ما يجري في غزة منذ 7 جويلية الجاري إلى الآن لا يكفي وصفه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إنها محرقة حقيقية يتعرّض لها السكان دون تمييز، واستعملت فيها كل الأسلحة الفتاكة، ولم يبق سوى استعمال القنبلة النووية؛ الجميعُ جناة في نظر العدو الصهيوني والجميع يجب أن يُعاقب ويُقتل دون رحمة أو شفقة.
في الأيام الأولى للحرب العدوانية الثالثة على غزة كانوا يستهدفون عائلات المقاومين بالطائرات ويدمّرون بيوتها على رأسها ويبيدونها عن آخرها عقاباً للمقاومين على تحويل حياة ملايين المستوطنين إلى جحيم في مختلف المستوطنات والمدن الصهيونية المشيّدة في فلسطين المحتلة، وحينما ثبت المقاومون وتصدّوا ببسالة للعدوان البري وألحقوا به خسائرَ فادحة في الأرواح والعتاد وباغتوا صفوف العدو من الخلف عبر الأنفاق، جُنّ جنونه وقرر تدمير حي الشجاعية وتشريد الآلاف من سكانه انتقاماً منهم على احتضانهم المقاومة، فقصف بيوتهم بالمدفعية الثقيلة، وقتل العشرات وجرح المئات من سكانه، وانتشرت الجثث في الشوارع بطريقة تذكّرنا بمجازر صبرا وشاتيلا ودير ياسين وغيرها من المجازر البشعة الكثيرة التي ارتكبها الإرهاب الصهيوني منذ 1948 إلى الآن بحق الفلسطينيين والعرب.
إنها محرقة حقيقية أو “هولوكست” ضد الأطفال والنساء والمدنيين، وحرب إبادة تثبت مدى وحشية العدو ودمويته، ولكنها تثبت أيضاً مدى جبنه؛ فقد عجز جنودُه عن مواجهة المقاومة في المعارك، فآثروا الانتقام من السكان العزل في حي الشجاعية ودكّهم بالمدفعية الثقيلة في صور تذكّرنا بالنازية الألمانية في الحرب العالمية الثانية.. أهذا هو الجيش الرابع في العالم؟ جيشٌ لا يستأسد إلا على النساء والأطفال ولا يقاتل المقاومين إلا من وراء جدُر أو من وراء قرى محصّنة؟
وبرغم المجزرة الفظيعة، يبقى صمت القبور يخيّم على العالم الذي يكيل بمكيالين، وعلى الحكام العرب عدا بعض الإدانات الخجولة المترددة، كما تأبى شعوبهم النزول إلى الشارع للضغط عليهم، وإن فعلتها فبطريقة محتشمة ولإبراء ذمتها لا غير.
أما حاكمُ مصر فهو يصرّ على تركيع المقاومة بأيّ وسيلة، ولا يرى في المجازر الصهيونية سوى إحدى الوسائل لتحقيق هذا الغرض وإجبار المقاومة على قبول مبادرته التي تفرض عليها الاستسلام دون قيد أو شرط، بعد أن اتفق مع حليفه الصهيوني على عدم قبول أي مبادرة أخرى غير مبادرته، وبالأمس فقط منع دخول وفدين طبيين من أوربا وماليزيا إلى غزة عبر معبر رفح المغلق في عزّ الحرب، وهذا حتى لا يسرعوا إلى نجدة آلاف الجرحى الذين يعانون نقصا فادحا في المستلزمات الطبية ونفاد 100 دواء ومادة طبية حيوية تماماً من المستشفيات، في حين يواصل إعلامُه المتصهْين والمتعجرف دعم العدوان على غزة وتحميل حماس مسؤولية المجازر ضد السكان لأنها لم تقبل بمبادرة السيسي الاستسلامية المُذلة.. أهذا هو “قلب العروبة النابض”؟ أهكذا يتصرّف من فقد عشرات الآلاف من الشهداء في حروبه مع الصهاينة بين 1948 و1973، وبدل أن يكون في خندق الأمة، يقف مع جلاده الذي سامه سوء العذاب وأذله في حرب 1967؟
قد يخسر الفلسطينيون الكثيرَ في هذه الحرب ويسقط منهم آلافُ الشهداء والجرحى وتُدمّر الآلافُ من بيوتهم كما حدث في حربي 2008 و2012، ولكنهم قطعاً لن يخسروا كرامتهم وصمودهم ولن يتحوّلوا إلى أنذال يبيعون وطنهم وقضيتهم بثمن بخس، هم صامدون محتسبون مصيبتهم في إخوانهم العرب، إلى أن يأتي الله بأمره.