السبت 17 كانون الأول (ديسمبر) 2022

محمود درويش وغواية النقد: الشعر الهادف وديناميكية القصيدة

السبت 17 كانون الأول (ديسمبر) 2022

- ابراهيم خليل

على الرغم من كثرة المؤلفات والبحوث التي تناول فيها أصحابها محمود درويش، إلا أن أحدا منهم لم يلتفت إلى الجانب النقدي منه، وهو الجانب الذي حظي بعناية سهيل الفتياني في كتابه الجديد الذي صدر عن دار ابن الجوزي (2022) في تمهيد وخمسة فصول وخاتمة ومسرد للمصادر والمراجع.
ومن المبادرات التي تشير لما يعتزم المؤلف إظهاره من شخصية الشاعر درويش، مما لم يسبق إليه الباحثون ما يورده في تمهيده الموسع عن غواية النقد. فهو يرى في الشاعر الراحل (1942- 2008) ما يراه غيره في الشاعر الكبير ـ أيا كان- ناقدا حصيفا، بارعا، لا يدفع بقصائده للنشر، ولا يذيعها في الناس، إلا بعد أن ينظر فيها نظرة الناقد غير المجامل، ولا المتحيز لما يكتبه شعرا أو نثرا. وإذا كان بعض النابهين من أمثال أفلاطون والكندي نورثروب فراي ورينية ويلك، قد أكدوا أن الشاعر قلما يكون ناقدا، وإذا كان ناقدا فقلما يكون بارعا في نقده، والأرجح أن يكون منحازا لمذهبه الشعري، فإن ثمة من يقولون شيئا غير هذا. ففي مقالة لإليوت عن «مهمة الشاعر والناقد» يؤكد أن الشاعر هو أول من يمارس النقد إزاء نصه الشعري. فما إن ينتهي من كتابته، وتزايله حمى الإبداع، حتى يأخذ باسترداد وضعه الطبيعي الذي كان عليه قبل الكتابة، أي قبل أن تهبط عليه لحظة الوحي، وتسكرهُ نشوة الخلق، فيعود إلى ما كتبه، فيصحّح هنا ما لا يصحِّحه هناك. ويضيف هذه الكلمة أو تلك العبارة. ويقدم جملة ويؤخر أخرى. ويحذف ما هو جدير بالحذف ويزيد ما يستحق الزيادة. ولا يرضى عما كتبه إلا بعد أن يجري قلمه فيه مرارا وتكرارا. ويظل على دأبه إلى أن يبلغ في ذلك حدا تصبح قدرته على التصحيح، والتنقيح، معدومة أو كالمعدومة. ولهذا، فإنّ في إهاب كل شاعر كبير، ناقدا كبيرا. سواءٌ اعترف بتلك الحقيقة، أم لم يعترف. فالشاعر ناقدا، أو الناقد شاعرا، واقع لا سبيل إلى إنكاره، ولا مناص من البحث فيه بغية التركيز عليه، وإظهاره. وهذا ما يتصدى له الفتياني في كتابه الذي يُعنى فيه بآراء درويش.
ففي مقابلاتٍ، وكتابات نثرية للشاعر، سبق نشرها في كتب منها: «شيء عن الوطن» 1971 و»يوميات الحزن العادي» 1973 و»وداعا أيتها الحرب» 1974 و»في وصف حالتنا» 1987 و»ذاكرة للنسيان» 1987 و»الرسائل» 1990 و»مقالات وحوارات» 2009 و»الأعمال النثرية الكاملة» 2009 تضاف إلى ذلك مقالاته في «الكرمل» ففي هذا كله تتناثر آراؤه في الشعر بصفة عامة، وفي قضايا أخرى يهتم بها الشاعر والناقد، على حد سواء، كقضية الواقعية في الأدب، والالتزام في الشعر، وما قيل أو يقال عن الإبداع الشعري، وهل هو إلهام ينبثق في لحظة معينة لا سيطرة للشاعر عليها، أم أنه صنعة تتطلب مهارات تكتسب بالدربة والممارسة، وتكرار المحاولات. وعن علاقة الشاعر باللغة، وهل تنقاد له طيعة؟ أم يجد فيها عنتا فتضطرّه لمصاولة اللسان، والمراهنة على امتلاك أعنّة البيان؟ وما هي نظرة الشاعر لبناء القصيدة؟ وهل الشعر لا يكون شعرا إلا إذ كان منظوما وفقا لقوانين العروض؟ أم يمكن وجوده في ما لا وزن فيه، ولا عروض، أي: هل يمكن للنثر أن يكون شعرا وللشعر أن يكون نثرا؟ فمثل هذا السؤال لم يجابه شاعرا كالمتنبي أو أبي فراس أو المعري، لكنه واجه كثيرين في عصرنا هذا كيوسف الخال، ومحمد الماغوط، وجبرا إبراهيم جبرا، وأنسي الحاج، ومحمود درويش، وآخرين كثيرين.. فما رأي الشاعر درويش في هذه الإشكالية، وكيف نميّز الشعر الذي يخلو من الموسيقى عن ذلك الذي يجذبنا من النظرة الأولى بما فيه من غنائية عذبة الإيقاع، ومن موسيقى لها في المتلقي فعلٌ كفعْل السِحر؟

الالتزام في الشعر

يرى الفتياني أنّ لمحمود درويش ملاحظ عن الشعر من حيث طبيعتُه، وعن النص الشعري الجيد، وعن رؤيته للشعر الذي يكتبه الآخرون.. بيد أن درويشا لا يروم بهذه الملاحظ أن يحتل مقعدا في نادي الناقدين، حسبه أن يوضح ما يرتئيه من آراء في غير توصيف نظري، ولا تقعيد نقدي، يُدرجه في هذه المدرسة، أو تلك، من مدارس النقد. أما عن إشكالية الالتزام في الشعر فلا ريب في أن موقف الشاعر درويش تطور تطورا كبيرا، منتقلا من هيمنة النسق الواقعي الماركسي الذي يُحتّم عليه التغني بالعامل، والفلاح، والإعلان مباشرةً عن موقعه الطبقي الذي يحيل القصيدة لشيء يشبه المنشور الحزبي، أو الإلحاح على تضمين القصيدة تعاطفا مع المجتمع المنخرط في مسار التغيير، والتحرر الشامل من العبودية، والاستغلال الاقتصادي البشع. ويستنتج من هاتيك الإشارات التي ترد في كتب درويش أن له موقفا حاسما من هذا لا في شعره وحده، بل في شعر غيره. فالشعرُ ينبغي له أن يتخطى مقاومة العَسْف الإسرائيلي إلى تبني قضايا الإنسان في صراعه مع الطغيان، والاستبداد. ودرويش في رأي المؤلف الفتياني لا يفتأ يلحّ، في جل ما كتبه من مقالات، وما صرح به في المقابلات، بأنه يتجاوز الإطار الوطني والقومي إلى الإطار الإنساني. فالشاعر العربي عامة، والفلسطيني بصفة خاصة، لا تنحصر معركته مع المعتدين الإسرائيليين، لكنه يدافع بشعره أيضا عن الإنسان حيثما كان. وهذا يتطلب تداخل الخاص والعام، القومي مع الإنساني، الذاتي مع غير الذاتي. فالفصل بين وجدان الشاعر وما يحيط به شيء يأباه الشعر الحقيقي؛ إذ كلما أوغل في إنسانيته ازداد تجسيدا وقربا من عالمه الذاتي، وشَجَنِه الشخصي.

حذلقة نقدية

هذا هو رأي الفتياني في موقف درويش من إشكاليَّة الالتزام، والشعر الهادف. أما ما يثيره بعض الدراسين من أنّ شعره المبكر خيرٌ وأرقى من شعره المتأخر، أو العكس، فلا يعدو كونه ضربا من الحذلقة النقدية. لأن درويشا مرّ شعره بمراحل اجتاز فيها الإطار الضيق المحدود للرؤيا، إلى أفق أوسع يتطلب لغة، وصورا، وبناءً فنيا مبتكرا، ورموزا حيوية متجددة. يتزامن هذا التوسع على مستوى النسيج الفني للقصيدة مع التوسّع في أفق الجمهور الذي يتلقى شعره. ولم يعد من المناسب أن يخاطب جمهوره هذا بقصيدة كقصيدة «سجل أنا عربي».. إذ بتوجهه لجمهور أكثر اتساعا، وشمولا، يتجاوز المحلي إلى العالمي، ولا بد من استخدام لغة شعرية أخرى، مع أن موقفه لم يتغير، أي: يتغير الشكل ولا يتغير الجوهر:
القصيدة فوقي
وفي وسعها
أن تعلّمني ما تشاء
أفتَحَ النافذة
وأديرَ تدابيريَ المنزليّة
بين الأساطير.. في وسْعها
أنْ تزوِّجني نفسها.. زمنا
القصيدة تبعد عني

فهذا الشعر، بلا ريب، مختلفٌ اختلافا كببيرا عن «سجل أنا عربي» من حيث اللغة والأسلوب. وإنْ كان الاثنان في مستوى واحد من الجودة، كل وفق السياق، والإطار، الذي يقال، أو يقرأ فيه. فمحمود درويش مثلما يلحّ في مقابلاته دائما يتجاوز الإطار السلفي الذي يحدُّ من قدرته على الخلق الإبداعي، أو الانطلاق خلف رؤى جديدة، وتنويعات لغوية مبتكرة تشهد له أنه شاعرٌ لا يمْتَحُ بدلاء الآخرين، ولا يكرّرُ نفسَه إلا نادرا.
ويتوقف المؤلف إزاء عدد من قصائد درويش، وبعض مقابلاته، مستخلصا أن درويش يرى في قصيدته تفاعلا حميما بين الوعي واللاوعي. فانبثاق القصيدة يعودُ إلى اللاوعي، ثم تبرز فيها المهارة، والصنعة، بعد ذلك. فالشاعر في رأي درويش يظل مترددا في تحديده لموقع الذات من عملية الخلق، وهل هو الذي يقود القصيدة، أم هي التي تقوده. والفتياني، لا يفتأ يكرر في الفصل الثاني من كتابه تبنّي درويش للفكرة القديمة المتجددة، وهي أن الشعر ضربٌ من الإلهام والوحي. ويضيف إلى هذا عناية درويش الخاصّة باللغة، إذ الجمالية الشعرية في رأيه لا توجد خارج اللغة، فبها يرسي الشاعرُ قواعِدَ سَفَرٍ رَمزية تكسر ذاتها لتبني، وفيها نعرب عن حريتنا، وسلامنا، مثلما جاء في إحدى رسائله إلى سميح القاسم (2011) واستحوذت فكرة تجديد اللغة الشعرية على تفكيره. وتملكته الرغبة في أن تكون له بصمته الخاصة على لغة عِمادها انتهاكُ القيود والتراكمات والأنساق المألوفة التي تثقل كاهل التجربة، وتحد من حريتها الإبداعية. وفيما يتعلق بقصيدة النثر يؤكد الفتياني أنَّ غياب الموسيقى يتطلب بديلا، وهذا البديل هو تكثيفُ الاختيارات الأسلوبية المتعددة؛ كاللجوء إلى السرد في ما يشبه القصيدة – الحكاية. والمفارقة الساخرة. ويعتقد المؤلف أن شعر درويش في «أثر الفراشة» ـ مثلا- لا يقل جودة وسحرا عن شعره في غيره من الدواوين.
ويبدو الفتياني في فصله الخامس وقد ابتعد عن الموضوع الذي اختاره وحدَّدهُ العنوان، وهو الحديث عن درويش ناقدا. فهو يقفنا فيه على دلالة الاسم، ودلالة المكان، والمرأة، والآخر. وهي دلالاتٌ لا علاقة لها بغواية النقد. وكان الأجدر به أن يتناولها في الفصل الموسوم بعذابات اللغة. فما معنى أنْ يشير لمعجمه الشعري، أو لبنية الحكاية في القصيدة، أو لرمزية الاسم، أو لرمزية المكان، ورمزية الأرض، واطّراد الأفعال اطرادا يعبر عن ديناميكية القصيدة، وإلى المفارقة الساخرة، وغير الساخرة، التي تتعلق بالحضور والغياب، في حين أن لديه فصلا عن اللغة عند درويش؟
وأيا ما يكُنِ الأمْرُ، فإن للفتياني في هذا الكتاب فضل التنبيه على ما لدى درويش من أنظار نقدية، أو شِبْه نقدية، متبصرة في شعره، وفي شعر غيره. وما ينبغي أن يكون عليه الشعر الهادفُ، الملتزم، وموقفه الجدلي من اللغة الشعرية، والوَزْن، والإيقاع، ومن فكرة الخلْق الذي تندمج فيه ثنائية الوعي واللاوعي.

ناقد وأكاديمي من الأردن



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2184584

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2184584 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40