الاثنين 20 أيار (مايو) 2013

حول كتابات الشهيد كمال عدوان للأخ منير شفيق

الاثنين 20 أيار (مايو) 2013

حول كتابات الشهيد كمال عدوان

‏لقد كتب الكثير عن مزايا الشهيد كمال عدوان: الثائر والقائد، ولكنني في هذه الدراسة سأستعرض فكره من خلال كتاباته. إن دراسة ما كتب مسألة هامة يجب أن تولى كل عناية. فالأطروحات التي تناولتها كتاباته، هي في الجوهر فكر حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، معادة صياغته كموضوعات نظرية، ولهذا فان كتابات كمال عدوان جزء رئيسي في تراث فتح الفكري، ولا يمكن لأحد أن يدرس فكر فتح إن لم يدرس كتابات كمال عدوان.
‏كان كمال عدوان مقلا في الكتابة. ولكن كان حين يكتب يقدم بحثاً مكثفاً غنياً بالموضوعات، مطروحاً بإيجاز، وبتعبيرات واضحة عليها بصماته الخاصة. فهو ذو عقل رياضي يحول دراسته للواقع والظروف إلى موضوعات تأخذ شكل معادلات رياضية يبلغ فيها التجريد حدا قريبا من التجريد في الرياضيات ولكنه تجريد يمس مماثل عينية ملموسة على صورة شعارات سياسية.
‏اعتمد كمال عدوان في منهجه على رصد الواقع المعطى مباشرة، ثم الدخول مع من حوله بنقاشات طويلة، قبل أن يحدد رأياً نهائياً. وكان في أثناء ذلك يقلب، بصدق، كل الفِكَر، وكل المواقف، مصمماً على ألا يحمل أفكاراً مسبقة ضد أي موقف أو رأي، حتى ولو بدا، في نقاشه، عكس ذلك. فقد كان يحرص على أن يكون فكره متوقداً جديداً طازجاً عند بحث أي موضوع. ومن هنا فان رجلاً يحمل مثل هذا النهج في البحث والتفكير يجب ألا يسجل عليه ما كان يطرح من آراء في أثناء مناقشاته وهو في مرحلة استقصاء حالة مستجدة، وإنما يجب أن يسجل عليه ما كتب فقط. لأنه كان يفكر ويناقش، في مجالسه الخاصة، بصوت عال فعلاً. ولكنه ما كان يكتب، أو يطرح في ندوة معدة للنشر، إلا قناعاته الحقيقية التي تكون قد استقرت وتبلورت في ذهنه. ولهذا فإنني اعتبر أن فكر كمال عدوان هو ما طرح في كتاباته، فهي تراثه الفكري. وهي مواقفه وآراؤه.
‏قبل تناول الموضوعات التي طرقها الشهيد كمال عدوان لا بد من لفت انتباه إلى إن ما بين أيدينا من أعماله لا يغطيها جميعاً، وربما لا يغطي إلا بعضاً متواضعاً منها. لأن معظم ما كتب نشر خلوا من توقيعه، وباسم حركة فتح، فضلاً عن مقالات لم تنشر، لسبب أو لآخر. كما أن هنالك مجموعة كبيرة من رسائله لم تنشر ولم تجمع، فضلاً عن قصة طويلة (600 ‏صفحة بخط يده) لم تنشر أيضاً. ولكن من ناحية أخرى، إن ما بين أيدينا من نتاجه الفكري يشكل نماذج يمكن أن يسحب عليها ما بقي من نتاجه غير المعروف، ولا المنشور.

الشهيد كمال عدوان

تاريخ مرحلة 1948 – 1970
كتب كمال عدوان بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاقة الثورة الفلسطينية، مقالة في مجلة “الثورة الفلسطينية” عدد 22 ‏- كانون الثاني (يناير) 1970، أرخ فيما للفترة التاريخية الممتدة بين 1948-1970. واتجه ‏تأريخه لتلك الفترة إلى تناول الأوضاع من زاوية ارتباطها بالوعي الفلسطيني ومراحل تطور النضال الفلسطيني. لأن ما كان يهم كمال من دراسة التاريخ ليس حشد المعلومات وتسلسل الأحداث من ناحية تغطيتها تغطية شاملة، وإنما كان همه تعميم تجارب مرحلة تاريخية تعميماً يصل إلى حد التجريد النظري المكثف جداً. وهو بهذا يعطي نموذجاً لمنهجه، ويعطي من جهة أخرى صورة دقيقة لرؤية رجال حركة فتح الأوائل للوضع العربي والفلسطيني خلال الفترة التاريخية المذكورة. كما يؤرخ فيها لمولد حركة فتح ومسيرتها محدداً الأهداف العامة والشعارات والإجراءات العملية التي طرحت في كل مرحلة من مراحل تطور الوضع. ولهذا فإن هذه الوثيقة تعتبر من الوثائق الهامة في أدبيات الثورة الفلسطينية ستظل مرجعاً ومادة للتثقيف لأعضاء حركة فتح وأبناء الشعب الفلسطيني الذين يريدون الاستمرار في الكفاح المسلح حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني.
‏قسم كمال عدوان، في مقالته آنفة الذكر، تلك الفترة التاريخية إلى ثلاث مراحل رئيسية: (1) مرحلة 1948-1956، وقد رآها تتميز بادئ الأمر بشيوع “الذهول والحيرة” بين صفوف الجماهير، ثم بانخراط الشباب العربي الفلسطيني في العمل السياسي والحزبي والعقائدي. ويصف وعي الشباب الفلسطيني في تلك المرحلة قائلاً: “ولو أن وعيها السياسي لم يصل إلى مستوى تتحمل فيه مسؤولية تخطيط واف ومكتمل يشكل الكفاح الفلسطيني في سبيل معركة التحرير، إلا أنها تفاعلت مع كل الأحداث والتطورات في الأرض العربية على طول الوطن العربي، وشاركت في كثير منها باندفاع على اعتقاد منها أنها جزء من معركتنا في فلسطين إلى درجة جعل التزامها العربي الواسع يشغلها عن التزامها الفلسطيني المحدد. حتى أصبح كل تطور أو تغيير تصنعه العناصر النشطة في الوطن العربي محطة انتظار تقف عليها تتطلع إلى الأمل القادم بعدها”. ولكن الشباب العربي الفلسطيني عاد فاكتشف أن ذلك الطريق لم يحقق أغراضه فبدأت ترتسم علامات استفهام كبيرة تتساءل... إلى أين؟ ‏وهنا وقعت حرب العدوان الثلاثي وبسقوط غزة في أيدي الاحتلال في أكتوبر 1956 بدأت المرحلة الثانية (2‏) حيث خيَّم الاحتلال، وتوجه رصاص العدو إلى صدور الشباب السياسي العقائدي بلا تمييز “فولدت من خلال وحدة الرصاص المرحلة الجديدة في التفكر الفلسطيني وارتفعت شعاراتها تنادي بلقاء فلسطيني عريض... في وحدة وطنية قوية... من أجل ثورة مسلحة تحرر الأرض”.
‏ويعتبر كمال عدوان هذه المرحلة بداية مسيرة حركة فتح حيث شاهد عام 1958 ولادتها من أجل تحقيق الأهداف التالية:

1- تحريك الوجود الفلسطيني.. وبعث الشخصية الفلسطينية محلياً ودولياً من خلال المقاتل الفلسطيني الصلب العنيد القادر على تحطيم أسطورة المناعة الإسرائيلية.
2- استقطاب الجماهير الفلسطينية ومن خلفها كل الجماهير العربية في طريق الثورة المسلحة وحشدها فيها لتكون قادرة على: (أ) تجميد حركة نمو الوجود الإسرائيلي الصهيوني (ب) تقطيع هذا الوجود (ج) تصفية الدولة رمز الوجود الصهيوني.
3- إعادة بناء الدولة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية (حرة وديمقراطية).
بيد أن كمال عدوان يرى أن ثمة حدثين تاليين هما انفصال الوحدة بين مصر وسوريا وانتصار ثوره الجزائر أديا إلى تكوين إجماع فلسطيني على سلامة الخط الذي طرحته حركة فتح. وهنا تعددت المنظمات بهذا الاتجاه. ‏ورأت فتح في ذلك اتجاهاً ايجابياً، غير أن التعدد سرعان ما أصبح إغراقا للساحة بالتنظيمات. الأمر الذي دفع حركة فتح أجل الخروج من هذا المأزق إلى العمل باتجاهين:

‏(أ) أن تركز جهداً اكبر في تكثيف قواعدها العسكرية لبدء العمليات بأقرب وقت ممكن.
(ب) أن تحاول تجميع الجهد الفلسطيني في إطار واحد. (ولهذا ذهبت حركة فتح إلى مؤتمر القدس على أمل أن يؤدي ميلاد منظمة التحرير الفلسطينية إلى تحقيق الوحدة المريضة).

‏ويتابع كمال عدوان تقييمه التاريخي فيرى أن المنظمة كان مقرراً لها إن تنحرف عن أهدافها. الأمر الذي أبرز خطورة أشد من إغراق الساحة بالتنظيمات. فقررت فتح الإسراع في انطلاقة الكفاح المسلح من أجل الخروج من هذا المأزق الجديد. “أي أن تتصدى لمسؤوليتها باستعادة زمام الموقف وأن تقفز من مرحلة التنظيم من أجل الثورة إلى مرحلة التنظيم من خلال الثورة، رغم كل الظروف القاسية والصعبة التي تعيشها الحركة”. وبهذا دخلت المرحلة الثالثة: (3‏) مرحلة انطلاقة الكفاح المسلح في الأول من كانون الثاني (يناير) 1965. وقوبل ذلك من أطراف عديدة بحملات تشكيك واتهام ضد المقاتلين من رجال العاصفة، وبحملات مطاردة وملاحقة واعتقالات لأبناء حركة فتح، اشتركت فيها عدة دول عربية. ويقول كمال عدوان “استطاعت فتح من خلال قتالها اليومي أن تحطم كل التساؤلات الحائرة والعاجزة والمشككة.. وتقفز عنها.. وتثبت أن العمل داخل الأرض المحتلة ممكن.. وأن أسطورة المناعة الإسرائيلية ما هي إلا خرافة تحطمت تحت ضربات العزم الفلسطيني، وأصبح التمرد المسلح واقعاً أكبر من أن يحجز عليه”.

‏وعندئذ بدأت الساحة تشهد إغراقا شديداً بالتنظيمات التي ترفع شعارات القتال وتصدر البلاغات العسكرية، وتهدد الوضع من جديد بالتشوش والبلبلة. الأمر الذي حدا بفتح إلى رفع شعار “اللقاء فوق أرض المعركة”. وانتهى الفصل الأول من هذه المرحلة باندلاعة حرب حزيران واحتلال العدو بقية أجزاء الأرض الفلسطينية وسيناء والمرتفعات السورية (الجولان).

‏ويتابع كمال عدوان في تحديد سمات المرحلة التي تلت حرب حزيران لما 1967 فيرى الثورة تدخل مرحلة بناء القواعد المقاتلة تحت الاحتلال لإعلان المقاومة المسلحة وتأجيج المقاومة الشعبية. وبعد أن أرسيت الدعائم الأولى لهذا الاتجاه أصبح من الضروري للثورة أن تعمل باتجاه مواز خارج الأرض المحتلة لتنتقل “من قاعدة الحماية في سوريا إلى قاعدة الارتكاز في الضفة الشرقية حيث المناعة الطبيعية والجماهير المؤيدة لنا، وقوانا المسلحة الكافية للدفاع والمواجهة”. ولكن ذلك أدى. إلى اتساع تحرك القوى المضادة للثورة في الأردن حيث شنت أول هجوم لها على قواعد الارتكاز. في مخيم الكرامة في شباط 1968. أما في المقابل فقد أخذ التأييد الجماهيري يتعاظم، وتتوطد قواعد الارتكاز. الأمر الذي دفع العدو الصهيوني إن يقرر تصفية قواعد الارتكاز بنفسه فشن هجوماً على مخيم الكرامة في آذار 1968، حيث باء بالفشل، خاصة من ناحية تحقيق الهدف السياسي من الهجوم. وكانت النتيجة نصر الكرامة، ويؤرخ لها كمال عدوان قائلاً: “فكانت معركة الكرامة التي هزم فيها العدو بداية مرحلة من مراحل حربنا الثورية أي انتقلنا من مرحلة اضرب واهرب إلى حرب المواجهة المحدودة”.

‏يمكن إكمال ‏هذا التحليل التاريخي من وجهة نظر كمال عدوان من خلال مقابلة جرت معه عنوان: “فتح: الميلاد والمسيرة”. حديث مع كمال عدوان منشورة في مجلة شؤون فلسطينية -عدد 17- يناير 1973 – ص45 - 75، حيث يحدد فترة 1968-1970 في الأردن كما يلي: “في عام 1968 واجهنا أول هجوم أردني علينا في الكرامة وفي 4 تشرين الثاني 1968 واجهنا هجوماً أردنياً ثانياً في عمان. كان النظام الأردني يرى في الثورة تناقضه الرئيسي... وإن لم يكن هو تناقض الثورة الرئيسي. لهذا كان تحليلنا أن الصدام حتمي ولكن متى ومن يبدأه؟ وما هي العوامل التي تحدد متى. وكان رأينا أن كون الصدام حتمياً لا يبيح أن يتم الآن. ولا بد من تأجيله بأي ثمن. من أجل هذا أصبح الهدف المرحلي في الأردن هو إقامة حالة توازن بيننا وبين النظام المعادي لنا، أو وضع النظام في موضع المتردد بحيث لا يستطيع أن يتخذ قرار الصدام. وقد نجح هذا التكتيك حتى صدام يونيو 1970 الذي عكس حالة التوازن بوضوح. الدليل أنه في 1968 فرض علينا النظام شروطه، 14 شرطاً، وقبلناها، في10/2/70 لم يستطع النظام أن يملي علينا شروطه، ولم نستطع نحن أن نملي عليه شروطنا، وفى يونيو 1970 أملينا نحن شروطنا”. أ‏ما بعد يونيو 1970 فيحدد كمال عدوان الصورة قائلاً: بعد يونيو ومشروع روجرز حدث إرباك كبير للمسيرة، إذ دخلت عوامل جديدة: فقد انشقت الساحة الأردنية الفلسطينية... انشقت الساحة الوطنية من حول عبد الناصر وليس من حول حسين، لأن الخلاف لم يكن حول موقف الملك حسين من مشروع روجرز، ولكن الخلاف كان حول موقف عبد الناصر. فهل تستطيع أن تقول أننا نستطيع تغيير النظام وقد اختلت معادلة القوة بحيث لم نعد نضمن أن التنظيم الناصري في الجيش سيقف معنا؟ موازين القوة التي أعدت سلفاً لتشكل حالة التوازن، والتي هي بدورها مرحلة للقفز إلى مرحلة جديدة، قد اختلت. كان لا بد إذن من مراجعة للحسابات ولا بد من وضع أي تخطيط مقبل ضمن هذا الإطار. بعد تغيير معادلة القوة كنا في حاجة إلى وقت لإعادة ترتيب الأمور. ولكن اندفاع النظام المهووس لتفجير الموقف بأي شكل، وضغط المنظمات الأخرى لمواجهة هذا التنجير بالتحدي والمبارزة، أو الحرج من المنظمات الأخرى، جعل حجم القرار اكبر من حجم القدرة، وحال دون استثمار أي عامل زمني وجمل المبارزة تتم ضمن ظروف ومعادلة قوى ما بعد مشروع روجرز".

قد تكون هنالك ملحوظات على هذا التحليل التاريخي للفترة 1948 - 1970، وقد تكون هذه الفترة التاريخية، وهي كذلك، بحاجة إلى دراسة تفصيلية مدققة. ولكن موضوعات كمال عدوان حولها تحظى على أهمية كبيرة، ولا بد من أ‏ن تكون في جوهرها دعامة رئيسية لتلك الدراسة التفصيلية المدققة. فكمال عدوان لم يهدف إلى أن يكون مؤرخاً وإنما كان يريد أن يطرح تأريخ تلك المرحلة باتجاه تكوين وعي ثوري للمقاتلين من أجل تحرير فلسطين مدعوماً بتنظير تجربة تاريخية لا يمكن الاستغناء عنها سواء بالنسبة للوعي أو بالنسبة للثورة الفلسطينية والعربية.

‏حتمية الثورة

‏كان كمال عدوان في حياته العملية، وكتاباته، يعطي أهمية عظيمة لدور العامل الذاتي في الثورة، للقرار السياسي، للمبادرة، إلى حد قد يتوهم المرء معه أنه ينظر إلى الثورة كفعل إرادي فقط، ولا يعطي أهمية للعوامل الموضوعية. ولكن هذه المسألة كانت واضحة له، وقد عبر عنها، بشكل لا يقود إلى مثل ذلك الوهم. ففي المقالة المنشورة في مجلة الثورة الفلسطينية (العدد22، يناير 1970)، كتب يقول: “نحن نعرف أن البعض كان يرى في الثورة نوعاً من المغامرة ولا يستطيع أن يتصور دور هذه الثورة في معركة التحرير... وما هي إمكاناتها”. ويتابع قائلاً في الرد على الذين يرون في الثورة نوعاً من المغامرة، قائلاً: “نقطة البداية كما نراها نحن... أن موضوع الثورة، بشكل مطلق، لا خيار لنا فيه، فهي طريق يفرضها منطق الحوادث والتاريخ.. الذي يسير جيوش الاحتلال والغزو في الماضي ويسير خلفها انتفاضات الثوار المتكررة يؤكد أنه لا بد أن يكون في بلدنا ثورة... تأتي لتصحح هذا الوضع الشاذ مهما تأخرت عن موعدها. هذا أمر طبيعي يفرض نفسه كحقيقة تاريخية مصيرية لا تقبل حتى أن تناقش... ولا تبرر لنا أن نستسلم مزيداً من الوقت بعد هذه الفترة من الاستسلام.. بقدر ما تملي علينا أن نتحمل مسؤولياتنا بين الشعوب التي تتطلع إلى حياة أفضل.. وكما كانت ثورات الأحرار في آسيا وإفريقيا ستكون ثورتنا قوية ثابتة تفرض وجودها علينا وعلى العالم معنا كما هو التطور الطبيعي للتاريخ... ولا نملك بعد هذا إلا أن نستجيب لإرادة الإله، التي يعبر عنها هذا التاريخ”. ثم يعود إلى النظر للثورة من هذه الزاوية أيضاً في “‏فتح: الميلاد والمسيرة. حديث مع كمال عدوان”- (شؤون فلسطينية، عدد 17، يناير 1973، فيستنتج قائلاً: “الثورة إذن حتمية تاريخية، وليست مجرد إرادة، فرد أو مجموعة من الأفراد... إرادة الأفراد هنا هي الاستجابة لهذه الحتمية التاريخية”. أما من ناحية تقييمه لدور إرادة الأفراد فقد وضعها هي الأخرى ضمن فهم علمي للظروف التي يمكن التحرك من خلالها، وكان لديه مقياس يسميه “إقامة التوازن بين القرار والقدرة” لأنه كان يرى أن القرار إذا انفصل عن القدرة المتاحة عند اتخاذ القرار يصبح مغامرة وخطأ لهذا كان يصر على التوازن بين القرار والقدرة. ويصر على مراعاة أربعة شروط: “1- إدراك شامل للظروف وعناصر القوى الفاعلة فيها على جانبي الصورة. 2- وضوح الرؤيا والتصور لما تريده وسط الظروف 3- ‏تخطيط سليم للوسيلة من واقع هذا التصور 4- ضمانات لوفاء الوسيلة باحتياجات الغرض” (فتح في عيدها الخامس - الثورة الفلسطينية عدد 22 ‏ص11). ويقول في “آ‏خر حديث للشهيد كمال عدوان”، المنشور في شؤون فلسطينية – عدد 21‏، تحكم الصراع الخصائص، الأساسية التي تتمايز بها أطرافه من هو الذي يريد أن يقود الصراع، ويحاول أن ينتشر إمكانياته. ففي المجال الإسرائيلي يحاولون أن يستثمروا خصائصهم ومميزاتهم. ونحن أيضاً مطلوب منا أن نستثمروا خصائصنا ومميزاتنا، ولهذا فالطرف الذي يستطيع أن يفرض على الآخر شكل الصراع، بالتأكيد، سوف يضمن نتائج الصراع“(ص29،30). ويلاحظ هنا فوراً أن كمال عدوان وهو يرى الثورة حتمية تاريخية وليست إرادة أفراد أو مغامرة، يعطي أهمية خاصة لإرادة الأفراد في إدارة الصراع وفى التعبير عن الحتمية التاريخية. فهو لا يفهم الحتمية التاريخية فهماً ميكانيكياً جامداً بمعنى أن لا دور لإرادة الأفراد فيها، أو بالأحرى، للعامل الذاتي. كما أنه لا يرى العامل الذاتي منفلتاً من الظروف المعطاة. ولكنه يرفض الاستسلام للظروف المعطاة. لأن هنالك الدور الذي يجب أن يلعبه العامل الذاتي في أحداث التغيير في الظروف المعطاة. يقول:”بالنسبة لنا ليس هناك شيء اسمه التسليم بالأمر الواقع وإلا لما وجدت فتح. فتح في البداية كانت مائة أو مائة وخمسين مناضلاً، ماذا كان يمكننا أن نفعل. ما كنا نسلم بالأمر الواقع، كنا نراهن على ما يجب إحداثه لا على ما يمكن إحداثه. ما يمكن إحداثه ضمن أمر واقع شيء، وما يجب أحداثه شيء آخر. (شؤون فلسطينية، يناير، 1973- عدد 17، ص49‏). إن كمال عدوان هنا يطرح قضية نظرية ترد على أولئك الذين يستسلمون لتوازن القوى القائم كما يرد على الذين يفكرون في الواقع من وجهة نظر ما يمكن إحداثه فبمن المعطيات القائمة لا ما يجب إحداثه ضمن المعطيات القائمة. أي أنه يرد على منهج التفكير الإصلاحي. وقد أوضح كمال عدوان هذه المسألة الهامة في مقالته “لا بد من إسقاط عقل التسوية”، المنشور في مجلة “فتح” الداخلية (-العدد الأول – العام التاسع- أول كانون الثاني 1973- ص14)، بقوله: “إن العمل الثوري لا بد وأن يكون مستنداً إلى تحليل علمي للواقع الملموس. والثائر يحلل الواقع ليس بقصد ترتيب الأوضاع على أساس معادلة القوى السائدة بل من أجل تغيير هذه المعادلة عن طريق فهمه لحركة التاريخ وموازنات القوى الحقيقية الفاعلة فيه وبناء الأداة التنظيمية الممتلكة لإرادة القتال القادرة على الفعل في الواقع وتغييره”. وعندما ووجه كمال بالذين يتهمون مثل هذا التفكير باللاواقعية رد قائلاً: “إن الكثيرين يتحدثون عن الواقع والواقعية، ويطالبوننا بها. ولهؤلاء نقول أننا واقعيون، ولكن واقعيتنا غير واقعيتهم. هم يرون الواقع مصدراً للتفكير ومنطلقاً له فيقعون في إطار العجز، ويتخاذلون، نح نرى في الواقع موضوعاً للتفكير، نفهمه، ونحلله، لنفعل فيه، لنغيره، بخلق حقائق جديدة. والفرق بين العقليتين هو الفرق بين الحركة والجمود. بين التمرد والاستسلام. فرق بين ما يجب أن يكون، وما يمكن يكون”. (شؤون فلسطينية، يناير 1073 –ص56).

نظرية الثورة

إذا كان القائد الشهيد كمال عدوان ينظر إلى الثورة كحتمية تاريخية، ويعتبر دور العامل الذاتي مهماً جداً باعتباره الاستجابة لهذه الحتمية التاريخية، فإن هذه المسألة بالنسبة له لا تنتهي عند هذا التحديد، وإنما يندفع بها إلى أما بحيث يعتبر قيام العامل الذاتي بدوره يشترط اكتشاف نظرية الثورة. ولهذا فهو يطرح السؤال: كيف نعرف نظرية ثورة ما؟ ويجيب: “نظرية أي ثورة هي رؤيتها لواقعها وللقوانين الخاصة التي تحكم حركة هذا الواقع، ولمجموع التأثيرات المتبادلة بين هذا الواقع والواقع المحيط به، ثم أسلوبها للعمل على ضوء ذلك من أجل التأثير في هذا الواقع لتغييره إلى واقع أرقى، وتصور عام لصورة ذلك الواقع الأرقى الذي تريده الثورة”. ثم يطرح تطبيقاً محدداً على هذا المنهج فيقول: “لقد طرحنا التساؤلات الخمسة: ماذا نريد؟ وكيف..؟ وبمن..؟ ومن أين..؟ ومتى.. ومن خلال الإجابة على هذه التساؤلات توصلنا إلى العناصر الأساسية لنظرية فتح: الهدف، الاستراتيجية، الأداة (شكلها وطبيعتها) ثم قاعدة انطلاقها (وهذا له أهمية خاصة لدينا نظراً لخصوصية وضع الثورة الفلسطينية)، إننا نريد التحرير.. وسيلتنا إليه هي تحريك الوجود الفلسطيني وبعث الشخصية الفلسطينية محلياً ودولياً من خلال المقاتل الفلسطيني الصلب العنيد القادر على تحطيم أسطورة المناعة الإسرائيلية.. وذلك يتطلب طليعة قادرة على استقطاب الجماهير الفلسطينية ومن خلفها كل الجماهير العربية في طريق الثورة المسلحة وحشدها فيها لتكون قادرة بها على: (أ) تجميد حركة نمو الوجود الإسرائيلي الصهيوني. (ب) تقطيع هذا الوجود. (ج) تصفية الدولة رمز هذا الوجود، (د) إعادة بناء الدولة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية دولة حرة ديمقراطية. من التساؤلات الخمسة ومن الإجابة عليها، تكونت نظرية فتح، وهكذا فإن نظرية فتح هي وليدة حاجة النضال الفلسطيني، فلسطينياً وعربياً”. (شؤون فلسطينية 0عدد17-الميلاد والمسيرة –ص47-48). يلاحظ فوراً هنا إن كمال كان رجل تطبيق عملي، فهو لهذا يدرك أهمية النظرية بالنسبة للممارسة أن الذي يؤكد على ضرورة اكتشاف نظرية الثورة للبلد المعني، في المرحلة التاريخية المحددة، في الظروف المعطاة، لا يمكن إلا أن يكون رجل ممارسة وذلك، لأنه يريد أن يمارس فهو يشدد على معرفة نظرية الممارسة. ومن هنا لم يطرح كمال عدوان كل ذلك في موضوعات نظرية عامة وإنما انتقل فوراً لسحبها على أرض الواقع، فأعطى مثلاً حياً تطبيقياً يحمل أصالة ظاهرة. ولهذا يمكن أن يجد المرء فرقاً واضحاً بين المنهج الذي يطبقه ‏خلاق، وبين المنهج الذي يطبقه المقلدون الجامدون. وفى هذا المجال يقول كمال عدوان “كثيرون يخلطون بين أداة التحليل ونظرية العمل، هذا الخلط يقودهم إلى ادعاء موقف عقائدي دون أن تكون لديهم القدرة على الربط بين أداة التحليل والواقع الخاص، هذا الربط الذي يشكل في النتيجة نظرية العمل. هناك فارق كبير بين الذي يستخدم أداة التحليل للوصول إلى نظرية عمل، والذي يناضل من أجل أداة التحليل نفسها كهدف بحد ذاته، أن الإغراق الثقافي الذي شهدته الساحة الفلسطينية - العربية منذ عام 1968 في اتجاه خاص في شكل نقاش لسلسلة ثورات عالمية ناجحة يمكن أن يشكل بالنسبة لنا دليل تجربة تعاوننا على تفادي أخطاء وتوضيح رؤية ولكنها لا يجوز أن تكون بالنسبة لنا وصفة طبيب أو معادلة جاهزة للنسخ لا يمكن مناقشتها. كما قال لنا رفاقنا الفياتناميون في لقائنا معهم:”نحن لنا واقع، ومن خلال هذا الواقع نحن لنا خط“. وفى فلسطين نحن لنا واقع، ولهذا الواقع خصوصيات لا يمكن إلا أن تفرض نفسها على مسيرتنا، وعلى طبيعة خطنا”. (المصدر السابق ص48).

‏منطلقات الثورة الفلسطينية

‏أن كل ما كتبه كمال عدوان جاء متماسكاً يركز على تكثيف وإغناء خمسة منطلقات حددها كقواعد أساسية تنطلق منها الثورة الفلسطينية في مواقفها ومؤسساتها، وهي، في الأساس، منطلقات حركة فتح. وقد صاغها كما يلي:
‏ أولاً: أن إسرائيل قاعدة للاستعمار في المنطقة، تستنزف جهدها وطاقتها، وتهدد مستقبل التطور والتغيير فيها، ولهذا فإن الأمن القومي يفرض تصفية وجود هذه القاعدة من المنطقة نهائياً لطبيعتها الاستعمارية والعدوانية.
‏تانياً: أن الكفاح المسلح من خلال حرب الشعب طويلة الأمد هو أسلوب المواجهة الوحيد، الذي يستطيع أن يستثمر المزايا والخصائص المتوفرة في المنطقة العربية، وتعبئة الجماهير وحشدها وتمليكها القوة من خلال القتال لتحقيق الانتصار. وهذا يعني إعادة صياغة الإنسان العربي.
ثالثاً: أن بروز الشخصية الفلسطينية من خلال المقاتل الفلسطيني، باعتبار الشعب الفلسطيني يمثل حدية التناقض على ساحة الصراع مع الاحتلال الصهيوني، يشكل ضرورة أساسية لمواجهة الجهد المكث المضاد الذي يحاول تغييب الشعب الفلسطيني من ساحات الصراع المحلي والدولي. ولهذا فإن إبراز الشخصية الفلسطينية من خلال المقاتل الفلسطيني يعيد للقضية، في الإطار الدولي، حجمها ووجهها الحقيقي.
رابعاً: الشعب الفلسطيني يظل الطليعة لحركة التحرير العربية من أجل تحرير فلسطين.
خامساً: استقلالية الثورة الفلسطينية، ورفض الوصاية العربية الرسمية شرطان أساسيان للاحتفاظ بالهوية المميزة للثورة عن واقع الأنظمة الرسمي مع كل ما يقوده هذا التمايز من حركة التغيير في المنطقة". (شؤون فلسطينية، عدد 21، ص32).
لكي ندرك منطلقات الثورة الفلسطينية كما عبر كمال عدوان لا بد من مرور سريع بالخلفية التي تقف وراء الطرح.. أنها مسألة أولوية التركيز على قضية تحرير فلسطين، فهو لا يراها مسألة فلسطينية إقليمية وإنما يراها قضية قومية عربية تشكل الطريق إلى تحقيق أهداف الثورة العربية، يقول “قضية النضال العربي من أجل تحرير فلسطين هذه النقطة التي يلومنا بها البعض هي نقطة قوتنا. هذه النقطة هي بداية المدخل القومي للثورة الفلسطينية. كيف؟ نحن نعتقد بضرورة توظيف كل الجهد العربي لحساب التحرير. كيف يتم هذا؟ نحن ننادي بالتغيير ننادي بالوحدة. ولكن لا بد لأية حركة تحرير ولا بد لأية وحدة من قضية، قضية واحدة، ولا بد لهذه القضية من طليعة تتبناها. لو استعرضنا كافة قضايا الوطن العربي المرشحة للنضال من حولها، ‏فسنجد هناك قضايا كثيرة متعددة، في العراق، في سوريا، في عدن، في الخليج، في مصر، في الجزائر، في لبنان. ولكن ما هي القضية الحدية التي تمثل حدية الصراع، والقضية المؤهلة لاستقطاب الجميع؟” ويجيب“أن قضية فلسطين هي قضية التناقض الحدي مع الاستعمار ومع إسرائيل، وهي المرشحة لاستقطاب كافة القوى المناضلة، وكافة الطلائع العربية المناضلة، وكذلك فإن أي عمل، أي تحرك، أي بناء، أي أداة، لا بد لها من بداية، ولا تستطيع أن تنتظر لتنادي وتستنجد وتستحث أطرافاً أخرى لتبدأ بدلاً منها. لا بد من جهة ما معينة تقوم بالتصدي لهذه المسؤولية، وتقود النضال من أجلها، وتشكل محور الاستقطاب. الجهة المرشحة لهذا هي الجهة ذات التماس المباشر مع هذه القضية بداية. ولكن هذا لا يوقف العمل عندها. ولا يحصر إطاره فيها. ولكنه يعطيها وضع الملزم بحكم تماسه المباشر مع القضية الحدية. من هنا تتوفر القضية، تتوفر الطليعة، وتدور حركة النضال، وتنعكس آثارها على الجماهير العربية، فتفرز حالة جماهيرية تتطلع إلى التغيير من خلال الطلائع المحلية في كل قطر. ويتم لقاء كافة هذه الطلائع، حول قضية واحدة، في معركة واحدة. فيتم من خلال توحيد للجهد في شكل توحيد للأداة، بداية من أجل ما نطمح إليه جميعاً، الوحدة العربية” (شؤون فلسطينية عدد 21 ص 38).
إن هذا الطرح يشكل في جوهره أساساً لكل خلاف نظري وسياسي دار ويدور، وسيدور في الساحة الفلسطينية، وفي الوطن العربي، بين النظرية الثورية في بلادنا وبين النظرية الإصلاحية في المجال الاقتصادي والإقليمي من جهة، وكذلك بين نظرية التسوية في المجال السياسي والقومي من جهة أخرى. إن الاتجاه الذي يعمل له العدو الصهيوني والإمبرياليات العالمية وتلتقي معهما، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كل القوى التي لها مصلحة في إبقاء التجزئة العربية، هو القضاء على هذه النظرية الثورية من خلال إنهاء حالة الصراع المسلح مع العدو الصهيوني، وتكريس عقلية التسوية معه، بأي شكل كانت.
وهنا نجد أنفسنا مع كمال عدوان وهو يحدد وجود نظريتين في تناول موضوع “التناقض الحدي، بين أطراف الصراع في المنطقة”. وهما “نظرية المجابهة الرسمية، ونظرية المجابهة الجماهيرية التي تطرحها الثورة الفلسطينية”. ويتقدم في مناقشة النظريتين قائلاً: “فمن جانبنا أن الوجود الإسرائيلي بالنسبة لنا يشكل حالتين: حالة احتلال استيطاني: انتزاع الأرض وإفراغها، والحالة الثانية هي: حالة القاعدة. القاعدة لقوى الاستعمار في المنطقة التي تريد أن تستهلك إمكانيات المنطقة، أن تستنزف إمكانيات المنطقة، وأن تشل إمكانيات الفعل في اتجاه التطور والتغيير”.. “ومن هنا طرحت النظريتان المختلفتان في المنطقة العربية النظرية التي تقول بتنفيذ قرارات 1948 والنظرية التي تقول تصفية الوجود الصهيوني. النظرية الأولى تمثل نظرية الأمن الإقليمي، أي كل دولة عربية تبحث عن أمنها ضمن حدودها، وترفع فلسطين من الحساب. المهم أن تصل للاتفاق مع الوجود الصهيوني على ترتيبات أمنية لحدودها، في الإطار الإقليمي. أما النظرية الثانية فتمثل نظرية الأمن القومي، والتي تتبناها الثورة الفلسطينية، والتي تقول: إن الوجود الإسرائيلي على الأرض العربية مهما تضاءل حجمه، لا يقاس بالكيلومترات، ولكنه يقاس بوجود القاعدة على أي حجم كان. أي تظل قاعدة مؤهلة لاستنفاذ جهد المنطقة، وقاعدة لتهديدها، وللاستعمال ضدها عند الحاجة. من هنا، حتى تستطيع أن توفر الأمن القومي للمواطن العربي لا بد أن يصفى هذا الوجود. هنا نقطة البداية في الخلاف بين نظريتي المجابهة. نظرية الأمن القومي التي تدعو لتحرير كامل الأرض الفلسطينية بتصفية هذه القاعدة، ونظرية الأمن الإقليمي التي تدعو للتفاهم مع الاحتلال، مهما أخذ هذا التفاهم من تسميات،”تسوية“،”قرار 1948“،”مشروع روجرز“،”قرارات الأمم المتحدة“،”قرار مجلس الأمن 242“،”قرار التقسيم“، ليس المهم التسمية. النتيجة التفاهم مع الاحتلال، ونعني الاعتراف به”. (شؤون فلسطينية، عدد 21، ص29، آخر حديث للشهيد كمال عدوان).
إن كمال عدوان حين يطرح كل ذلك يدعمه بتحليل مسهب للسمات الخاصة على جانبي الجبهتين اللتين تمثلان حدية الصراع بين طرفي التناقض، ليؤكد صحة إستراتيجية وتكتيك حرب الشعب طويلة الأمد في مواجهة العدو (راجع المقالات: “فتح: الميلاد والمسيرة”، “آ‏خر حديث للشهيد كمال عدوان”، “فتح في عيدها الخامس”،). وليؤكد على ضرورة محاربة كل الحلول المطروحة التي لا تتضمن تصفية الكيان الصهيوني، وإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني. أي أنه كان ضد التسويات السياسية، فقد كتب قائلاً: “الثورة الفلسطينية تضع معادلة: استمرار الثورة يعني لا تسوية، تمرير التسوية يعني تصفية الثورة الفلسطينية”. وكان يرى في اتجاهات التسويات المطروحة خطراً محدقاً بالشعب العربي الفلسطيني: “قرار الحرب لا يكفي ولكن المطلوب تحديد هوية الحرب. في حزيران إسرائيل احتلت الأرض ولكن ولدت إرادة شعبنا. واليوم يريدون أن يعيدوا أرضا ليعيدوا شعبنا إلى الموت. هذا هو الهدف”. (شؤون في فلسطينية، عدد 21، ص34). وقد رد الشهيد كمال عدوان على الذين هاجموه لرفضه التسويات السياسية واصراره على الكفاح المسلح لتصفية الكيان الصهيوني لإقامة الدولة الديمقراطية، قائلاً: “يرون في ذلك بعداً عن الواقعية؟ ‏لا.. أن الوجود الصهيوني برغم تفوقه الآن جزء من ظاهرة قديمة تحتضر، ظاهرة الامبريالية والاستعمار.. مشروعنا للدولة الديمقراطية هو جزء من ظاهرة نامية، جزء من المستقبل.. المستقبل كحتمية تاريخية هو لحركة التحرر العربي.. ودولتنا المتحررة الديمقراطية هي جزء من حركة التحرر العربي.. لذلك نحن نربطها بالنضال المتنامي للجماهير العربية، ولا يمكن أبداً أن نربطها بأية عملية تسوية آنية فمثل هذه التسوية ستكون ولا شك لصالح من يملك فرض شروطها”. (شؤون فلسطينية، عدد 17، ص56).
‏في الواقع، أن الذي يميز كمال عدوان، بصورة خاصة، بالنسبة لرفض التسويات، لا يتأتى من مهاجمته لمختلف أشكال الحلول التي لا تتضمن تصفية الكيان الصهيوني فحسب، وإنما أيضاً، لكونه، أول من ركز، على ضرورة إسقاط عقل التسوية، أو عقلية التسوية، وهذه مسألة لم يكن الكثيرون يلتفتون إليها. أما كمال فقد كان يعتبر أن جذر الخطر كامن في عقلية البحث عن تسوية أكثر مما هو كامن في ما هو مطروح من تسويات. لماذا؟ لأنه كان يرى أن أخطار تلك المشاريع (التسويات) قابلة للدحر أو هي غير ممكنة التطبيق في تلك الظروف المعطاة. ولهذا كان خوفه من عقلية التسوية لأنها الأساس الذي يدفع إلى الترامي على التسويات السياسية. الأمر الذي يجعل إسقاط تسوية ما، أبعاداً لخطر محدد ‏ولكنه لا يعني إسقاطاً لأساس العلة وهي عقلية التسوية. في حين إذا تم التركيز على إسقاط عقلية التسوية يصبح من تحصيل الحاصل سقوط التسويات ليس المطروحة في ذلك الوقت، فحسب، وإنما أيضاً، ما يمكن أن يتولد عنها، خاصة، عند تبدل بعض الظروف التي قد تكون أكثر مؤاتاة. لذا كتب في الأول من كانون الثاني (يناير)، 1973، في مجلة “فتح” الداخلية مقالاً تحت عنوان “لا ‏بد من إسقاط عقل التسوية” ‏ختمها قائلاً: “أن الجهد الرئيسي للثورة الفلسطينية يجب أن يتركز الآن في العمل لإسقاط العقل العربي الذي يقول بتصفية ‏الاحتلال بالتفاهم أو الاتفاق معه، والعودة بالعقل العربي من إطار التسوية إلى أجواء القتال. ولا بد من خلق سلسلة الحقائق القتالية التي تقود إلى هذا، وتجمله واقعاً لا خيار منه”. ووضع في المقال نفسه شعاراً قال فيه “لقد حاول أعداء الثورة الفلسطينية وما زالوا، العمل على إخراج العقل الفلسطيني من إطار الثورة إلى متاهات البدائل”. ولهذا كان يرى في القتال المسلح جوهراً لا يجوز بأي شكل من الأشكال التخلي عنه، ويكفي أن تخنق إرادة القتال عند الإنسان الفلسطيني حتى يكون ذلك هو الطريق لتصفية الوجود الفلسطيني: يقول: “الوجود الفلسطيني يعني قدرة الفعل الفلسطيني، وقدرة الفعل هي إرادة القتال، إرادة الرفض والتغييرات عند الإنسان الفلسطيني. ومن هنا فإن الذين يقفون في الصف المعادي يدركون أن تصفية الوجود الفلسطيني مرهون بخنق إرادة القتال عند الإنسان الفلسطيني”.
‏وبعد، فإن هذا المرور المريع باستعراض أفكار الشهيد كمال عدوان من خلال كتاباته، يشعرنا كم نحن بحاجة، في هذه الظروف، ولأمد غير قصير قادم، إلى دراسة هذه الكتابات والتعلم منها. من أجل المحافظة على اتجاه الثورة الفلسطينية حتى التحرير الكامل. هذه الثورة التي عاش كمال عدوان من اجلها واستشهد في سبيلها.

وائل زعيتر مناضلاً وإنساناً

فجأة انتقل اسم الشهيد وائل زعيتر ليتصدر الصحف ونشرات الأخير، وراح يتردد على الألسن. ولا شك في أن الكثيرين داخل الثورة الفلسطينية وخارجها، جعلوا يتساءلون من هو وائل زعيتر؟ ولماذا اختارته أجهزة العدو الصهيوني الإرهابية ليكون أول أهدافها في أوروبا؟ وبدأت الأجوبة تنهال متفرقة من الذين عرفوا وائلاً لقد انهالت الأجوبة متفرقة لأنه ما من فرد يعرف كل شيء عنه، وهذا ويحدث عادة بالنسبة إلى الكوادر الثورية التي تعمل بصمت حتى تكاد يدها اليمنى لا تعرف ما تفعله يدها اليسرى، فهي إن قامت بعمل، مهما يكن مثمراً وهاماً، تنشاه فوراً، فلا تتخذ منه إعلاناً عن النفس، وتباهياً أمام الآخرين، أو وسيلة للارتقاء والانتفاع، أنها تنساه فوراً لتبدأ رحلة جديدة مع عمل ثوري جديد. وهكذا تتصل الحلقات فيكون الأعداء أول من يشعر بهذا الكادر وخطورته. لأنهم يلمسون أثر جهوده فيهم وفي مخططاتهم. فالصهاينة الذين قرروا اغتيال وائل كانوا يعلمون أنه لم يمارس عملاً مسلحاً ضدهم لا مباشرة ولا بصورة غير مباشرة، لا تنفيذاً ولا تخطيطاً. حقاً إنه لم يمارس النضال المسلح المباشر عن هروب منه نجاة بجلده، بل على العكس كان وائل دائم الإصرار على قيادة حركة فتح لتعفيه من مهامه الإعلامية والسياسية داخل إيطاليا، وتأذن له بالعودة إلى أرض الصراع المباشر، في الأردن أو تحت الاحتلال. ولكن الجواب كان يأتيه دائماً أن يبقى حيث هو، ولعل السبب الرئيسي في ذلك أن نتائج عمله الإعلامي، وما حققه من نجاحات في إقامة أوثق العلاقات بين الثورة الفلسطينية والقوى الثورية والتقدمية والإنسانية في إيطاليا كانت فوق ما يمكن أن ينجزه إنسان بمفرده. لقد كان قبول انخراطه في الكفاح المسلح هنا يعني نشوء حاجة تتطلب أن يحل محله عشرة من الكوادر الجيدة والقديرة جداً. حتى يكون بالإمكان الاستمرار بالعمل الذي كان يقوم به وائل، دون أن يطلب تصويره. إن هذه الأسباب نفسها هي التي دفعت الإرهابيين الصهاينة لاغتيال هذا المناضل الثوري الرائع. فقد شعر الصهاينة في إيطاليا منذ أول يوم بدأ فيه بالعمل في حقل الإعلام والعلاقات الخارجية في الثورة الفلسطينية، إن الأرض في إيطاليا بدأت تهتز من تحتهم، وكان باستطاعتهم أن يحصوا مخاسرهم بدقة متناهية، وهم يرون مواقع لهم أخذوا يفقدونها الواحد بعد الآخر. ثم يرون جبهة عريضة تتألف في إيطاليا لمناصرة الثورة الفلسطينية وبأهدافها الخاصة بتحرير فلسطين كلها وإقامة دولة ديمقراطية، وبقبول استراتيجيها الثورية في حل التناقض العدائي ين الجماهير والعدو الصهيوني عن طريق حرب الشعب طويلة الأمد. ‏لقد اتسعت تلك الجبهة لتشمل الحزب الشيوعي الايطالي. وحركة المانيفستو وحركة ثورية ماوية وحزب البسوب (الحزب البروليتاري الاشتراكي الموحد)، واتحاد العمال وعشرات من الحركات الطالبية والثورية، فضلاً عن أجنحة يسارية في الأحزاب الاشتراكية والحزب الديمقراطي المسيحي، إلى جانب شخصيات أدبية وفنية وسياسية وصحفية مرموقة على نطاق عالمي مثل البيرتو مورافيا وجوليانا وغيرهما.
‏لقد استطاع وائل أن يبني في فترة قصيرة من الزمان علاقات حميمة بين الثورة الفلسطينية والقوى السياسية والعمالية والتقدمية في إيطاليا وكان السر في ذلك، رغم أنه ابتدأ في جو معاد، يعود إلى مثابرته وصبره وثقافته ، وقدرته على معرفة الناس والتأثير فيهم دون أن يشعروا ، فهو لم يكن من ذلك الطراز من الناس الذين يحاولون فرض آرائهم على الآخرين، أو تقديم أهداف للثورة بأسلوب بشيري خطابي، كان أسلوبه بسيطاً متواضعاً يعكس حقيقته البسيطة المتواضعة. فهو يحاول أن يفهم الآخرين قبل أ‏ن يطلب منهم أن يفهموه. ‏ويعمد إلى تقديم ما يمكن أن يقدمه لهم قبل أن يسألهم تقديم شيء للثورة الفلسطينية. إنه أسلوب اعتمد على المعرفة السياسية الواسعة، والثقافة الرحبة، والعطاء الثوري وبعد ذلك كان يقدم الوثائق والحقائق بعد أن يلح الآخرون على طلبها، ثم يترك لهم طلب التعاون مع الثورة الفلسطينية، وعرض طاقاتهم لمساندتها. ‏وهنا كان يتجلى وائل بتلك الموهبة التي امتلكها، وهي إيجاد عمل لكل إنسان حسب إمكاناته وفي المكان الذي يناسبه، يمكن إعطاء صورة صغيرة عن ديناميكية مقتبسة من رسالة مؤرخة في 10‏/5‏/71 ‏كان قد بعثها إلى مكتب إعلام حركة فتح في بيروت جاء فيها:
"... ‏سبق وأرسلت لك العدد الأول من الطبعة الإيطالية لمجلة فتح الانجليزية لقد طبعناها مرة أخرى إذ نفدت الطبعة الأولى وكانت حوالي 6000 ‏نسخة والثانية كانت أربعة آلاف نسخة. المجلة نبيعها بـ100 ‏ليرة (ايطالية) للنسخة الواحدة، وتباع بواسطة الطلاب الإيطاليين والنقابات والأولاد وطلاب المدارس المتوسطة وغيره.. إلخ. لقد كلفنا عمل الكليشهات كثيراً، كما لقينا صعوبات أخرى: لذا أمل أن تساعدنا بالنقاط ‏التالية:
1‏) إرسال ما تختارونه من مقالات بالانجليزية أولاً بأول حتى عندما تطلع الإنجليزية (يقصد مجلة فتح بالانجليزية) تكون الترجمة عندنا حاضرة، ولا نضيع وقتاً عليها فتصبح لاغية بعض الشيء.
2‏) إذا أمكن أن ترسلوا لنا الكليشهات أو الأفلام أول بأول -كما وعدتم أبو...- فهذا يجعل الطبع أفضل ويوفر علينا فلوساً. ‏أما بالنسبة إلى العدد الثاني - أي عدد 12 ‏- إبريل فلقد ترجمناه، وسنرسله غداً إلى المطبعة، واعتقد أننا سنطبع منه عشرة آلاف ‏نسخة، فإذا ما أرسلت لنا الأفلام بالاكسبرس والبريد الجوي فستوفر علينا كثيراً بالإضافة إلى وضوح الصور، فهل لك أن تفعل ذلك فسنكون لك من الشاكرين؟
- هذا ولقد حكم على عدد نيسان بأنه أغنى من عدد 12 إبريل لما فيه من وثائق على كل فسأخبركم بالتعليقات التي تصدر عندما ننظم أنفسنا، ولقد أخذنا مكتباً مؤقتاً وسننظم أمور الطبعة الإيطالية ونعلمكم بذلك".
وفي فقرة وردت في الرسالة الثانية المؤرخة في 25/5/71 يقول وائل:
“ما هي أخبار العدد القادم؟” أدو إفادتنا بخصوصه.
“كنتم ترسلون لي في السابق كمية وافية من الإعداد وهذا ما احتاج إليه لأجل توزيعه على المترجمين وعددهم حوالي 20...”.
تدل هذه الفقرات على الديناميكية التي كان يعمل بها المناضل الثوري وائل، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن كل الذين تعاون معهم كانوا من الإيطاليين (مثلاً 20 منالاً عملوا بالترجمة فقط)، الذين يعملون تبرعاً وعن قناعة، يمكن أن ندرك قيمة هذه الطاقة الاستثنائية التي كانت تستطيع إعطاء عمل ثوري للعشرات، وتستطيع أن تعمل بكفاءة وبسرعة، وتحقق نجاحات في ظروف كانت قساية وصعبة (الشهر الخامس من عام 1971).

وائل الإنسان

ولد وائل عام 1934 في مدينة نابلس وتوجه إلى العراق بعد اتمام دراسته الثانوية لدراسة الهندسة في جامعة بغداد. ولكنه سرعان ما اكتشف أن طريقه إلى الحياة ليست طريق مهندس، يوقف عمره سعياً وراء المال، وفي خدمة الشركات وأصحاب الاستثمارات. فترك مقاعد الدراسة ليعمل عاملاً في مد طريق جنوبي العراق في منطقة صحراوية، وكان هدفه أن يتعرف على ريف وطنه العربي، وأن يعيش معه عماله ويكدح معهم... وهناك قضى سنتين يعيش في خيمة وتحت أقسى الظروف... ولكنه عوض ذلك بمشاركته خلية من عمال الحزب الشيوعي العراقي نضالاتهم الطبقية والوطنية ضد حكم نوري السعيد. وكان معه إلى جانب ذلك إصراره الذي رافقه منذ مطلع شبابه، على دراسة التراث العربي مع اهتمام خاص بدراسة اللغة الإيطالية ليتفهم الأوبرا من أحد منابعها، وهو بهذا وحد في نفسه وحياته صفة المناضل البروليتاري الثوري، والمثقف العربي الأصيل والذواقة للموسيقى الكلاسيكية، وبشكل خاص للأوبرا.
ثم راحت الأسفار تتقاذفه مشرداً سياسياً، بعد أن فر من العراق حوالي العام 1956 لينتقل إلى الكويت ثم إلى ألمانيا، وأخيراً لينتهي به المطاف في إيطاليا حيث كان يطمح في تطوير ثقافته الموسيقية، الكلاسيكية الأدبية، ما دام لا يستطيع أن يعود إلى أرض الوطن بسبب أفكاره السياسية. الكثيرون لا يستطيعون أن يتصوروا أن وائلاً كان يحفظ آلاف أبيات الشعر العالمي –مثلاً كان يتلو عن ظهر الغيب مقاطع برمتها من “الكوميديا الإلهية” لدانتي، وأكثر منها لأبي العلاء وابن الفارض.
بعد حرب حزيران 1967 وجدت حرك فتح أن وائلاً أخذ يفرض نفسه ممثلاً لها دون أن يدفع باسمه إلى الشهرة، أو أن يطلب مساعدة، فقد اعتبر أن الثورة ثورته وله الحق في أن يعطيها كل شيء. وراح يعمل ليل نهار بصمت ودون ضجة ويصرف كل ما في جيبه من أجل القضية، ومنذ ذلك التاريخ أصبح وائل مسؤولاً في حركة فتح بعد أن تأكدت الحركة بأنها عثرت على كادر قيادي يشكل ثروة بحد ذاته.
وهنا يمكن أن نقف على جانب آخر من جوانب شخصيته الفذة، وهو حياته البسيطة المتقشفة، فقد كان يعمل مترجماً في السفارة الليبية في روما، ولا يصرف على نفسه من راتبه غير النزر اليسير اليسير، في حين كان يدفع بالباقي كله للصرف على حاجات العمل النضالي. ولعل الكثيرين لا يصدقون أنه كثيراً ما كان يقضي يومين أو ثلاثة في الشهر جائعاً دون أن يكون في جيبه ما يشتري به رغيف خبز، وما كان ليأكل فيتلك الظروف إلا إذا ساقته المصادفات إلى بين صديق بسط مائدة طعام. أما لباسه فكان مزريا وكذلك غرفته التي ينام فيها. إنه لم يفكر قط في أن يفيد من مدخوله المادي في تحسين أحواله، ولو في الحدود الدنيا، لقد كان هذا ديدنه حتى قبل الثورة. فمثلاً كان يذهب بمثل هذا اللباس إلى أوبرا روما حيث كان مشتركاً مداوماً لعدة سنوات –وهنالك تعرف على الكاتب الإيطالي الشهير البيرتو مورافيا إذ صادف إن كان جاره في المقعد المخصص له في قاعة أوبرا روما. وقد لفت نظر الكاتب ثم حاز على إعجابه الشديد وصداقته الحميمة بعد أن تعرف على مزاياه النضالية الأخرى – عدا الموسيقى، والثقافة.
كان وائل قبل الثورة متقشفاً متصوفاً يذهب براتبه في شراء الكتب والاسطوانات الموسيقية وارتياد المسارح الثقافية ودور الأوبرا، فضلاً عن مقاسمة رغيفه مع كل مشرد سياسي ثوري يلتقيه ويتعرف عليه. أما عندما انضم إلى الثورة الفلسطينية، فقد تخلى عن كل شيء عدا بساطة حياته وتقشفه وتحويل معظم راتبه لخدمة القضية الثورية.
طلبت حركة فتح منه في أوائل 1970 الاستقالة من عمله والتفرغ كلياً لنشاطه الإعلامي – السياسي، وظل كذلك حتى مابعد 1971، عندما قرر أن يعود إلى العمل مترجماً بسيطاً في السفارة الليبية في روما، اعتقاداً منه إن من الضروري الاعتماد على نفسه مادياً وإعفاء الثورة من أعبائه المادية رغم أنها كانت أدنى من الحدود التي يعيشها طالب متقشف.

وائل المفكر والأديب

لم يكن وائل كادراً علمياً ينفذ المهام النضالية فحسب، ولم يكن إنساناً حقيقياً فحسب، ولم يكن مثقفاً واسع الثقافة فحسب، وإنما كان أيضاً مفكراً وأديباً شاعراً (لم ينشر قصائده وهذا ما يحتم على الثورة الفلسطينية، وعلى فتح بشكل خاص، إنقاذ كل الأوراق التي استولى عليها البوليس الإيطالي في غرفته).
لقد اهتم في الآونة الأخيرة بتأسيس مكتبة للثقافة العربية في روما، وراح يسعى لتشكيل جمعية صداقة عربية – إيطالية تجمع عدداً من الفنانين والأدباء والشعراء والمثقفين والإيطاليين والعرب. وعندما توجهت رصاصات الإجرام الصهيوني لتوقف قلبه الكبير عن الخفقان كان المشروع لا يحتاج إلا إلى لمسات أخيرة ليخرج إلى النور بكل قوة، وكان هذا هو السبب الذي حال دونه ودون حضوره مؤتمر الكتاب والصحفيين الفلسطينيين الأخير الذي هو عضو فيه. عندما جاء إلى لبنان قبل سبعة أشهر تقريباً صرفت له مخصصاته المتأخرة، فما كان منه إلا أن اشترى بها كلها كتباً عربية بعضها ذو طابع معاصر وأغلبها من الكتب العربية الكلاسيكية مثل “مسالك العرب” للطبري. وعاد إلى إيطاليا بجيوب خاوية إلا من الكتب والتصميم على النضال.
أما مشروعه الآخر الذي لم يتمه فكان اشتراكه مع المستشرق الإيطالي الكبير فرانسيسكو غابريلي في ترجمة “ألف ليلة وليلة” إلى الإيطالية وكان هذا المشروع باكورة مشاريع مماثلة، كان يخطط لها، وكلها تهدف إلى تمزيق ستار التعتيم الفكري الذي يفرضه الغرب على الثقافة العربية التي يعتبرها إحدى أعظم الثقافات العالمية الحضارية. وقد يعجب البعض حين يعلمون أنه كان يتساءل دائماً ماذا سيتمخض عن الثورة الفلسطينية من مساهمة في الثقافة العالمية؟ لم يكن وائل يطرح هذا السؤال وأشباهه من الأسئلة الكثيرة التي تتكشف عن مفكر متأمل فيلسوف، انطلاقاً من مواقع المثقف الاستعراضي، وإنما كان يفعل ذلك تاركاً فيمن يستمع إليه الشعور بصدقه، بل إن المرء ليستطيع أن يلمس عذابه الداخلي وهو يفكر بمثل هذه الأسئلة. لقد كان متحرقاً فعلاً لكي يرى الثورة الفلسطينية والثورة العربية تتمخضان عن عطاء كبير للثقافة الإنسانية والحضارة العالمية، تواصلان به عطاء الماضي.
لقد كان فكر وائل بوتقة انصهرت فيها مجموعة من الثقافات توجت بما أخذ يبديه في السنين الأخيرة من اهتمام بالتجربة الصينية، خصوصاً، الثورة الثقافية. وربما كانت آخر أحلامه رؤية ثورة ثقافية عميقة تحمل أصالة عربية بكل ما تحمل الكلمة من معنى تنتشر بين الجماهير الفلسطينية والعربية ضاربة الجذور بالتراث، صاعدة من أعماق الشعب، محررة نفسها من تقليد الغرب، وضياع الشخصية.
وبكلمة،
كان وائل كادراً ثورياً قيادياً موهوباً، ولكنه كان يتصرف كنعصر عادي.
وكان متقشفاً متفانياً منكراً لذاته، ولكنه كان يملأ نفسه بغنى داخلي لا حدود له.
وكان فناناً وشاعراً ومفكراً، ولكنه ظل تلميذاً في بحثه عن المعرفة.
وكان إنساناً عاملاً بسيطاً، ولكنه كان يعاني عذاباً داخلياً وقلقاً عميقاً.
وكان فتحاوياً وماركسياً، ولكنه كان في الوقت نفسه ناسكاً صوفياً.
والأهم من هذا كله أنه أعطى الثورة الفلسطينية كل هذا دفعة واحدة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 281 / 2182722

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع كتاب وقضية   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2182722 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 25


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40