً في ظلّ إمكانية إعادة إنعاش الجبهة الشرقية، فضلاً عن تسليطه الضوء على الأهمية المتزايدة للأردن كونه منطقةً عازلةً في مواجهة العراق.
في مرحلة لاحقة، تبلور رهان إسرائيلي جديد تمثّل في الدور الذي قام به تنظيم «داعش» في استنزاف محور المقاومة، وإمكانية أن يشكّل ذلك سداً أمام إيران ومحور المقاومة، وهو ما أفصح عنه نتنياهو في مناسبات عدة، من ضمنها التشديد على ضرورة ألا يؤدي ضرب «داعش» إلى تعزيز المحور الذي تتزعّمه إيران، وأنه ينبغي اعتماد سياسة عملانية تسمح باحتواء الطرفين. وبعد أقلّ من أسبوع من التاريخ نفسه، أكد نتنياهو أن «التهديد الأكبر ليس من داعش، بل من الطرف الأصولي الشيعي»، في إشارة إلى إيران وحلفائها. ثم كرر المواقف نفسها في السنوات التي تلت. لكن مشكلة تل أبيب أن فشل الرهان على «داعش» في إسقاط محور المقاومة واحتوائه أدى أيضاً إلى بلورة قوة إقليمية في العراق، تتمثل في «الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة التي تشكّل جزءاً من المحور المضاد.
أمام هذا الواقع، بات العراق في الوعي الإسرائيلي وحسابات المؤسسة الأمنية يملك قوة دفاع أثبتت فعاليتها في الميدان، وفي مقابل أشدّ تنظيم إرهابي فتكاً وتدميراً. ولا يقتصر دوره فقط على تشكيل سدّ أمام أي محاولة لاستخدام العراق كمنصة لاحتواء إيران والاعتداء عليها، وإنما أيضاً كقوة إقليمية كان لها دورها في الساحة السورية ضد الجماعات المسلحة والإرهابية.

- الردّ على «حفلة الجنون» الأميركية: محاكاة «ترابط جبهات» محور المقاومة

إيلي حنا السبت

الردّ على «حفلة الجنون» الأميركية: محاكاة «ترابط جبهات» محور المقاومة
عَرَض الأميركيون على العراقيين مستندات وتسجيلات تُظهر أن «هناك نيات لضرب مصالحنا» (وزارة الدفاع الأميركية)

شكّل التصعيد الأميركي الأخير ضدّ إيران فرصة لمحور المقاومة لتجديد تظهير الترابط العضوي بين أقطابه. ترابطٌ لا يعني بحال من الأحوال انحصار مفاعيله في الدفاع عن «دولة داعمة»، بقدر ما هو تجلٍّ لحقيقة الانخراط في المعسكر المناوئ للمشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي ــــ «العربي»، الذي لا يستثني في استهدافاته أي طرف من هذا المحور. فصائل المقاومة في العراق، التي تضع نصب عينيها «قضم النفوذ الأميركي» في بلاد الرافدين، تجد نفسها في مقدمة المعنيّين بما تشهده المنطقة راهناً من توتر، وخصوصاً في ظلّ تتالي رسائل التهديد الأميركية إلى بغداد. وهي رسائل لم يجد مندوبو الولايات المتحدة، على ما يبدو، تجاوباً إزاءها لدى القيادة السياسية العراقية، فيما تؤكد قيادة المقاومة «(أننا) لن نلتزم بما يراه الأميركي، وسنواصل الضغوط عليه».

وضعت واشنطن، في حربها ضد طهران، المنطقة في وعاء واحد، وأوقدت النار تحته. رغِبت الإدارة الأميركية في أن تكون إيران وحدها المستهدفة، مرتكزة على تَمْنِية لوبي عربي ــــ إسرائيلي يتطلّع إلى الجلوس على مائدة «اليانكي» لتذوّق طعم الانتصار. لكن الجمهورية الإسلامية تخطّت، مثلما ظهر أخيراً، مرحلة «الصمود الاستراتيجي»، إلى التحرك العملياتي الذي بات ضرورة مقابل دخول محاولات تركيعها مرحلة جديدة أكثر قساوة. إيران الثمانينيات لم تعد موجودة سوى لمُحبّي المقارنات. البلد الغارق في حرب مفروضة، والمنزوي في حدوده الجغرافية، له اليوم عمق حيوي واستراتيجي يفيده في ناحيتين: «الدفاع عن بعد» (خارج البلاد) و«الهجوم عن قرب» (من المحيط باتجاه الأميركي). لذلك، لا يمكن اليوم قراءة حفلة الجنون الأميركية ضد إيران من خارج الصورة العامة للمنطقة. على لسان الأميركيين والإسرائيليين، هذه المعركة تعني مستقبل سوريا والعراق وفلسطين وأمن الخليج وإسرائيل. في هذه المناطق أيضاً، لحلفاء إيران في المقابل دور يفوق مسألة الدفاع عن «دولة داعمة»، ليعني أصل وجودهم في موقعة تتصل حُكماً بقطف رؤوسهم.
القيادة الإيرانية قابلت محاصِريها بوجهين من الرسائل: الأولى سياسية (خفض مستوى التزاماتها المتصلة باليورانيوم المُخصّب والمياه الثقيلة، وإمهال الأوروبيين 60 يوماً لإنقاذ الاتفاق النووي تحت طائلة رفع مستوى التخصيب)، والثانية أمنية مباشرة وغير مباشرة. استهداف حركة «أنصار الله» خطّ أنابيب نفطياً رئيساً في السعودية بطائرات من دون طيار، وقبله «ضربة الفجيرة»، لم يُدرَجا على جبهة واشنطن سوى في إطار تلك الرسائل. في لبنان أيضاً، رصدت عيون الولايات المتحدة «عرضاً خفياً»، سرعان ما فهمته الأخيرة. أما في العراق، فهناك ساحة الكباش التي لا يكاد يمرّ يوم من دون أن تشهد تسجيل نقاط في الحساب المفتوح بين الطرفين.
ما لا يفهمه الثنائي السعودي ــــ الإماراتي من صلابة قوى المقاومة في لبنان واليمن والعراق وفلسطين، ويحاول تقزيمه ووضعه في إطار «الروزنامة الإيرانية»، يعيه الثنائي الأميركي ــــ الإسرائيلي المشغّل لهما في هذه «الحفلة» جيداً.
قوى المقاومة في المنطقة ماضية في مسار بناء قدرات غير مرتبط «بالدفاع عن إيران». تل أبيب ترى في «أنصار الله» تهديداً لها ولمصالحها بقدر ما تستشعر السعودية ذلك، وهي تريد العراق أيضاً ساحة دفاع عن أمنها الحيوي. من هنا، ساهم «حزب الحرب» في البيت الأبيض في أن يقدّم لـ«محور الشر» هدية سخية تمنحه فرصة فعلية لمحاكاة «ترابط الجبهات».

جدّد بومبيو أمام بوتين عرض تخفيف حصار إيران مقابل تقليص «نفوذها»

ترى مصادر قيادية في «محور المقاومة» أن «الرسائل أدت دورها إلى الآن»، وأفهمت من يعنيهم الأمر أن «أي خطأ في الحسابات يمكن أن يشعل النار». ووفقاً لمعلومات «الأخبار»، فإن تلك الرسائل لم يبدأ إمرارها مع «ضربة الفجيرة»، بل إن 4 قواعد أميركية في العراق «اشتمّت رائحة البارود» في الفترة الأخيرة، علماً بأن آخر استهداف مُعلن من هذا النوع كان في شباط/ فبراير الماضي عندما أفيد عن استهداف قاعدة «عين الأسد» الجوية في الأنبار (غرب) بصواريخ «مجهولة». عمليات الاستهداف هذه، إلى جانب مستندات وتسجيلات تُظهر أن «هناك نيات لضرب مصالحنا»، حَمَل المعطيات الأميركية في شأنها وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو، وتوجّه إلى بغداد ليضعها على طاولة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي. هناك، طالب بومبيو، عبد المهدي، بوضع حدّ لحراك فصائل المقاومة واستفزازاتها التي «يمكن أن تتطلب ردّاً منا»، إلى جانب توقف شركة النفط الوطنية العراقية عن تسلّم النفط الإيراني عبر الحدود البرية وبيعه في السوق مقابل عمولات. مطالب ردّ عليها رئيس الوزراء العراقي بأن شرح لضيفه أهمية محافظة بلاده على خصوصية العلاقة مع إيران، وضرورة مراعاة ذلك، وأَفْهمه بطريقة دبلوماسية أن العراق لا يتحمّل أي مشاكل داخلية. قبل هذه الطلبات/ الشروط، وصلت إلى القيادة العراقية في الآونة الأخيرة سلّة أوسع منها وأشمل، بحسب معلومات «الأخبار»، وتضمّنت: 1) إجراءات للمراقبة والتدقيق في الحسابات المالية لرجال أعمال عراقيين وعرب في المصارف العراقية، 2) التدقيق في الحركة التجارية والنفطية مع إيران، 3) التشديد على مراقبة ومنع نقل أي تكنولوجيا لإيران، 4) ضبط إدارة قوات الحشد الشعبي وإشراك قيادة الجيش في الإشراف على تسليح ونقاط انتشار وعمل هذه القوات.
لكن بغداد لم تبدِ تجاوباً مع تلك الشروط، وفق ما يوحي به حديث مصادر قيادية في فصائل المقاومة إلى «الأخبار»، إذ تقول إن «المسألة تغيّرت عن أيام (رئيس الوزراء السابق، حيدر) العبادي، لم تعد هنالك حملات ضخمة على الفصائل بعد كل احتجاج أو ضغط أميركي». وفي المرة الأخيرة، عاد الوزير الأميركي خائباً خالي الوفاض، لتقوم إدارته عقب ذلك بالإيعاز إلى موظفيها الأساسيين في سفارتها في بغداد وقنصليتها في أربيل بالانسحاب، وتتبعها دول غربية أعلنت تعليق مهمّات بعثاتها التدريبية في العراق. وفي هذا الإطار، تقول المصادر إن الأميركيين هم مَن كانوا يحمون تلك البعثات. ومع إعلانهم إجراءاتهم الأخيرة، استشعرت الدول الغربية فقدان مظلّة الحماية هذه، ما حدا بها هي الأخرى إلى سحب موظفيها (علماً بأن ألمانيا أعلنت أمس استئناف مهماتها التدريبية).
تضيف المصادر إن الأميركي حاول اللعب على وتر فصل «الحشد الشعبي» عن الجسم الحكومي، إذ أبلغ القيادة السياسية العراقية مراراً أن «مشكلتنا مع إيران وليست معكم» (وهو ما يواظب العمل عليه مجتمعياً أيضاً)، مُمرّراً في الوقت نفسه رسائل إلى فصائل المقاومة عبر عدد من السياسيين بأن «من سيتحرك ضدنا لن نرحمه». رسائل وازتها أخرى مباشرة إلى طهران، بأن أي «تحرك من حلفائكم في العراق سنعتبره صادراً عنكم». هذه التهديدات، التي توزعها واشنطن يمنة ويسرةً، تردّ عليها مصادر المقاومة بتأكيدها «(أننا) لن نلتزم بما يراه الأميركي، وسنواصل الضغوط عليه»، لافتة إلى أن «هدفنا قضم النفوذ الأميركي في بلادنا».
الاشتغال الأميركي على تحويل العراق إلى منصّة عمل ضد إيران، يرافقه عمل متواصل على كسب موسكو إلى جانب واشنطن في مواجهة طهران. وفي هذا الإطار، تفيد معلومات «الأخبار» بأن وزير الخارجية الأميركي جدّد، خلال لقائه الأخير بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الثلاثاء الماضي، عرض بلاده القديم القائم على مقايضة تقضي بتخفيف الحصار الاقتصادي على إيران مقابل تقليص نفوذها في سوريا، مع موافقة على تعبئة موسكو هذا الفراغ. لكن هذا العرض، الذي سبق أن باء بالفشل، يبدو تعبيراً عن «ضيق الخيارات» الأميركية أكثر منه مؤشراً إلى تعدّد الأدوات المتاحة للمواجهة.
في مواجهة «الخيبات» المتتالية، وعلوّ أصوات داخل الإدارة الأميركية رافضة للحرب على إيران، يبدو أن واشنطن ستعود لتركّز حساباتها على الخنق الاقتصادي. فهي تعتقد أن هذا الحصار سيعيد الغليان إلى الشارع، وسيفرض تصفير موارد «الحرس الثوري» الذي سيضعف في المنطقة، ما يعني إفقاد طهران القدرة على مسك زمام المبادرة في الإقليم، وخسارة في مداها الحيوي عند أي محطة كبرى في المنطقة، وأهمها «صفقة القرن»، إذ تُشكّل إيران رأس حربة في العمل على إفشال هذا المشروع على كل الصعد.

«طلعات إسرائيلية فوق «صواريخ العراق»»

ظهرت في الأشهر القليلة الماضية عدّة تسريبات إعلامية عن «صواريخ إيرانية في العراق تطاول إسرائيل». تل أبيب التي تعتبر العراق جزءاً من عمقها الاستراتيجي، تحاول أن تدخل هذه الساحة على غرار ما تفعل في سوريا. ولعلّ الغارات التي استهدفت منطقة البوكمال الحدودية (بين سوريا والعراق)، في حزيران/ يونيو الماضي، خير دليل على ذلك. وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» أن السلاح الحربي الإسرائيلي نفّذ في تشرين الأول/ أكتوبر الفائت طلعات جوية فوق ثلاث مناطق عراقية يُعتقد أنها تحوي مخازن صواريخ طويلة المدى. الأميركي أوصل رسالة الإسرائيلي «لِمَن يعنيه الأمر»، وتحاشى في الوقت نفسه حدوث استهداف بالنار لهذه المواقع؛ كون فصائل المقاومة أكدت، بعد حادثة البوكمال، أن أي تحرّك إسرائيلي ضدها ستُحمِّل واشنطن مسؤوليته.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 55 / 2184561

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع صحف وإعلام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184561 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 2


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40