السبت 14 تموز (يوليو) 2018

كتاب من دروس الانتفاضة المستمرة للأخ منير شفيق

السبت 14 تموز (يوليو) 2018

- منير شفيق
الاخ منير شفيق

من دروس الانتفاضة المستمرة
1987 – 1993

القسم الأول

أجمع المعلقون على انتفاضة شعبنا الفلسطيني داخل فلسطين على أنها حدث كبير ويحمل أبعاداً كثيرة. ولهذا تناولها كل طرف من زاوية محددة واعتبر أهميتها تكمن في تلك الزاوية. فقد ركز البعض على بعدها الفلسطيني من حيث إظهارها ثقل الدور الذي يلعبه الشعب في الداخل من حيث تأكيد الهوية الفلسطينية المستقلة والحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني فضلاً عن تأكيد القدرة العالية في مواجهة الاحتلال. أما البعض الآخر فقد ركز على بعدها الدولي وما أدت إليه من تأييد عالمي واسع للحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وما نجم عنها من إحراج شديد للولايات الأمريكية والعدو الصهيوني. ولا يبالغ ذلك البعض حين يشير إلى أن الولايات المتحدة اضطرت بسبب ذلك الإحراج إلى الامتناع عن استخدام الفيتو في مجلس الأمن ضد الممارسات الإسرائيلية في مواجهة الانتفاضة. كما ركز بعض آخر على بعدها العربي وما تركته من أثر بعيد في قلوب الملايين من جماهير أمتنا وما سببته من حرج لبعض الأنظمة التي تبنت سياسات التآمر على م.ت.ف. وعملت على تصفيتها.
أن أهمية هذه الانتفاضة العظيمة لا تقتصر على ما تركته وستتركه من آثار فلسطينية وعربية ودولية وعلى ما تركته من آثار آنية على معادلة الصراع بيننا وبين عدونا الصهيوني فحسب وإنما أيضاً على ما تعلمنا إياه من دروس مستقبلية ستسم لنا أن نضاعف الآثار الإيجابية وتطورها لمثل هذا الطراز من النضال.
ولكن قبل الدخول في دروس الانتفاضة لا بد من وقفة تحليلية لفهمها.. فهم أسبابها وطبيعتها. فقد حاول البعض أن يصورها نتاج اليأس الفلسطيني من الموقف العربي الرسمي الذي دحر القضية الفلسطينية إلى مرتبة ثالثة أو رابعة في أولوياته.. وصورها آخرون أنها نتاج يأس من الموقف الدولي بسبب تعثر الحلول السياسية وعدم الاتفاق على عقد المؤتمر الدولي. أما غير أولئك فقد رآها كأعجوبة نضالية حدثت فجأة بلا مقدمات ولا أسباب.
في الواقع أن الفهم العميق لهذه الانتفاضة ينطلق من اعتبارها تتويجاً لمجمل النضالات التي خاضتها الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني ابتداء وأساساً الكفاح المسلح والعمليات العسكرية البطولية اللذين راكما في شعبنا روحاً شجاعة في التحدي ومواجهة قوات العدو.. ويجب أن تذكر هنا بصورة خاصة العمليات البطولية التي تمت خلال الآونة الأخيرة من عملية البراق في القدس إلى المعركة المسلحة في الشجاعية إلى عملية النسر العربي في شمال فلسطين إلى جانب عدد من العمليات الهامة المتفرقة التي وجهت فيها ضربات مباشرة لضباط وأفراد من جيش العدو.
كما ينبغي لنا ذكر البطولة الفلسطينية الخارقة التي ظهرت في التصدي للاجتياح عام 1982 وحرب المخيمات حيث سطرت آيات من الشجاعة والتضحية والصمود في صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة وعين الحلوة الرشيدية.
إن ارتفاع مستوى تضحية المقاتل الفلسطيني في الآونة الأخيرة لعب دوراً هاماً في رفع معنويات الجماهير وبث روح الهجوم والاستعداد للتضحية في صفوفها.
أما على المستوى الشعبي في داخل الأرض المحتلة فقد جاءت هذه الانتفاضة عقب مسلسل طويل من التظاهرات والمواجهات التي شهدتها المدن والقرى والجامعات في الضفة الغربية والقطاع. هذا إلى جانب سلسلة متواصلة من الصمود في وجه التجويع والتهجير.
إن المقاومة الشعبية المدنية متنوعة الألوان التي شهدها القطاع والضفة الغربية في الآونة الأخيرة لعبت دوراً كبيراً في تجميع الخبرات الضرورية للجماهير وتشجيعها على الارتفاع بمستوى نضالاتها إلى مستوى الانتفاضة الشاملة.
وأخيرا لا يمكن أن ننظر إلى ما جرى بمعزل عن مقدمات تتمثل بالنضالات السياسية التي قامت بها م.ت.ف طوال السنوات الماضية وفي مقدمتها حفاظها على استقلالها ووحدتها وما حققته من نجاحات في الميدان الدبلوماسي والدولي وفي أوساط الرأي العام العالمي.
أما من جهة أخرى فلا يمكن أن نغفل الآثار التي تركتها بعض السياسات العربية والدولية في تجميع غضب مشروع عليها لدى جماهير الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها ليتحول تدريجاً إلى صوتٍ عالٍ يصرخ من خلال المواجهة مع العدو الصهيوني.. ومن خلال الدم الفلسطيني برفض كل سياسات التآمر على القضية الفلسطينية مؤكداً أن من غير الممكن بعد اليوم أن يتكرر ما حدث بعد 1949 عندما نزع السلاح من يد الشعب الفلسطيني وضربت قيادته الناطقة باسمه وصفيت مؤسساته وألحقت أجزاؤه المبعثرة بهذا النظام أو ذاك وحولت قضية إلى قضية توطين ولاجئين.
أما من جهة أخرى فقد أثبتت تجارب العشرين سنة الماضية ولا سيما العشر السنوات الأخيرة أن العدو الصهيوني المتغطرس ومن ورائه الإمبريالية الأمريكية وعدد من القوى الغربية في العالم لن يستجيبوا لصوت العقل أو للحقوق العادلة أو للرأي العام الدولي والعالمي وذلك من خلال إبقائهم للقضية في دهاليز المناورات السياسية والدولية في ظل مخططات تخديرية وإلهائية باقتراب الحل السياسي بينما تستمر عمليات تهويد الأرض الفلسطينية.. وإجراءات تهجير الشعب الفلسطيني فضلاً عن دفع بعض القوى العربية الرسمية لضرب م.ت.ف وتصفية الثورة الفلسطينية بشن حروب المخيمات تارة أو بشق الصفوف طوراً آخر أو بالبحث عن قيادات بديلة في حالات أخرى. لقد أثبتت مجموعة هذه التجارب للشعب الفلسطيني في الداخل أنه يمكن النزول إلى الشارع بصدوره العارية إلا من الإيمان وأياديه العزلاء إلا من الحجارة ليحتج بالصوت العالي على كل تلك الغطرسة وذاك التآمر وهو يلحظ أن نزوله إلى الشارع يربك العدو الصهيوني وحلفاؤه وينقلهم إلى مواقع الدفاع بدلاً من أن يبقى الميدان خالياً لألاعيبهم ومناوراتهم ومخططاتهم.
من هنا يمكن القول أن مجموع الأسباب آنفة الذكر توضح حقيقة هذه الانتفاضة فهي أولاً كل شيء حلقة من حلقات النضال الفلسطيني المستمر والمتواصل ومتعدد الألوان والذي ينبع أساساً من عدالة القضية والنضال من أجل نصرتها، وهي توضح ثانياً أن هذه الانتفاضة تشكل حلقة من حلقات الرد الفلسطيني على سياسات العدو الصهيوني والأمريكي والمناورات الدولية كما تشكل ثالثاً، تعبيراً عميقاً عن ضمير جماهير العربية بأسرها في رفض كل سياسة عربية تخاذلية أمام العدو الصهيوني أو تراجعية عن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني. ولهذا فإن أسباب الانتفاضة راسخة الجذور في الأرض وليس رد فعل آني لهذه السياسة أو تلك. كما أن تلك الجذور الثابتة في الأرض باقية مستقبلاً لتنطلق منها انتفاضات أخرى ستكون إن شاء الله أقوى وأكبر وأشمل وأطول نفساً.
إن هذه الحقيقة تجعلنا نقف أمامها لتلقي الدروس الضرورية منها واستخلاص العبر حتى تعرف حركة فتح ومعها الثورة الفلسطينية كلها كيف نكون أكثر استعداداً لما تخبئه لنا الأيام والأشهر والسنوات المقبلة من انتفاضات كبرى.
إن هذه الدروس تتطلب من حركة فتح، أولاً وقبل كل شيء، وكذلك من كل مؤسسات م.ت.ف وفصائل المقاومة الفلسطينية أن يجيبوا عن السؤالين التاليين: كيف يمكننا أن نطور من فعاليتنا في دعم انتفاضة شعبنا؟ ما هي الخطوات التي يجب أن نقوم بها منذ الآن وفي كل موقع من أجل أن نكون أكثر قدرة على جعل جماهيرنا المنتفضة تشعر وهي تخوض معاركها على أرض فلسطين إن ظهرها مسنود إلى دعم خارجي قوى وحقيقي يشمل الساحات كافة وعلى كل المستويات؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين لن تكون في مستوى الحدث ما لم تتحول إلى خطة محددة الأهداف والأساليب على مستوى كل موقع، وفق ظروفه وإمكاناته، من أجل أن تكون المرشد في عمل التنظيم والمؤسسات والدوائر والاتحادات للمرحلة القادمة.
بكلمة أخرى لقد ألقت هذه الانتفاضة على عواتقنا مسؤوليات جديدة وخطيرة سواء أكان ذلك في مجال العمل في الأرض المحتلة واتخاذ كل الخطوات الضرورية لتعميق الوحدة الشعبية الداخلية وتأمين الدعم المادي المالي والتمويني لإدامة الانتفاضة لتكون أكبر وأقوى وأطول نفساً مع التأكيد على تصعيد الكفاح المسلح حتى تأتي العمليات بعد كل انتفاضة لتساعد على استمرار الزخم الجماهيري القادم وإربا العدو وإنزال الضربات العسكرية في صفوفه أم في مجال العمل العربي والدولي خارج فلسطين وذلك من أجل حشد أوسع تأييد رسمي ودبلوماسي وشعبي لدعم الانتفاضة والكفاح المسلح الفلسطيني والحقوق العادلة للشعب الفلسطيني.
وخلاصة لا بد من أن نؤكد الحقائق التالية:
أولاً: أ هذه الانتفاضة ليست ظاهرة مجتثة الجذور عن الماضي أو حلقة منفصلة عن مجمل نضالات الشعب الفلسطيني أو الثورة الفلسطينية وإنما هي تتويج لكل ذلك.. هي حلقة في تلك السلسلة المتواصلة وستتلوها حلقات من الكفاح المسلح والتظاهرات والاضطرابات والنضالات السياسية والانتفاضات الكبيرة والشاملة إلى أن يتم التحرير.
ثانياً: لقد ثبتت هذه الانتفاضة مجموعة حقائق على الخريطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط فقد أعادت قضية فلسطين إلى موقع الأولوية في الصراع في المنطقة حتى بوجود حرب الخليج مشتعلة وبالرغم مما تجتذبه من اهتمام عربي ودولي. وأثبتت أيضاً أن الشعب الفلسطيني موجود وبقوة هائلة ليس خارج فلسطين فسحب وإنما أيضاً في داخل فلسطين، في القطاع والضفة وفي المناطق المحتلة منذ 1948 وأكدت أن هذا الوجود لا يمكن تجاهله أو إخضاعه أو السيطرة عليه وسيبقى متفجراً يضرب جدار الاحتلال الصهيوني حتى ينهار.
ثالثاً: أكدت هذه الانتفاضة أن قضية فلسطين ما زالت حية في ضمير عشرات الملايين الملايين من أبناء الأمة العربية والإسلامية والشعوب المضطهدة والمناضلة بدليل تحولها إلى حديث الناس في كل مكان، مما يؤكد أن الأرض ما زالت مهيأة لقضية فلسطين حتى تفجر طاقات الجماهير العربية والإسلامية المكبوتة من أجل أن تتحول إلى قوة دعم حقيقي في سبيل التحرير. كما أكدت من جهة أخرى هزال عدد من السياسات الرسمية العربية ولا سيما تلك التي وجهت حربها ضد فتح والثورة الفلسطينية. الأمر الذي يسمح أن تنشط الدبلوماسية الفلسطينية من أجل إعادة تثبيت الموقف العربي الرسمي بمجمله إلى جانب م.ت.ف. الممثل الشرعي والوعيد للشعب الفلسطيني وإلى جانب النضال العادل والحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني.
إن هذه الحقائق التي أكدتها الانتفاضة يمكن أن تتحولا مستقبلاً إلى قوة هائلة لإرباك السياسات الأمريكية وإنزال الضربات بها بسبب مواقفها المؤيدة للاحتلال والمتنكرة لحقوق الشعب الفلسطيني.
رابعاً: لقد أكدت الانتفاضة وقوف الرأي العام العالمي إلى جانب شعبنا وشجبه للاحتلال الإسرائيلي ولأعمال العنف الإسرائيلي بما أن هذه الوقوف لعب دوراً هاماً في إرباك العدو الصهيوني وهو يتخذ إجراءاته القمعية ضد الانتفاضة. وإذا ما كلل الضغط الدولي بمنع العدو من إبعاد المناضلين (في الواقع يجب أن تمارس سياسات عربية تحرم على الأردن ولبنان ومصر استقبال المبعدين حتى لو اقتضى الأمر أن يعتصموا عدة أيام في المناطق المحرمة من الحدود) فإن الشعب الفلسطيني يكون قد حقق نصراً هاماً ونع من يد العدو أحد أهم أسلحته في محاربة شعبنا أي الإبعاد عن أرض فلسطين لكل من يقاوم العدو.
خامساً: أظهرت تجربة الانتفاضة حين تكون شعبية وشاملة أن بالمقدور ليس عزل العدو الصهيوني دولياً فحسب وإنما أيضاً تضييق الحصار على السياسات الأمريكية وإحراجها وجعلها ترتبك وهو أمر لا بد من تغذيته إلى أبعد الحدود لجعل الولايات المتحدة الأمريكية تدفع الثمن الغالي بسبب تحديها العدائي لحقوق شعبنا وقضيته العادلة.
إن هذه الحقائق التي ثبتتها انتفاضة شعبنا تسمح بخروج فتح ومنظمات المقاومة الفلسطينية الأخرى تحت راية م.ت.ف. بالدروس الضرورية التي تعلمهم ما يجب أن يفعلوه في المرحلة القادمة حتى يكون التناغم بين الداخل والخارج تكاملاً حقيقياً ما ثُبّت من أضعاف مضاعفة مما يساعد على تقريب يوم النصر إن شاء الله.

القسم الثاني

في سبيل دحر الاحتلال بلا قيد أو شرط
أدى قرار الملك حسين بإنهاء الوحدة بين الضفة الغربية والضفة الشرقية، وإعلانه تسليم المسؤولية القانونية عن الضفة الغربية إلى م.ت.ف. باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، إلى إثارة السؤال: ما العمل بالنسبة إلى م.ت.ف.؟ وشكلت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لجنة قانونية لدراسة إمكان إعلان دولة فلسطينية، أو حكومة منفى، أو حكومة مؤقتة، أو أي خيار آخر؟ وثارت مناقشات كثيرة في مختلف الأوساط حول الموقف الواجب اتخاذه في هذا الظرف. فظهر اتجاه، في البداية، يميل إلى إعلان دولة فلسطينية أو اعتبارها قائمة، بموجب القرار 181 لعام 1947 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية. كما ظهر اتجاه آخر يرى ضرورة إعلان الدولة استناداً إلى هذا القرار، وإعلان حكومة منفى تضع في برنامجها الثوابت الفلسطينية المتعلقة بحق تقرير المصير وحق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية، مع الاعتراف في الوقت نفسه بقراري 242 و338 الصادرين عن مجلس الأمن الدولي، وقد أثيرت ضجة كبيرة ضمن هذين الخيارين لما يتضمنانه من اعتراف بوجود دولة الكيان الصهيوني، أو استعداد لذلك، وبما يحملانه من توجه للحصول على نوع من الاعتراف الأمريكي- الغربي بمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان من بين المعارضين من عارض ذلك من موقع الرفض المبدئي ضد الاعتراف بدولة العدو الإسرائيلي، وكان هنالك من عام فيه من حيث التوقيت والإحراج.
ثم طرحت بدائل أخرى، ولا سيما حين عبر الاتحاد السوفيياتي عن تحفظ على الاعتراف بدولة فلسطينية، أو حكومة منفى، في الوقت الحاضر، في الأقل ونصح بالتريث، وقد عكس هذا الموقف نفسه على موقفي الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية اللذين أصبحا يدعوان إلى التريث وعدم الاستعجال بالرغم من استعدادهم المبدئي بالاعتراف بقراري 181 و242 بما في ذلك الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، في أية مساومة دولية مقبلة يكون الاتحاد السوفياتي طرفاً فيها. أما الجبهة الشعبية فقد لينت من موقفها السابق بالرفض القاطع لإعلان حكومة منفى واعتبرت أن الموضوع قابل للبحث. كما كانت من قبل ترفض النقاط العشر ثم أصبحت توافق عليها ولكن موقفها، ولا سيما، بعد معرفة موقف الاتحاد السوفياتي أصبح أ:ثر تشدداً بالدعوة إلى التريث وعدم التعجيل بإعلان دولة أو حكومة منفى، أما خلافها الأساسي مع موقفي الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية فيتمثل برفضها الاعتراف بالقرارين 181 و242 حتى الآن في الأقل، ومطالبتها أن يكون برنامج حكومة المنفى إذا قامت مستنداً إلى قرارات المجالس الوطنية، أي برنامج اللجنة التنفيذية الحالية.
وكان إلى جانب هذه الاقتراحات توجه يؤيد عدم تغيير الوضع الحالي لمنظمة التحرير ولكن مع عقد مجلس وطني يعلن عن الاستقلال الوطني ويتوسع بإعطاء م.ت.ف. الصلاحيات القانونية التي تخلى عنها الملك حسين في الضفة الغربية أو التوسع بتعريف ذلك الجانب في ميثاق م.ت.ف. التي يعتبرها التعبير عن الكيانية الفلسطينية، أي كيانية الدولة الفلسطينية في ظروف غياب الدولة على الأرض بسبب الاحتلال والشتات الفلسطيني. أما إعلان حكومة وغير ذلك فيترك للجنة التنفيذية القادمة تقرره وفقاً للظروف.
تعود الجذور في بحث مثل هذه الخيارات، مما في ذلك الاعتراف بالقرارات 181، 242، 338، إلى التوجه الذي حملته قرارات المجالس الوطنية حول إقامة دولة فلسطينية على أي جزء يتحرر من فلسطيني (المقصود الضفة الغربية والقطاع)، وذلك منذ عام 1974 وحملته قرارات القمم العربية باعتبار م.ت.ف. الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني منذ عام 1974 كذلك .
إن قرارات المجالس الوطنية المذكورة جعلت مسألة إقامة دولة فلسطينية في مركز العمل الفلسطيني، بل دفعت هذه المسألة أحياناً، لتصبح موازية في الأهمية لقضية التحرير نفسها، بل أحياناً، أهم من مسألة دحر الاحتلال عن الأراضي التي احتلت عام 1967 في الأقل.
فقد حملت إستراتيجية م.ت.ف. النابعة من مشروع النقاط العشر لعام 1974 (أي إقامة الدولة في حينه سميت “السلطة الوطنية” واعتبار م.ت.ف. الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني) رأسين أو مركزين أحدهما اتجه للنضال من أجل دحر الاحتلال الإسرائيلي من المناطق التي احتلت عام 1967 (كانت هذه هي الترجمة للمرحلية مقابل الاستراتيجية الداعية للتحرير الكامل) والرأس الثانية أو المركز الثاني فكان إقامة الدولة الفلسطينية بزعامة م.ت.ف. على الأرض التي تحرر من الاحتلال.
ولما كانت إقامة الدولة الفلسطينية مرفوضة من جانب العدو الصهيوني، كما هي مرفوضة من جانب الأردن، ولما كان نقل الصراع حول قيام دولة فلسطينية، أ عدم قيامها أسهل على العدو من المعركة حول الانسحاب، أو عدم الانسحاب من الأراضي التي احتلت في العام 1967، ركز العدو على ذلك الصراع وطح حلاً أردنياً أو حكماً ذاتياً تحت الاحتلال الإسرائيلي أو تحت المملكة الهاشمية شعاراً بديلاً لشعار الدولة الفلسطينية. وقد سهل ذلك على أمريكا أمام الرأي العام العالمي لتقف إلى جانب وجهة النظر الإسرائيلية سواء أكان ذلك من جهة الحكم الذاتي أم من جهة البديل الأردني. وكان الأمر كذلك بالنسبة إلى عدد من دول أوروبا الغربية وقد أدى هذا التطور إلى أن تصبح مسألة الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية على قائمة أولويات م.ت.ف. كجزء من تحدي السياسة الأمريكية – الإسرائيلية، وكجزء من معارضة مشاريع التسوية الأمريكية. ولكن دفع هذه المسألة إلى أمام بأعلى درجات القوة فرض على م.ت.ف. أن تواجه بمسألة الاعتراف المتبادل بين م.ت.ف. والكيان الإسرائيلي، ومسألة الاعتراف بقرار 181، أو بقراري 338 و242 ومسألة المشاركة بمؤتمر دولي على أساس القرار 242 أو مسألة الوفد الأردني – الفلسطيني المشترك، أو الوفد المستقل والوفد العربي كإعلان حكومة المنفى والدولة. أي أصبحت هذه المسائل مطروحة أمام م.ت.ف. وقد دارت، وتدور، نقاشات حولها، سراً وعلناً، فعلى سبيل المثال أصبح بمقدور أمريكا بسبب هذا التوجه أن تطرح على م.ت.ف. مسألة الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كشرط لفتح حوار أمريكي معها، وهكذا.
أما من جهة أخرى فقد أدى وضع إقامة دولة فلسطينية ومسألة الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني (ثمة ترابط عضوي بين المسألتين) في رأس استراتيجية م.ت.ف.، فيما أدى إليه، أن يصبح من أولويات سياستها كسب الاعتراف السوفياتي بها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أمريكا وأوروبا الغربية، فالوصول إلى هدف إقامة الدولة الفلسطينية ارتبط بحوار الدولتين الكبريين وبالمؤتمر الدولي، وما يترتب على ذلك من ترتيبات واستحقاقات ومن ثم أصبح اعتراف الدولتين الكبريين والاعتراف الأوروبي الغربي بمنظمة التحرير الفلسطينية من شروط تحقيق ذلك الهدف. وعندما سعت لكسب الاعتراف السوفياتي وجدته مشروطاً منذ أوائل السبعينات بتغيير شعار التحرير الكامل وبطرح شعار مرحلي يقتصر على إقامة دولة فلسطينية أو سلطة فلسطينية على جزء من الأرض أي يتضمن اعترافاً، ولو بصورة غير مباشرة، بدولة الكيان الإسرائيلي الذي يصر الاتحاد السوفياتي على حقها في الوجود، ولا يقبل أن يعترف بـ م.ت.ف. إن كانت تطالب بتصفية الكيان الصهيوني وقد أعطى هذا الشرط له من خلال النقاط العشر وموافقة المجالس الوطنية على مشروع بريجينيف والمؤتمر الدولي. أما الولايات المتحدة الأمريكية فاشترطت من أجل الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية أن تعترف الأخيرة علناً وبصريح العبارة، بحق إسرائيل في الوجود وبقرار 242. ولم يكن الموقف الأوروبي الغربي والشرقي بمختلف في الجوهر، عن الموقفين الأمريكي والسوفياتي في هذا الصدد بالرغم من بعض التفاصيل في بعض النقاط هنا وهناك.
وبهذا يلاحظ أن وضع إقامة الدولة الفلسطينية والاعتراف بمنظمة التحرير بموازاة دحر الاحتلال على الأراضي المحتلة في 1967، ولا نقول التحرير الكامل الذي استبعد، جعل ذلك الهدف يطغى، في أولوية السياسة، في كثير من الأحيان، ولا سيما في المجال الدولي والدبلوماسي، على الهدف الثاني وهو دحر الاحتلال.
ويجب أن يلاحظ أن موقف م.ت.ف. في مواجهة تحقيق هدف الدولة الفلسطينية تحت قيادتها باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني قد أضعف موقفها السياسي، من بعض النواحي، لأن تحقيقه أصبح مشروطاً بالاعتراف بالدولة الإسرائيلية هذا إذا نشأت ظروف جعلت من الممكن تحقيقه أصلاً –وهو شرط محرج ومربك للموقف الفلسطيني، أي وضع هذا الشعار م.ت.ف. في موقع دفاعي، ويحتاج إلى الكثير من المراوغة السياسية، ويكشف عن ذلك سلسلة التصريحات المبطنة أو التي أعيد سحبها أو إنكارها، الصادرة عن م.ت.ف. منذ أن بدأ العمل في الاستراتيجية النابعة عن الشعار المرحلي الذي عبرت عنه النقاط العشر.
كان هنالك جانب آخر حملته تلك الاستراتيجية، هو رفع الصراع مع الملك حسين من جانبه إلى مستويات قصوى لأنها تعني من وجهة نظره تخليه عن الضفة الغربية واختراق مملكته بدولة داخل دولة. وإلا ما معنى أن تكون م.ت.ف. الممثل الشرعي والوحيد الشعب الفلسطيني، بينما مملكته تقوم على أغلبية سكانية فلسطينية في المستوى العام، بل حتى في شرقي الأردن نفسها. فقد دارت نتيجة ذلك معارك فلسطينية – أردنية على المستوى العربي والدولي حول التمثيل. وشهدت مؤتمرات القمة تجليات كثيرة لها، كما شهدت الاقتراحات المتعلقة بالتمثيل في المؤتمر الدولي تجليات أخرى لها. وهذا ما جعل موضوع التمثيل يطغى بالنسبة إلى الطرفين، في كثير من الأحيان، على موضوع دحر الاحتلال، أو على العمل المشترك لدحر الاحتلال، ولا نقول التحرير الكامل الذي أعلن أن موضوعه أصبح مؤجلاً.
ومن هنا يمكن اعتبار قرار الملك حسين في أب (أغسطس) 1978 بفصل الضفة الغربية عن شرقي الأردن، والتسليم لمنظمة التحرير بالمسؤولية هناك هزيمة لسياسته في ذلك الصراع وانتصاراً لمنظمة التحرير ضمن هذا السياق.
بيد أن هذه النتيجة ستبقى الصراع حول التمثيل الفلسطيني وحول الضفة الغربية مستمرين، وأن على مستوى مختلف عن ذي قبل. وسيظل صراعاً قابلاً للانفجار، أو للطغيان مرة أخرى، مع تغير ظروف محددة. ولكن دخل الآن مرحلة جديدة بسياسة مختلفة عن ذي قبل.
وبالمناسبة يمكن القول أن مشروع النقاط العشر وما حمله من استراتيجية جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية جعل موقف م.ت.ف. من لبنان يختلف عن الموقف الأساسي السابق الذي كان يريد منه أن يكون مجرد قواعد ارتكاز للكفاح المسلح، أو أن يكون ممراً للمقاتلين إلى الأرض المحتلة. فالاستراتيجية الجديدة جعلت من لبنان مرتكزاً للضغط من أجل الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية أو جعلته “ورقة” لمنع مرور أية تسوية في المنطقة تتجاهل م.ت.ف. وإقامة دولة فسلطينية، أي أصبح الوجود المسيطر لمنظمة التحرير على جزء من لبنان، أو وجودها كجزء من المعادلة اللبنانية مؤثراً في المعادلة الدولية والعربية ومن ثم حوّل ذلك إلى نقطة ضغط للاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كجزء من المعادلة العربية – الدولية في الشرق الأوسط (المقصود هنا عند بحث الموضوع الفلسطيني)، وقد ساعد ذلك على المزيد من الغوص في الصراع الذي شهدته أرض لبنان، كما ساعد على المزيد من تصعيد الصراع مع سوريا حين دخلت إلى لبنان وطمحت في أن تصبح صاحبة الكلمة الأولى فيها، على حساب الأطراف الأخرى، بما في ذلك، م.ت.ف. ومن ثم كان هامش قيام مساومة بين م.ت.ف. وسوريا شبه معدوم في ظل استراتيجية دولية لا تريد من م.ت.ف. أن تستخدم وجودها في لبنان في خدمة هدف قيام دولة فلسطينية وانتزاع الاعتراف الدولي والعربي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي ظل استراتيجية سورية تريد أن تمسك وحدها بالورقة اللبنانية، ولا سيما في المناطق التي سيطرت عليها م.ت.ف. منذ 1975، وما يتطلبه ذلك من مساومات دولية تكون م.ت.ف. ضحيتها الأولى في لبنان.
يجب أن يلاحظ مما تقدم أن استراتيجية م.ت.ف. التي حددت أهدافها النقاط العشر منذ 1972 وبالرغم من كل ما يمكن أن يسجل عليها من مآخذ مبدئية واستراتيجية وتكتيكية كانت تحمل في طياتها عناصر صدام أساسية مع الكيان الصهيوني الذي يرفض رفضاً قاطعاً قيام دولة فلسطينية والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، كما حملت عناصر وصدام مع المعادلة الدولية والعربية الشرق أوسطية التي تنكر أصلاً على م.ت.ف. أن تكون عضواً أصيلاً فيها. وترفض أن تصبح هنالك دولة فلسطينية تضاف إلى الخريطة التي حددتها اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور. بالرغم من أنها ضمن سياق التجزئة العربية التي رسمتها القوى الإمبريالية. ولكن الأطماع الصهيونية في فلسطين أخرجها من الحساب، ولهذا، كان لا بد من أن يحتدم الصدام هنا مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي (ولا سيما بريطانيا) دولياً، ومع الأردن عربياً، ومع سوريا لبنانياً. إن هذه العناصر الصدامية وأساساً مع الكيان الصهيوني وأمريكا هي التي سمحت لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تستمر في حمل وجه كفاحي معاد للصهيونية والإمبريالية بعد أن طرحت الاستراتيجية القائمة على الحل المرحلي.
ومن هنا يجوز القول أن أهم نقد كان يمكن أن يُوجه للنقاط العشر يوم طرحت لم يكن النقد المتعلق بما تحمله من تنازلات وطنية لأن التنازلات فيها ضمنية غير صريحة، ومؤجلة، وقد تحدث وقد لا تحدث. فالنقاط العشر، بحد ذاتها، وفي ظاهرها تقول بإقامة السلطة الوطنية على أي جزء يتحرر من فلسطين. وهذا بحد ذاته لا يخدش وطنية من يحمله. وإذا قيل أنه يحمل تنازلاً فذلك بما قد يوحي به ضمناً من استعداد لقبول قيام دولة فلسطينية جنباً إلى جنب مع دولة الكيان الإسرائيلي. ولكن لا تناقش البرامج والأهداف في العمل السياسي والصراع بما توحي به، أو بما يمكن أن ينجم عنها مستقبلاً، وإنما تناقش من خلال نصها الصريح والظاهر. أما مستقبلاً فلكل حادث حديث كما يقال. طبعاً إذا لم يكن من الحق اتهام أحد بما قد يوحي به شعارها وبما قد يحمله، أو يتضمنه، من احتمالات مستقبلية، فإن من حق المرء المعارض أن يعترض على ذلك الشعار ولا يقبله ولا يتبناه سواء أكان ذلك تحوطاً لما يمكن أن يوحي به أو تحوطاً لما يمكن أن يقود إليه مستقبلاً.
كما لم يكن هنالك من أساس في عيون الجماهير لنقد النقاط العشر على أساس الطعن في وطنية من يحملها. فتلك الوطنية لم تكن موضع شك. أما النقد الأهم الذي كان يمكن أن يوجه إليها، أو وجه إليها، فعلاً، فهو نقد الاستراتيجية التي ستفرضها النقاط العشر. وهي الاستراتيجة التي تضع الدولة الفلسطينية والاعتراف بمنظمة التحرير بموازاة إن لم يكن على مستوى أهم من هدف دحر الاحتلال، ناهيك عن التحرير الكامل، مما يجعل مسألة الحصول على الاعتراف الدولي بالدولة والمنظمة هدفاً أول يُسعى إليه. ومن ثم يفرض اتخاذ السياسات والإجراءات التي توصل إليه، وهذا ما رأيناه واضحاً فيما تقدم من عرض في هذه المقالة. أو بكلمة أخرى إنها استراتيجية إدخال الثورة الفلسطينية وم.ت.ف. وحل القضية الفلسطينية إلى المعادلة العربية – الدولية.
إن الاعتراض هنا يقوم ضد استراتيجية قدمت بديلاً للاستراتيجية التي اندلعت الثورة الفلسطينية على أساسها. أي استراتيجية فتح التي كانت تهدف إلى تعبئة الوضع العربي والعالمي لعزل العدو الصهيوني وإنزال الهزيمة به. إنها الاستراتيجية التي سعت لتجعل من الكفاح المسلح الفلسطيني أساساً، وأشكال النضال الأخرى. منبهاً للأمة من أجل أن تضع مسألة التحرير على رأس أولوياتها أي الاستراتيجية التي قامت على رفض فكرة تجميد المواجهة ضد العدو الصهيوني ومهادنته (اتفاقات الهدنة) ولو كان ذلك كسباً للوقت من أجل تحقيق التحرر والوحدة العربية والعدالة الاجتماعية، أنها الاستراتيجية التي قالت أن طريق تحرير فلسطين هو طريق الوحدة العربية وهو طريق الثورة العربية، هو طريق التغيير والإصلاح. الاستراتيجة التي كان من منطلقاتها “كل البنادق نحو العدو الصهيوني” فالثورة الفلسطينية، هنا وسيلة لا غاية. والشعب الفلسطيني هنا ضمر الأمة الذي يقدم التضحيات في النضال ضد العدو الصهيوني من أجل إيقاظ الأمة وتنبيهها ودفعها للجهاد ضد عدوها المركزي – الكيان الصهيوني. فقد كان المطلوب من الشعب الفلسطيني أن يقدم التضحيات من أجل الكشف عن عورات الأنظمة المتخاذلة أمام العدو، أو المتآمرة والإمبريالية.
فقَدَرَ الشعب الفلسطيني هنا أن يتحمل الويلات والمآسي في الكفاح من أجل تصحيح مسار الأمة أي تصحيح المسار الذي انحرف حين جمدت المواجهة ضد العدو الصهيوني وارتضى بهدنة طويلة لعشرات السنين معه، ولم يقدم للتحرير الكامل غير الشعارات والخطب. لقد اتجهت هذه الاستراتيجية إلى العالم الخارجي لتهز ضميره حيال جريمة قيام الكيان الإسرائيلي وتشريد الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقوق العادلة.. إنها استراتيجية التوجه للرأي العام العالمي (الدول تحصيل حاصل إذا قبلت) من أجل عزل العدو الإسرائيلي وكشف عنصريته وجرائمه ولا عدالة وجوده، أصلاً على أرض فلسطين. ومن ثم كانت استراتيجية إظهار عدالة شعب حرم من حقوقه الأساسية، وفضح لا عدالة الكيان الصهيوني العنصري الذي قام بلا حق على أرض شعب آخر، فأثخنه بالمذابح والتشريد.
لم تكن هذه الاستراتيجية لتريد من الدول العربية إلا أن تكف شرها عن مجاهديها ومكافحيها، وتفسح لهم حرية الحركة فوق أراضيها لكي يستمروا في الكفاح ضد العدو الصهيوني، وعلى الرغم من أن هذا المطلب ليس بالأمر الهين والسهل على الدول العربية، ولا سيما، دول المواجهة، لأن العدو الصهيوني يهددها بالقصف والغزو، ولم يكن ذلك بالأمر السيء بالنسبة إلى تلك الاستراتيجية لأنه سينتهي إلى أحد خيارين أما أن تتحرك جيوش الأنظمة فتدخل المعركة، وأما أن تتخاذل فيكشف القناع مما يسهل تحريك إرادة التغيير وقد أثبتت التجربة أن هذه الاستراتيجية تتعرض بدورها إلى مقاومة شديدة ضاربة من بعض الدول العربية. ولكنها في المقابل يمكن أن تلقى تساهل بعضها. ولكن أهم نقاط قوتها كان ما يمكن أن تتمتع به من تأييد شعبي وتعاطف جماهيري عربي وإسلامي. وما تقيمه من سد معنوي ضد التنازلات التي تقدمها بعض الدول العربية. أما من جهة أخرى فهذه الاستراتيجية منتصرة، دائماً، سياسياً. فإذا رجمت وضربت لحساب الكيان الصهيوني فسوف تحاط بالتعاطف ويحرج الذين يقمعونها في الوقت الذي لا ذنب لها غير الكفاح ضد العدو الصهيوني. وإذا سمح لها باستمرار كفاحها وأُمنت لها قواعد آمنة عزز جهادها جماهيرياً وهي في الحالتين ستبقى ضمير الأمة، والمعبر عن الضرورة المبدئية والموضوعية والتاريخية المتعلقة برفض تجميد المواجهة ضد العدو أو رفض الهدنة معه من قبل الدول العربية والإسلامية. أي ستبقى استراتيجية التغيير الضروري في الأوضاع العربية والإسلامية، استراتيجية تصحيح كل مسار منحرف أنها الاستراتيجية التي تعتبر القضية الفلسطينية هي القضية المركزية. والقضية الفلسطينية تعني هنا إزالة الدرن السرطاني الخطير من الجسم والمتمثل بوجود الكيان الصهيوني فوق الأرض المباركة – فلسطين. والمركزية هنا تعني المركزية ضمن الاستراتيجية العامة لنهوض الأمة وتحررها ووحدتها ومواجهة أعدائها ولا سيما العدو الصهيوني.
وأخيراً يجب أن يلاحظ حول هذه الاستراتيجية، أنها لا تسمح للأنظمة التي تتجه إلى مصالحة العدو أو مهادنته وتجميد الصراع معه، أن تكرس ذلك أو تبني له مظلة، من خلال استراتيجية فلسطينية مستعدة للوصول إلى النتائج نفسها شريطة قيام دولة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة تحت قيادة م.ت.ف.
ولكن على كل حال قررت المجالس الوطنية، وبإجماع الفصائل الفلسطينية، المنضوية تحت لوائها – الاستراتيجية الثانية التي تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية والوصول إلى اعتراف عربي ودولي بمنظمة التحرير الفلسطينية مثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني. فكان لا بد لمن ما زال مقتنعاً بجدوى الاستراتيجية الأولى ويرفض الاستراتيجية الثانية، إلا يخطئ في تقدير الموقف، فينتقل بالصراع الذي أراده أن يركز على العدو كما فعلت بعض الاتجاهات إلى صراع ضد الاستراتيجية الثانية، ولا سيما وأن هذه الأخيرة كما لوحظ تحمل في داخلها عناصر صدامية هامة ضد الكيان الصهيوني والإمبريالية. أي كان لا بد من التحرك ضمن نقاط تقاطع وعناصر الصراع والاشتباك ضد العدو الصهيوني والإمبريالية والأمريكية. والأهم التقاطع عند مسألة تصعيد الكفاح المسلح وتحقيق الصمود وتطوير كفاح الحركة الجماهيرية في الأرض المحتلة. وقد أدى ذلك إلى تعايش طويل دام حتى الآن خمسة عشر عاماً تقريباً. وأن كان من حق كل استراتيجية من الاستراتيجيتين أن ترى في تجربة الخمسة عشر عاماً تأكيداً لصحتها وصوابية خياراتها، بينما ترى في الاستراتيجية الأخرى استراتيجية مخطئة نجمت عنها سلسلة من السلبيات.
على أن تطور الأحداث منذ اندلاعة الانتفاضة الشعبية المباركة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وما نجم عن قدرتها على الاستمرارية وعن فشل العدو في إخمادها وقهرها، ثم ما يمكن أن يترتب على استمرارها وصولاً إلى بلوغ العدو حد اليأس الكامل من إخمادها، طرح ويطرح حقائق جديدة على الصراع ضد العدو الصهيوني، كما طرح على الإستراتيجيتين موقفاً جدياً من أجل تحديد التوجه المناسب (البرنامج المناسب) لإدارة الصراع في ظل هذا المستوى من الحرب التي يخوضها الشعب الفلسطيني منذ عشرة أشهر في الضفة الغربية وقطاع غزة ضد العدو الصهيوني. أنها حرب شملت كل المدن والقرى في الضفة الغربية والقطاع.. حرب شملت كل الأزقة والشوارع والأحياء، حرب جعلت المسجد الأقصى وساحاته وأكنافه وقضيته في مركزها، الأمر الذي طرح السؤال ما العمل؟
وقد لاحظنا في مقدمة هذه المقالة ما طرح من خيارات في م.ت.ف. لمواجهة ما طرحته الانتفاضة من تحديات، وتدور هذه الخيارات جميعاً ضمن استراتيجية الدولة الفلسطينية وإبراز م.ت.ف. الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بل يمكن القول أن تلك الخيارات على تعددها تشكل خيارات استراتيجية النقاط العشر ولا بد من أن تؤدي تلك الاستراتيجية إلى إحداها. أو إلى الجمع بين خيارين أو أكثر منها.
أما الاستراتيجية الأخرى وقد أصبحت الآن استراتيجية القوى الإسلامية مجاهدة، فلا بد لها، بدورها، من أن تقدم خياراتها، الخيار الأول أن تستمر ضمن شعارات الجهاد حتى التحرير الكامل وعدم الالتفات إلى حلول جزئية، والتطلع إلى أن تفعل الانتفاضة فعلها في إيقاظ الأمة العربية والإسلامية، أو في تحريك الشارع العربي والإسلامي من أجل إحداث التغيير المطلوب ولو في بلد واحد أو أكثر، من أجل مواصلة التحرير على أرض فلسطين، أي الخيار الذي يهمه أن يبقى الجهاد في فلسطين والشعب الفلسطيني والتضحيات الفلسطينية وسائل للتعبير عن ضمير الأمة وتحريكه ووسائل للتنبيه، الإيقاظ والإنهاض وتصحيح المسار.
أما الخيار الثاني الذي يمكن للقوى الإسلامية المجاهدة أن تتبناه فيتسم بطرح شعار “مرحلي” عملي يتخلص في دحر الاحتلال من المناطق الآهلة ولا سيما القدس دون قيد أو شرط، ومن ثم وكنتيجة له تمكين الشعب الفلسطيني في تلك المناطق من أحكام سيادته على الأراضي التي يدحر جيش العدو منها. أي يصار إلى تجنب طرح موضوع إقامة دولة فلسطينية كشعار مركزي للانتفاضة، وللعمل الفلسطيني الموحد. ولا يصبح موضوع التمثيل الفلسطيني مطروحاً على النقاش – ويساعد، الآن على طمأنة م.ت.ف. في تجنب طرح موضوع الدولة والتمثيل ما أصدره الملك حسين من قرارات بفصل الضفة الغربية عن المملكة الهاشمية. أي لم يعد هنالك من منافس على السلطة غير الاحتلال. ولم يعد هنالك من يملأ الفراغ في حالة انسحاب العدو غير فلسطيني الضفة الغربية والقطاع ومن يمكن أن يمثلهم إذا حدث هنالك استفتاء، أو انتخابات ولا ينبغي لمنظمة التحرير أن تخشى من ذلك أو أن تضع العربية قبل الحصان في هذا الأمر.
وبهذا يصح المسار الاستراتيجي الذي أرسى منذ 1974 الأولوية التي لا ترقى لها أولوية لدحر الاحتلال بلا قيد أو شرط. أي يجب أن يكون الهدف الأول للانتفاضة هو انسحاب جيش العدو بلا شروط فكما دخل المحتلون يجب عليهم أن يرحلوا. ويجب ألا يكافأوا على عدوانهم واحتلالهم. وبهذا لا تصبح هنالك قضية ملحة وذات أولوية اسمها م.ت.ف. أو دولة فلسطينية. ومن ثم لا تصبح هنالك قضية اعتراف متبادل. ومفاوضات وتمثيل ومؤتمر دولي، وإنما يركز على قضية الاحتلال فتصبح هنالك أزمة عدو محتل، وأزمة جماهير تضطهد من احتلال غاشم، وأزمة دولية بسبب الحرب الدائرة بين الانتفاضة وقوات الاحتلال، وأزمة عالم عربي وإسلامي ومن ثم أزمة ضمير عالمي وضمير هيئة أمم. أما الجواب الراهن – الجزئي – العملي على هذه الأزمات فهو الانسحاب الفوري بلا قيد أو شرط وهذا ما يجب أن تحققه الانتفاضة والدعم الخارجي لها. وإذا كان هنالك من صيغ وسيناريوهات فلتصدر قرارات عن هيئة الأمم أو عن مجلس الأمن الدولي، لا علاقة لنا بها ولا تلزمنا تطالب بالانسحاب الفوري.
وتقول بتمكين الشعب في الأراضي المحتلة من ممارسة سيادته على تلك الأراضي، ودون أن يكون على إرادته أو خياراته أي قيد مسبق. ويجب ألا يكون لهذا الحل علاقة بحل القضية الفلسطينية التي يجب أن تبقى عالقة، أي لا علاقة له بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني أو بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني إلا جزئياً كما لا علاقة له بالاعتراف بدولة الكيان الصهيوني أو بالتنازل عن أي حق. أي جعل كل هذه المسائل خارج البحث الراهن، أو بكلمات أخرى يجب ألا يكون ثمن رفع الاحتلال عن بعض المناطق إعطاء الشرعية لما احتل من فلسطين واغتصب قبل حزيران 1967.
كما أن الحديث عن احتلال أو أراضي محتلة لا يعنيان ولا بشكل من الأشكال أن الأراضي الفلسطينية الأخرى ليست تحت الاحتلال والاغتصاب فحالة غزة كحالة الناصرة وحالة الخليل كحالة حيفا وحالة نابلس كحالة يافا. أما التخصيص فقد فرضته اعتبارات عملية من حيث إمكان دحر الاحتلال في خلال الانتفاضة عن بعض المناطق كمشروع راهن.
وبالمناسبة أن تسمية إقامة دولة فلسطينية على الضفة والقطاع أو على جزء منهما بأنه ممارسة لحق تقرير المصير، أو للحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني هو في الحقيقة، تسمية الأشياء بغير مسمياتها. فالواقع، والحالة تلك، هو ممارسة جزء من الشعب الفلسطيني حقه في السيادة على الجزء الذي يسيطر عليه. وهذا ليس ممارسة لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ولا ممارسة لحقوقه الثابتة. ومن ثم من الأصح أن تعامل الأمور في حدود ما يعنيه هذا الواقع، فعلاً أي اعتباره ممارسة لجزء من الحق على جزء من الأرض من خلال جزء من الشعب ولا يقدم حلاً إلا للجزء المتعلق بدحر الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية التي احتلت في حزيران 1967 بينما تبقى القضية برمتها موضوع الجهاد والمواجهة. أي يبقى الملف مفتوحاً.
بهذا الشعار تستطيع الانتفاضة أن توحد كل القوى الفلسطينية في الداخل تحت رايتها، بما في ذلك القوى الإسلامية التي تطالب بتحرير كل الأرض المباركة – فلسطين وترفض فكرة المؤتمر الدولي أو تقديم أية تنازلات للعدو الصهيوني كالاعتراف بالقرارين 181 و242 فشعار دحر الاحتلال بلا قيد أو شرط، يمكن أن يشكل شعاراً للانتفاضة وهو في الحقيقة الشعار المرحلي العملي الذي تفرضه الآن ساحات المعارك الدائرة في كل مدن الضفة العربية وقطاع غزة وقراهما ومخيماتهما، كما أن هذا الشعار يمكن م.ت.ف. في حال تبنيها له أن تخلص من حرجها أو مما يحاك لها من مطبات فيما يتعلق بالاعتراف بقراري 181 و242 أو بحق “إسرائيل” بالوجود وبالمفاوضة وغير ذلك من التنازلات الخطيرة كما ينقذها من موقفها الدفاعي أمام الولايات المتحدة والدول الغربية حين تُطالب بالاعتراف بحق “إسرائيل” في الوجود وغير ذلك وينقلها إلى الهجوم بحيث تنتزع قراراً دولياً بالانسحاب الفوري من الأرض المحتلة في 1967 وتفرض على الضمير العالمي هيئة الأمم المتحدة أن يتحملا مسؤوليتهما.
ربما كان تحقيق هذا الشعار: دحر الاحتلال بلا قيد أو شرط أسهل للابتلاع من قبل العدو الصهيوني من شعار الدولة الفلسطينية والاعتراف المتبادل، فالعدو لا يريد الاعتراف المتبادل ولا يريد أن يحدد حدود دولته وهذا موقف يناسب الشعب الفلسطيني أيضاً من حيث عدم الوصول إلى الاعتراف المتبادل، وعدم تحديد حدود ما يسمى بالدولة الفلسطينية التي يمكن أن تقام نتيجة لدحر الاحتلال، أي تقوم الدولة والأصح أن تكون قاعدة جهادية محررة نتيجة لدحر الاحتلال لا شرطاً له أو ثمناً مقابلاً له، ومن ثم يجب أن يحرج الموقف الأمريكي والأوروبي الذي يريد أن يفرض على طرفي الصراع ما لا يريدان (أي بأي حق تطالب أمريكا م.ت.ف. بما لا يطالبها به العدو نفسه) فهي بهذا تصبح ملكية أكثر من الملك بل تعقد الوضع وتجعل الحل صعباً جداً أي يجب علينا أن نترك الحسم لميدان الصراع بين الانتفاضة وقوات العدو حتى نصل بالعدو إلى حد اليأس من هزيمة الانتفاضة، وندفع بعزلته إلى الحدود القصوى بسبب جرائمه في قمع الجماهير المنتفضة. ونحرك المتفرجين الدوليين على الجرائم التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، كما نعطي الوقت الكافي للانتفاضة لتؤدي دورها كاملاً أي وصولاً إلى تحركات جماهيرية عربية وإسلامية واسعة ضد العدو الإسرائيلي ومن يعمه من قوى البغي العالمي. مما يتطلب أن يركز الهجوم على الولايات المتحدة الأمريكية حتى تجد في استمرار الاحتلال في حالة استمرار الانتفاضة خطراً على مصالحها وسمعتها في الدول العربية والإسلامية وفي العالم. (ويجب أن يكون هذا هدفاً بحد ذاته للعمل الإسلامي في كل مكان بسبب ما ترتكبه من جرائم بحق الأمة كحلها وهذا لا يستثني الجرائم المرتكبة من قبل الدول الكبرى الأخرى كذلك).
إن السعي لتوفير هذه الشروط يجعل من الممكن أن تتحدد كل القوى الفلسطينية والعربية – الإسلامية والشعوب المستضعفة والرأي العام العالمي من أجل توفيرها. وتسلح الانتفاضة بإمكان الانتصار. مما يزيد من إمكان استمرارها أطول مدة ممكنة ومن ثم يصبح الجواب بالإيجاب عن السؤال عما إذا كان في الإمكان أن تحقق الانتفاضة نصراً على العدو يدحر قواته المسلحة من مواقع تواجد الجماهير الفلسطينية بلا قيد ولا شرط، أي بلا مؤتمر دولي. وبلا اعتراف متبادل، وبلا قرار 181 وبلا 242 وبلا مفاوضات.
وبهذا يكون أمام القوى الإسلامية أن توحد جبهتها وتمديد التعاون مع القوى المناضلة الأخرى في الانتفاضة، والأمر كذلك بالنسبة إلى جبهة المساندة والدعم تحت هدف إنزال الهزيمة بقوات العدو في الميدان (تقع الهزيمة هنا حين يفشل الجيش في إخماد الانتفاضة وييأس من ذلك ويصبح الاستمرار باهظ الثمن بلا نتيجة. أي هدف فرض الانسحاب بلا قيد أو شرط، ومن ثم يتمكن الشعب الفلسطيني من ممارسة سيادته على الأراضي التي ينسحب منها العدو ويكون ذلك حقاً لا يساوم عليه وأمراً مفروغاً منه غير مطروح للنقاش، أما الخيارات التي ستنجم عن ذلك ويجب أن تكون خيارات الإرادة الفلسطينية الحرة غير المقيدة. أما ماذا بعد ذلك فيجب أن يترك للمستقبل. وهذا أمر سارت عليه أغلب الثورات حيث حددت شعاراً وحيداً وهو إسقاط الطاغية أو دحر الاحتلال. أما نوع السلطة والحكم فكان دائماً ذا طابع مرن غير محدد قابل لأكثر من خيار. ومن هنا عبرت أهم التغييرات الجذرية دون أن تطرح نفسها موازية لذلك الشعار الوحيد. أما من جهة القوى الإسلامية فيجب أن يكون هدفها بناء القاعدة التي تواصل المواجهة، بما في ذلك الجهاد المسلح، لكي تبقى القضية مشتعلة والملف مفتوحاً حتى لو اقتضى ذلك عودة الاحتلال. لأن من أخطر ما يمكن أن ينجم في المرحلة القادمة أن يصبح للفلسطينيين دويلة يحرصون على بقائها فتصبح محطاً للمساومات مع العدو ومخدراً بدلاً من أن تبقى فلسطين قضية مركزية وطريقاً للجهاد الذي ينبه الأمة إلى ما هي عليه من تبعية وتجزئة (تغريب وفساد وانحطاط إن ينبهها إلى ضرورة أن تهب لتخلص من كل ذلك وتصنع نهضتها الجديدة وتعود العزة لألف مليون مسلم أي لتعود كلمة الله هي العليا فوق الديار الإسلامية وعلى مستوى السياسة الإسلامية عالمياً.

الانتفاضة الأولى
1087 - 1993
وقضايا فلسطينية

القسم الثالث

الانتفاضة وشروط إنزال الهزيمة بجيش الاحتلال
مرت تجربة الكفاح المسلح في فلسطين في عدة مراحل وحملت كل مرحلة مفهوماً محدداً حوله أو أعطى فيها وظيفة محددة وهما:
- المرحلة الأولى 1965 – 1967:
وضعت حركة فتح منذ تأسيسها استراتيجية الكفاح المسلح الفلسطيني طويل الأمد باعتباره أسلوب الكفاح الذي يؤدي إلى تحرير فلسطين.
وحددت لهذا الكفاح المسلح عدة وظائف أريد تحقيقها من خلاله:
1- أن يسترد الشخصية الفلسطينية، ويثبت الهوية الفلسطينية بعد أن غيبتا بعد العام 1949، وأن يجعل هذه الشخصية تتسم بسمة المقاتل من أجل الحرية عوضاً عن صورة الفلسطيني اللاجئ المصطف طوابير أمام وكالة الإغاثة الدولية.
2- أن يحرك الوضع العربي، ولا سيما، الجيوش العربية باتجاه الخروج من الهدنة الدائمة مع العدو، ومن التأجيل المتواصل للمواجهة، إلى مرحلة المواجهة وخوض معركة التحرير، فقد قام التصور الإستراتيجي هنا على أساس أن يقوم الكفاح المسلح الفلسطيني – العمل الفدائي – بدور الكاشف عن حقيقة الصراع مع العدو الصهيوني.. الكاشف عن الأطماع الصهيونية.. الكاشف لنقاط الضعف في جسم الأمة. الكاشف عن الأنظمة العربية المتقاعسة عن مواجهة العدو. الكاشف عن الترتيب الصحيح للأولويات والتناقضات (جعل القضية الفلسطينية جوهر الصراع في المنطقة وجعل تحرير فلسطين القضية المركزية للأمة).
- المرحلة الثانية: 1967 – 1974:
تغيرت وظيفة الكفاح المسلح بعد حزيران 1967 ليصبح رمزاً للمقاومة الفلسطينية والعربية للاحتلال الإسرائيلي. وليصبح تعويضاً، في أعين الجماهير، عن هزيمة الجيوش العربية، ورداً على تلك الهزيمة، مما جعله يدخل في مرحلة جديدة وهي بناء القواعد الارتكازية في الأردن وسوريا ولبنان في ظل ضعف الأنظمة التي هُزمت بالحرب، كما في ظل دعم جماهيري عربي وإسلامي منطقع النظير، وبهذا بدأ العمل الفدائي يتحول من حال المحرك والمنشط للجيوش العربية والأمة إلى حالة المواجهة، بحد ذاته، للعدو – وقد بدأ يحمل في هذه المرحلة مطامح التحول إلى حرب شعب طويلة الأمد. أو بكلمات أخرى أصبحت لاستراتيجية الكفاح المسلح شوكتان أساسيتان: الأولى العمل الفدائي خلف خطوط العدو، والثانية بناء القواعد العسكرية على خطوط التماس وإقامة مراكز شعبية مسلحة في أماكن التواجد الفلسطيني الكثيف في المخيمات وبعض المدن، أساساً، عمان وبيروت. وقد أعطى هذا الوضع زخماً قوياً للعمل السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وترجم إلى عدة مكاسب سياسية بالنسبة إليها منها ما حصلت عليه بعد حرب أكتوبر 1973 من قرارات عربية.. باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ومنها دخولها عضواً مراقباً في هيئة الأمم المتحدة انتزاع قرارات هامة فيها مثل القرارين 3236، 3238 وقرارات أخرى (الاعتراف بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني وحق تقرير المصير، واعتبار الكفاح المسلح الفلسطيني نضالاً تحريرياً مشروعا ًواعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية) إلى جانب اعتراف أكثر من 82 دولة اعترافاً دبلوماسياً بها وإقامة علاقات شبه دبلوماسية بأكثر من 124 دولة.
- المرحلة الثالثة 1974 – 1982:
وقد اتسمت المرحلة التالية لحرب أكتوبر 1973 ولا سيما مع التطورات التي شهدتها الساحة الفلسطينية بإقرار البرنامج المرحلي الذي عرف، حينئذ، تحت اسم النقاط العشر، ثم مع التطورات التي شهدتها الساحة اللبنانية، بتحول وظيفة الكفاح المسلح الفلسطيني على أرض فلسطين، والوجود العسكري الفلسطيني، في لبنان، إلى خدمة استراتيجية جديدة أصبح هدفها الوصول إلى دولة فلسطينية على أي جزء من أرض فلسطين. أما آلية ذلك ضمن خلال الدخول في المعادلة العربية والدولية أي من خلال تسوية تمر عبر مؤتمر دولي. أي أصبحت وظيفة الكفاح المسلح والعمل السياسي والدبلوماسي هي ممارسة الضغوط على المجتمع الدولي من أجل الحصول على دولة فلسطينية، وحدثت في هذه المرحلة، من جهة أخرى، قفزة في المقاومة السياسية للاحتلال الإسرائيلي في الأرض المحتلة تمثلت بتظاهرات الطلبة بهذه المناسبة أو تلك –وقد اتسمت التظاهرات، أحياناً، بسمة شعبية ويمكن القول أن دور الجماهير الفلسطينية السياسي بدأ يبرز كظاهرة هامة في ميدان النضال الفلسطيني، ولا سيما مع هبوط منسوب العمل المسلح منذ أيلول 1970، ومع اشتداد ساعد الجماهير بعد أن استوعبت هجمة الاحتلال، وأخذت أجيال جديدة تندفع إلى الساحة. وقد راحت تتحسس مواطن ضعف العدو. أما من جهة أخرى فقد طغى على النضال في الداخل، في هذه المرحلة، وجود الثورة الفلسطينية في لبنان إلى حد اعتبارها من قبل البعض دولة ثانية في لبنان (أو دولة الفاكهاني) منذ نيسان 1975، وأصبح لبنان مركز الثقل في الوجود المسلح الفلسطيني منذ 1975. مما جعله طرفاً في الحرب الأهلية في لبنان، فضلاً عن ازدياد أهمية المواجهة مع العدو من خلال الجنوب ولا سيما منذ 1977. وبهذا انتقلت الأضواء كلها، تبعاً لمركز الثقل في سياسة م.ت.ف. إلى الوضع الفلسطيني في لبنان. وأصبح دور الداخل (فلسطين) مساعداً ورديفاً ولم يعد للكفاح المسلح وراء خطوط العدو تلك الأهمية التي كان يحظى بها في المرحلة السابقة. ورُكزت الأهمية السياسية، من جهة أخرى، على القيادة المحلية (قيادة البلديات أساساً) في الداخل، ولا سيما، بعد تبني م.ت.ف. لبرنامج الحد الأدنى. وبدأ البحث عن موقع في المعادلة الدولية والعربية. فأصبح العمل السياسي في الداخل يتركز على كسب القيادات المحلية لتطويق أية محاولة تهدف إلى تشكيل قيادة بديلة تحل محل قيادة م.ت.ف. في الخارج في أية عملية تسوية سياسية مستقبلية، وبهذا تغيرت وظيفة الكفاح المسلح عملياً في الأرض المحتلة، ولم يعد يعامل باعتباره مركز الثقل في الاستراتيجية. بل أصبح في خدمة الوجود المسلح والسياسي خارج الأرض المحتلة. طبعاً هذا لا يعني أنه فقد موضوعياً وظيفته الأساسية، وإنما المقصود كما كان يعامل.
ويجب أن يلحظ هنا انتقال مركز الثقل في الكفاح المسلح الفلسطيني من الداخل إلى الأردن ثم إلى لبنان، وتحول هدف الكفاح المسلح من هدف تهيئة الجيوش العربية، وتحريضها لخوض معركة التحرير إلى هدف مقاومة الاحتلال ثم إلى هدف خدمة وجود الثورة المسلح والسياسي في لبنان، كما يجب أن يلحظ أن التحول في الهدف السياسي من هدف التحرير الكامل إلى هدف الوصول إلى دولة فلسطينية على أي جزء من الأرض الفلسطينية، من خلال تسوية سياسية، قد أعطى للعمل الدبلوماسي الفلسطيني عربياً ودولياً ثقلاً مركزياً في الاستراتيجية، وأصبح الكفاح المسلح في خدمة هذا الهدف بعد أن كان كل من العمل السياسي عربياً ودولياً في المرحلة السابقة يهدف إلى دعم الكفاح المسلح وتعزيزه بالحماية الجماهيرية وإعطاء الشرعية العربية والدولية.
- مرحلة 1982 – 1987:
على أن هذه المرحلة وجدت نهايتها في عام 1982 وذلك بعد احتلال العدو الصهيوني لجنوبي لبنان وبيروت، وفقدان م.ت.ف. “لدولة الفاكهاني” ثم أكمل ذلك بإخراج قوات م.ت.ف. من البقاع والشمال اللبنانيين أواخر 1983. مما أصبح يفرض موضوعياً، ولو هروباً من الحصار بالنسبة إلى م.ت.ف. إعادة مركز الثقل في العمل الفلسطيني إلى داخل الأرض المحتلة. ولكن ذلك لم يلتقط في حينه بالقدر الكافي من الوعي التركيز لأن “حلم العودة” إلى “دولة الفاكهاني” كثيراً ما طغى عليه وقد كرس ذلك استمرار الهجمة لتصفية حتى الوجود المادي للمخيمات في بيروت. وهذا ما جعل معارك المخيمات تحتل حيزاً واعياً بين 1985 – 1987.
إن فقدان القواعد الارتكازية للكفاح المسلح الفلسطيني على خطوط التماس في الأردن وسوريا ولبنان، والخروج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية من مصر بعد كامب ديفيد، ومن ثم تشتت القوات في أراض عربية تبعد آلاف الأميال في حدود فلسطين، وازدياد الحملات السياسية الدولية والعربية على م.ت.ف. أدى بالكثيرين إلى إعادة إعطاء الداخل الفلسطيني دوراً مركزياً مرة أخرى: زيادة أهمية الكفاح المسلح ذي الطابع الفدائي في العمق وراء خطوط العدو وزيادة أهمية ارتفاع الصوت الفلسطيني من خلال الجماهير الفلسطينية ونضالاتها في داخل الأراضي المحتلة.
على أن عاملاً هاماً جديداً في مرحلة ما بعد 1982 دخل إلى ساحة العمل الفلسطيني وهو نمو الاتجاه الإسلامي العام لدى الشبيبة الفلسطينية داخل فلسطين إلى جانب تطور في العمل السياسي والعسكري للتيار الإسلامي، فمن الموجهة العسكرية قام الإسلاميون منذ خريف 1986 بعدد من العمليات العسكرية النوعية صدرت باسم “سرايا الجهاد الإسلامي” مثل عملية حائط البراق في القدس وعملية قتل روزنتال قائد الشرطة العسكرية في مدينة غزة، والاشتباك البطولي في الشجاعية، وقد سبق هذا التغيير هرب جريء من السجن لعدد من المجاهدين الإسلاميين، وعملية في تلك أبيب إلى جانب عدد من العمليات الصغيرة قبل ذلك وفي أثناء ذلك "كشف العدو عملية استشهادية كبيرة كانت ستنفذها فتاة من بيت لحم اسمها عطاف عليان، وكان هدفها مقرات الحكومة الإسرائيلية. أما من الوجهة السياسية فقد برز الدور الإسلامي في التصدي لمؤامرات احتلال المسجد الأقصى حيث لعب الشباب المجاهد الإسلامي دوراً نشطاً في التظاهرات والاعتصامات التي حدثت في الأقصى. ثم ازداد دوره على المستوى السياسي العام، ولا سيما من خلال التظاهرات التي تواصلت في قطاع غزة بعد معركة الشجاعية في خريف 1987، ثم ازداد بروز الدور الإسلامي مع الانتفاضة الشاملة التي عمت القطاع والضفة الغربية منذ 8/12/1987.
- مرحلة الانتفاضة منذ 8/12/1987:
لقد أحدثت الانتفاضة التي شهدها أواخر العام 1987 هزة كبيرة على عدة مستويات فمن جهة أُربك العدو الصهيوني –وحلفاؤه في الغرب من اتساع الانتفاضة وشمولها، فقد واجهوا لأول مرة، انتفاضة شعبية بهذا الاتساع لم تقتصر على تظاهرات الطلبة في الجامعات، إذ نزلت الجماهير إلى الشوارع، وراحت تواجه قوات الاحتلال بنداءات “الله أكبر” وبصور عارية إلا من الإيمان، وبأيد عزلاء إلا من حجارة الأرض المباركة. فقد أثبتت هذه التجربة الهامة أن رصاص العدو ضعيف أمام تحرك الشارع الشعبي. كما أثبتت أن الصدام بين رصاص العدو والدم الفلسطيني يُربك القيادات الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية التي وجدت نفسها أمام أحد أمرين: أما أن تكشف القناع عن زيف دعواها حول حقوق الإنسان وشجب الإرهاب، وإما أن تعلن موقفاً ما يرفض ضرب الجماهير بالرصاص الإسرائيلي. إن هذا الأمر يكشف عن نقطة ضعف أساسية في جبهة العدو الداخلية في فلسطين والخارجية في العالم الغربي. كما يكشف عن نقطة قوة هامة في جبهة الشعب الفلسطيني وهي دور الجماهير نساء ورجالاً، شيوخاً وشباباً، في التصدي للاحتلال بقوة الفعل الشعبي الذي يمكن أن يقهر الرصاص، ويعطّل جنازير الدبابات، إذا ما نزل إلى الشوارع وهو يحمل نداء “الله أكبر”.

درس الانتفاضة.. نظرية الثورة:
لا يجادل أحد في أن توازن القوى بين الشعب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة والدولة اليهودية المدعومة بوجود شعبي يهودي يبلغ حوالي أربع ملايين والمزودة بجسر جويّ عسكري – اقتصادي – سياسي – دولي متواصل. الأمر الذي لا يسمح لهذا الشعب أن يخوض معركة مسلحة، أو غير مسلحة فاصلة، تؤدي إلى تهديم تلك الدولة وتحقيق التحرير الشامل. وهذا يرجع لأسباب عددية بشرية إلى جانب أسباب تتعلق بوجود الدولة الإسرائيلية نفسه، وما تمتلكه من إمكانات عسكرية ومادية، وما تحظى به من دعم دولي. لذلك فمن غير الممكن التفكير بالتحرير الكامل إلا من خلال جيش إسلامي جرار يمتاز بأعلى درجات التصميم. ويأخذ على عاتقه بالتعاون والشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية منازلة جيش العدو الصهيوني من خلال القتال والحرب. وأن من غير الممكن أن يكون هذا الجيش إلا إسلامياً بالمعنى العقدي والإيديولوجي للكلمة إلا أن القوى السياسية العربية العلمانية من قومية وإقليمية ويسارية أسقطت من حسابها نهائياً، للأسف الدخول في حرب تحرير لكل فلسطين، فضلاً عن عدم قدرتها على تعبئة الأمة لمثل هذا المستوى م الحرب والمواجهة الدولية. فقد أصبحت الأمنية الأعلى لهذه القوى هي الوصول إلى حل سياسي يؤمن بعض الحقوق الفلسطينية ويسترد جزءاً من الأرض. فما من قوة من بين هذه القوى السياسية إلا وتخلت عن فكرة خوض الحرب حتى نهايتها بالاعتماد على القوى الذاتي للأمة، فبعضها يحتج بتدهور الوضع العربي والإسلامي، وبعضها بالوضع الدولي كالوفاق السوفياتي – الأمريكي، أساساً، وأخرى لا ترى إمكاناً لخوض الحرب إلا بالتحالف والاتحاد السوفياتي وكسب تأييده بينما يعلن هذا “الحليف” بكل مناسبة أنه لن يقبل بإزالة دولة إسرائيل. ولا يرى حلاً إلا من خلال التسوية السلمية. وبغض النظر عن الحجج التي يقول بها كل طرف لتسويغ التخلي عن معركة التحرير إلا أن الشيء المهم هو سقوط هذا الهدف من برامج الأحزاب والقوى السياسية العلمانية القائمة فلسطينياً وعربياً. ولم يعد مرفوعاً ومعمولاً في سبيله إل في برامج الحركات الإسلامية التي ما زالت تؤمن بضرورة تحرير كامل الأرض المباركة وإزالة دولة يهود وترى في ذلك هدفاً قرآنياً لها، لا تستطيع التخلي عنه بأي شكل من الأشكال. وبغض النظر عن مدى إمكان تحقق ذلك في المدى المنظور إلا أن المسلمة التي يمكن طرحها بهذا الصدد هي أن التحرير غير ممكن إلا من خلال جيش إسلامي ممتد الجذور في الشعب والأمة ورفع راية القرآن فيصطدم بجيش العدو الصهيوني ويقاتله حتى التحرير الكامل. كما حدث من قبل مع كبريات الحروب والغزوات في السابق. أي كما حدث في مواجهة التتار والمغول وفي مواجهة الفرنجة الصليبيين وغير ذلك من الغزوات.
على أن هذا الرأي لا يعني أن يُترك الجهاد على أرض فلسطين حتى توفر تلك الحالة الإسلامية (حالة الدولة وجيش التحرير المليوني المتجهان إلى فلسطين) بل لا بد من أن يرى في هذا الجهاد شرطاً مسبقاً أو عاملاً مساعداً لإنضاج ظروف وتشكيل تلك الحالة الإسلامية. فعلى الرغم من أن تحرير فلسطين من حكم يهود أمر لا يقبل التأويل في النص الإسلامي إلا أن من الممكن أن تقع الأحزاب والحركات الإسلامية القطرية والدولة القطرية الإسلامية، فيما وقعت فيه الأحزاب والحركات والدول القطرية العلمانية من قبل أي أسيرة التجزئة والحرص على مصالح الدولة الإقليمية، وتجنب تعريضها للخطر بسبب الصدام مع العدو الصهيوني المتفرق بقوته العسكرية، والمدعوم من الغرب والشرق في المحافظة على كيانه دولته. أي يمكن الخلي عملياً عن شعار التحرير دون التخلي نظرياً عنه، كما حدث في الخمسينيات والستينيات من بعض الأنظمة القومية. صحيح أن من غير الممكن أن يستند المسلم إلى النص الإسلامي للقبول بحق الوجود لدولة إسرائيل على أرض فلسطين كما فعل الماركسي، على سبيل المثال، من خلال نصه النظري، إلا أن ممن الممكن فعل ذلك عملياً تحت شعارات الإعداد للمعركة (إعداداً لا ينتهي؟) وتقديم أولويات أخرى على أولوية التحرير ولهذا، بالنسبة إلى التحرير الكامل، فإن تبني وعي سياسي إسلامي يدور حول مركزية القضية الفلسطينية في استراتيجية العمل الإسلامي وترجمة ذلك عملياً ومراقبة تلك الترجمة، يشكل مسألة ضرورية لضمان تطابق الخط السياسي والعملي والحكم الفقهي المبدئي بالنسبة إلى هذه القضية.
على أن هذه النظرية المتعلقة بالتحرير الشامل تتطلب النسبة إلى الشعب الفلسطيني أن يضع نصب عينه تصوراً مرافقاً آخر لما يجب أن يعمله، إلى حين يأذن الله بتحقيق الأمل الأكبر، وهو توفر شروط خوض الحرب الشاملة لتحرير كل الأرض المباركة فلسطين، والتي ستفرض إذا ما مورست أن تسير الأمة كلها على طريق النهضة والتحرير والوحدة.

درس الانتفاضة وخطة التحرير:
ثبّتت الانتفاضة مجموعة من الحقائق الهامة على ساحة الصراع ضد العدو الصهيوني، وهذه الحقائق تتمثل بإعادة مركز الثقل في العمل الفلسطيني إلى الداخل، وأساساً إلى نضال الجماهير. كما ثبّتت أن طراز الانتفاضة المتواصلة طويلة الأمد وما يمكن أن يتضمنه من أشكال المواجهات الشعبية والاضطرابات العامة واحتمال إغلاق المدن والأحياء بأجساد الجماهير يمثل الشكل الأرقى من أشكال النضال وهو الشكل الذي قد يوصل مع توفر شروط أخرى إلى إنزال الهزيمة بجيش الاحتلال الصهيوني، وفرض انسحابات عليه فرضاً، بلا قيد أو شرط ومن ثم تحرير المسجد الأقصى والمقدسات ومدينة القدس القديمة وعدد من المدن والقرى والمخيمات في الضفة والقطاع . ومن ثم مواصلة المواجهة وإبقاء الشعلة ومتقدة، وعدم الخوف من عودة الاحتلال أو الضربات الانتقامية حتى يُحدث الله تعالى أمراً في الأمة العربية والإسلامية فتواصل المسيرة إلى التحرير الذي سيسبقه ويرافقه نهوض للأمة.
أولاً: أن الدرس الأساسي لانتفاضة الداخل تعلم ما يجب عمله.. وما يجب الإعداد له في داخل فلسطين. كما يحدد الوظيفة التي يجب أن يضطلع بها الجهاد المسلح. وذلك يجعل العمليات العسكرية في خدمة إبقاء البلاد في حالة الانتفاضة المستمرة التي تجعل كل رجل وامرأة وطفل، شيوخاً وشباباً، يملؤن الشوارع، ويسدون الطرقات، ويتحدون بصرخات “الله أكبر” وبأجسادهم رصاص العدو حتى يكلّ ذلك الرصاص وهو يريق الدم الفلسطيني، وتتعطل جنازير الدبابات وهي تدوس على أجساد النساء والشيوخ والأطفال –إن العمليات العسكرية البطولية يجب أن تجري بعيداً عن تحشّدات الجماهير، ومن أجل خدمة الانتفاضة، لا أن تعامل بديلاً لها، أو محوراً لها. وبهذا يكون هدفها اجتراح البطولات الملهمة للأمة في شجاعتها وعطائها، كما سيكون من وظيفتها إنهاك القوات العسكرية للعدو تحويل أنظاره من التركيز على مواجهة العمل الجماهيري (الهم الأول للعدو الآن هو التخطيط لوقف الانتفاضة وهنا يمكن للعمل المسلح أن يقاطعه ويقطع عليه الطريق). فالجهاد المسلح والجهاد السياسي والتعبوي الشعبي اليومي يمكنهما أن يتناوبا الأدوار ويغذيا بعضهما بعضاً وصولاً إلى انتفاضة أشمل تحكمها إرادة لا تلين حتى فرض الانسحاب بلا قيد أو شرط.
إن الوصول إلى هذا المستوى من التضحية والشجاعة والإجماع الشعبي غير ممكن إلا بدور فعّال يقوم به التيار الإسلامي في داخل الأرض المحتلة. فهذا التيار هو القادر على توحيد العلماء وجعل المساجد والأحياء الشعبية مراكز قيادة للانتفاضة وهو قادر على إعطائها زخم الجهاد والاستشهاد في سبيل الله والأمة والمستضعفين وإنقاذ المسجد الأقصى وسائر المقدسات من براثن العدو. كما أن هذا التيار هو الأكثر تأهيلاً للقيام بعمليات عسكرية كبيرة ضد القوات العسكرية والمؤسسة السياسية للعدو وذلك بسبب انسجامها مع استراتيجيته فضلاً عن انسجامها مع موقفه المبدئي الشرعي.
بكلمات أخرى، إن المطلوب مضاعفة دعم هذه الانتفاضة عشرات المرات لتصبح أكثر قوة وتواصلاً وشمولاً، ودقة تنظيم، وتضحية وطول نفس، حتى تصبح كالجمرة بين يدي جيش العدو فيختار التخلص منها على الاحتفاظ بها.
ثانياً: إن الدرس الذي تعلمه هذه الانتفاضة بالنسبة إلى القوى العاملة خارج الأرض الفلسطينية يفترض فيها بأن تكون واعية لما يجب أن تقوم به من دعم للكفاح المسلح ومن حشد هائل لدعم الانتفاضة الشعبية وهي تتفجر وتقترب من مرحلة إنزال الهزيمة بجيش العدو. إن الوعي المطلوب من كل القوى الإسلامية والوطنية في البلاد العربية والإسلامية أن تعتبر دعم الانتفاضة الشعبية الفلسطينية يُشكّل العامل الأساسي الثاني بعد الانتفاضة نفسها من أجل إنزال الهزيمة بقوات الاحتلال وفرض تحرير المسجد الأقصى. فالمسألة تتطلب رسم استراتيجية متكاملة بين الداخل والخارج في هذه العملية المركبة من الجهاد. فإذا كان من الممكن لكل حركة إسلامية أو وطنية أن يكون لها برنامجها الخاص وأهدافها في عمليها في أقطارها إلا أنها جميعاً مطالبة بأن تجمع في لحظة ما على دعم الانتفاضة واعتبارها جزءاً مركزياً في استراتيجيتها الخاصة كما في الاستراتيجية الإسلامية العامة، ولا سيما حين تتصاعد المواجهة الجماهيرية في الداخل وحين يعلن التصدي الشامل مما يتطلب عندئذٍ أن تنطلق التظاهرات والمهرجانات والإضرابات في الخارج لأن توفير دعم حقيقي لانتفاضة شعب فلسطين المجاهد يتطلب من عشرات الملايين العربية والإسلامية أن تهب متضامنة معلنة كل تأييد ومساندة لها ومطالبة بتحرير المسجد الأقصى ومشددة الخناق على سفارات أمريكا ومصالحها. وذلك ليعرف كل من يساند العدو في استمرار احتلاله أنه لن يفلت من غضبه الجماهير المسلمة المليونية. كما أن على هذه القوى ألا تسمح لأية حكومة عربية أو إسلامية أن تتقاعس عن دعم الانتفاضة والوقوف إلى جانبها ومحاصرة القوى المؤيدة للعدو الصهيوني ولا سيما الولايات المتحدة. فإذا ما تحقق كل ذلك ومئات الألوف من مسلمي فلسطين معتصمين في الشوارع والمدن والقرى ولا سيما من حول المسجد الأقصى فإن فرض الانسحاب على قوات العدو وجعله يجرجر ذيول الهزيمة يصبح أمراً ممكناً إن شاء الله. فالجماهير الفلسطينية داخل الأرض المحتلة بحاجة إلى أن تشعر بأن الأمة كلها تقف من ورائها الأمر الذي يمنحها قوة روحية أكبر في جعل إرادتها لا تلين وهي تواجه قوات الاحتلال الإسرائيلي ويجعلها تأمل بنصر قريب كما أن ذلك سيسهم في هز جبهة العدو الخارجية وضعضعتها فالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول المؤيدة للعدو سترتبك أمام الدم الفلسطيني وهو يتحدى رصاص الجيش الإسرائيلي كما سترتبك أمام غضبه مئات الملايين العربية والإسلامية وستجد نفسها في الزاوية حين ينعكس ذلك ضغطاً من أجل اتخاذ إجراءات وسياسات من قِبل الحكومات الإسلامية تجاهها مما سيفرض عليها التراجع ولو المؤقت الأمر الذي سيربك بدوره إرادة العدو في تحدي الانتفاضة فالجزء الأكبر من قوة العدو ومعنويات جيشه وقيادته في مثل هذه اللحظات آت من الدعم السياسي الخارجي فإذا ما انهز هذا الدعم وارتبك فسوف ينعكس على قوة العدو وجيشه وقيادته وقراراته تخبطاً وارتباكاً.
بكلمة أخرى، إن انتفاضة شعب فلسطين يمكن أن تصبح محرّضاً لانتفاضات كبرى في الأرض العربية والإسلامية أيضاً، وربما سبيلاً للتغير الجذري في بعض الأقطار.
ثالثاً: إن ملاحظة الوضع الداخلي في صفوف العدو على مستوى حلفائه تشكل ضرورة هامة في تحديد اللحظة التي يمكن أن تنتقل فيها استراتيجية الانتفاضة إلى مستوى أكثر شمولية وقوة. مهما كلف ذلك من ضحايا ومهما طال الأمد –ومن هنا يكون الشرط الثالث اختيار الظرف الذي تتفاقم فيه التناقضات داخل القيادة الإسرائيلية مترافقاً مع الارتباك والتناقضات في مواقف حلفاء العدو في الخارج، ومن ثم تزداد ارتباكاً وتخبطاً في الأخطاء. وهذا أمر ليس بالصعب على الحسابات الدقيقة ولا سيما وأن الخلافات والصراعات في داخل القيادة الإسرائيلية قد أخذت بالتزايد منذ عدة سنوات. ويكفي أن نلاحظ أن الحكم أصبح رجراجاً بين الحزبين الرئيسيين الطامعين بلا هوادة. وإذا ما وجدت القيادة الإسرائيلية نفسها أمام أسوار من الأجساد الفلسطينية التي يمزق الرصاص صفوفها ولا تشتتها الدبابات، أي أمام إرادة على الانتصار معتمدة على الله تبارك وتعالى، وموحدة، وعظيمة التصميم وغير متراجعة، وإذا وجدت نفسها أمام ضغط خارجي شديد من الصحافة العالمية والإعلام والرأي العام ومن الدول الحليفة ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، فسينعكس ذلك على الخلافات الداخلية ويزيد من وطأتها مما يزيد من الإرباك الداخلي والتخبط في اتخاذ القرارات. وإذا ما ولد ذلك كله جنوناً في القيادة الإسرائيلية بسبب طبيعتها العنصرية، وأغراها على ارتكاب الأخطاء في المعالجة كالإيغال في إراقة الدم أو في التصريحات الاستفزازية ضد الرأي العام العالمي، أو في العناد الطفولي ضد رياح غير مواتية، فإن ذلك كله سيجعل هزيمتها، بإذن الله، ممكنة تماماً. أي يجب أن نوصلها لأن تطلب انسحاب قواتها مقابل شروط فلا تعطاها، بل يجب أن تفرض عليها الانسحابات بلا قيد أو شرط، لأن من الضروري أن يأتي هذا النصر الجزئي غير مقيد بشروط تمنع مواصلته حتى النصر النهائي في تحرير كل الأرض المباركة. أما من جهة أخرى فإن على القوى المجاهدة ألا تجعل من استراتيجية المواجهة من خلال الانتفاضة تطلعاً إقليمياً ضيقاً. أي عليها ألا تفقدها صفتها الأساسية باعتبارها جزءاً من استراتيجية إنهاض الأمة وإحداث التغيير المنشود فيها مما يتيح أخذ مبادرة التحرير الكامل، ولو بعد حين من الدهر، من خلال الأمة وجيشها الإسلامي المصمم على تحقيق هذا الهدف. وهو أمر سيكون طريقاً بدوره، إلى إنجاز هدف وحدة الأمة واستقلالها ونهضتها الشاملة إن شاء الله.
وبهذا نكون أمام تصور استراتيجي متماسك اشتق من دروس الانتفاضة. وإذا ما اعتبر هذا التصور صحيحاً فسيقود مختلف أوجه العمل أي تصبح التعبئة الفكرية والمسلكية والخلقية والتحالفات والحوارات ضمن قواعده. أي سوف يضبط التكتيك السياسي العسكري والتعبوي والتنظيمي ويضبط خط العلاقة السياسية فيما بين مختلف القوى، وبكلمة أخرى يصبح الهدف المطلوب الوصول إليه من النشاط العملي واضحاً ويدُخل كل نشاط نقوم به ضمن دائرة الوعي والتخطيط والمعرفة.
خلاصة حول استراتيجية الانتفاضة:
1- سمحت تجربة الانتفاضة بوضع اليد على نظرية المواجهة ضد العدو الصهيوني في هذه المرحلة. أي استراتيجية الجهاد وتكتيكه في فلسطين. فقد كشفت أي العدو وبجيشه الجرار عظيم التسلح ضعيف أمام انتفاضة الجماهير المعتمدة على الله، والموحدة في الميدان، والرافعة شعار “الله أكبر”، ثم المتواصلة بنفس طويل اقترب من العشرين شهراً حتى الآن. كما أن الشعب الضعيف عدداً وسلاحاً ودعماً يملك نقطة قوة أساسية وهي نزوله إلى الشوارع، ولو بالحجارة، مع نداء “الله أكبر” مما يجعل قضية تخرق الحدود حتى تصل إلى شغاف قلوب مئات الملايين من المسلمين وتربك حلفاء العدو. أي شكّلت الانتفاضة الشكل الرئيسي للجهاد ضد العدو. أما الكفاح المسلح، أو الجهاد بالسلاح –فأصبح طرازاً تابعاً للانتفاضة ويجب أن يكون بخدمتها، وإذا ما خبت لا سمح الله، فيجب أن تكون وظيفته التحريض على اندلاعها من جديد.
2- يمكن للانتفاضة أن تنزل الهزيمة بجيش العدو، ولا يكن ذلك عن طريق كسره عسكرياً بالسلاح، وإنما من خلال إيصاله إلى الفشل التام في إخمادها والسيطرة عليها، بحيث يصبح محطم المعنويات مرتبكاً عاجزاً مهاناً، ولا يكون ذلك إلا بعد أمد طويل من المواجهة والتضحيات الكبيرة، وستصبح هذه الهزيمة محققة أ:ثر إذا ما تحركت الجماهير خارج فلسطين أيضاً، أو جرت تعبئة جماهيرية عربية وإسلامية ضد العدو، وأمريكا، ولا سيما إذا أدت التطورات إلى تعاظم مخاوف الغرب والشرق من أن تؤدي الانتفاضة في فلسطين إلى انتفاضات إسلامية خارج فلسطين، أو إذا أدت تلك التطورات إلى تعبئة عقدية وسياسية ملتهبة ضد أمريكا خصوصاً. ومن ثم أدى ذلك إلى إجبار بعض الأنظمة العربية والإسلامية إلى اتخاذ خطوات ضد الولايات المتحدة تخفف من غضبة الجماهير على العدو ومن يسانده بوقاحة. إن توفر هذا الشرط سيدفع الدول الكبرى إلى البحث عن حلول من أجل تجنب ما يمكن أن يقع من تطورات في البلاد الإسلامية بسبب استمرار الانتفاضة وتصاعد المواجهة. ولهذا يجب أن تسد الأبواب أمام تلك الحلول التي يراد منها إجهاض هذا النهوض ليبض الشعار: المزيد فالمزيد من المواجهة على مستوى الانتفاضة وخارجها حتى نفرض نصراً من خلال إجبارهم على طلب الانسحاب، دون أن يبالوا بطريقته، حتى بلا قيد أو شرط من أجل أن يخلصوا من هذه الحالة. وبهذا يمكن أن يوجد وضع يشجع على المزيد من المواجهة، بما في ذلك مواصلة الجهاد المسلح، من أجل متابعة عملية التحرير.
ومن هنا أصبح من الممكن لأول مرة أن يكون هنالك مشروع ثوري عملي ممكن التحقيق بعيداً عن اللعبة الدولية ومشاريع التسوية المعتمدة على قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة. ويستطيع هذا المشروع أن يوحّد أوسع القوى في الانتفاضة وخارجها ويفتح آفاقاً للانتصار أمام الانتفاضة غير تلك “الآفاق” التي تتضمن تقديم التنازلات الخطيرة للعدو مقابل انسحاب مفروض عليه لا محالة. ويمكن أن يتحقق بلا أدنى تنازل. ولكن شرط ذلك أن نتحلى بالثقة بأن النصر من عند الله وأن نصبر ونجاهد ولا نكل ولا نتعب، وأن نعرف كيف نعبئ قوى الأمة الإسلامية التي يمكنها أن تلوي ذراع أكبر دولة كبرى.
3- تنبع أهمية هذه الاستراتيجية من خلال تركيزها على الصراع ضد العدو وحلفائه، من جهة ومن خلال تركيزها على وحدة جميع القوى المشاركة في الانتفاضة، بالرغم مما بينها من تناقضات، من جهة ثانية، وعلى تعبئة الشعب وجماهير الأمة من جهة ثالثة. وهذا ما يجعلها تقدم من خلال العمل الإيجابي لا من خلال صراع جانبي طبعاً دون أن يمنع ذلك من تحديد الموقف المبدئي الشرعي في الإصرار على تحرير كل فلسطين وعلى عدم الإقرار للعدو بشرعية دولته.
4- تتطلب استراتيجية الانتفاضة أن تترجم واقعياً غير صيغ جبهوية لتوحيد القوى الإسلامية ومختلف في الشعب مع الحذر من السقوط في فخ المعارك الجانبية. وذلك بالتركيز على وحدة كل القوى المشاركة في الانتفاضة كما عبر تعبئة مجاهدة تكون في مستوى تحديات العمل الشعبي والمواجهة الجماهيرية كما العمل العسكري ومتطلباته فهي تتطلب تمسكاً بالعقيدة والمبدأ كما تتطلب خطأ سياسياً يحسن إدارة الصراع وحل الإشكالات وتوجيه الشعارات والعمل اليومي إدارة صحيحة. كما تتطلب أن تترجم، واقعياً، على مستوى الأمة خارج فلسطين لأن استراتيجية الانتفاضة ستفقد معناها إن لم تكن جزءاً من استراتيجية الأمة وفي خدمة تلك الاستراتيجية من حيث ما يمكن أن تقدمه دماء المجاهدين فوق ربوع الأرض المباركة من إشعاع، وما يمكن أن ينجم حين تعامل كمركز في استراتيجية الأمة..

الفصل الثاني

قضايا فلسطينية
القسم الأول
الشعب الفلسطيني سينتصر
جيل النكبة:
سمي شباب الجامعات في أوائل الخمسينيات “بجيل النكبة”، أي الجيل الذي بدأ ينطلق إلى الحياة فوجد نفسه في مواجهة مأساة تاريخية كبرى حلت بشعبه فما من شاب إلا وقد فقد أباً أو أخاً أو قريباً أو صديقاً وما من إلا وجد عائلة ممزقة فبعضها بقي تحت الاحتلال الإسرائيلي وبعضها تشتت بين عدد من البلاد العربية، وما من شاب إلا وفقد مسقط رأسه أو أصبح في مسقط رأسه تحت الاحتلال مهدداً بأمنه وحياته ومعيشته ومستقبله. أنها مرحلة تشتيت الشعب الفلسطيني بعد أن أقيمت دولة إسرائيل واستولت على 82% من فلسطين بزيادة 28% على ما أقره لها قرار التقسيم لعام 1967 وقد شملت هذه الزيادة عدداً من أهم مدن فلسطين من بينهما مدينة القدس الجديدة ويافا واللد والرملة وبئر السبع والناصرة.
كان على هذا الجيل أن يشاهد ذويه وقد ألقوا في العراء تحت خيام لا تقيهم من حر. ولا برد ولا مطر ولا رياح وفي ظل فقدان العمل وأسباب المعيشة، لم يكن لهم من سبيل للبقاء على قيد الحياة غير الوقوف صفوفاً أمام أبواب وكالة الغوث الدولية ليحصلوا على ما يوزع عليهم من تموين وألبسة وأغطية كان منظراً متكرراً يدمي القلب، وما أصعب أن يقف موقف الاستجداء من كان يعيش كريماً حراً من عرق جبينه ينبت الخيرات من أرضه الطيبة فكان شباب جيل الخمسينيات أن ينشأ في قلب هذه المأساة الإنسانية التي صنعها الظالم الدولي وفرضت بالحراب الاستعمارية وبمختلف أساليب الضغوط والتآمر. فكان لا بد من أن يبحث عن حل فراح يطرق كل الأبواب فالبعض أخذ ينتظر تطبيقاً لقرارات الأمم المتحدة المثالية كل عام وهي قرارات كانت تقض بالعودة إلى حدود وتقسيم وبإعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم وأراضيهم ومدنهم وقراهم والتعويض عليهم أن هذا البعض لم يتصور أن من الممكن للدول الكبرى المتحكمة في مصير العالم أن تسمح للقيادة الإسرائيلية المغتصبة أن تضرب عرض الحائط بكل قرارات هيئة الأمم المتحدة ولا تحترم حتى الشرط الذي قبلت بموجبه في عضوية هيئة المتحدة وتعهدت رسمياً بتنفيذه وهو تطبيق القرارات المتعلقة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وتنفيذ قرار التقسيم لعام 1947. ولكن مضى السنوات واستمرار نتائج كل هذه المسألة أقنع الشعب الفلسطيني بأسره.
إن المطالبة باستعادة الحقوق من خلال هيئة الأمم المتحدة ومناشدة الضمير العالمي لم يتحقق منها شيء وإنما زاد الوضع تفاقماً فقد ازداد غرور القيادة الإسرائيلية وغطرستها عندما لم تجد في جعبة الشعب الفلسطيني والدولي العربية غير المطالبة بتطبيق قرارات الأمم المتحدة ومناشدة الضمير العالمي. فالذين يؤمنون بقانون الغاب يستهزئون بمبادئ هيئة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولا يقيمون وزناً للضمير والحق والعدل.
أما من جهة أخرى فقد اتجه بعض شباب فلسطين إلى الانخراط في الأحزاب الوطنية والثورية العربية على أمل إحداث تغيير عربي يؤدي إلى استعادة الحق الفلسطيني ولكن هؤلاء أيضاً بعد مضي سنوات وحدوث تغييرات في عدد من الأنظمة العربية التي عاصرت نكبة فلسطين اكتشفوا أن هموم السلطة والمصالح الإقليمية الضيقة أبقتا قضية فلسطين بعيدة عن المعالجة المناسبة. ومن ثم استمرت مأساة الشعب الفلسطيني وتفاقمت الصعوبات التي يواجهها ومن جملتها الحرمان من الهوية وفقدان حق العمل والتنقل، إلى جانب معاملتهم كغرباء في البلاد التي لجأوا إليها أو كمقيمين من الدرجة الثالثة يأتون بعد المقيمين بأذون عمل. وبهذا أصبح الفلسطيني في وضع المشرد المطرود من وطنه وفي وضع غير المقبول في دار اللجوء، وربما في وضع اللذين تعتبرهم الدول بالمقيمين بصورة غير شرعية..
أمام هذا الوضع المأساوي تحركت قوافل من الشباب لتتابع النهضة العلمية التي كان يتمتع بها الشعب الفلسطيني فكانت العائلة تشد الأحزمة على البطون وتبيع ما تبقى لها من مصاغ بيد النساء حتى تعلم أبناءها وبناتها باعتبار ذلك الباب الوحيد المتبقي ليجد الشعب الفلسطيني وسيلة للعمل والعيش في أرض الشتات. وبهذا لم تمض سنوات حتى كانت نسبة المتعلمين الفلسطينيين في الخيام تضاهي نسبتها في البلدان الصناعية المتقدمة. وكانت من نتيجة ذلك المزيد من الهجرة العقول إلى مختلف أنحاء العالم بدلاً من أن تكون على أرضها تعمل على إنمائها وتطويرها وزيادة إنتاجها. ومع ذلك بقي هذا الشباب المتعلم بالرغم مما حققه الكثير منهم من نجاحات في مختلف الميادين في الإدارة والصناعة والطب والهندسة والعلوم والفنون. وبقي يشعر أنه في حالة غير مرضية بسبب فقد الوطن وتشرد الأهل والقلق الذي يعانيه من لا يملك هوية ويعامل كلاجئ جاء ليأكل مما هو من حق المواطن ومن ثم كانت كل الخدمات التي قدمها شباب فلسطين المتعلم والغني تضيع بلا مردود ولا حتى شكر وتقدير ممن شادوا فوق أراضيهم حضارة قام قسم غير قليل منها بجهود هؤلاء الشباب.
وهكذا كان لا بد من أن تقف ثلة من شباب فلسطين المؤمن في أواخر الخمسينيات لتقوم الوضع وترى أن كان هنالك من سبيل آخر لا بد من ولوجه. وكانت الصورة التي سبق عرضها أعلاه بارزة للعيان تحمل الإجابة بحد ذاتها.
- إن من غير الممكن انتظار الحل من عالم لا يحترم قرارات هيئة الأمم المتحدة ومن عدو لا يفهم غير لغة القوة. بل أن وضع كل آمال الشعب الفلسطيني وجهوده في مجال المطالبة والمناشدة لا يؤديان إلا إلى مزيد من الضياع وفقدان الحقوق واستمرار للمأساة. لذلك لا بد من أن يفكر الشعب الفلسطيني يحمل السلاح والقتال في سبيل حقوقه وهو أمر تقره مبادئ الأمم المتحدة وعرف كل الشعوب حين تحتل أراضيها ولا يصغي إلى صوت العقل وتفشل كل محاولات الحل بالطرق السلمية.
- إن من غير الممكن إحالة قضية فلسطين إلى الدول العربية أو إلى انتظار تغيير في إحداها أو أكثر لأن التجربة أثبتت أن الجامعة العربية تستطيع اتخاذ القرارات بالنسبة لقضية فلسطين ولكن الصراعات والتناقضات بين أعضائها تحول دون التنفيذ واتخاذ خطوات عملية، هذا بالإضافة إلى شعور كل دولة لوحدها بالعجز عن المعالجة النفوذ لقضية فلسطين. لذلك كان لا بد من أن تعاد القضية إلى أيدي أبناء شعب فلسطين باعتبارهم أصحاب المسؤولية الأولى في معالجتها فهم الذين يعانون أكثر من الجميع من جراء السياسات الإسرائيلية. ولا يحق لهم إحالة قضيتهم على غيرهم، ولا سيما أن معالجتها تتطلب الكثير من التضحيات بالأنفس والأموال والمصالح. ومن ثم فإن توليهم المسؤولية الأولى في مواجهة قضية فلسطين مقروناً بالكفاح المسلح وتقديم التضحيات سيكون سبيلاً لحشد الطاقات العربية وكسب عطف الرأي العالم العربي وإيجاد الظروف والشروط التي تسمح بوضع حد للغطرسة الإسرائيلية في اغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني وأراضيه وفرض التشرد عليه، وبوضع حد لاستهتار الدولي الاستعمارية التي تدعم الغطرسة الإسرائيلية.
إن هذين الأمرين وصول الأساليب السلمية لحل قضية فلسطين إلى طريق مسدود تماماً وضرورة تولي شعب فلسطين مسؤولية تحمل أعباء قضيته كانا في أساس تفكير حركة فتح التي ترجمتها عملية بإطلاق الرصاصة الأولى في 1/1/1965، معلنة بدء الكفاح المسلح الفلسطيني المشروع ومعلنة عودة الشعب الفلسطيني لتحمل مسؤولية قضيته.
وجاءت حرب حزيران بعد أن استكمل الكيان الإسرائيلي ابتلاع ما استولى عليه من أرض فلسطين عام 1948، 1949 وأصبح شرهة يطلب المزيد، وبعد أن أحس بامتلاكه قوة عسكرية متفوقة على كل الدول العربية فأصبح ميله نحو التوسع ممكناً. فلم يعدم الأسباب التي اتخذها ذريعة لشن تلك الحرب التي أسفرت عن احتلال كل فلسطين أي احتلال ما كان تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) بعد 1948، 1949، مضاف إليها سيناء المصرية. حتى قناة السويس والجولان السورية وفكرت مرة أخرى الغطرسة الإسرائيلية المدعومة من الإمبريالية الأمريكية في رفض الانصياع لقرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، فضرب عرض الحائط بقرار 242 وضرب عرض الحائط بكل القرارات والتوصيات الصادرة عن الجمعية العمومية بعد ذلك ولم يلتفت إلى آراءه الرأي العام العالمي بما في ذلك حركة عدم الانحياز ومنظمة الوحدة الإفريقية ومنظمة الدول الإسلامية. الأمر الذي جعل الرأي العام العربي يأسره يلتفت حول الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح ويصل إلى النتائج نفسها التي كانت حركة فتح قد توصلت إليها قبل عشر سنوات من تاريخه أي وصول كل الأساليب السلمية إلى طريق مسدود تماماً بسبب التعنت الإسرائيلي الذي يطبق قانون الغاب مدعوماً من الدولة الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ثم لا بد من دعم الكفاح المسلح للشعب الفلسطيني واعتبار ثورته الممثلة في م.ت.ف. الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني كما لا بد للدول العربية ولا سيما التي احتلت أراضيها، من أن تعزز قواتها العسكرية وتلجأ إلى الحرب حتى يكون بالإمكان استرداد الأراضي التي اغتصبت في حرب حزيران 1967.
وهكذا كان على العالم أن يعيش منذ تلك الحرب، حرب حزيران 1967 حتى اليوم أزمة خانقة كبيرة تهدد السلم العالمي بأشد الأخطار اصطلح على تسميتها أزمة الشرق الأوسط وفي قلبها أو في موقع المركز منها المشكلة الفلسطينية.
تجارب مرحلة ما بعد حزيران 1967 وعبرها:
لقد أصبح الشعب الفلسطيني كله منخرطاً بالكفاح المسلح والمقاومة السياسية الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي، فاستطاع بفضل ما قدم من تضحيات بلغت عشرات الألوف من الشهداء والجرحى والأسرى وبفضل صموده الاستثنائي في وجه عدو متفوق عليه بالسلاح تفوقاً هائلاً وصموده تحت التعذيب والتنكيل وتقتيل على يد هذا العدو الذي حرق كل الأعراف الدولية في معاملة الشعب تحت الاحتلال أو معاملة المقاتلين من أجل الحرية وكان من نتيجة البطولات التي سطرها المقاتلون الفلسطينيون والتضحيات التي تكبدها الشعب الفلسطيني، والتفافه الشامل حول م.ت.ف. باعتبارها ممثله الشرعي والوحيد كان من نتيجة ذلك كله أن اعترفت أغلبية دول العالم بمنظمة التحرير الفلسطينية وأعادت لها موقعها في هيئة الأمم المتحدة فضلاً عن عضوية المنظمة الكاملة في حركة دول عدم الانحياز ومنظمة الدول الإسلامية والجامعة العربية وأغلبية المنظمات والهيئات الدولية، لقد أصبح الرأي العام العالمي أشد إلحاحاً بضرورة تلبية مطالب الشعب الفلسطيني واسترداد حقوقه في وطنه وفي تقرير المصير وفي العودة وتحقيق أمانيه أسوة بسائر الشعوب في العالم.
وبهذا أصبحت م.ت.ف. الرقم الصعب في منطقة الشرق الأوسط ولكنه رقم بالنسبة إلى السياسات العدوانية والمؤامرات واحتلال أراضي الشعوب الأخرى والتنكر لحقوقها ولكنه الرقم أو العامل المساعد الذي يحقق بتفاعله مع العوامل الأخرى معادلة العدل والحق أنها الرقم الصعب في معادلة السياسات الاستعمارية والعنصرية الرجعية البالية، وسيظل ذلك الرقم الصعب ما دامت حقوق الشعب الفلسطيني مهدورة ووطنه محتلاً وهويته الفلسطينية محاربه.
لقد أثبتت اثنان وعشرون سنة من عمر الثورة الفلسطينية إن في غير مقدور الإجرام العنصري الإسرائيلي أن يقهر إرادة الشعب الفلسطيني أو يفرض عليه الاستسلام أو يصفي منظمة التحرير ويشل قدرتها على الفعل. كما أثبتت من في غير مقدور الولايات المتحدة الأمريكية أن تحاصر منظمة التحرير الفلسطينية بتحريض الدولي العربية ودول العالم عليها أو تتنكر لدورها أو شطبها من معادلة القوى في المنطقة وذلك بسبب بسيط لا يرجع إلى كبر عضلات م.ت.ف. ولا إلى ما تملكه من أسلحة دمار وإنما إلى عدالة قضيتها وشجاعة شعبها وتعاطف الرأي العام على العالمي معها وتأييده لها. ولهذا فإن إدارة الرئيس الأمريكي ريغان تناطح صخرة لا قبل لها عليها أن نقطة الحق في المنطقة وميزان العدل في هيئة الأمم، وضمير السلم في العالم، بالرغم من كل هذه الحقائق ما زال الصلف الإسرائيلي مستمراً ولماذا لا يستمر ما دامت أكبر دولة عسكرية واقتصادية في العالم وهي دولة الولايات المتحدة الأمريكية تدعمه وتصر على تسمية كفاح الشعب الفلسطيني المشروع “بالإرهاب”. فكأنها تريد بهذا الموقف الاستفزازي وغير العادل أن تدفع بأفواج جديدة من الشباب الفلسطيني إلى حافة اليأس وفقدان كل رجاء من عدالة العالم إلى أحضان الإرهاب فعلاً.
إذا كان هنالك من تفسير لهذا الموقف فلن يخرج عن أحد احتمالين الأول إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على استمرار أزمة الشرق الأوسط بموقفها الظالم من الشعب الفلسطيني وحقوقه وقيادته منظمة التحرير الفلسطيني. فكأنها لا تعرف أن تحقق مصالحها إلا في المياه العكرة وفي ظل الاضطراب والحروب والدماء والمآسي. والثاني أنها تدفع الشباب إلى الزاوية وهي تنهال على رؤوسهم ضرباً حتى لا يجدون أمامهم غير الإرهاب وبهذا يصبح استخدامها للإرهاب مسوغاً أو مغطى تحت حجة مكافحة الإرهاب. الأمر الذي يثير أيضاً العجب من مثل هذه الدولة التي تمتلك الأساطيل البحرية والجوية والصواريخ عابرة القارات والجيوش البرية الآلية الالكترونية.. ومع ذلك تريد استخدام المزيد من أعمال الإرهاب في العالم. ألا يكفيها الإرهاب الذي تمثله الدولة الإسرائيلية في الشرق الأوسط، ثم ألا يكفي ما تمثله أساطيلها وصواريخها وجيوشها من إرهاب على مستوى العالم كله.. إنها تريد أن تحول أنظار العالم عن القضايا الأكثر أهمية وحيوية بالنسبة إلى المسلم العالمي ومصالح شعوب العالم إلى الانشغال بالنسبة إلى السلم العالمي ومصالح شعوب العالم إلى الانشغال بقضية مكافحة الإرهاب. وجعله الشغل الشاغل للإعلام والعالم أنه تضخم المشكلة لتجعلها تطغي على المشاكل الكبرى التي تشغل شعوب العالم والتي تقف حجر عثرة في طريق حلها.
على أن إدارة ريغان سوف تفشل هنا أيضاً، فإذا كانت بسياساتها قادرة على أن تدفع بعض الشباب من الفلسطينيين إلى الرد على إرهابها باللغة نفسها فإنها لن تكون قادرة على دفع الشعب الفلسطيني كله إلى ذلك الطريق لأن الغالبية العظمى من شعبنا الفلسطيني ملتفة حول م.ت.ف. وقيادتها. وترى في الاستراتيجية والتكتيك اللذين رسمهما المجلس الوطني الفلسطيني السبيل إلى الرد على الجرائم الإسرائيلية والإرهاب الأمريكي. أو بالتحديد الرد على استمرار احتلال وطن الفلسطينيين والتنكر لحقوقهم ومنظمتهم التي توحدهم وتمثلهم وتنطق باسمهم وتعبر عن مصالحهم.
إن الموقف الفلسطيني الحاسم هو عدم الاستجابة إلى الاستفزاز لنقل معركة الكفاح إلى كل ساحات العالم إنما التركيز على مقاتلة قوات الاحتلال الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية أنه التركيز على الكفاح المسلح الذي يواجه في الميدان ويواجه قوات العدوان وجعل وجودها هناك جحيماً لها لا يطاق. إن الرد سيكون بالشعب الفلسطيني بالتظاهر بالإضرابات بالاعتصامات بحرب الحجارة بحرب الأيدي الحاملة للحق في وجه الموت الذي يمثله الجيش الصهيوني العنصري.
إن القرار الفلسطيني هو المزيد من العمل الشعبي والجماهيري من أجل التأكيد المستمر على أن قضية فلسطين هي قضية الأمة العربية والإسلامية وليست مجرد قضية لشعب صغير يمكن استضعافه وإبادته.
وتقضي السياسة الفلسطينية لمنظمة التحرير الفلسطينية أن يتحول التضامن العربي إلى قوة فاعلة في الميدان المواجه لإسرائيل وفي مواجهة مؤامرات الولايات المتحدة الأمريكية أن الرد على غطرسة القيادة الإسرائيلي والدعم الأمريكي لها لا يكون إلا بإجماع عربي يضع الخلافات الجزئية جانباً ليركز على قضية المصير العربي كله قضية فلسطين.
وتشدد قيادة م.ت.ف. على الاستمرار في تنشيط حركة دول عدم الانحياز وجعلها تلعب دوراً أكبر فأكبر على مستوى الشرق الأوسط وسائر القضايا الهامة في العالم فهذا الحشد من الدول الذي يمثل غالبية دول العالم لا يجوز أن يحول الحكم بلا فعل وهو القادر على أن يكون ضمير السلم العالمي وضمير الشعوب وطريق بناء عالم جديد يتخلص من النظام العالمي الراهن القائم على ظلم الأقوياء الكبار للشعوب سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
أن القرار الفلسطيني أن يزيد من فاعلية منظمة الدول الإفريقية ومنظمة الدول الإسلامية. ودول أمريكا اللاتينية من أجل مواجهة الأنظمة العنصرية والتدخل الخارجية وتغيير النظام الاقتصادي العالمي الراهن.
إن القرار الفلسطيني أن تعزز صداقة م.ت.ف. مع الدول الاشتراكية وإحباط كل المحاولات التي تسعى إلى زعزعة هذه الصداقة التي هي أساسية وضرورية لإحباط مؤامرات الصهيونية والإمبريالية الأمريكية.
إن القرار الفلسطيني ألا تسمح لأمريكا بجر أوروبا الغربية إلى مواقفها ومنعها من لعب دور بناء في حل مشكلة الشرق الأوسط وقضايا البحر المتوسط.
إن القرار الفلسطيني أن نمد أيدينا إلى الشعب الأمريكي وإلى كل قواه الحرة والأمنية لمبادئ حقوق الإنسان وحرية الشعوب لنؤكد لهذا الشعب غن سياسة ريغان تحاول تضليله وتعمية الحقائق عنه. فإذا كان هنالك بعض الحالات التي تفيد منها دعايات الإدارة الأمريكية في هذا التضليل فيجب ألا تخفى عن أعين هذا الشعب الذكي حقيقة الظلم الواقع على شعب فلسطين لكي يقوم بدوره الهام والأساسي في تصحيح سياسات دولته التي أن لم تصحح ستترك أشد الآثار سلبية على السلم العالمي وعلى الصداقة بين الشعوب وعلى مصالح الشعب الأمريكي وسمعه. بل إنها ستكون الزيت الذي تتغذى منه نار الإرهاب في العالم.
هذا هو الرد الفلسطيني على العدوانية العنصرية التوسعية الإسرائيلية وعلى السياسات الإمبريالية – الإرهابية الظالمة الأمريكية. أنه الرد الذي سيوصل شعبنا إلى رفع رايته فوق ربى القدس إن آجلاً أو عاجلاً ولكنها نهاية محتومة..

القسم الثاني

في ذكرى الانطلاقة 1/1/1965 - 1/1/1988
تستقبل حركة فتح ومعها الجماهير الفلسطينية والعربية والصديقة مطلع عام 1988 بمرور ثلاثة وعشرين عاماً على انطلاقة الثورة الفلسطينية التي فجرتها قوات العاصفة – الجناح العسكري لحركة فتح في ليلة الأول من عام 1965.
إن قدرة الثورة الفلسطينية على البقاء والاستمرار والتقدم طوال ثلاث وعشرين سنة يشكل بحد ذاته معجزة وعملاً استثنائياً حتى لو لم يستطع حتى الآن تحرير أي جزء من الأرض المحتلة وقيام الدولة الفلسطينية عليها. ويظهر ذلك بوضوح حين تحسب بدقة الظروف العربية والدولية التي واجهتها وتواجهها الثورة الفلسطينية. هذه الظروف التي سبق لها أن أجهضت الثورة الفلسطينية في الثلاثينيات والأربعينيات وأدت إلى طمس الشخصية الفلسطينية والحركة النضالية الفلسطينية طوال الخمسينيات حتى منتصف الستينيات وهي التي لاحقت فتح والثورة الفلسطينية بمؤامرات الحصار والتصفية بلا انقطاع منذ مطلع عام 1965 حتى اليوم.
هذا ما يوجب علينا اليوم أن نقف أمام الذكرى الثالثة والعشرين لثورتنا وقفة تذكير ولو سريعة بالماضي ووقفة تحليل مع الحاضر ووقفة إطلالة على المستقبل.
1943 – 1965:
كان من نتائج قرار تقسيم فلسطين قيام دولة إسرائيل وإعطاء الشرعية الدولية ليها وكان من نتائج السياسات العربية الرسمية في عام 1948 إن ثبتت تلك الدولة وزادت مساحة الأرض الفلسطينية التي سيطرت عليها حتى وصلت إلى 81%، وكان من نتائج هذا وذاك أن مزقت وشردت أجزاء كبيرة من الشعب الفلسطيني وتمزق وجوده في فلسطين تحت الاحتلال وأصبح وقطاع غزة ومصر وفي الضفتين الغربية والشرقية من نهر الأردن وفي سوريا ولبنان والعراق فضلاً عن توزع من خلال مجموعات أقل من دول عربية أخرى وفي العالم. أما من ناحية سياسية فقد قامت حكومة الملك فاروق بوضع الحاج أمين الحسيني في الإقامة الجبرية في القاهرة والعمل على خندق تدريجي لحكومة عموم فلسطين، كما قامت السلطات الأردنية بضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية ومحو الشخصية الفلسطينية ومطاردة فلول جيش الإنقاذ والمناضلين الفلسطينيين أما في المناطق الأخرى فقد تحكمت أجهزة المخابرات في المخيمات حتى لا يخرج منها صوت سياسي فلسطيني. وبهذا لم تحتل الأرض وتقوم دولة الاغتصاب الإسرائيلي فحسب وإنما أيضاً مزق الشعب الفلسطيني ومحي اسم فلسطين من الجغرافية وطمست الشخصية الفلسطينية من الوجود الوطني العربي وصفيت المؤسسات والأحزاب السياسية الفلسطينية وأصبحت بيانات الحاج أمين الحسيني والهيئة العربية العليا طوال الخمسينات عبارة عن صيحات في واد صمت الآذان العربية عن سماعها وامتد ذلك إلى الميدان الدولي فحذف بند القضية الفلسطينية عام 1952 من جدول أعمال الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، بينما راحت أمريكا تحيك المؤامرة تلو المؤامرة من أجل توطين اللاجئين الفلسطينيين نهائياً في مناطق النزوح مع تشجيع الهجرة إلى الخارج.
ولم تكن ردود فعل القوى السياسية الفلسطينية والعربية التي اعتبرت نفسها ردّاً على النكبة بمستوى هذه النتائج والتحديات فقد قبلت بالأمر الواقع فبعضها اعتزل ويئس وبعضها تصالح مع الحكومات القائمة ودخل في سياقها وبعضها قبل بفقدان هويته الفلسطينية. وتأجل النضال من أجل تحرير فلسطين وذاب في هوية نضالية قومية أو يسارية أو إسلامية تحمل شتى الأسماء إلا اسم فلسطين وجعل هدفه تغيير البيت العربي من أجل بناء القاعدة لتحرير فلسطين. وأصبحت شعارات التخلص من المعاهدات الاستعمارية والحكومات العميلة أو شعارات الاستقلال والوحدة والاشتراكية مقدمة جميعها على شعار تحرير فلسطين.
أما من جهة أخرى فقد شكل انهيار فلسطين وقيام “إسرائيل” على أنقاضها عام 1948 التحدي التاريخي الذي انغرس في أعماق الجماهير العربية والإسلامية وراح يضرب جذوره في الأعماق ويمور فيها حتى لو لم يظهر على سطح الأحداث بل أصبح حتى بالنسبة إلى القوى السياسية التي استبعدت العمل الراهن من أجل تحرير فلسطين وقدمت عليه أولويات أخرى هو المسوّغ لتلك الأولويات. وهذا ما عبّرت عنه الحركات السياسية التي نشطت خلال الخمسينيات من أجل تغيير الأوضاع العربية كما عبّرت عنه الانقلابات العسكرية التي قامت تحت شعار الإطاحة بالمسؤولين عن نكبة فلسطين كما تحت شعار الإعداد لتحرير فلسطين. ويجب أن يذكر هنا قيام الجيش المصري أواخر 1954 بتدريب مجموعات فدائية فلسطينية لتعمل خلف خطوط العد وردّاً على ما تعرض له القطاع من تهديد واعتداءات وهو ما لقي فوراً تأييداً من الجماهير الفلسطينية والعربية التي أَملَتْ أن يكون بداية لعودة العمل من أجل تحرير فلسطين إلى الأولوية في السياسات العربية ولا سيما في سياسات عبد الناصر التي وضعت عليها الآمال الكبار ولكن سرعان ما تبين أن تكل الخطوة كانت إجراءاً اختبارياً وتحذيرياً وليست بداية لاستراتيجية جديدة ثم جاء العدوان الثلاثي وانسحاب الجيش المصري من القطاع ثم ما تلا ذلك من هدنة جديدة اتفاقات لتخيب تلك الآمال وهذا ما جاء بظروف النشأة لحركة فتح عام 1958 حيث أخذت بعض الطلائع الفلسطينية تعيد النظر بالشعارات التي سادت بعد النكبة ليحل مكانها التفكير بإعادة قضية فلسطين إلى أيدي أبنائها وعدم الركون إلى تأجيل موضوع التحرير تحت دعوى بناء القاعدة المتحررة أو تحقيق الوحدة أو الإعداد لتحقيق التفوق العسكري على العدو.. إن تجربة المجموعات الفدائية ونجاح عملياتها في أواخر 1954 وأوائل 1955 وما ولدته من قلق لدى العدو وذعر في صفوفه ثم تجربة الانسحاب المصري من قطاع غزة وسيناء واندلاع المقاومة المسلحة ضد الاحتلال وما أنجزته من نجاحات أيضاً، أكد بأن ربط العمل الفدائي بالأنظمة يجعله خاضعاً للمؤتمرات والمتغيرات العربية ويفقده بعده السياسي الأساسي أي القضية الفلسطينية كجوهر للصراع كما أكد أن الركون إلى الجيوش العربية بما في ذلك جيوش “التغيير” جيوش الخمسينيات ليس ضماناً لتأمين الحماية حتى للمناطق التي تحت سيطرتها.
وجاء ضرب الجمهورية العربية المتحدة انفصال سوريا عن مصر عام 1951 ثم فشل محادثات الوحدة الثلاثية، وتمزق التيار القومي الوحدوي بالمعارك الجانبية وانشغال الجيش المصري في حرب اليمن وفشل القمم العربية في الرد على تحويل مجرى نهر الأردن 1963 كما جاء نجاح الثورة الجزائرية 1962 ليعزز اتجاه تلك الطلائع الفتحاوية بصحة عودتها ثانية للانطلاق من الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية وإعطاء الأولوية لقضية فلسطين واعتبارها الكفاح المسلح في سبيلها طريقاً لتحقيق الوحدة والتحرير.
إن هذه الظروف جعلت عبدالناصر نفسه يعلن بعدم وجود خطة لديه أو لدى أي نظام عربي لتحرير فلسطين بل دفعت القمة العربية عام 1964 بالإقرار ولو الشكلي بضرورة إعادة القضية الفلسطينية إلى أيدي أبنائها من خلال تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني ولكن إذا كان هذا يشكل من جهة خطوة إيجابية هامة تصدر عن الأنظمة العربية إلا أنه من جهة أخرى أبقى القرار الفلسطيني عملياً بيد تلك الأنظمة من خلال التحكم بمنظمة التحرير الفلسطينية نفسها مما جعل مهمة مسألة بدء العمل بالكفاح المسلح مسألة حاسمة بالنسبة لحركة فتح من أجل إنقاذ الوضع من التمييع ووضع الأمور في نصابها الصحيح فكان لا بد من عام 1964 عام التحضير للبدء الذي قدر له أن ينجح في نهايته بإطلاق الرصاصة الأولى التي أعلنت فيها فتح بداية الثورة المسلحة لتحرير فلسطين.
1955 – 1957:
لم تكد فئات واسعة من الشعب الفلسطيني والأمة العربية تتابع أخبار العمليات الفدائية الفلسطينية حتى بدأت بالتعاطف معها وأخذ العمق يكبر ويجد له المؤيدين والمناصرين ووصل الأمر بجر حتى بعض الأحزاب الفلسطينية والعربية إلى تشكل فصائل فلسطينية مسلحة بما في ذلك تلك التي كانت ترفض استراتيجية الكفاح الفلسطيني المستقل أصلاً وتتهم فتح بالتوريط أو تلك التي كانت ترى الأوان لم يحن بعد للانتقال إلى العمل المسلح. أما جواب الدول العربية فكان الاعتقال والقمع والتشهير وكان من نتيجة ذلك استشهاد أحمد موسى أول شهيد للثورة الفلسطينية برصاص الجيش الأردني وهو عائد من الأرض المحتلة واستشهاد جلال كعوش تحت التعذيب على أيدي المكتب الثاني اللبناني هذا فضلاً عن زج المئات في سجون الأردن ولبنان ووصل القمع حتى إلى النظام السوري الذي اعتقل عام 1966 قيادة العاصفة وهددها بالإعدام.
1967 – 1976:
جاء عدوان حزيران 1967 ليؤكد صحة نظرية فتح وسياساتها كما جاء ليكشف عن الأوهام التي استندت إلى أمكان كف شر العدو من خلال مهادنته ومحاربة العمل الفدائي واستبعاد الموضوع الفلسطيني عن أجندة النضال التحرري الراهن. جاء عدوان 1967 ليؤكد أن العدو يكسب الوقت من ثم لينقض لا محالة عند أولى الفرص من أجل التوسع وإجهاض أي إعداد عربي وتأديب كل من يجرؤ على محاربة أمريكا ولو بعيداً عن الساحة الفلسطينية. وجاء عدوان 1967 ومن قبل عدوان 1956 ليؤكد خطأ الاستراتيجيات العربية التي اعتقدت بأن في الإمكان أن يتركها العدو تهادنه لتستعد عسكرياً ثم تنقض عليه.. أو بكلمة أخرى أكدت تلك الحرب أن الإعداد من أجل التحرير لا يكون إلا من خلال ممارسة عملية التحرير نفسها لا بعيداً عنها. الأمر الذي جعل الأرض مؤاتية في هذه المرة لانطلاقة فتح الثانية في آب 1967 حيث واصلت انطلاقة 1965 من خلال إعلان الكفاح المسلح في الأراضي المحتلة ودعوة الشعب الفلسطيني لحماية العمل الفدائي والانخراط فيه ودعوة الأمة العربية كلها للمساندة والمشاركة. ولم يكن من هذه الجماهير التي مؤقتها الفجيعة وهي ترى الجيوش العربية تهزم أمام الجيش الإسرائيلي وترى بقية فلسطين وكل سيناء والجولان تحتل كما حدث عام 1948، إلا أن تعلق كل آمالها على بصيص النور الذي بدء يشع من كوة فتح والعمل الفدائي. فما كان منها إلا أن اندفعت لتأييده ورفده بخبرة أبنائها وبناتها، كما لم يكن من عبدالناصر الذي كان الهدف الأول لعدوان 1967 إلا اندفع لتأييد العمل الفدائي وحمايته وتأمين الغطاء العربي له وفعلت سوريا الأمر نفسه بينما لم يستطيع الأردن الذي فقد الضفة الغربية على مضض وتحت ضغط الجماهير بالعمل الفدائي فوق أرضه، وكان الأمر كذلك بالنسبة إلى لبنان وعدد من الدول العربية الأخرى التي وجدت بتأييد العمل الفدائي تخفيفاً من حدة الهزيمة التي منيت بها، وركوباً لموجة التأييد الشعبي الذي وصل أوجه بعد قرار فتح التاريخي الرابع بدخول معركة الكرامة في ظروف رفض الفصائل الأخرى التي اعتبرت ذلك القرار مغامرة وخروجاً على قوانين الحرب الشعبية. ولكن كان لا بد لفتح من أخذ قرار مواجهة جيش العدو ولو بقوى قليلة العدد وضعيفة التسليح من أجل تكريس خط المواجهة والتأكيد أنه بالإمكان الصمود أمام جيش العدو الذي أراد أن يجعل من انتصاراته أسطورة.
إن الانتصار في معركة الكرامة سمح للثورة الفلسطينية ببناء قاعدتيها الإرتكازيتين الأساسيتين أولاً في الأردن ثم في لبنان، وحول العمل الفدائي من عمل مجموعات صغيرة تتسلل عبر الأردن إلى قواعد مستعدة لمواجهة جيش العدو وغاراته بل إلى جعل جبهة الحدود مشتعلة وعدم السماح للعودة إلى خطوط هدنة جديدة يتم من خلالها ابتلاع ما احتل من الأراضي في حزيران 1967 كما حدث بتجربة خطوط الهدنة لعام 1949 التي تم من خلال ابتلاع ما احتل عام 1948.
وبهذا انتصرت فتح بإعادة قضية فلسطين إلى موقع الأولوية في ساحة العمل العربي النضالي وإعادتها إلى أيد شعب فلسطين والذي راح يستعيد هويته وشخصيته وكيانيته من خلال البندقية الفلسطينية وقد ترجم ذلك، فيما ترجم من خلال انتزاع م.ت.ف. من سيطرة الأنظمة العربية عليها وتحويلها إلى ساحة للوحدة الوطنية الفلسطينية، وحدة فصائل المقاومة المسلحة والشعب الفلسطيني فأصبحت معبرة عن شخصية مقاتل من أجل الحرية بدلاً من التعبير عن شخصية شعب مشرد لاجئ يطالب بالعدالة ويستعطف من أجل حقوقه، لقد أصبحت الكيان الفلسطيني خارج الأرض الفلسطينية.
لقد أدت كل هذه الإنجازات التي حققتها الثورة الفلسطينية بقيادة فتح إلى زعزعة أسطورة جيش العدو الذي لا يقاوم وجاءت حرب الاستنزاف التي خاضها جيش مصر بقيادة جمال عبدالناصر لتعزيز هذه النتيجة ولتخفف من آثار هزيمة 1967 وكان التناغم على أفضل صورة بين العمل الفدائي وحرب الاستنزاف وما قام به الجيشان المصري والسوري من استعداد للرد على تل الهزيمة مما أثبت مرة أخرى صحة منطلق فتح التي رفضت أن تكون الثورة الفلسطينية بديلاً للجيوش العربية كما سبق لها ورفضت النظرية التي أرادات للجيوش العربية أن تكون بديلاً للثورة الفلسطينية. وكان من نتائج ذلك أن استطاعت جيوش مصر وسوريا وقوات م.ت.ف. وبعضاً من قوات الجزائر والعراق والمغرب من خوض حرب تشرين 1973 وإنزال ضربة في جيش العدو ترنح منها في قناة السويس والجولان وخلف خطوطه على الجبهة اللبنانية. ولولا الجسر الجوي الأمريكي والدعم السياسي غير المحدود من أمريكا للعدو الصهيوني ولولا تردد قيادة السادات لسجلت حرب تشرين انتصاراً أكبر بكثير. ولكن بالرغم من ذلك كانت إنجازاً هاماً على طريق الصراع ضد العدو الصهيوني وقد كان له آثار إيجابية هامة وأخرى سلبية على مجرى الأحداث فيها ويمكن بهذه المناسبة التأكيد أن هذه الحرب لو حدثت في ظروف كانت فيها الثورة الفلسطينية في الأردن وكانت تصوراتها للإعداد الفلسطيني والأردني المشترك لم تجهض في المؤامرة التي تعرضت لها في أيلول 1970 أو في الأحراش في تموز 1971 لاستطاعت حرب تشرين أن تترك بصماتها على الضفة الغربية نفسها بل لكان على العدو الصهيوني أن يواجه ضغطاً حقيقياً من تلك الجبهة.
إن القانون الحاكم في السياسات العربية من جهة علاقتها بالقضية الفلسطينية أو بالثورة الفلسطينية هو تغليبها للأمن الإقليمي على الأمن القومي، تغليبها للتناقضات الجانبية على التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني. وهذا هو الذي يفسر عدم وضع القضية الفلسطينية في موضع الأولوية أو القضية المركزية وهو الذي يفسر الشدة في خوض المعارك الجانبية وتجنب المواجهة الحامية مع العدو بل تجنب حتى الإعداد الذي قد يستفز العدو ويجعله يتحرك وهو الذي يفسر كل ما لقيته فتح والثورة الفلسطينية مع اضطهاد وقمع وتشهير ما بين 1965 – 1967 وكل ما لقيته في الأردن ما بين 1967 – 1971 ثم ما لقيته في لبنان 1968 – 1973. وبعد 1975 و1982.
إن إدراك فتح لدقة المعادلة بين وجود الثورة الفلسطينية والوجود الإقليمي للأنظمة العربية هو الذي جعلها تصوغ سياسات دقيقة في معالجة مرحلة 1967 – 1971 في الأردن ولكن أخطاء التفكير المغامر لدى بعض فصائل المقاومة خلال تلك الفترة وما لقيه هذا التفكير من دعم بعض الأنظمة وتحريضها ساعد على تهديد الانجازات التي حققتها الثورة الفلسطينية في بناء قاعدتها الارتكازية في الأردن ووصلت تلك الأخطاء قمتها عندما فتحت تلك الأطراف النيران على جمال عبدالناصر بعد موافقته على مشروع روجرز. فبدلاً من الاكتفاء برفض المشروع وإدانته دون التعرض لعبد الناصر وفك تحالف الثورة معه اندفعت تلك الاتجاهات لاستعداء عبدالناصر مما جعل للأردن أن يستغل هذه الظروف بالتعجيل
بالرغم من هذه الخسارة الفادحة التي منيت بها الثورة الفلسطينية بفقدان جبهة الأردن فقد استطاعت أن تعوض عن ذلك نسبياً بالتركيز على لبنان. واستطاعت فتح أن تقود الثورة الفلسطينية قيادة ناجحة في تثبيت وجود قوات الثورة في العرقوب في ظل تأييد جماهيري لبناني واسع استطاع إلى جانب دعم عبدالناصر أن يفرض على السلطة اللبنانية في عام 1969 اتفاقية القاهرة التي ثبتت وجود الثورة الفلسطينية في لبنان وأكسبته شرعية لبنانية وعربية وجاء استشهاد القادة الثلاثة / نيسان 1973 ليكون مناسبة يعبر فيها الشعب اللبناني عن تأييد شعبي كبير عبرت عنه تظاهرة التشييع الكبرى. وعندما حاولت السلطة إجهاض هذا التأييد في أيار 1973 وفشلت نتيجة مقاومة لبنانية – فلسطينية مشتركة أصبح وجود الثورة الفلسطينية في لبنان مكرساً مما عوض تلك الخسارة الفادحة بالخروج من الأردن.
نتائج حرب تشرين:
كان للاشتراك الفلسطيني الفعال والشجاع في حرب تشرين ليس وراء خطوط العدو فحسب وإنما أيضاً من خلال مشاركة قوات جيش التحرير الفلسطيني على جبهة قناة السويس والجولان، أثر كبير في انتزاع القرار العربي في قمتي الجزائر والرباط 1973 – 1974 باعتبار م.ت.ف. الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وما تلا ذلك من تكريس المجلس الوطني الفلسطيني لبرنامج النقاط العشر وارتفاع مستوى التأييد العالمي لمنظمة التحرير الفلسطينية على مستوى بلدان حركة عدم الانحياز والبلدان الاشتراكية ووصل هذا التقدم أوجه في دعوة الأخ ياسر عرفات القائد العام ورئيس اللجنة التنفيذية لإلقاء كلمة فلسطين من على منبر الأمم المتحدة وقبول م.ت.ف. عضواً مراقباً فيه وعودة بعد قضية فلسطين ليحتل مركزاً مرموقاً في جدول أعمال الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة. ويمكن أن نذكر هنا إنجازين أساسيين سجلاً في هذا المجال القرار 3236، الخاص بحقوق الشعب الفلسطيني وقرار الجمعية العامة باعتبار الصهيونية لون من ألوان العنصرية.
وكان من نتائج هذه الحرب أن ارتفعت مكانة الهيبة العربية دولياً وعزز من ذلك الزيادات الكبرى في أسعار النفط وزيادة قوة النقد العربي وأهمية التضامن العربي الذي تحقق في حرب تشرين 1973. ويمكن القول أن ميزان القوى العام في الشرق الأوسط بدأ يميل لمصلحة الموقف العربي عموماً ولا سيما مصر وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية وظهر ذلك بالانتصارات التي تحققت في لبنان منذ نيسان 1975 وفي حروب المواجهة بين م.ت.ف. والجيش الإسرائيلي وظهر ذلك في 1978 و1982 حيث وقفت قوات م.ت.ف. نداً لقوات الغزو الإسرائيلي ولو كان الوضع العربي مواتياً لتحقق انتصار فلسطيني – عربي كبير عام 1982. أما من جهة أخرى فقد أخذ العدو الصهيوني نتيجة حرب أكتوبر يواجه عزلة دولية وفقد كثيراً من هيبته التي اكتسبها في حروبه السابقة كما أن التناقضات تفاقمت داخل أحزابه الحاكمة وأخذت تزيد من شلل حركته وراحت أوضاعه الاقتصادية تتدهور أكثر فأكثر.
نشطت الإمبريالية الأمريكية لتجهض ما تحقق في حرب تشرين من مكاسب ولتكمل دورها الذي لعبته في أثناء الحرب فوجدت تجاوباً بل تهالكاً من جانب نظام السادات الذي أسرع إلى إبرام اتفاق فك الاشتباك الأول ثم الثاني مصدعاً صف التضامن العربي الذي تحقق في أكتوبر ثم وصل به الأمر إلى زيارة القدس وإبرام اتفاقات كامب ديفيد والمعاهدة المصرية الإسرائيلية الخيانية التي صفت النتائج الإيجابية لحرب تشرين وأحدثت خللاً أساسياً في الصف العربي لما نجم عنها من إخراج مصر من ميدان الصراع ضد العدو فضلاً عن التفريط الوطني والتنازلات المبدئية وفي مقدمتها تخل عن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني.
كان من الممكن أن يحدث انهيار حقيقي في الجبهة العربية مع خطوات السادات هذه لو لم تنفجر الثورة الإسلامية في إيران ويتهاوى حكم الشاه مما أتاح للعراق ودول الخليج وبقية الدول العربية بتحقيق تضامن يعوض نسبياً خسارة مصر وقد تمثل ذلك في مؤتمر القمة ببغداد. وهو المؤتمر الذي سمح باستمرار جبهة الصمود الفلسطيني – الوطني اللبناني – السوري في لبنان وحال دون حدوث انهيار محتوم في الوضع العربي بخروج مصر من المعادلة. ولكن اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية ولا سيما في سنتها الثالثة بعد معركة المحمرة (خور مشهر) أصيب الدور العراقي والخليجي بالشلل عربياً وكان استمرار حرب الخليج يزيد من هذا الشكل مما جعل الوضع العربي العام في حالة تدهور سريع وإذا ما أضيف إلى ذلك الغزو الإسرائيلي لبنان في حزيران 1982 وما أسفر عنه من إخراج م.ت.ف. من الجنوب وبيروت ثم اندلاع الصراع السوري – الفلسطيني الذي أسفر عن إخراج م.ت.ف. من سوريا ومن البقاع وشمالي لبنان واستمرار ذلك الصراع المدمر محتدماً في الساحة اللبنانية وعلى المستوى العربي. وهكذا لم تمض عشر سنوات على حرب أكتوبر 1973 حتى كان كل ما يذكر لها من إيجابيات قد صفي وحلت محله أوضاع عربية متدهورة سمتها استمرار عزلة مصر العربية وفقدان دورها القيادي وثقلها الكبير في المعادلة العربية استمرار حرب الخليج وما نجم عنه من شلل في الدور العربي للعراق وبلدان الخليج وانتهاج سورية سياسة الصراع ضد م.ت.ف. من أجل تحقيق السيطرة المنفردة على لبنان. وكان على م.ت.ف. ضمن هذه الظروف المتدهورة أن تصمد أمام أشد حملة وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية للإجهاز عليها وتصفيتها مما جعلها تخوض معارك على جبهات كثيرة في وقت واحد وفي ظرف عربي في منتهى السلبية والسوء.
كان على الثورة الفلسطينية أن تدافع عن مكاسب الشعب الفلسطيني في لبنان في وجه حملات التصفية التي قادتها القوى اللبنانية والفلسطينية المتعاونة مع سوريا ولا سيما أمل والمنشقون في لبنان وكان عنوان ذلك حرب المخيمات في بيروت والجنوب وحرب المخيمات في الشمال.
وكان على الثورة الفلسطينية أن تواجه مؤامرات التصفية الأمريكية الهادفة إلى شطب الرقم الفلسطيني من معادلة الشرق الأوسط، وكان عليها أن تحافظ على تحقق من مكاسب في المجال العالمي من اعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً ومن عزلة للعدو الصهيوني ولا سيما قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدان الاشتراكية والإفريقية وبينه. ويمكن القول الآن أن الثورة الفلسطينية خلال الأربع سنوات العجاف الماضية استطاعت أن تحافظ على منظمة التحرير ممثلاِ رعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني وقد تعزز ذلك بعودة الوحدة بين فصائل م.ت.ف. كما عبر عن ذلك المجلس الوطني الثامن عشر في الجزائر واستطاعت أن تحافظ على السلاح في مخيماتها في لبنان في وجه حرب الإبادة بل استطاعت أن تسهم بإعادة فتح جبهة جنوبي لبنان ضد العدو وقد عبر عن ذلك اضطرار أمل أخيراً لتوقيع اتفاق المخيمات كما عبر عنه تصاعد العمل العسكري في جنوبي لبنان. أما في الميدان العربي فقد تمكنت م.ت.ف. أن تحافظ على دورها الفاعل في المجموعة العربية من أجل إطفاء المعارك الجانبية وإعادة التضامن العربي ولو بحدوده الدنيا فبالرغم من الحصار الذي حاول الأردن وسوريا ضربه عليها في قمة عمان إلا أنها استطاعت أن تنتزع قرارات من القمة أساسية وهامة لتعزيز الموقف الفلسطيني كما نجحت بالسعي لترطيب الأجواء بينها وبين سوريا والأردن وهي تأمل أن يكون العام القادم عام تضميد الجراح الفلسطينية في لبنان وسوريا والأردن. كما تأمل أن يكون عام التضامن العربي والتفافه حول القضية الفلسطينية على المستوى العالمي من أجل تعزيز جبهة الأصدقاء في الدول الاشتراكية وحركة عدم الانحياز ومنظمة الوحدة الإسلامية وعلى مستوى الرأي العام العالمي من أجل دعم موقف م.ت.ف. في مواجهة مؤامرات التصفية الأمريكية – الصهيونية التي تهدف إلى إيجاد حل تصفوي للقضية الفلسطينية من خلال مفاوضات أردنية – إسرائيلية مباشرة تحت مظلة مؤتمر دولي صوري.
يجب أن نسلط الأضواء عند هذا الحد إلى أن الجماهير الفلسطينية ولا سيما في فلسطين المحتلة لعبت الدور الأساسي في خروج م.ت.ف. سليمة من السنوات العصبية التي واجهتها خلال الخمس سنوات الماضية سنوات انهيار الوضع العربي وتمزقه. إن الانتفاضة الشعبية في الأراضي المحتلة والوقوف الصامد الثابت وراء م.ت.ف. قطعا الطريق على كل محاولات تمزيق صفوف م.ت.ف. أو تخطيها أو تجاهل الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني. وقد لعب تصاعد الكفاح المسلح في الأرض المحتلة دوراً موازياً في تثبيت مواضع م.ت.ف. والمحافظة على المكاسب التي حققتها الثورة الفلسطينية.
اليوم ونحن نستعرض أحداث الماضي وعبره ونقف أمام الحاضر يحق لنا أن نطل على الأعوام العشر المقبلة بأعين التفاؤل مشبعين بالثقة بقدرة ثورتنا على مواصلة المسيرة حتى التحرير لقد أثبتت تجربة الثلاثة والعشرين عاماً من عمر المناسب وما تحلت به من مبادرات في الظروف الصعبة والمعقدة وما اتصفت به من قدرة على الصمود والشجاعة في ظروف الحصار وخطر الإبادة وما امتلكته من خبرات من خبرات في فك أطواق الحصار وإحباط سياسات العدو والطعن في الظهر. لقد أثبتت تلك السنوات جدارة فتح في إطلاق الثورة والمحافظة على استمراريتها وحماية مكاسبها وتكريس إنجازاتها.. كما أن تكل السنوات قد أثبتت جدارة الشعب الفلسطيني في النضال وجدارته في الصمود في وجه أخطر عدو عالمي تمثل بالصهيونية والإمبريالية الأمريكية بل أثبتت أن لديه وعياً عميقاً في المحافظة على وحدة صفوفه والاستعداد لتقديم التضحيات والنضال حتى في الظروف غير المؤتية بل إنها أثبتت جدارته بتحرير وطنه وانتزاع حريته وحقوقه الثابتة.
إن تلك السنوات أثبتت أن عدونا بالرغم من شراسته وما يملك من إمكانات وقدرات ودعم عالمي إلا أن بالإمكان الصمود في وجهه بل وتحقيق الانتصارات عليه ولا سيما إذا ما استطاعت الأمة من وقف هذا التدهور العربي بحيث يعود الوهج لشعار فتح الذي انطلقت الثورة في ظلاله إلا وهو شعار كل البنادق نحو العدو الصهيوني.
ومن هنا إن الإطلالة على المستقبل حين تحمل التفاؤل فهي تستند على خبرات الثلاثة والعشرين سنة الماضية التي أثبتت عظمة الشعب الفلسطيني وأهلية الثورة الفلسطينية والإمكانات الهائلة التي تختزنها الأمة العربية ولا سيما إذا صحت توقعاتنا بأن تكون السنوات القادمة سنوات النهوض من التدهور الذي بدأ بزيارة السادات إلى القدس ومر بحرب المخيمات في البداوي ونهر البارد وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة والرشيدية وعين الحلوة وانتهى بوضع عربي أشبه ما يكون بعصور الانحطاط. أن ما تحقق من بداية تضامن في قمة عمان وما تبعه من عمل لرأب الصدوع العربية ولا سيما بين م.ت.ف. وسوريا والأردن أو بين سوريا والعراق أو بين سوريا ومصر. وما يجري توقعه من نهاية لحرب الخليج، وخروج لمصر من آسار كامب ديفيد وإنهاء لبؤر الصراع العربية – العربية وإن ما نشهده من نهوض شعبي في الأرض المحتلة وتصعيد للكفاح المسلح وما راح يلوح من نهوض شعبي عربي. إن كل ذلك يسمح بالتفاؤل والأهم أن العمل من أجل تحقيقه ضرورة في السنوات القادمة حتى تكون الثورة الفلسطينية والوضع العربي قادرين على مواجهة المتغيرات الهامة التي أخذت تلوح في الأفق الدولي ولا سيما مع توقيع اتفاقية سحب الصواريخ المتوسطة والقصيرة من أوروبا ودخول العملاقين في حوار ثنائي متواصل إلى جانب بروز مراكز قوى اقتصادية عالمية جديدة في ظل تفاقم أزمة اقتصادية أمريكية. أن هذه الظروف العالمية لا تشكل بحد ذاتها روافع لمصلحة النضال الفلسطيني ما لم يرتب وضع البيت الفتحاوي أولاً ووضع البيت الفلسطيني ثانياً ويرتب بيت الوضع العربي جيداً. وهذا ما يزيد من أعباء حركة فتح ومسؤولياتها في الأعوام العشرة القادمة ويشكل امتحاناً جديداً لها فكما نجحت في أن تعيد الشعب الفلسطيني والهوية الفلسطينية والشخصية الفلسطينية إلى الخريطة السياسية الشرق الأوسطية وكما استطاعت أن تجعل م.ت.ف.الرقم الصعب في معادلة الشرق الأوسط وكما تمكنت من المحافظة على السفينة الفلسطينية في أشد سنوات المحنة وخطر التصفية والإبادة فليس لها من خيار سوى النجاح في تحمل تلك الأعباء والمسؤوليات حتى تستمر هذه المسيرة التي تحققت تحتها الإنجازات الكبرى على درب التحرير وخصبت بالدماء والدموع والعذابات والتضحيات من أجل التحرير، ولكي تثبت اسم فلسطين على الخريطة الجغرافية الشرق أوسطية.

القسم الثالث

المد الإسلامي في فلسطين
شكلت حركة فتح منذ 1968 القوة الفلسطينية الثورة الأكبر حجماً، والأقوى عسكرياً والأنشط مبادرة، والأكثر شعبية في داخل الأرض المحتلة وخارجها، ولم يسبق لها أن شعرت خلال الستة عشر عاماً المنصرمة بمنافسة جادة من قبل أية منظمة فلسطينية من منظمات المقاومة بل كانت المنظمات مجتمعة لا تقدر على منافستها شعبيتها، وهي ما زالت في هذا الموقع بالرغم من الانشقاق الخطير التي تعرضت له صيف عام 1983، ثم خروجها الكامل من لبنان، وانفصام علاقتها التاريخي بسورية.
على أن المد الإسلامي الذي أخذ ينتشر في قطاع غزة والضفة الغربية منذ العام 1979، وإلى حد ما في الأوساط الفلسطينية المحتلة منذ 1948، قد راح يغيّر في خريطة توزيع شعبية القوى السياسية داخل فلسطين فإذا بالقوى الإسلامية، وخاصة، الإخوان المسلمين تتحول إلى قوة متفوقة في قطاع غزة، وإلى القوة الثانية المنافسة على مستوى الضفة الغربية، فقد اكتسحت القوى الإسلامية العام الفائت، الانتخابات الطلابية في جامعة النجاح في نابلس والكيان الإسلامية في الخليل وغزة، وكادت قائمتها تفوز حتى في جامعة بيرزيت لولا حاجتها إلى بضعة أصوات فقط. وانعكست قوتها الظاهرة على سائر القوى السياسية الأخرى في أغلب المدارس الثانوية، مما لا يبقى من تفوق لمنظمة التحرير عليها إلا في الاتحادات الشعبية المنظمة كاتحادات الموظفين، والأطباء، والمحامين، والمجالس البلدية، والشخصيات الوطنية البارزة. ولكن حتى هنا أيضاً يمكن ملاحظة صعود الخط البياني العام في مصلحة القوى الإسلامية الناشطة، وقد تصبح القوة المتفوقة في الضفة الغربية شأنها في قطاع غزة الآن، في حالة استمرار الجمود النسبي الذي تعاني منه منظمة التحرير الفلسطينية أزمتها الداخلية والحصار العربي، والأهم بسبب انحسار عمليات العسكرية نسبياً، فبعد أن كانت لها أرعب أو خمس عمليات عسكرية يومياً ما بين الأعوام 1968 – 1970، أخذت تعد بعد ذلك، عداً عكسياً حتى وصلت إلى معدل عملية واحدة يومياً في الأعوام 1975 – 1978. ثم بدأت هذه النسبة تتضاءل إلى أن أصبحت الآن بمعدل أربع أو خمس عمليات، على الأكثر في الشهر الواحد ويخشى ألا يحافظ على هذه النسبة في السنتين القادمتين، خصوصاً بعد اضطرار فتح على العمل بعيداً عن دول المواجهة الأمر الذي يفرض عليها الاستثناء إلى قواها الذاتية في داخل فلسطين فقط، لمواصلة الكفاح المسلح، وهو الذي إلى جانب الصدام مع الجيش الإسرائيلي على خطوط التماس، كان الركيزة الأولى التي بنت عليها حركة فتح ومنظمات المقاومة قوتها وشعبيتها، فإذا لم تجد حركة فتح السبل التي تبقى شعلة الكفاح المسلح متوهجة في يدها فسوف يكون ذلك عاملاً سلبياً خطيراً في غير مصلحتها على مختلف الصعد، خصوصاً، من جهة تأثر سمعتها الكفاحية والشعبية.
القلق الإسرائيلي من الظاهرة الإسلامية:
عبر رئيس دولة إسرائيل حاييم هيرتزوغ عن تخوفه من نجاح الإرهابيين الإسرائيليين في إنفاذ تهديدهم بنسف المسجد الأقصى، مما يحمل في طياته مؤشراً “لخطر حرب أهلية”، ملمحاً إلى ردود فعل القوى والجماهير الإسلامية على ذلك. فلو وضعت جانباً محاولة إلصاق تهمة محاولة تدمير المسجد الأقصى بالإرهابيين اليهود حدهم دون مشاركة السلطات الإسرائيلية أهدافهم تواطئاً وتشجيعاً خفياً، فإن هذا التصريح يعبر عن جدية التخوفات الإسرائيلية من نمو الظاهرة الإسلامية.
في الواقع أن الصدام المباشر لم يقع بعد بين القوى الإسلامية وسلطات الاحتلال في صورة معارك مسلحة أو انتفاضات ومواجهات شعبية، باستثناء بضع عشرات من الحالات الإسلامية التي لجأت إلى السلاح أو دخلت في مواجهات سياسية، وقد زج بها في السجون وتعرضت للتعذيب الوحشي وأحكام في السجن والنفي والإقامة الجبرية.
عبرت عدة مقالات صحفية إسرائيلية عن انزعاج السلطات من تزايد نمو الظاهرة الإسلامية من شمالي فلسطين حتى خان يونس، وقد رأت ذلك متجلياً في الازدياد المتعاظم في إعداد الشباب الملتحي والفتيات المتحجبات والجموع الغفيرة التي تأم المساجد، والنشاطات السياسية والثقافية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية والصحية التي تصاعدت على يد القوى الإسلامية. بيد أن القيادة الإسرائيلية ما زالت تحاذر حتى الآن من الوصول بقلقها إلى حد فقدان الأعصاب خوفاً من استفزاز المشاعر الدينية لدى الجماهير.
ولهذا يمكن تصوير الوضع بين الحكم العسكري الصهيوني والقوى الإسلامية مثل حالة جيشين متواجهين يحاول كل منهما تجنب الصدام المباشر، ويؤثر على عمليات الالتفاف والمناورة وإضعاف الآخر بأساليب وطرق معقدة، ويلاحظ هذا فيما تعبر عند الصحف الإسرائيلية من قلق وهي تتناول المواجهة مع الظاهرة الإسلامية الفذة في جنوبي لبنان، وقد أطلقت بعض الصحف الأجنبية على الوضع في الجنوب صفة “ثورة المساجد”.
لا يقتصر هذا القلق من الظاهرة الإسلامية في داخل فلسطين على السلطات الإسرائيلية ومراسلي الصحف الأجنبية، وإنما يبرز من خلال المقالات التي تنشرها صحف منظمات المقاومة، عدا صحف حركة فتح، حيث يُشن هجوم شديد القسوة على القوى الإسلامية ويدعى إلى محاربتها والتحالف الشامل ضدها.
“الجبهة الوطنية” والمرحلة القادمة:

الأمر الجديد الذي حدث خلال شهر أيار المنصرم هو التحالف الذي قام بين فتح والحزب الشيوعي الفلسطيني تحت اسم “الجبهة الوطنية”، وقد انضمت إليه الجبهة الشعبية (جورج حبش)، والجبهة الديمقراطية (نايف حواتمة)، مما قد يؤدي إلى تصعيد الصراع مع القوى الإسلامية، خصوصاً مع بداية العام الدراسي القادم وأجزاء الانتخابات الطلابية في المدارس والجامعات.
لعله من غير الصعب الاستنتاج بعد قراءة أدبيات الشيوعيين والجبهتين الشعبية والديمقراطية أنهم سيعمدون في حالة استمرار هذا التحالف في الجبهة الوطنية إلى دفع فتح لمشاركتهم العداء ضد القوى الإسلامية، بينما كانت سياسة فتح، إلى ما قبل هذا التحالف، تحاول تخفيف الصراع، وترطيب الأجواء، وإيجاد نقاط مشتركة، ولو موضوعياً، لمواجهة المخاطر الناجمة عن الاحتلال والتي تستهدف جميع من في الداخل بلا استثناء. ومن هنا ستتعرض فتح إلى تجربة جديدة كما ستجد القوى الإسلامية نفسها، وهي متفرقة الكلمة، في مواجهة تحدى لا يمكنها الاستهانة به. فهل ستتمكن هي بدورها من بناء جبهتها الإسلامية الواحدة؟ وهل ستتمكن فتح من أن تتجنب توريطها في صراع مع القوى الإسلامية فتلعب دور الجسر بين منظمة التحرير الفلسطينية والقوى الإسلامية لتحويل اتجاه الصدام نحو العدو الصهيوني بدلاً من أن يغرق الجميع في معارك جانبية، ويُترك العدو الإسرائيلي يستوطن الضفة الغربية وقطاع غزة ويهود القدس ويتهدد الوجود الفلسطيني من حيث أتى، ويخطط للسيطرة على الحرم الإبراهيمي وتدمير المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين؟!

المد الإسلامي في فلسطين (2)
اتخذ "المد الإسلامي في داخل فلسطين (في الضفة الغربية وقطاع غزة والمناطق الفلسطينية الأخرى داخل الكيان الصهيوني) شكلين أساسيين: الأول من عام في أوساط الجماهير العريضة رجالاً ونساءً ومن مختلف الفئات الاجتماعية. وتجلى هذا المد من خلال تعاظم الإقبال على المساجد والعودة إلى الصلاة والتمسك بأهداب الدين، والانتفاض الجماهيري في حالة تعرض المقدسات الإسلامية إلى اعتداء. والثاني مد شمل مختلف القوى الإسلامية تمثل بتوسع قواعدها وازدياد نشاطيتها وتشعب مجالات عملها ولعل أهم هذه القوى:

أولاً: الإخوان المسلمون:
بدأت النشاطات الأولى للإخوان المسلمين منذ الثلاثينيات، وانقسمت الجماعة، اضطرارياً، وموضوعياً، إلى فرعين بعد نكبة 1948 حيث ارتبط مصير فرع غزة بمصير الإخوان المسلمين في مصر، فناله ما نالهم من سمعة حميدة فيما أبلوه من بلاء حسن في الجهاد على أرض فلسطين بقيادة الإمام الشهيد حسن البنا في العامين 1948 – 1949. كما كابدوا ما كابده الإخوان المسلمون في مصر بسبب وقوع قطاع غزة تحت الإشراف المصري، فتعرضوا لمحنة 1954 وخرج من تنظيمهم عدد من الشباب النشط بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة 1956 ليبدأوا عملاً مستقلاً أصبح بعد عدة سنوات نواة لحركة فتح، ثم عانى الإخوان المسلمون في غزة محنة قاسية شديدة في 1964 – 1965 مشاركين سيد قطب وإخوانه أيام العسرة. وهكذا كان على الإخوان الذين تبقوا في قطاع غزة بعد الاحتلال الإسرائيلي في حزيران 1967 أن يعملوا بجد وصمت ليلموا الشمل، ويلتقطوا الأنفاس، ويلأموا الجراح، لكي يستعيدوا العمل ضمن ظروف مرحلة جديدة صعبة وخطيرة ومعقدة، فسيف العدو مسلط على الرقاب، والشباب معرض للهجرة أو التهجير، وصوت الكفاح المسلح الذي شنته منظمات المقاومة الفلسطينية، وكلها علمانية، يعلو على كل الأصوات فما كان عليهم إلا أن يتواصوا بالحق والصبر.
أما الشق الثاني من الإخوان المسلمين فقد نما بعد العام 1949 ضمن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، تحت إرشاد الشيخ الأستاذ محمد خليفة وعلى الرغم من أنهم لم يتعرضوا لأي من المحن التي تعرض لها إخوانهم في قطاع غزة حتى عام 1967، إلا أنهم بقوا قوة متواضعة نسبياً في الضفة الغربية قياساً بقوة حزب التحرير الإسلامي خصوصاً بين الأعوام 1952-1956 أو بقوة الأحزاب العلمانية والاتجاه الناصري الشعبي الواسع الذي كان سيد الموقف في الضفة الغربية حتى هزيمة حزيران 1967.
كان من الطبيعي أن تحظى بالأولوية بالنسبة إلى فرعي الإخوان المسلمين في فلسطين قضية وحدتهم بعد أن عاد الاتصال والتواصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي. وبالفعل أ،جزت هذه الخطوة بنجاح في منتصف السبعينيات ولكن فرع قطاع غزة واجه في هذه الفترة هزة بخروج عدد من الكوادر النشطة من صفوفه لتبدأ بتشكيل تيار إسلامي مواز أصبح الآن القوة الإسلامية الثانية بعد الإخوان المسلمين في القطاع.
على أن مجموعة المحن التي تعرض لها الإخوان المسلمين في قطاع غزة لم تمنعهم من أن يتحولوا في خلال الخمس سنوات الأخيرة إلى القوة الرئيسية الكبرى في القطاع، كما أصبح الإخوان في الضفة الغربية خلال المدة نفسها القوّة الموازية لجميع القوى السياسية الأخرى.
يواجه الإخوان المسلمون تحدي الاحتلال الإسرائيلي من خلال الدعوة والتعبئة الإسلامية التربوية النشطة، ويبذلون نشاطات واسعة في مؤسسات التعليم والخدمات الاجتماعية والاقتصادية مما يسهم إسهاماً ملموساً في دعم الصمود الشعبي في الأرض المحتلة. ولكنهم يواجهون في الوقت نفسه، هجوماً قاسياً من القوى الماركسية والقومية والعلمانية، عدا فتح، في الساحة الفلسطينية والمشرق العربي، فالجسور بينهم وبين تلك القوى محروقة ولا يوجد غير التقاذف بـ“النيران الثقيلة” من حيث نوع الاتهامات التي توجه ضدهم.

ثانياً: حزب التحرير الإسلامي:
تشكل حزب التحرير الإسلامي بإرشاد الشيخ تقي الدين النبهاني، رحمه الله، في العام 1951 منطلقاً من حي وادي الجوز في مدينة القدس الشرقية، واندفع يتقدم كالصاروخ، حتى أصبح خلال عامين أقوى تنظيم سياسي في الضفة الغربية من الأردن متفوقاً على قوة الإخوان المسلمين وقوة الأحزاب العلمانية (البعث والشيوعيين) مجتمعتين، واستطاع أن يفرض عام 1954 نجاح نائب عنه إلى برلمان الأردن، وقد سقط مرشحوه الآخرون من خلال التزوير المباشر بعد أن كان أغلبهم من الفائزين بلا جدال وقد زج بعدد من قادته في السجن لبضعة أشهر، ولكنه أخذ يتراجع من ناحية قوته الشعبية مع تصاعد المد الناصري بعد تأميم قناة السويس والعدو الثلاثي على مصر 1956، وازداد عزلة عندما هاجم التظاهرات التي أخذت سمة انتفاضة شعبية شبه شاملة في مواجهة مشروع نمبلر الرامي إلى إدخال الأردن في حلف بغداد في أواخر العام 1955. كما أنه واجد عدة محن بعد ذلك شملت قادته وكوادره النشطة بالاعتقالات والملاحقات والتشريد خصوصاً بعد اتهامه بالتحضير لانقلاب عسكري في الأردن مع أوائل الستينيات، ثم تعرض إلى خسائر فادحة في قوته مع انسحاب عدد لا يستهان به من قادته البارزين المؤسسين منه لأسباب مختلفة ولكنه بالرغم من ذلك استمر حزباً نشطاً قادراً على مواصلة العمل وإن كان ضمن نطاق ضيق حجماً ومجالاً.
قررت قيادة حزب التحرير حل التنظيم أو تجميده، في الضفة الغربية بسبب وقوع البلاد في قبضة الكفار واعتبر تحرير فلسطين يبدأ بإقامة الدولة الإسلامية في واحدة من الدول العربية حيث يصبح من الممكن بعدئذ تعبئة الأمة من أجل الجهاد. ولكن ترددت شائعات تقول أنه عاد مؤخراً عن قراره بتجميد نشاطه في الضفة الغربية بسبب نشوء عوامل جديدة في الوضع ولعل من بينها تصاعد المد الإسلامي إلى جانب إعادة تقويم للوضع فلسطينياً وعربياً وإسلامية ليس من السهل تقدير قوته الآن في الضفة الغربية بعد طول هذا الغياب وإن كانت قوته في قطاع غزة جد متواضعة حيث لم يكن قبل 1967 قد غرس جذور فيها كما فعل في الضفة الغربية والأردن وعدد من البلدان العربية.

ثالثاً: التيار الإسلامي:
لم يحمل هذا التيار اسماً محدداً، وإن كانت أسماء كثيرة خلعت عليه من قبل القوى الإسلامية والسياسية الأخرى، فهو تارة جماعة مجلة “المختار الإسلامية” التي صدرت في القاهرة 1978 – 1979، أو هو تيار مجلة “النور الإسلامي” التي صدر في الأرض المحتلة، أو “التيار الإسلامي الثوري”، أو “حزب الله” أو “التيار الخميني” بسبب حماسة 1979 - للثورة الإسلامية في إيران. وقد اعتبره الخبير الإسرائيلي بالشؤون الإسلامية في شهادته في أثناء محاكمة بعض الشباب المسلم المتهم بالانتساب إليه “أنه تيار ثوري إسلامي يدعو إلى إقامة الدولة الإسلامية عن طريق الجهاد”.
تعود أصول هذا التيار إلى مدرسة الإخوان المسلمين حيث خرج قادته من تنظيم الإخوان المسلمين في أواسط السبعينيات في قطاع غزة، ولم ينشر شيء عن أسباب الخلافات وإن كانت لا تمس الأفكار التي طرحها الإمام حسن البنا، وإنما انحصرت حول عدد من المواقف من بينها الموقف من قضية فلسطين. ولكن توسع هذا الخلاف بعد أن تبلور عمله كاتجاه إسلامي أو تيار إسلامي منافس في قطاع غزة وربما الضفة الغربية عموماً، وينشط في عدة ميادين ثقافية واجتماعية وصحية، ويبدو أنه يختلف عن الإخوان ا لمسلمين وحزب التحرير الإسلامي من حيث ربطه للدعوة والتبليغ والبناء العقائدي بالعمل السياسي الجماهيري المباشر. وهذا ما حدا بالسلطات الإسرائيلية إلى استشعار خطره قبل غيره من الاتجاهات الإسلامية، فشنت على عدد من كوادره حملة اعتقالات، وأدخلتهم أقبية التعذيب الوحشي والتحقيق ثم قدمتهم إلى المحكمة، وحكم على بعضهم بالسجن لمدة سنة. فكانت هذه هي المرة الأولى التي يضيق بها ذرع الاحتلال الإسرائيلي من الكلمة أو الدعوة أو العمل السياسي، وهو الذي كان يتباهى دائماً بعدم استخدام القمع إلا ضد من يلجأون إلى العمل المسلح.
لعل من الخطأ قراءة هذه الهجمة من جانب الاحتلال الإسرائيلي تجاه هذه المجموعة الإسلامية المجاهدة المؤمنة باعتبارها ضدها وحدها، وإنما تجب قراءتها باعتبارها رسالة موجهة إلى مجموع الاتجاه الإسلامي في فلسطين كلها بعد أن استفحل أمره وأصبح من على المآذن نداء “الله أكبر” يدوي في الشوارع والمدارس والجامعات وليس فقط
المجموعات الإسلامية الأخرى:
تعج الأرض الإسلامية في فلسطين بالنشاط الإسلامي الذي لا يقتصر على ما تقدم من قوى، فهنالك عدة مجموعات راحت تتشكل هنا وهناك ومنها مجموعة أسمت نفسها منظمة الجهاد فرع فلسطين، وأخرى أخذت تتشكل حول كتاب الشيخ أسعد بيوض التميمي “زوال إسرائيل حتمية تاريخية” وخطبه، وأخرى تشكلت في السجون تحت اسم الجماعة الإسلامية، وكانت إرهاصات أخرى يصعب حصرها، وشملت ظاهرة النشاط الإسلامي المناطق المغتصبة منذ 1948، وقد حوكم عشرات من أعضائها، وزج بهم فيا لسجون ليقضوا مدداً تصل في بعضها إلى سبع أو عشر سنوات، ومن بينها مجموعة أم الفحم التي اتهمت بالتحضير لعمل مسلح.
ثم هنالك طرق صوفية عاملة كالشاذلية واليشرطية ولعل أهمها الاتجاه الصوفي ذي النفس الجهادي أو المقاوم للاحتلال والذي يمثله الشيخ محمد الجمل، وهو عالم يحظى باحترام كبير من جمهور المؤمنين الذين يستمعون إلى دروسه في المسجد الأقصى المبارك. وثمة إلى جانب هؤلاء عدد من العلماء الأجلاء المستقلين الذين يدوي صوتهم في رفع كلمة الإسلام وحماية الأقصى بالرغم من الحراب الصهيونية الملوحة فوق رؤوسهم كالشيخ عكرمة في القدس والشيخ عبدالعزيز في قطاع غزة.
وبالمناسبة أخذت الظاهرة الإسلامية تمتد إلى داخل فتح نفسها، إذ أخذت تعلو فيها أصوات منادية بالعودة إلى الإسلام، ورفع راية الجهاد في فلسطين.
وحدة القوى الإسلامية:
تبقى قضيتان أساسيتان تحتاجان إلى وقفة أولاهما: مسألة وحدة كلمة القوى الإسلامية في الأرض المحتلة، وكيفية الوصول إليها، وعلى أية أسس يجب أن تقام؟ وثانيهما قضية الخط الذي ينبغي للمسلمين اتباعه في مواجهة واجب الجهاد لتحرير الأقصى وفلسطين وما يتفرع عن ذلك من أشكال المقاومة للاحتلال. ثم يتفرع عن هاتين القضيتين قضية ثالثة ملحة وهي العلاقة مع القوى الفلسطينية الأخرى العاملة في منظمة التحرير الفلسطينية.

القسم الرابع

فلسطين والأمة واحتمالات المستقبل
المستقبل شأن من شؤون الغيب ولا يستطيع الإنسان أن يتنبأ أو يتحكم به “وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً” (لقمان:34)، “وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ” (آل عمران:79). ولكن معرفة سنن الله الجارية في الكون يمكنها أن تعطي إشارات لبعض ما يمكن أن يحدث مستقبلاً – بخطوط عريضة جداً، وهذه لا تشكل نبوءة للأحداث التي يمكن أن تقع بإذن الله غداً وإنما محاولة استشفاف مستقبلي لبعض ما يمكن أن يحدث غداً، بل إن هذه الرؤية يجب أن تعامل بحذر شديد ولا ينبغي لها أن تحكم السياسات والقرارات والإرادات ولا سيما حين تهب الرياح على عكس ما كانت تتوقع فوقائع الحاضر محكّمة ومنها يمكن أن يحدث التغيير بإرادة الله ووقائع الحاضر معطيات لا مجال للتنبؤ بها لأنها أمور حدثت وأصبحت باليد وإن كانت قراءتها قراءة صحيحة تحتاج إلى جهد في البحث وقدرة على التحليل ونظرة ثابتة في الخروج بالاستنتاجات ذلك بسبب تعقيد الحياة وتداخل أجزائها، وصعوبة حصرها، أو تحديد تأثير كل جزء في الأجزاء الأخرى مجتمعة ومنفردة، وتأثيرها فيه، فالحياة الإنسانية على مستوى العالم تنقسم إلى أمم وشعوب وقبائل ودول، وإلى أوطان وجهات وقارات، وإلى أجناس وأديان ومذاهب واتجاهات، وأن بين هذه جميعاً صراعات وتدافعاً، وهي اليوم تنقسم إلى عدد من التقسيمات، فبعضها أصبح دولاً كبرى تمتلك التفوق العسكري والمادي وتسيطر على أجزاء كبيرة من البلدان والدول والشعوب، وبعضها بمنزلة الدول التابعة، المدينة، بقليل من الحول والطول، وبعضها بين هذا وذاك تفاوتاً بينا، فالقوى الأكثر سيطرة على العالم تسعى إلى أن يكون المستقبل امتداداً لهذا الحاضر، أي تحاول أن تتحكم بمصير عالم الغد ليكون ضمن خطوط عالم اليوم من حيث الأساس. فالقوى المستضعفة (تشمل شعوباً ودولاً) تسعى لأن تغيير بمعادلة الحاضر لترفع من مكانتها، وتصنع مستقبلاً لا تكون فيه من المستضعفين في الأقل. أما القوى التي بين هذين القطبين فتسعى إلى أن ترتفع إلى مستوى القوى الكبرى المسيطرة، وعساها في حالات تنافح ضد الانحدار.
فهل يمكن أن نفسر، أو نفهم مخططات الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي خارجاً عن إطار محاولة المحافظة على سيطرتهما العالمية، وقوتهما المتفوقة العالمية، فوفاقهما الراهن، كصراعهما بالأمس، يخبئ مخطط التفوق على الآخر كما يخبئ مخطط تكريس وضع الدولة الكبرى في العالم؟ وهل يمكن أن نفسر، أو نفهم مخططات دول أوروبا، ولا سيما بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، في توجهاتها لتوحيد أوروبا وتحويلها إلى عملاق اقتصادي وعسكري وسياسي غير محاولة الارتفاع من المرتبة الثانية أو الثالثة إلى المرتبة الأولى في مجال السيادة العالمية والإمكانات والقدرات؟ وهل يمكن أن نفسر محاولات دول العالم الثالث (كبيرها وصغيرها ومتوسطها، غنيها وضعيفها وفقيرها) في مطالبتها بتغيير النظام العالمي السياسي والاقتصادي الراهن، وإقامة بنظام أكثر عدلاً، إلا سعياً من أجل ردم الهوّة التي تفصل بينها وبين دول الكبرى المتقدمة، سواء أكان من ناحية امتلاك قدرات أكبر وتشكيل ظروف أفضل من أجل المحافظة على استقلالها، أم من ناحية رفع نير العبودية والتحكم عن أعناقها؟ ثم ألا تدخل التجمعات الدولية كحركة عدم الانحياز، ومنظمة الوحدة الإسلامية، والجامعة العربية والمجمعات الإقليمية المختلفة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ضمن هذا التوجه؟
كما أن الصورة على مستوى البلد الواحد تعيش في الحاضر ألواناً من الصراعات والتدافع من أجل تغيير النظام أو عدم تغييره، ومن أجل إحداث تغييرات شتى في القوانين، وفي الاقتصاد، والثقافة، والتعليم، والتقاليد ومستويات المعيشة، وأنماط الحياة. فثمة قوى داخل كل بلد في حالة صراع وتدافع بعضها يحاول الحافظة على سيطرتها والدفع بكل تطوير يكرس هذه السيطرة، وبعضها يحاول الانتقال من الموقع الثاني أو الثالث أو الرابع، أو الهاشمي، لينال حصة أكبر في المشاركة أو في انتزاع المكانة الأولى، وفقاً لكل بلد وحالة.
بكلمة صورة العالم اليوم معقدة غاية التعقيد، ومتداخلة الألوان أشد التداخل. وتحمل في طياتها عشرات الاحتمالات والبدائل لصورة المستقبل البعيد، وأقل من ذلك لصورة المستقبل القريب. وأنه لمن الصعب في ظل هذا الخضم من التدافع أن يتحكّم شعب من الشعوب، أو دولة من الدول، بصورة المستقبل، أو التنبوء بها. لأن المسرح ليس حلبة صراع بين قوتين، فقط، حتى يكون بالإمكان أن تتوقع نتيجة نصر لأحدهما ولو بنسبة 50%. وإنما هو تدافع على مسرح يغطي الكرة الأرضية، وعددُ حلباته عشرات، وعدد المتدافعين في كل حلبة كثير وقد يبلغ العشرات. فيكفي لدولة أن تضع مخططاً للمستقبل بعد أن تكون قد حسبت إمكاناتها، وإمكانات خصمها المباشر، أن تجد ما خططت له قد انهار، واحتاج إلى تعديل. وذلك حين يحدث تغيير غير متوقع في حلبة أخرى. مما يقلب الميزان على عكس ما اشتهت. وهذا أمر شاهدناه بالأمس ونشاهده اليوم. وهو ينبع من سُنة تقول أن هنالك مجالات يمكن لكل طرف أن يُسيطر عليها إلى حد بعيد، وهنالك مجالات خارج إرادته، ولا سيطرة له عليها. وهنالك تداخل في الوضع العالمي، وفي كل وضع إقليمي ومحلي، يجعل كل تغيير يحدث من حولك، ولا إرادة لك فيه، يؤثر في معادلة المستقبل بالنسبة إليك سلباً، أو إيجابياً، بعيداً عما كنت تتوقع للمستقبل.
ولهذا فإن من غير الحصافة أن تركزن إلى نفاذ بصرك وبصيرتك ف رؤية المستقبل البعيد قطعاً، أما المستقبل القريب (لنقل في حدود عشرين عاماً) فقد ترى الحاضر يفرض عليك قسماته الرئيسية ليأتي رؤيتك وتوقعاتك لما يمكن أن يحدث من تغيير محكومتين بالحال القائم واتجاهاته عموماً.
ويجدر هنا أن نقف أمام عشرات القراءات المستقبلية التي قدمت خلال العشرين سنة الماضية لواقع العالم واحتمالات تطوره خلال عشر سنوات، أو عشرين سنة، أو خمسين سنة، حتى نرى كم عوقبت عقابً شديداً بعد حين. فهل هنالك من كان يستطيع أن يتصور غورباتشوف وعهده قبل عشر سنين، أو خمس سنين، ولا سيما في توقيته إن لم يكن في موقفه من أمريكا والغرب والصهيونية، وفي علاقته بالحزب الشيوعي والنظرية الماركسية إن صورة عالم اليوم التي تمتاز بنوع العلاقة الجديدة التي نسجت بين أمريكا والاتحاد السوفياتي هي أبعد ما تكون عن أية رؤية مستقبلية سبق لها أن حاولت استشفاف عالم التسعينيات منذ الستينيات، أو السبعينيات وحتى 1986. ربما قال البعض أن الكثيرين توقعوا انهيار الشيوعية، أو توقعوا وفاقاً لا بد منه بين الدولتين الكبريين، وذلك انطلاقاً من مجموعة دلائل كانت تشير إلى هذا الاتجاه، ولكن توقيت الأحداث وكيفية وقوعها وألوانها وتجلياتها فهذا أمر لا علاقة له بالتوقع. مما يقودنا إلى القول أن كل قراءة للمستقبل القريب، أو البعيد، يمكنها أن تعطي أحكاماً عامة غير محدودة بحدود، ولا مرتبطة بتوقيت، تأتي أقرب إلى الحكم الإيديولوجي مها إلى رسم خريطة العالم. أو ميزان القوى فيه وتوزيعها.
وكذلك هل هنالك من كان يتوقع قبل عشر سنين، أو عشرين سنة، ما يحدث الآن بالنسبة إلى الجزائر، أو منظمة التحرير الفلسطينية، أو فلسطين ولبنان؟ بل هل هنالك من توقع مذبحة بهذا العمق والقدر بين القوات اللبنانية وميشيل عون، وهل توقع أصدقاء الاتحاد السوفياتي أن يشارك حليفهم الاستراتيجي بمشروع التهجير اليهودي إلى فلسطين بمئات الألوف وربما المليون والنصف المليون والمليونين؟ وغير هذا كثير من واقع اليوم.
نخلص من هذا كلها إلى حقيقتين: أن المستقبل علمه عند ربي وأن أحداثه المستقبلية، ولا سيما البعيدة، لا يستطيع بشر أن يرسمها، أما الحقيقة الثانية، فيمكن أن تطلق أحكام على المستقبل، بلا توقيت، وبلا تحديد، تستند إلى القرآن والسنة كما تستند إلى إرهاصات واتجاهات سابقة وراهنة، وذلك كالقول بانتصار الإيمان على الكفر، أو بحتمية زوال دولة إسرائيل، أو سقوط الاشتراكية والرأسمالية، أو حتمية انتهاء سيطرة الاتحاد السوفياتي وأمريكا على العالم، أو انتصار الثورة الإسلامية، أو التغيير الإسلامي، ولكن دون أن يحدد زمن لذلك.
ولهذا يمكن القول أن ضبط صورة الواقع ضبطاً دقيقاً وصائباً قد يسمح برسم حدود فضفاضة للمستقبل القريب لا البعيد (ولنقل في حدود عشر سنوات وكحد أقصى عشرين سنة)، استناداً إلى اتجاهات الواقع الراهن وضمن حدود تلك الاتجاهات وهذا لا مفر منه للعمل المخطط ولكن بحذر شديد وبترك فراغات كبيرة لمفاجآت غير متوقعة هنا وهناك قد تؤثر على الصورة بأكملها.
فإذا كان التنبوء العلمي ممكناً في مجالات العلوم الفيزيائية والكيميائية حين يتعلق الأمر بنوع من التكرارية للظاهرة، سواء أكان في مسارها، أم عند تركيبها، أو تحويلها، أو تدميرها. إلا أن مثل هذا التنبوء العلمي غير ممكن حين يتعلق الأمر بالإنسان والمجتمعات، والإعمار، وتغيير الأنظمة، وانتهاء العهود. ويجب أن نسارع إلى التفريق هنا بين الرؤية المستقبلية المحددة الدقيقة وبين التوقع الذي قد يساعده “الحظ” فيصيب، فيظن أن بالإمكان أن يتكرر هذا التوقع ويصبح ممكناً كقانون عام. كما أن من الضروري الإسراع في التفريق بين القول بحتمية انتصار التغيير الإسلامي في بلد معين، على سبيل المثال، أو تحرير فلسطين، أو توحيد الأمة، أو انهيار الغرب، أو زوال “إمبراطوريتي” أمريكا والاتحاد السوفياتي من جهة وبين ربط ذلك بزمن محدد، ولا حتى بجيل من الأجيال، أو قرن من القرون. لأن مثل هذه التغيرات تحدث عبر طريق طويل متعرج، يحمل في طياته احتمالات عدة كما يحتمل التعجيل في بضع سنين، أو التأجيل عشرات السنين، وأحياناً مئات السنين، فهذا كان شأن قيام الإمبراطوريات وزوالها في التاريخ.. وهذا كان شأن انتهاء الغزوة الصليبية في بلادنا وتحرير القدس منها على يد صلاح الدين الأيوبي. فقد لزم الأمر إلى مائتي عام حتى يتحقق ذلك.
ويمكن بهذه المناسبة أن نشير إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة التي تتنبأ بأحداث مستقبلية، كانتصار الإيمان على الكفر أو دخول المؤمنين المسجد كما دخلوه أول مرة بعد أن يعود اليهود إليه لفيفاً، أو حين يقاتل المسلمون اليهود فيقول الحجر والشجر "يا مسلم يا عبد الله وراء يهودي فاقتله، إلا شجر الغرقد فهو من شجر اليهود. فهذه نبوءات صادقة محتومة الحدوث. ولكن من الخطأ القول أنها ستحدث خلال عشر سنوات، أو على أيدينا، أو على أيدي الجيل الذي يلينا. لأن زمن حدوثها أمر لا يمكن أن يُحدد من قِبَلنا، ولا يجوز أن نحصرها في جيل محدد، أو زمن محدد. لأن مثل هذا الحصر في حالة عدم حدوثه نعرضها للكذب معاذ الله، ولهذا فإن كان من الضروري الوثوق بحتمية هذه المستقبليات، إلا من الحصافة عدم تقييدها بحدود رؤيتنا وتوقعاتنا، وإذا كنا قد رأينا شواهد تشير إلى اقتراب تحققها فما علينا إلا أن نعالج ذلك على سبيل الأمنية والتأمل والتفاؤل لا على سبيل القطع واليقين والتقييد.
إن كل ما تقدم لا يعني أننا لا نملك إمكان قراءة سنن الله في التاريخ، والاهتداء بالقرآن والسنة، والبحث الدقيق في وقائع عالم اليوم، واتجاهات حركة ظواهره وصراعاته، فنتقدم بنوع من الرؤية المستقبلية، ونضع خطة عمل لعشر سنين أو عشرين سنة ونسعى لأن تتحقق ونأمل أن تتحقق؟
بالتأكيد هذا ممكن، بل يجب أن نعمل وفقاً له، ولا يجوز أن نعتبر أنفسنا، أو الإنسان عموماً كريشة في مهب الرياح، لا تملك القدرة على استشفاف مستقبلي، ولا تستطيع التخطيط والعمل والسعي لتحقيق أهداف تضعها لنفسها؟ فالإنسان الفرد يمتلك الإرادة، والجماعات والشعوب والأمم والدول تمتلك الإرادة، والكل سواء من حيث المبدأ في هذا المجال. فإذا كانت هذه الإرادة ليست مطلقة، ولا يمكن أن تكون كذلك، لأنها محكومة بقدر الله وسننه في الإنسان والكون من جهة، ولأنها محكومة بالتصادم والإرادات الأخرى من جهة ثانية، إلا أنها مع ذلك ليست صفراً، وليست ريشة في مهب الرياح وإنما بإمكانها أن تفعل وتؤثر وتسعى لتحقيق أهداف تضعها لنفسها، وقد تفشل وقد تنتصر، وقد تحقق ما هو فوق الفشل، وما هو أقل من النصر الكامل. فعندما نقرأ قوله تبارك وتعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ” (محمد:7) أو حين نقرأ: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد:11) نلحظ العلاقة الحية بين الإرادة والإنسانية وبين أمر الله بتحقيق النصر والتغيير، فقد شاء رب العالمين للإنسان أن يمتلك الإرادة، أو قل العقل، والوعي، والفهم، والقدرة على الحركة الواعية، ولكن وضعه في كون ومجتمعات لهما سنن خارجة عن إرادته، واشترط نصر الله للمؤمنين بنصرهم الله، أي بالتزام قرآنه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومراعاة أسباب التغيير وسننه. ومن هنا نطل على المستقبل لا كعماء مطلق، ولا كحتميات مطلقة الحدوث في زمن محدد ومكان محدد، وإنما نراه يتزن عدداً من الاحتمالات لِتَشكُّل أوضاع الإنسان والعالم فيه. أما تغليب احتمال على آخر، فأمر يتوقف، بداية على المعنيين أنفسهم، بماذا يؤمنون ويلتزمون وكيف يفهمون سنن الله التي وضعها في الكون والإنسان والمجتمعات، وكيف يلتقطون وقائع عصرهم ويدركونها. ولا أحد يستطيع أن يحتم كيف سيكون نصر الله ومدده للمؤمنين هل يكون بالابتلاء دون نصر على الأعداء، أو يكون بنصر قريب أم بعيد. ولا أحد يستطيع أن يحتم كيف ستكون نتائج الصراع في علام الكفر والشرك فيما بين الأطراف المختلفة. هذا على المستوى العام، ولكن هذا لا يمنع من القول أيضاً بإمكان توقع بعض النتائج، بحذر طبعاً، في بعض الحالات المحددة، ولا سيما في المدى القريب جداً، أو في المدى البعيد جداً، أما فيما بينهما فالأمر يزداد صعوبة، فعلى سبيل المثال يمكن أن نتوقع في المدى القريب جداً نتائج معركة محددة بين طرفين إذا ما أمسكنا بأطراف الوضع، كما يمكن أن نتوقع في المدى البعيد جداً نتائج صراع عالمي كبير على مدى عشرات، أو مئات السنين، أما التحولات والتطورات خلال عشر سنوات، أو عشرين سنة، أو ثلاثين سنة فمن غير السهل توقعها بدقة، وربما جاء الوضع مختلفاً عن كل توقع. وإذا كان هذا الرأي منطبقاً على تجربة العالم في الماضي، عموماً إلا أنه أشد انطباقاً على تجربة العالم المعاصر، حيث نلحظ السرعة المذهلة، بل التسارع المذهل، في تطور العلوم والتقنية والصناعة والمواصلات، مما فاق كل توقع قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحيث نلحظ السرعة المذهلة، بل التسارع المذهل، في تطور الأوضاع العالمية. ويكفي أن نلاحظ إن كل حديث عن الوضع العالمي في الخمسينيات اختلف عنه في الستينيات، واختلف الأمر عن هذا أو ذاك في السبعينيات، حتى منتصف الثمانينيات، أما الخمس سنوات الأخيرة فقد شهدت تغيراً جذرياً من بعض الوجوه عن وضع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإن من المتوقع أن تكون أوضاع التسعينيات مختلفة كذلك، وليس من السهل تحديد ملامحها باطمئنان وثقة لأنها تحمل الاحتمالات الكثيرة.
بعد هذا يمكن أن ندخل إلى موضوع قضية فلسطين واحتمالات المستقبل ومدى تأثيرها على المستقبل الإسلامي المنظور، وبداية يمكن أن نبسط الحقائق التالية: 
- 1-
فلسطين أرض عربية إسلامية، وهي في الأساس جزء من دار الإسلام، وشعبها جزء من الأمة العربية والإسلامية. وتمثل مكانة خاصة في العقيدة الإسلامية، وفي موقعها الاستراتيجي على مستوى جغرافية البلاد العربية والإسلامية، وفي مكانتها الاستراتيجية على مستوى, القارات الثلاث في العالم آسيا وأفريقيا وأوروبا.
فعلى مستوى العقيدة فقد خلع عليها القرآن الكريم اسم الأرض المباركة والأرض المقدسة، وجاء إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إليها، وليعرج منها إلى السماء، ليجعلها درة في العقيدة الإسلامية وفي الاستراتيجية الإسلامية. ومن ثم لتصبح النقطة المركزية في الصدام الاستراتيجي بين الإسلام من جهة وبين الكفر والشرك من جهة أخرى، أو قل لتصبح عنواناً لحالة ميزان القوى بين الأمة الإسلامية وبين أعدائها. ولهذا كانت القدس قبلة المسلمين الأولى، ومسجدها الأقصى ثالث الحرمين، وإليها تشد رحال الحجيج بعد مكة والمدينة، وقد ثوى في ترابها عشرات الصحابة والآئمة ودارت عليها ومن حولها أشد الصراعات. ويكفي أن نذكر اليرموك، وأجنادين، وفتح القدس على يد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونذكر حطين وعين جالوت لكي ندرك ما معنى فلسطين بالنسبة إلى العقيدة الإسلامية، والتراث التاريخ الإسلاميين، وإلى الاستراتيجية الإسلامية. ولكي ندرك من جهة أخرى وبالقوة نفسها، ما تعنيه بالنسبة إلى استراتيجية أعداء الإسلام إذا ما أرادوا الانتصار على الأمة وكسر شوكتها. فقد حاربت أوروبا الفرنجية الصليبية مائتي عام للاحتفاظ بها، وخاضت الحرب العالمية الأولى للوصول إليها من جديد.
وقد اقتضت الاستراتيجية الغربية المعاصرة بعد ذلك أن تجرأ البلاد العربية والإسلامية شر تجزئ (عشرات الأجزاء) ويزرع في فلسطين كيان يهودي غريب يتحول إلى دولة عسكرية تعج بالجنود، ومدججة بأرقى الأسلحة الفتاكة ومدعومة بالدول الكبرى، أفضل ما يكون الدعم،بشرياً وعسكرياً ومالياً واقتصادياً وسياسياً وإعلامياً ولهذا كان قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين عنواناً صارخاً على ما آل إليه ميزان القوى بين الأمة العربية والإسلامية من جهة وبين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، في حينه، من جهة أخرى.

- 2-
كانت فلسطين، والقدس على التحديد، عبر التاريخ الإنساني نقطة صدام مركزية فيما بين الإيمان والكفر، كما فيما بين الإمبراطوريات الكبرى ولهذا كانت محط رحال أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وكذلك نوح ولوط عليهما السلام، وكانت مركز توجه كليم الله موسى عليه السلام، وفيها أقام نبيا الله داود وسليمان عليهما السلام مملكتهما، وولد فيها زكريا ويحيى والمسيح عيسى بن مريم عليهم السلام، ودارت في ربوعها معارك المسيح مع كهنة يهود، وتواصل المسار حتى كان الإسراء وجاء الإسلام ليتوج مسيرة التاريخ فوق ربوع فلسطين في الحرب بين الإيمان والتوحيد من جهة وبين الكفر والشرك من جهة أخرى ومن هنا يمكن أن نلاحظ على أن فلسطين كانت نقطة مركزية عبر التاريخ في الصراع بين الإيمان والكفر وستبقى كذلك إلى أبد الدهر.
أما من الزاوية الاستراتيجية العالمية فقد شهدت ربوعها صراعات الفراعنة والآشوريين والبابليين والفرس والرومان واليونان ثم العرب المسلمين والفرنجة الصليبية والمغول والتتار فقد كانت نقطة صدام استراتيجي فيما بين الدول الكبرى على مر التاريخ. فما من دولة تمتلك الجيوش الجرارة والأساطيل الكبيرة وتسعى لتحقيق سيادة عالمية إلا وتجد نفسها مضطرة للإمساك بأرض فلسطين، حتى يمكن القول أن الإمساك بها كان عنواناً للصعود إلى مرتبة السيادة العالمية، وأن إفلاتها كان عنواناً للتدهور من مرتبة السيادة العالمية.
إن هاتين الحقيقتين اللتين اتسمت بهما فلسطين، ولا سيما القدس الشريف، وهما كونها نقطة صدام مركزية بين الإيمان والكفر، أو التوحيد والشرك، وكونها نقطة صدام مركزية فيما بين الإمبراطوريات العالمية المتصارعة السيادة العالمية.. إن هاتين الحقيقتين تساعدان على إدراك علاقة فلسطين بالمستقبل الإسلامي أو قل بمستقبل الأمة الإسلامية. وإذا وضعت هاتان الحقيقتان إلى جانب خصوصية بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، بالنسبة إلى العقيدة الإسلامية والأمة الإسلامية والتاريخ والتراث الإسلاميين، وإذا وضعت هذه جميعاً إلى جانب الحرب العالمية الأولى ونتائجها أي ضمن إطار الصراع العالمي الراهن فيما يتعلق بالدول الكبرى، أو بالأمة الإسلامية أو بالصراع العقدي الحضاري العالمي، فلا بد من أن نقطع بالقول أن من غير الممكن رؤية مستقبل فلسطين بمعزل عن وضع الأمة الإسلامية، أو رؤية وضع الأمة الإسلامية بمعزل عن الوضع في فلسطين. ومن ثم لا يمكن أن نستشف بعض ملامح المستقبل القريب والمتوسط لفلسطين إلا إذا أمكن أن نستشف بعض ملامح ذلك المستقبل بالنسبة إلى الوضع العربي – الإسلامي ضمن إطار الصراع العالمي وتطور الأوضاع العالمية. فالحرب الدائرة في فلسطين بين دولة يهود وبين الشعب الفلسطيني ليست معركة تدور على حلبة بين متصارعين فرديين يتقرر النصر فيها على قوة كل منهما ومهارته. فالعدو الصهيوني هو جزء لا يتجزأ من اليهودية العالمية، وجزء من التحالف الغربي العالمي. وقد دخل الآن من خلال الحركة الصهيونية العالمية بمصالحة مع الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية. فلا يمكن أن تطلق رصاصة في فلسطين، ولا يلقى حجر، أو يغلق متجر، إلا وتسمع أصداء ذلك في واشنطن ولندن وباريس وموسكو. ولهذا لا يمكن أن ترى قوة العدو اليهودي في فلسطين بمعزل عن المعادلة الدولية. أما في المقابل فإن فلسطين وشعبها جزءان لا يتجزءان من دار الإسلام والأمة العربية والإسلامية. فإذا كان الوضع الإسلامي مجزأ مشلولاً عاجزاً لا سيطرة للأمة على مقدراتها وإمكاناتها وسياساتها فإن فلسطين وشعبها سيكونان أضيع من الأيتام على مآدب اللئام مهما جمعاً من قوة ذاتية، وبذلاً من جهد استثنائي. هذا إذا رأينا الوضع في ميزان القوى المادية والوضع الملموس، ولا يغير من هذا الأمر إلا تدخل الغيب، إن شاء رب العالميين فيحدِثَ التغيير في الأمة إيماناً ووحدة وعلماً وقوة وجهاداً، وفي وضع الأعداء انحلالاً وتفسخاً وخراباً حتى ينقلب الميزان، ويحسم الصراع في مصلحة تحرير فلسطين، وهذا ما يمكن أن نسميه حكماً أيديولوجيا يتقرر في مستقبل بعيد، ولا يمكن أن نحتمه في زمن محدد وأن كنا نقول بحتميته، استناداً إلى القرآن والحديث الصحيح، واستشفاقاً لاتجاهات تطور الظواهر العالمية.

- 3-
إن الإدراك العميق للسمات المتعلقة بفلسطين في علاقتها بالقرآن والسنة وبالتاريخ والتراث الإسلاميين، وفي اعتبارها نقطة صدام مركزية في استراتيجية الصراع بين الإيمان والكفر، كما بين التوحيد والشرك،وفي كونها نقطة صدام مركزية في كل استراتيجية عالمية، ولا سيما اليوم في استراتيجية الصراع بين الأمة الإسلامية وأعدائها العالمين على تمزيقها وإخضاعها وشلها، كما أن الإدراك العميق للمخططات الإمبريالية منذ سايكس بيكو ووعد بلفور حتى مخطط قمة مالطا بتهجير اليهود السوفيات إليها لبناء “إسرائيل العظمى” والتي ستصبح خلال بضع سنين قادرة على بسط نفوذها وسطوتها في المنطقة الإسلامية شرقاً وغرباً، إن لم تبسط جيوشها وتحقق هدف “إسرائيل الكبرى”.
إن إدراك كل ما تقدم يفرض على الفلسطينيين والعرب والمسلمين سياسات ومعالجات تكون في مستوى هذه الأمانة والمسؤولية بالنسبة إلى فلسطين، وتكون في مستوى أهميتها المصيرية استراتيجياً، وفي مستوى خطورة مخططات الأعداء. مما يكشف هزال الحلول السياسية المطروحة لهذا الصراع وخداعها حين تشوه حقيقة المشكلة في تحويلها إلى مشكلة حدود، أو مشكلة جزء من الشعب الفلسطيني تحل – بإقامة دولة له أو كيان ذاتي في الضفة والقطاع (بلا القدس قطعاً)، ويكشف عظم التفريط حين يقبل بالسلم مع عدو يحشد قواه البشرية والعسكرية كل يوم ليتمكن وينقض ويتوسع، أو حين تُقبل الشروط المذلة لسلم لا مكان له كشروط الاعتراف بشرعية دولة العدو فوق التراب الفلسطيني المحتل عام 1948 – 1949، والقبول بالتزام سياسات تحاصر التسليح العربي والإسلامي من خلال تعهد الدول الكبرى ومراقبتها وبامتلاك العدو الإسرائيلي حق الردع والإجهاض والقدرة على ذلك.
إن الإدراك العميق والصحيح لطبيعة الصراع في فلسطين يفرض على الأمة الإسلامية عموماً، وعلى الرعب والفلسطينيين خصوصاً، إلا يقبلوا بالدول الكبرى، ولا سيما أمريكا والإتحاد السوفياتي، حكماً ووسيطاً وضامناً في حل قضية فلسطين، لأن ذلك بمثابة الذي اغتصب قرد جبنته فذهب إلى القردة الكبار وطلب منها إنصافه من خلال إعادة تقسيم الجبنة بينه وبين ذلك القرد المغتصب. وذلك بعد أن يئس من انتزاعها كلها منه، فكانت النتيجة أن الجبنة ضاعت كلها، ولم يبق له منها فتات، وهي بين أيدي “القضاة” القردة.
ولا نسحب أحداً يستطيع أن ينكر ما يحمله العدو الإسرائيلي من أهداف توسعية، وما يتسم به من طبيعة عدوانية، وما يحشده من قوى بشرية وعسكرية ومادية، ولا نحسب أحداً يستطيع أن ينكر التزام الدول الكبرى بدولة إسرائيل ورعايتها لها تمكيناً وتأييداً ودعماً، أو ينكر ما فعلته وتفعله تلك الدول في بلاد العرب والمسلمين وما تبينه من مخططات ترمي إلى تحقيق المزيد منا لتمزيق والتجزيء والتطويق والإخضاع والاستغلال ومنع النهوض. ومن ثم لا يجوز لأحد أن يدفن رأسه في الرمال، ويتصور أن من الممكن إشادة سلم مع مثل هذا الواقع، أو أن من الممكن استغفال هؤلاء بالسلم حتى يتحقق التمكين ثم الوثوب.
وإذا قال أحد أن المشكلة ليست مشكلة إدراك، أو فهم، أو وقوع في وهم، وإنما المشكلة مشكلة قدرة وإمكانات و“السياسة هم فن الممكن”. وبهذا يتحول العجز إلى حجة، ويوضع للسياسة تعريف أقل ما يقال فيه أنه “حمّال أوجه” فإذا كانت المشكلة مشكلة قدرة وإمكانات فالحل يكون في البحث عن أسباب امتلاك القدرة والإمكانات، (ومن هنا لماذا لا تعرف السياسة فيما تعرف به، أنها فن امتلاك القدرة والإمكانات ومضاعفة القوى؟) وهذا غير البحث عن حل يضع كل الشروط التي تمنعنا من امتلاك القدرة والإمكانات وتتيح لعدونا أن يضاعف قوته وقدرته أضعافاً، وما الهجرة اليهودية السوفياتية إلا واحدة من تلك الشروط، وما مثل كامب ديفيد العملي إلا واحداً من تلك الشروط. وما الحملات الأمريكية والغربية على مصنع الرابطة في ليبيا والتسلح العراقي ومركز البحوث النووية في باكستان، والتعهدات السوفياتية في تحديد تسليح سورية، إلا أمثلة من تلك الشروط فالسبيل إلى امتلاك القدرة والإمكانات لن يكون إلا عن طريق التحدي والمواجهة وعدم الخضوع لحملات الدول الكبرى ولا سيما أمريكا وشروطها. ثم أي سلم يحل مشكلة القدرة والإمكانات حين يقوم على قاعدة العجز من جهة وعلى قاعدة تفوق العدو من جهة ثانية، وعلى انحياز “القضاة” للعدو (وهم عدو أصلاً) من جهة ثالثة.
وبالمناسبة، يجب أن ألا نفكر أن الصراع الذي خاضته الأمة منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، بالرغم مما كان فيه من ومضات وإشراقات، كان قاسياً ومرهقاً ومفجعاً. فكم من نكسة حلت بثورة مسلحة، وكم من هزيمة حلت بعد حرب، وكم من تبعية حلت بعد استقلال، وعبودية بعد رفع علم الحرية، وقهر بعد إعلان الديمقراطية، وتخلف بعد مخططات تأميم وتنمية، وكم لقيت قضية فلسطين وشعبها من تفريط وتآمر وتخاذل من حكام وزعماء وقادة جيوش، ولكن بالرغم من كل هذا هل نملك ترف اليأس من مقارعة الأعداء. وهل لنا خيار غير خيار الوقوف والنهوض بعد كل سقوط، والمحاولة بعد كل فشل، والتعلم بعد كل خطأ، وهل غير ذلك يمكن أن يبقى أملاً في امتلاك القدرة والإمكانات ليكون في المستطاع التصدي للعدو ومواجهته وردعه ودحره. وهل القبول بشروط وضعتها أمريكا والعدو الإسرائيلي ووافق عليها الاتحاد السوفياتي توقف زحف العدو، أو تضع حداً لأطماعه، فالعدو يكتسحنا ليس لأننا نقاتله، فهو قد جاء أصلاً ليكتسحنا قاتلناه أو لم نقاتله، هادناه أو لم نهادنه. ومن يظن غير ذلك فقد أخطأ في فهم ألف باء هذا العدو وطبيعته وتاريخه وعقيدته وأهدافه، ولم يفعل غير الغرق في بحر الأوهام والضياع.

- 4-
أما بالنسبة إلى المستقبل، ولنقل خلال العشر سنوات القادمة فمن الممكن تقديم رؤية مستقبلية على ضوء المعطيات الراهنة واتجاهات وضع الصراع المحلي والعالمي القائم. ولكن مع التشديد، مرة أخرى، على أن هذه الرؤية يجب أن تؤخذ بحذر شديد لأن من الممكن أن تنشأ تغيرات في الوضع غير مرئية وغير محسوبة، ومن ثم قد تؤدي بالضرورة إلى إعادة النظر بهذه الرؤية. فعلى سبيل المثال لو كتبت هذه الورقة قبل سبعة أشهر من الآن أي في خريف 1989، أو قبل ذلك بسنة ما كان من الممكن أن ترى ظاهرة الهجرة اليهودية الجديدة على ضوء المصالحة التي عقدت بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا في قمة مالطة وعلى ضوء المصالحة التي عقدت بين الاتحاد السوفياتي والحركة الصهيونية العالمية قبيل ذلك، وفي أثنائه، وقد كان من نتيجة هاتين المصالحتين مشروع الهجرة اليهودية السوفياتية الراهنة، والذي هو مشروع مشترك سوفياتي – أمريكي – صهيوني.
فلو كتبت هذه الورقة قبل سبعة أشهر لأدخلت في حسابها المستقبلي موضوع الهجرة ضمن وتائره التي شهدتها السبعينات حتى أواخر الثمانينات. وإذا كان المتوقع ثاقب البصر لأدخلها في حسابها ضمن ضربها بالضعف أو ثلاثة أضعاف. أما أن يتوقعها كما هي الآن، وضمن هذا التوقيت، فكان من الصعب أن يحدث ذلك، أو في الأقل ما كان بمقدور كاتب هذه السطور أن يتوقعها. بل حتى شهرين ما كان أحد ليتوقع أن ترتفع وتائر الهجرة لتتراوح بين 275 ألف إلى 325 في السنة الواحدة بمعدل يتراوح بين 850 إلى 1500 يومياً. لهذا التطور يمكن أن نعتبره قد قلب المعادلة السابقة كلها رأساً على عقب، ومن ثم يكون قد أنهى أمر كل توقع مستقبلي لم يأخذه في الاعتبار، وبهذه القوة، وإنصافاً كانت نشرية “الكاشف” الصادرة عن القسم الاستراتيجي في “مركز الدراسات الإسلامية”، في فيرمني – فرنسا، قد توقعت أن يعزز الكيان الصهيوني بهجرة يهودية سوفياتية تزيد على المليون كثمن لاتفاقية تسوية تنسحب بموجبها قوات الجيش الإسرائيلي، ويكون ذلك كواحد من الأثمان، أو الاستحقاقات التي ستعطي للعدو مقابل تخليه عن جزء من الأرض التي يحتلها. وذلك ضمن تحليلها لاحتمالات التسوية، والتي لم تجعل من الوصول إلى اتفاقية تسوية احتمالاً أقوى. أما أن تتدفق الهجرة بمثل هذه الوتائر بعيداً عن مثل تلك الاتفاقية. أي من خلال صفقة استراتيجية كبرى بين أطرافها: الاتحاد السوفياتي – أمريكا – الحركة الصهيونية فهو أمر ما كان متوقعاً ولا سيما خلال هذه الفترة بالذات.
والآن انتقالاً من حديث الهجرة كمثال لحدوث تطور غير متوقع في زمن محدد يؤثر في المستقبل تأثيراً أساسياً مما يجعل كل توقع مستقبلي لم يأخذه بعين الاعتبار توقعاً مهزوزاً، إلى حديث الهجرة كمعطى راهن تنطلق منه لاستشفاف بعض ملامح الرؤية المستقبلية حول قضية فلسطين والوضع العربي – الإسلامي من حولها.
بقدر أن السنوات الثلاث أو الأربع القادمة قد تشهد وصول مليون إلى مليون ونصف مهاجر يهودي سوفياتي كان متوقعاً في يناير وفبراير (كانون ثان وشباط) من هذا العام، أن تبلغ الهجرة هذا العدد خلال سبع سنوات على أساس وتائر هذين الشهرين مع زيادة معقولة. وإذا بهذه النسبة تقفز قفزات سريعة خلال شهر مارس وأبريل (آذار ونيسان). وذلك كما يبدو، لينتهي السوفيات والأمريكان من موضوع الهجرة المكثفة بأسرع ما يمكن حتى تنتهي الحملة المضادة والتحريض بأسرع ما يمكن ويصبح الأمر واقعاً. ومن ثم تصبح المعدة الفلسطينية العربية – الإسلامية الرسمية في طريقها لابتلاعه وهضمه كما ابتلعت وهضمت من قبل قيام دولة إسرائيل نفسها وتوسعها وفقاً لحدود ما قبل 1967، والإقرار لها بمزيد من الحقوق تحت شعار التسوية السلمية.
لا يحتاج المرء إلى أن يكون ماهراً في الحساب والاستنتاج إذا اعتبر أو وصل مليون أو مليون ونصف مهاجر يهودي سوفياتي إلى دولة إسرائيل سيؤدي إلى إحداث انقلاب جذري في ميزان القوى على مستوى المنطقة كلها. لأن هذا العدد يعني أن يصبح الجيش الإسرائيلي مضاعفاً مرتين أو ثلاث مرات. أي سيكون في المنطقة ثلاثة جيوش إسرائيلية جديدة بالإضافة إلى الجيش الحالي. وربما أكبر من ذلك من الناحية النوعية لأن أغلب القادمين من الشباب والشابات المهرة وذوي الاختصاصات، والذين تدربوا في الجيش الأحمر السوفياتي، وبعضهم حارب في أفغانستان، أن هذا التضخم بقوة العدو خلال الخمس العشر سنوات القادمة سيجعل من إسرائيل قوة كبرى لا على مستوى المشرق العربي (مصر، سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن) وإنما على مستوى العراق والخليج العربي وإيران وباكستان وتركيا وبلدان المغرب العربي والسودان. فوجود جيش من مليون يمكن نقله جواً وبراً وبحراً إلى نقاط بعيدة، ويمتلك غطاء من أسلحة ذرية وكيماوية صاروخية، ودعماً ودولياً عسكرياً، على شكل جسر جوي، وسياسياً وإعلامياً عالمياً سيكون بمقدوره أن يتدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد من تلك البلدان، وربما فرض على بعضها الجزية دون حاجة إلى تحريك جيشه فعلاً.
بكلمة أخرى، أننا في المستقبل القريب سنعيش في ظل ميزان قوى حقق فيه العدو الإسرائيلي تفوقاً ملموساً وخطيراً يمكنه من خلاله أن يتحكم بجزء أساسي من سياسات المنطقة سواء أكان مباشرة أم من خلال أمريكا والاتحاد السوفياتي، حيث يصبح طلب حماية الدول الكبرى ثمناً باهظاً بوجود هذه المعادلة. ومن هنا يمكن أن نقول أننا أمام المرحلة الثانية بعد مرحلة مشروع سايكس بيكو ووعد بلفور. أنها مرحلة مواجهة مستقبل ألف مليون مسلم خلال الخمسين السنة القادمة. فالمؤشرات الراهنة كلها تشير إلى أن مشروع الهجرة اليهودية السوفياتية أكبر من أن يكون مشروعاً للمرحلة الراهنة، وأكد من يكون موجهاً ضد الانتفاضة، أو ضد بلدان المشرق العربي، وإنما هو مشروع المستقبل بالنسبة إلى الدول الكبرى والحركة الصهيونية، مشروع الضربة الإجهاضية للصحوة الإسلامية والمواجهة المباشرة للنهضة الإسلامية واحتمالاتها. أو هو في الأصح مشروع ضبط مستقبل التطور بالنسبة إلى ألف مليون مسلم أخذت تسري في عروقهم صحوة إسلامية تدعو إلى التغيير والخلاص من نتائج الحرب العالمية الأولى: من نتائج سايكس بيكو ووعد بلفور لاستعادة المكانة العالمية للأمة الإسلامية.
فلقاء الشرق والغرب جاء في ظروف تباشير النهوض الإسلامي الجديد، فإذا كان لهذا اللقاء أسبابه الموضوعية، والخاصة، أساساً، بوضع كل من أمريكا والاتحاد السوفياتي والوضع العالمي ككل بما في ذلك الصراع مع أوروبا واليابان والصين وبلدان العالم الثالث، إلا أنه أخذ يلتفت بصورة خاصة، لمواجهة الصحوة الإسلامية واحتمالاتها. ولا يمكن أن يفهم مشروع الهجرة اليهودية السوفياتية الراهن إلا مشروعاً استراتيجياً عالمياً أعد بصورة مشتركة بين أكبر دولتين عظميين: أمريكا والاتحاد السوفياتي. ويراد منه زرع قوة غربية في قلب العالم الإسلامي قادرة على إرباكه وشله ومنع حركته وتقدمه.
ولعل هذا المشروع الاستراتيجي العالمي الجديد يحمل في طياته تعميقاً لمعادلة تجزئة سايكس – بيكو، والمعادلة “الجيو-بوليتكية” للأمة العربية والإسلامية، وعلى التحديد محاولة التحكم بالمياه العربية (النيل، الفرات، نهر الأردن)، والتطويق من خلال أثيوبيا بفتح جبهة السودان من خلال تمرد غارينغ، ومحاولة التحكم بمياه النيل، ومشاركة إسرائيل في منع أن يكون البحر الأحمر بحراً عربياً، ومن خلال الهند في فتح جبهة كشمير – الباكستان بتغلادش، أو تشجيعها لتكون دولة نووية وتلعب دور الشرطي في نطاق المحيط الهندي. ثم العمل على تعميق الخلافات الإقليمية العربية – العربية – والعربية – التركية (ولا سيما التحكم بالمياه) والعربية – الإيرانية. ويتطلب الشطر الأخير من هذه الاستراتيجية تشجيع الحكومات والاتجاهات الحزبية العلمانية لتأخذ موقف العداء من الصحوة الإسلامية.
أي من شعوبها وقضاياها الوطنية كقضية الهجرة ودعم مخطط غارينغ في جنوبي السودان، مما يؤدي إلى ما يشبه الحرب الأهلية فتشعر الحكومات والحركات الوطنية العلمانية بمزيد من الغربة والحاجة إلى حماية الخارج، فتقع أكثر فأكثر في براثن التبعية، وتصبح عاجزة عن امتلاك القوة إلا بالقدر المطلوب لحروب الجيران، أو الحرب الداخلية أما مواجهة العدو الصهيوني، أما مواجهة تحديات الاستقلال والوحدة والتنمية، أما تحقيق الوحدة الداخلية في ظل المحافظة على حرية الصحافة، والكلمة، والرأي، وتشكيل التنظيمات، والمنافسة الشريفة، للوصول إلى الحكم فكل هذه تصبح من المنسيات ليحل مكانها نقيضها.
من هنا يمكن القول أن مخطط الهجرة اليهودية السوفياتية ماض على قدم وساق ليصبح واقعاً خلال بضع سنين، ومخطط المزيد من التجزيء والتمزيق العربي – العربي، والعربي – الإسلامي ماض بدوره. وإن الأمر لكذلك بالنسبة إلى مخطط المزيد من تغريب الحكومات والأحزاب الوطنية السياسية ودفعها إلى محاربة الصحوة الإسلامية هو أيضاً ماض في سبيله ويلقي الآذان الصاغية. أما في المقابل فأغلبية القوى العربية والإسلامية المسيطرة على مقاليد الدول، عموماً، لم تظهر حتى الآن أي دليل يدل على ارتفاع إلى مستوى التحديات، ولا سيما تحدي مخطط الهجرة اليهودية السوفياتية، كما أن الأوضاع الداخلية في أغلب البلدان العربية والإسلامية تتفاقم نحو الأسوأ ففي الوقت الذي تأخذ فيه الحركة الشعبية العفوية سمة إسلامية يزداد القلق من ذلك، وتزداد إجراءات المواجهة التحضير للمواجهة. مما يعني أن القضية الفلسطينية والأمة الإسلامية ستواجه في العشر سنوات القادمة، إذا ما استمرت الأوضاع الراهنة، مزيداً من التدهور والتفكك والضعف، ولا يوقف هذا الانهيار إلا مخطط عربي – إسلامي رسمي وشعبي يقوم على التعاون والتكافل والتضامن لمواجهة هذه التحديات، وهو أمر بعيد الاحتمال، وغير مرئي في المدى القريب في الأقل. وأما الخيار الآخر فالبحث عن التغيير في عدد من البلدان لتعاد صياغة المعادلة العربية والإسلامية الرسمية والشعبية على أسس جديدة، وهذا الاحتمال قد يكون بعيداً، وقد يكون قريباً، وفقاً لتوفر عدد من الظروف والشروط، لأن ما من أحد يستطيع التحدث عن حتميات ستقع في وقت قريب، وفي مكان محدد. ولهذا لا مفر من العمل من قبل القوى المجاهدة الحية في الأمة على مستويين: أحدهما مواجهة مؤامرة الهجرة بكل الوسائل المتاحة فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، وحث الدول العربية والإسلامية، مجتمعة ومنفردة، لاتخاذ خطوات رادعة ومواجهة لمخطط الهجرة، وثانيهما العمل على إحداث التغيير في كل حالة تتقاعس وتتحول إلى معوق خطير يهدد الأمن الاستراتيجي (الأمن القومي) على مستوى البلاد الإسلامية مجتمعة ومنفردة.
ويبرز في هذا المجال الدور الخاص الذي يمكن أن يلعبه “مركّب”، أو معادلة القضية الفلسطينية ومؤامرة الهجرة، والانتفاضة، والجهاد المسلح، في توعية الأمة وكشف معايب الوضع العربي – الإسلامي، وفي عملية التحريض على المواجهة والتغيير. وهذا ما سيجعل من فلسطين، عملياً، نقطة مركزية في رسم صورة المستقبل للأمة على أساس الإسلام. كما سيجعل منها في المقابل نقطة مركزية في رسم صورة المستقبل فلسطينياً وعربياً وإسلامياً على أساس المخططات المعادية آنفة الذكر. لهذا تتبنى الاستراتيجية الدولية خطاً تكتيكياً يهدف إلى إخماد الانتفاضة، أو إضعافها، إلى حد يُذهب تأثيرها في الأمة. وستُهيأ ظروف لنوع من التحرك السياسي باتجاه التسوية، حتى في الحدود الدنيا، لاستخدامه في التعمية عن الهجرة، وفي تحقيق هدف إخماد الانتفاضة، ومحاربة القوى الإسلامية، وشق الصفوف على المستوى الفلسطيني أولاً، ثم على المستوى العربي والإسلامي العام ثانياً: فالعشر سنوات القادمة ستظل تشهد طرحاً للتسوية، ومشاريع تسوية، وربما خطوات عملية، محدودة، وجزئية، وهزيلة، أو بلا خطوات عملية مع إبقاء باب “الأمل” مفتوحاً ليساعد على استمرار الأمر الواقع وتكريسه. وكان هذا هو الحال منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى. لأن انسداد الأبواب كلها سيدفع الجماهير إلى طلب التغيير بإلحاح شديد. ولهذا نلحظ البطء الشديد الذي تتحرك فيه أمريكا لطبخ تسوية ما، كما نلحظ السعي الدائم لإبقاء ولو بصيص من الأمل لاحتمال التحرك “الجاد” والوصول إلى تسوية ما قائماً. فإذا بقي الوضع على صورته هذه منذ عشرات السنين حتى اليوم فستكون صورة المستقبل مزيداً من انفتاح الإمكانات أمام الصراع، ومزيداً من الفسحة لتقدم الصحوة الإسلامية، أما إذا أنجزت تسوية ما ولو جزئية ومحدودة وهزيلة، فالصراع سيحتدم أيضاً ولكن في غير مصلحة الانتفاضة والجهاد بادئ ذي بدء، ولكنه سرعان ما سيتحول إلى مصلحة الانتفاضة والجهاد، بعد حين، ولا سيما بعد أن يكتشف هزال التسوية وتتكشف مخاطرها واقعياً وعلى الأرض.
على أن الانتفاضة والجهاد في فلسطين سيمارسان في الحالتين تأثيرهما الإيجابي في الصحوة الصحوة الإسلامية، عموماً، كما سيظلان في حالة التأثير سلبياً وإيجابياً بالنسبة إلى تطورات الأوضاع العربية والإسلامية. فالانتكاسة في فلسطين ممكنة جداً في حالة الانتكاسة على المستوى العربي والإسلامي. وإن كان العكس ليس بالضرورة. منطبقاً على احتمالات التغيير هنا وهنالك، لأن كل نكسة في فلسطين ستكون حافزاً لتغيير في الأوضاع العربية والإسلامية.
بيد أن هذه الصورة للمستقبل ستظل قابلة للتغيير، بهذا القدر أو ذلك مع كل تغيير هام على المستوى العالمي في علاقات الدول الكبرى ببعضها، أو في إعادة تشكل المحاور والتحالفات الدولية العالمية، فعلى سبيل المثال إلى أي مدى يمكن أن تستمر المصالحة الراهنة السوفياتية – الأمريكية، والسوفياتية الصهيونية وهي التي تحمل في داخلها تناقضاتها وعوامل هدمها. فقضية ليتوانياً قد تشكل عامل هدم لهذه المصالحة ولا سيما إذا لم يتواطأ الغرب، بشكل أو بآخر، والمخطط الروسي في ليتوانياً، وغلّب دعم ليتوانياً على استمرار تلك المصالحة. ولكن في الحالتين ستترك هذه القضية جراحاً في جسد تلك المصالحة. وإن مبلغ تلك الجراح سيترك آثاره على معادلة الوضع العالمي. وإذا ما تكررت السهام قد ينتقل الوضع العالمي إلى مرحلة جديدة. ثم إلى أي مدى يمكن أن تمضي أوروبا في موضوع وحدتها الاقتصادية، وأين سيكون موقعها في ظل المعادلة الجديدة الراهنة للعلاقة السوفياتية – الأمريكية. والأمر نفسه يجب أن يقال عن اليابان والصين. ثم إلى أي مدى يمكن أن تتحقق الوحدة الألمانية وما سيكون تأثيرها في الوحدة الأوروبية وفي العلاقات الدولية. وأخيراً هل ستجد الدولة الإسلامية ودول العالم الثالث صيغة جديدة بديلاً عن صيغة دول عدم الانحياز، ومقولات مرحلة الانقسام العالمي إلى معسكرين (الأطلسي ووارسو) من أجل مواجهة معطيات العلاقة الأمريكية – السوفياتية الجديدة.
ولهذا إن مرحلة التسعينيات ستظل مرحلة تحولات واحتمالات على مختلف المستويات، ولن تكون مرحلة استقراراً، أو مرحلة محددة الملامح على ضوء ما نشهده اليوم من أوضاع وعلاقات. ومن ثم فإن كل تشكل للعالم على ضوء هذه التحولات والاحتمالات سيترك بصماته على قضية فلسطين وعلى الصراع فوق أرضها وعلى الصحوة الإسلامية كما على الدول العربية والإسلامية مجتمعة ومنفردة.
وبعد:
فإذا كانت هذه الرؤية هي الأقرب للواقع واحتمالاته فإن على القوى الإسلامية كما على القوى الوطنية والدول فلسطينياً وعربياً وإسلامياً أن تخط على أساس اتجاهات الوضع الراهن بما تملكه من قدرات تحت السيطرة، ويمكن تعبئتها، ودفعها، إلى أمام إما مواجهة التطورات التي هي خارج السيطرة، والتي تخطط لها القوى ذات السطوة العالمية فمن غير الممكن مواجهتها ومعالجتها إلا إذا أحسنّا قراءة واقعنا، وواقع أعدائنا، وأحسنّا ترتيب بيتنا الداخلي، واتقنا تعبئة قوانا وقدراتنا التي تحت سيطرتنا وضمن إمكاننا، ولكن قبل هذا وذاك، يجب أن نخلص في إيماننا بالله واعتمادنا واتكالنا عليه، ونوفق في تدبرنا للقرآن والسنة على أفضل ما يكون التدبر ونتعلم من دروس تاريخنا القديم والحديث.
والله الموفق



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 2410 / 2176720

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع كتاب وقضية   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2176720 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40