السبت 3 كانون الأول (ديسمبر) 2022

“جبل الجرمق”.. تاريخه وأهميّته وأسباب تسميته بهذا الاسم

السبت 3 كانون الأول (ديسمبر) 2022

- مصلح كناعنة

بعد مقتل 45 مستوطناً وجرح المئات خلال تدافع، تداولت وسائل الإعلام اسم جبل الجرمق وعرّفت الناس به بطريقة خاطئة.. أين يقع هذا الجبل؟ ولماذا سُمّي بهذا الاسم؟ وما معنى كلمة جرمق؟

في ليلة 30 نيسان/أبريل من العام 2021، احتشد نحو 25 ألفاً من اليهود المتديِّنين (الحريديم) في مبنىً قديم على سفح جبل في شمال الجليل يُدعى في الإعلام العبري “هار ميرون” (جبل ميرون)، للاحتفال بما يسمونه“عيد الشعلة” (لاغ بعومِر) اليهودي، وكان هذا المبنى القديم لا يتّسع أساساً إلا لثلاثة آلاف شخص، فأدى الضغط البشري الهائل إلى انهيار المدرَّج داخل المبنى، فتدافعت الحشود للهرب من المبنى عبر ممر ضيِّق، الأمر الذي أدى إلى مقتل 45 شخصاً وجرح المئات.

على الفور بدأت وسائل الإعلام بتناقل أنباء “الكارثة في هار ميرون”. وسرعان ما اكتشفت وسائل الإعلام العربية أن “هار ميرون” هو نفسه الجبل الذي يُدعى بالعربية “جبل الجَرمَق” في شمال فلسطين المحتلة. هكذا تصدَّر “جبل الجرمق” الأخبار في الإعلام العربي والعالمي لأيام عدة.

وحيث أن معظم الناس في العالم العربي لم يكونوا قد سمعوا بجبل الجرمق من قبل، فقد اضطرت وسائل الإعلام العربية إلى إيراد بعض المعلومات الجغرافية والتاريخية عن هذا الجبل.

وفي محاولة للرد على تساؤلات من نوع :“أين يقع جبل الجرمق؟” و“لماذا سُمّي بهذا الاسم؟” و“ما معنى كلمة جرمق؟”، وصل الأمر ببعض المواقع الإعلامية العربية إلى ذكر بعض التفسيرات لهذا الاسم العربي “الغريب” للجبل.

وكما هي الحال عادةً في التقارير الصحفية في مثل هذه الحالات الطارئة، كانت هذه التفسيرات للاسم العربي لجبل (الجرمق) ارتجالية متسرعة، فكانت إما خاطئة، أو مُجتزأة، أو تفتقر إلى الدقّة العلمية في تمحيص المصادر وتوخي الحذر في البحث عن الحقيقة، وفي كل الأحوال كانت تعاني من تحيُّز ثقافي قومي واضح.

وعلى الفور بدأ آلاف الناشطين العرب على منصات التواصل الاجتماعي بتفعيل آلية “النسخ واللصق” لنشر هذه التفسيرات الصحفية المتسرعة، وهكذا فما لبثت الاجتهادات الشخصية أن تحولت إلى تفسيرات موضوعية، وتحولت الحكايات الشعبية المُرتجلة إلى حقائق تاريخية مُعتمَدة.

ولذا فإننا سنحاول في هذه الورقة البحثية أن نتوخّى الدقة والموضوعية أثناء الغوص في عمق الموضوع، لعلنا نتمكن من تبيان الإشكاليات فيه والاقتراب قدر الإمكان من المقدرة على البت في الأمر ووضع النقاط على الحروف. وعلينا أن ننوِّه في البداية إلى أن موضوع جبل الجرمق وأسباب تسميته بهذا الاسم هو أمر جدلي خلافي شائك ومحفوف بالمخاطر، ويحتاج إلى الكثير من إعمال الفكر في الربط والتحليل في سبيل الوصول إلى النتائج.
حقائق عن جبل الجرمق

قرية ميرون المحتلة
قرية ميرون المحتلة

جبل الجرمق هو أعلى قمة في فلسطين المحتلة، يبلغ ارتفاعه الآن 1204 أمتار عن مستوى سطح البحر، وكان ارتفاعه الطبيعي يبلغ 1208 أمتار إلا أن جيش الاحتلال الإسرائيلي اقتطع 4 أمتار من قمته لإنشاء قاعدة للاتصالات والمراقبة تابعة لسلاح الجو، وهي قاعدة عسكرية مغلقة، وأعلى منطقة مفتوحة للجمهور في الجبل هو طريق دائري يحيط بالجبل تحت القمة بحوالى 100 متر، تتفرع منه مسارات للمشي حول الجبل.

يقع جبل الجرمق في وسط سلسلة جبال تمتد حوالى 50 كيلومتراً على طول الطرف الشمالي من الجليل الأعلى، تبدأ بالارتفاع تدريجاً من أطراف السهل الساحلي غرباً وتنتهي على أطراف سهل الحولة وبحيرة طبريا شرقاً، وهذه السلسلة الجبلية هي بمثابة النصف الجنوبي لكتلة من المرتفعات تصل الجليل الأعلى في شمال فلسطين بجبل عامل في جنوب لبنان.

وجبل الجرمق هو أكثر بقاع فلسطين تعرُّضاً لهطول الأمطار، حيث يبلغ المعدل السنوي للأمطار في الجبل حوالى 900 مليمتر، بينما يبلغ المعدل السنوي العام للأمطار في فلسطين حوالى 380 مليمتراً، وفي أغلب الأعوام تتساقط الثلوج على جبل الجرمق وتكون قمته مغطاة بالثلوج في فصل الشتاء. ولذا ينتشر عدد كبير من العيون والينابيع في السفح الشمالي للجبل، تجري مياهها الغزيرة في عدد كبير من الجداول والوديان التي تتجه إما غرباً لتصب في البحر الأبيض المتوسط وإما شرقاً لتصب في بحيرة طبريا.

أشهر هذه الوديان التي تنبع من جبل الجرمق هو “وادي ميرون” الذي يمر بمحاذاة الطرف الجنوبي لقرية ميرون ليلتقي بوادي الطواحين الذي ينتهي بوادي الليمون، ويلتقي وادي الليمون مع وديان وجداول أخرى في وادي القِرن الذي يتجه شرقاً ليصب في الزاوية الشمالية الغربية لبحيرة طبريا.

ولعل وادي ميرون هذا هو نفسه الوادي الذي ذكره ياقوت الحموي (1178-1229م) في “معجم البلدان” باسم “وادي الجرمق” الذي قال إنه يصب في وادي القِرن ووصفه بأنه “كثير الأترُج والليمون”، وذكر أنه “قُتل فيه علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن جميع الغساني أخو أبو الحسن، بعد سنة 450 ه” (المجلد الثاني، ص 129).

الكهنة والحاخامات اليهود الذين ارتبط إسمهم بهذا الجبل، والذين تُنسب إلى مقاماتهم احتفالات اليهود المتدينين الحالية في عيد “لاغ بعومر” اليهودي، فلم يسكن أحدٌ منهم في جبل الجرمق ولا ارتبطوا به لا في حياتهم ولا في مماتهم.

ومع أن عدداً كبيراً من القرى العربية الفلسطينية منتشر على الجبال والهضاب المحيطة بجبل الجرمق، مثل الجش وحرفيش وبيت جن والبقيعة وكفر سميع وترشيحا، وكذلك عدد كبير من القرى الفلسطينية المهجَّرة مثل ميرون وسعسع وعين الزيتون والمنصورة والصفصاف وسُحماتا ودير القاسي (وكلها تقع الآن ضمن “محمية ميرون الطبيعية” التي أنشأتها “إسرائيل” في نهاية عام 1965، وهي أكبر محمية طبيعية في فلسطين)، إلا أن جبل الجرمق نفسه لم يشهد سوى محاولات متقطعة فاشلة للاستيطان البشري، وكانت كل هذه المحاولات تتمركز في بقعة صغيرة تقع تحت قمة الجبل بحوالى 100 متر من الجهة الجنوبية الغربية، وهي البقعة التي يدعوها المؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ في مؤلفه الشهير “بلادنا فلسطين” باسم “خربة الجرمق” (مجلد 6، ص 64).

وفي خربة الجرمق، و“خربة زبُود” المحاذية لها، تم العثور على بقايا كنعانية واضحة المعالم تشهد على المحاولات الأولى للاستيطان البشري على جبل الجرمق، من جملتها بيوت ومعاصر زيت ومعابد وقبور منقورة في الصخر.

وفي العام 1838 مرَّ بالقرب من “خربة الجرمق” الرحالة والمؤرخ الأميركي إدوارد روبنسون (1794-1863م) فوصفها بأنها تقع “على حرف جبل مرتفع وراء رأس وادٍ قصير ينحدر إلى الشمال الغربي من وادي القرن” (مجلد 1ـ ص 188). وعلى الرغم من أن روبنسون يصف خربة الجرمق بأنها “قرية درزية”، فإنه يُنهي وصفه لها بهذه العبارة: “ويُقال أنها مهجورة في الوقت الحاضر” (نفس المصدر). والواقع أن آخر محاولة للسكن في هذه البقعة على جبل الجرمق كانت عام 1834، من قبل رجلين يهوديين هما شخص يدعى “يسرائيل” وابنه “نيسان”، ولكن حين مر روبنسون بالقرب من الموقع بعد ذلك بأربع سنوات فقط (عام 1938) فإنه لم يجدهما هناك، ولم يجد غيرهما من البشر، وما قوله بأنها “قرية درزية” سوى خطأ وقع فيه بسبب حكمه عليها من خلال ما عرفه عن القرى القريبة منها.

أما الكهنة والحاخامات اليهود الذين ارتبط اسمهم بهذا الجبل، والذين تُنسب إلى مقاماتهم احتفالات اليهود المتدينين الحالية في عيد “لاغ بعومر”اليهودي، فلم يسكن أحدٌ منهم في جبل الجرمق ولا ارتبطوا به لا في حياتهم ولا في مماتهم، وإنما الادعاء بوجودهم التاريخي ووجود قبورهم ومقاماتهم مرتبط كله بقرية ميرون التي تبعد حوالى 6 كيلومترات إلى الشرق من جبل الجرمق، في منتصف المسافة تقريباً بين صفد وسعسع.
“هار ميرون” والأسماء الأخرى

يُدعى جبل الجرمق باللغة العبرية “هار ميرون” (جبل ميرون)، وهو الاسم الرسمي الذي تعتمده سلطات الاحتلال الإسرائيلي ومن بعدها الأوساط الإعلامية والأكاديمية العالمية الناطقة باللغات الأوروبية.

ويعتقد الكثير من العرب أن هذا الاسم العبري مرادف للاسم العربي، بمعنى أنَّ الاسمين تواجدا معاً عبر التاريخ فكان هذا الجبل يدعى طوال تاريخه إما بالاسم العبري “هار ميرون” وإما بالاسم العربي “جبل الجرمق”، وهذا خطأ فادح.

فالاسم العبري “هار ميرون” هو اسم “إسرائيلي” صهيوني بحت، لا يزيد عمره عن 70 عاماً، يعود تاريخه إلى العام 1952 حين أطلقته على الجبل “اللجنة الحكومية للأسماء” التي أنشأتها حكومة “إسرائيل” الأولى من أجل تهويد المشهد الجغرافي-الثقافي للتضاريس الفلسطينية، وبعد نقاشات طويلة بين أعضاء هذه اللجنة تم اعتماد هذا الاسم رسمياً، نسبة إلى قرية ميرون “التوراتية” التي تقع على الطرف الجنوبي الشرقي لجبل الجرمق، والتبرير “التوراتي” لهذه التسمية هو أن سفر يشوع (يهوشوع) في التوراة يذكر أن هذا الموقع شهد انتصار قائد اليهود يوشع بن نون على ملك حاصور الكنعاني “يابين”: “فَاجْتَمَعَ جَمِيعُ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ بِمِيعَادٍ وَجَاءُوا وَنَزَلُوا مَعاً عَلَى مِيَاهِ مَيْرُومَ لِكَيْ يُحَارِبُوا إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ الرَّبُّ لِيَشُوعَ:”لاَ تَخَفْهُمْ، لأَنِّي غَداً فِي مِثْلِ هذَا الْوَقْتِ أَدْفَعُهُمْ جَمِيعاً قَتْلَى أَمَامَ إِسْرَائِيلَ، فَتُعَرْقِبُ خَيْلَهُمْ، وَتُحْرِقُ مَرْكَبَاتِهِمْ بِالنَّارِ. فَجَاءَ يَشُوعُ وَجَمِيعُ رِجَالِ الْحَرْبِ مَعَهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ مِيَاهِ مَيْرُومَ بَغْتَةً وَسَقَطُوا عَلَيْهِمْ. فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ بِيَدِ إِسْرَائِيلَ... فَضَرَبُوهُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَارِدٌ". (يشوع: 11؛ 5-8)

ومع أننا علمياً نضع علامة سؤال تاريخية كبرى على كل ما ترويه التوراة (التي كُتبت بعد الأحداث المروية بحوالى 7 قرون، وهي مغرقة في الغيبيات والماورائيات والمبالغات العنترية الخرافية)، فإننا بالإضافة إلى ذلك نلاحظ أن هذا النص التوراتي يتحدث عن “مياه ميروم” (מֵימֵרוֹם)، وهو على الأرجح وادي ميرون الذي يمر إلى الجنوب من قرية ميرون وعلى بعد 6 كيلومترات من جبل الجرمق، وعليه فليست هناك علاقة بين هذا الموقع وبين جبل الجرمق الذي نحن بصدده، علماً بأن قرية ميرون نفسها ليست مذكورة في “سفر يشوع” هذا ولا في أي مكان آخر في أسفار التوراة، ولم تصبح القرية ذات أهمية في التاريخ اليهودي إلا بعد الميلاد.

يدَّعي بعض المفسرين أن “زبود” هو إسم آخر لجبل كنعان الذي تقع عليه مدينة صفد، إلا أن الأدلة الأقوى تشير إلى أنَّ “زبود” هو الإسم الكنعاني لجبل الجرمق، فالإسم “زبود” مرتبط في معظم الأحيان بقرية ميرون أو بوادي ميرون الذي ينبع من الجرمق ويجري على أطرافه، وبالإضافة إلى ذلك فإن وجود “خربة زبود” الكنعانية على مقربة من قمة جبل الجرمق يؤكد أن المقصود بهذا الإسم هو جبل الجرمق وليس جبل كنعان.

وقرية ميرون هي قرية فلسطينية مهجَّرة، كان فيها عشية التهجير 336 نسمة، كلهم من العرب المسلمين ومعظمهم ينتمون إلى عائلة كَعوَش، تم تهجيرهم إلى لبنان على دفعتين؛ الأولى بعيد سقوط مدينة صفد المجاورة في العاشر من أيار/مايو عام 1948، والثانية عقب احتلال القرية في 29 تشرين الأول/أكتوبر عام 1948 في نطاق عملية “حيرام”، وبعد أن قاوم أهل القرية مقاومة شرسة استمرت لعدة شهور وانتهت بقصف القرية بالطائرات.

وميرون هي قرية كنعانية عريقة يعود تاريخها إلى الحقبة الأوغاريتية، أي إلى القرن الــ قبل الميلاد، واسمها (ميرون) هو اسم كنعاني قديم، فهو إما تحريف للكلمة الكنعانية “ميروم” وتعني العالي أو المرتفع، كوصف لموقعها المميَّز، وإما تعديل لفظي آرامي متأخر للكلمة الكنعانية “مِرون”، وهو الاسم الذي كان يُطلق قديماً على نبتة بقولية شبيهة بالعِلت من عائلة الهندباء كانت تنتشر في ذلك الموقع، وهي النبتة التي أصبحت تُعرف بالعربية باسم “المُرّار”، وهذا هو نفس التفسير المرجَّح لاسم قرية “مارون الراس” في جنوب لبنان.

هذا الاسم العبري الصهيوني الذي أطلقته “اللجنة الحكومية للأسماء” على جبل الجرمق عام 1952 (أي “هار ميرون”)، لم يثبت في الوعي الجمعي لليهود في “إسرائيل” إلا في نهاية ستينيات القرن الماضي، حيث ظل حتى ذلك الحين يتنافس بقوة مع الاسمين اللذين كانا شائعين بين اليهود لهذا الجبل؛ اللفظ العبري للاسم العربي “هار جرمق” (جبل جرمق)، والاسم العبري “هار عتسمون”.

الاسم الأول مفهوم ومبرَّر، أما الاسم الثاني (هار عتسمون) الذي ظل شائعاً بين اليهود حتى ستينيات القرن الماضي، فقد أثبت الباحث الإسرائيلي يوسف برسيلافي عام 1956 بما لا يقبل الشك أنه خطأ مُخجل ارتكبه رجل الأعمال اليهودي إلياهو سابير حين أطلق هذا الاسم العبري على جبل الجرمق عام 1911، وكان سابير هذا هو مدير الفرع الرئيسي للبنك الأنكلو-فلسطيني (Anglo-Palestinian Bank) في يافا، وكان ينتمي إلى الموجة الأولى من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فأخذته الحميَّة الصهيونية فألف كتاباً بالعبرية عنوانه “هآرتس” (“الأرض” أو “البلاد”)، أطلق فيه الاسم “هار عتسمون” على الجبل الذي كان معروفاً بالعربية باسم “جبل الجرمق”، معتمداً في ذلك على “القاموس الجغرافي التاريخي لكتابات فلافيوس يوسيفوس” الذي ألفه المؤرخ الألماني غوستاف بوتغار (Gustav Boettger) ونشره بالألمانية عام 1879.

ميرون قرية فلسطينية مهجَّرة، كان فيها عشية التهجير 336 نسمة، كلهم من العرب المسلمين ومعظمهم ينتمون إلى عائلة كَعوَش، تم تهجيرهم إلى لبنان على دفعتين؛ الأولى بعيد سقوط مدينة صفد المجاورة في العاشر من أيار/مايو عام 1948، والثانية عقب احتلال القرية في 29 تشرين الأول/اكتوبر عام 1948 في نطاق عملية “حيرام”، وبعد أن قاوم أهل القرية مقاومة شرسة استمرت لعدة شهور وانتهت بقصف القرية بالطائرات.

وفلافيوس يوسيفوس هذا هو المؤرّخ اليهودي الروماني الشهير الذي عاش في القرن الأول للميلاد (والمعروف أيضاً باسمه العبري يوسف بن متتياهو)، وهو مؤلف الكتاب الشهير “حروب اليهود” الذي يصف فيه المعارك الطاحنة التي دارت على سفوح جبل عتسمون بين “الثوار” اليهود والجيش الروماني في “ثورة باركوخبا”.

وفي سعي المؤرخ الألماني غوستاف بوتغار للتعرف على المواقع المذكورة في كتاب يوسيفوس على أرض الواقع في جغرافية فلسطين، عرَّف “جبل عتسمون” خطأً على أنه جبل الجرمق من دون مبرر أو بُرهان، وتبعه في هذا الخطأ رجل الأعمال اليهودي الصهيوني إلياهو سابير الذي شطح به الحماس الاستعماري، فلم يكلف نفسه عناء البحث أو التمحيص، في حين أن الدراسات الإسرائيلية تُجمع الآن على أن جبل عتسمون المذكور في كتاب يوسيفوس هو الجبل القريب من “يودفات” في الطرف الغربي من سلسلة جبال البطوف التي تمتد على طول سهل البطوف من جهة الشمال في الجليل الأسفل، وهو الجبل الذي يقع بالقرب من مركز المثلث الجغرافي الممتد بين القرى الفلسطينية الثلاث كفر مندا وكوكب أبو الهيجا وسخنين (راجع المواد الخاصة بذلك في الويكيبيديا العبرية).

قبل عام 1911 لم يكن هذا الجبل يُعرف إلا باسمه العربي “الجرمق” وباسمه الكنعاني/الآرامي القديم “زَباد، أو زَبود، أو زابود”، وهي صيغ مختلفة لنفس الاسم الكنعاني الذي كان يُطلق على الجبل في الحقبة الكنعانية وما تلاها من حقب في فلسطين، وهو الاسم المذكور في وثائق أوغاريت، وفي كتابات اليهود من عهد السنهَدرين (القُضاة)، وفي التلمود البابلي.

و“زباد” أو “زبود” هي الكلمة الكنعانية التي انحدرت منها في ما بعد الكلمة العربية “زَبَد” بمعنى الرغوة البيضاء، وكأن الكنعانيين كانوا ينظرون إلى القمة البيضاء لهذا الجبل في الشتاء فيرونها وكأنها الزبد الذي يعلو أمواج البحر في المحيط الجليلي الكنعاني.

ويدَّعي بعض المفسرين أن “زبود” هو اسم آخر لجبل كنعان الذي تقع عليه مدينة صفد، إلا أن الأدلة الأقوى تشير إلى أنَّ “زبود” هو الاسم الكنعاني لجبل الجرمق، فالاسم “زبود” مرتبط في معظم الأحيان بقرية ميرون أو بوادي ميرون الذي ينبع من الجرمق ويجري على أطرافه، وبالإضافة إلى ذلك فإن وجود “خربة زبود” الكنعانية على مقربة من قمة جبل الجرمق يؤكد أن المقصود بهذا الاسم هو جبل الجرمق وليس جبل كنعان. ويتضح هذا الأمر بشكل أفضل في الكتابات المتأخرة للمؤرخين العرب، فالمؤرخ شمس الدين محمد بن أبي طالب الأنصاري الدمشقي، المعروف بلقب “شيخ الرَّبوة” (توفى سنة 1327م)، يقول في كتابه “نخبة الدهر في عجائب البر والبحر”: “وبجبل الزابود من أرض صفد قرية يقال لها ميرون...” (ص 118) ويتبعه في ذلك المؤرخ محمد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني (توفّى سنة 1378م) في كتابه “تاريخ صفد”.
تاريخ اليهود في جبل الجرمق

احتفالات عيد الشعلة في ميرون في عشرينيات القرن العشرين
احتفالات عيد الشعلة في ميرون في عشرينيات القرن العشرين

لقد أصبح واضحاً لدينا الآن أن كل الادعاءات بالوجود التاريخي لليهود في “هار ميرون” ترتبط بقرية ميرون وليس بجبل الجرمق نفسه، وأن القبور والمقامات التي يقيم فيها اليهود المتدينون احتفالاتهم الدينية الصاخبة في “عيد الشعلة” اليهودي موجودة كلها بين أنقاض قرية ميرون الفلسطينية المهجرة التي تقع على ارتفاع حوالى 750 متراً عن سطح البحر، وليس في جبل الجرمق الذي يبعد عنها حوالى 6 كيلومترات ويصل ارتفاعه إلى 1208 أمتار.

الحقيقة الثانية المهمة هنا هي أن حجيج اليهود إلى ميرون لم يبدأ إلا في بداية القرن الثاني عشر للميلاد. وكل الذين وصفوا هذا الحجيج من الرحالة والمؤرخين اليهود والعرب ما بين بداية القرن الثاني عشر ونهاية القرن الخامس عشر ميلادي، لم يكونوا يصفون الحجيج اليهودي إلى ضريح الرابي شمعون بار يوحاي (وهو الحج الذي يقوم به اليهود الآن)، وإنما كانوا يصفون الحجيج اليهودي إلى “كهف بيت هيلل وبيت شَماي”، أي الكهف الذي كان يُعتقد أنه يحتوي على قبور “الرابي هيلل العجوز” (הללהזקן) وتلاميذه و“الرابي شَماي العجوز” (שמאיהזקן) وتلاميذه، وكانت هاتان المجموعتان من التلاميذ على خلاف حاد في تفسيرهما للتوراة و“الهَلَخاه” بحيث ساد العداء السافر والقطيعة بينهما، وفي مؤلف “رحلات بنيامين” يصف لنا الرحالة اليهودي بنيامين ميتوديلا من القرن الثاني عشر ميلادي الحجيج إلى هذا الكهف بقوله:

“في أحد جوانب الكهف مغارة هيلل وتلاميذه، وفي الجانب الآخر مغارة شَماي وتلاميذه، وبينهما في وسط الكهف صخرة منحوتة، حجر كبير مصقول كأنه كأس يتسع في داخله لأربعين صاعاً وأكثر، وحين يأتي إلى هناك رجال حكماء يرون أن الحجر مملوءٌ بالماء الصافي فيغسلون أيديهم ويصلون ويطلبون ما يشاؤون” (مُترجم من الويكيبيديا العبرية).

كل الاهتمام “الهستيري” بالرابي شمعون بار يوحاي وضريحه (المزعوم) في ميرون مبنيٌّ على ادعاءات أتى بها رابٍ يهودي إسباني في نهاية القرن الثالث عشر، وذلك على الرغم من معارضة عدد كبير من أشهر حاخامات اليهود لهذا الادعاء عبر القرون الخمسة الماضية، منهم الرابي يحزقيل ليندا وتلميذه الرابي إلعازار فليكس من مدينة براغ في تشيكيا في نهاية القرن الثامن عشر.

وفي بداية القرن الرابع عشر يصف المؤرخ العربي “شيخ الربوة” هذا الحجيج اليهودي إلى كهف بيت هيلل وبيت شماي في ميرون، في كتابه المذكور أعلاه (ص 118)، فيقول:

“وفيها مغارة فيها نواويس وأحواض لا تزال طول السنة يابسة ليس فيها قطرة ماء ولا نداوة ولا رشح أصلاً، فإذا كان يوم من السنة اجتمع إليها ناس من اليهود من البلاد البعيدة والقريبة والفلاحين وغيرهم وأقاموا طول نهارهم يدخلون إليها ويخرجون منهاوهي بحالها من اليباس، ثم ما يشعرون إلا والماء دافق من تلك الأحواض والنواويس وسامٍ على الأرض في المغارة مقدار ساعة أو ساعتين ثم ينقطع، وهذا يوم عيد اليهود”.

أما الحجيج اليهودي إلى ضريح الرابي شمعون بار يوحاي في ميرون في عيد “لاغ بعومر” وما يرافق ذلك من إضاءة المشاعل واحتفالات الـ“هيلولاه” (كما هو الحال الآن)، فلم يبدأ إلا في نهاية القرن الخامس عشر ميلادي، وذلك على الرغم من الاعتقاد بأن الرابي بار يوحاي عاش في ميرون ومات ودُفن فيها في القرن الثاني للميلاد.

والسبب لهذا التحوُّل المفاجئ من الحج إلى بيت هيلل وشَماي إلى الحج إلى ضريح الرابي شمعون بار يوحاي في نهاية القرن الخامس عشر، هو قدوم اليهود من إسبانيا إلى فلسطين عقب انهيار الحكم العربي الإسلامي في الأندلس عام 1492م ومعهم “كتاب الزوهَر” (الوهج) المنسوب إلى الرابي شمعون بار يوحاي وتلاميذه.

وكتاب الزوهَر هذا، نُشر لأول مرة في الأندلس في نهاية القرن الثالث عشر على يد الرابي اليهودي الإسباني موشه دي لئون، الذي نسبه إلى الرابي شمعون بار يوحاي وتلاميذه من القرن الثاني للميلاد، مع العلم بأنَّ عدداً كبيراً من حاخامات اليهود الذين عارضوا كتاب الزوهر بشدة خلال القرون الخمسة الماضية يدَّعون أن الكتاب من تأليف الرابي دي لئون وليس من تأليف الرابي بار يوحاي الذي عاش قبل ذلك بألف عام.

ومع أن كتاب الزوهر لم يكن معروفاً بتاتاً بين اليهود قبل نشره في إسبانيا في نهاية القرن الثالث عشر، فإنه ما لبث بعد قدوم اليهود من إسبانيا إلى فلسطين أن أصبح أهم كتاب على الإطلاق في “الكَبَلاه” (הקבלה) اليهودية، فهو يحتوي على عدد هائل من الشروحات للتوراة وأحكامها وشرائعها، وعلى اقتباسات مطوّلة بالآرامية من كتب يهودية سابقة اندثرت ولم يصلنا منها شيء.

وبالنتيجة، فإن كل هذا الاهتمام “الهستيري”بالرابي شمعون بار يوحاي وضريحه (المزعوم) في ميرون مبنيٌّ على ادعاءات أتى بها رابٍ يهودي إسباني في نهاية القرن الثالث عشر، وذلك على الرغم من معارضة عدد كبير من أشهر حاخامات اليهود لهذا الادعاء عبر القرون الخمسة الماضية، منهم الرابي يحزقيل ليندا وتلميذه الرابي إلعازار فليكس من مدينة براغ في تشيكيا في نهاية القرن الثامن عشر، والرابي يحيى كافح وأتباعه من مدينة صنعاء في اليمن، وكل حاخامات “جماعة المثقفين”(המשכילים) في شرق ووسط أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

الاحتكار اليهودي المطلق لمقام الرابي شمعون بار يوحاي وللاحتفالات السنوية في ميرون لم يحدث إلا بعد أن سيطر تيار “الحسيديم” على المشهد السياسي ومراكز القوة في “دولة إسرائيل”، وهو تيار “حريديّ” عنصري متطرف يؤمن بـ“أرض إسرائيل الكبرى” وبعودة “المِشيح” اليهودي لإقامة الهيكل الثالث، وبأن “أرض إسرائيل هي قلب العالم حيث يتدفق منها الخلاص والرحمة”.

أما ربط الحج اليهودي إلى مقام الرابي شمعون بار يوحاي في ميرون بعيد اليهود “لاغ بعومر” فمَرَدُّه إلى الاعتقاد السائد بين اليهود منذ منتصف القرن الثامن عشر بأن الرابي بار يوحاي وُلد ومات في هذا اليوم، وفي لحظة موته تجلت له الأسرار السامية للتوراة، ومنذ ذلك الحين اقترنت احتفالات “لاغ بعومر” في ميرون بالرقص والغناء وما يُدعى “الهيلولاه” (הילולה)، وبإشعال الحرائق للاعتقاد بأن “حرائق الرب” اشتعلت حول بيت الرابي بار يوحاي في يوم موته.

ومن الجدير بالذكر أن العيد “لاغ بعومر” لم يُذكر في التوراة ولا في “المِشناه” ولا في التلمود، وإنما ورد أول ذكر له كعيد لليهود حوالى العام 1150 ميلادي، في إحدى الوثائق العبرية التي تم اكتشافها في “كنيس عزرا” في القاهرة عام 1896. والمعنى الحرفي للتعبير “لاغ بعومر” هو “الثالث والثلاثون من الأغمار” (جمع غِمْر)، حيث أن “لاغ” ما هي سوى الحرفين العبريين (ל“ג)، وهو الرقم 33 معبراً عنه بالحروف العبرية، أي أن يوم العيد هذا هو اليوم الثالث والثلاثين من الأسابيع السبعة (49 يوماً) الواقعة بين عيدي الفصح (بيسَح) والأسابيع (شفوعوت) (وهو يصادف اليوم الثامن عشر من الشهر الثاني -أيار- من السنة العبرية)، لاعتقادهم بأن هذا هو اليوم الذي تنتهي فيه المآسي والأحزان وتبدأ البركات والأفراح لـ”شعب إسرائيل".

وعليه فإن الاحتفالات اليهودية السنوية في ميرون تجمع بين طقوس “لاغ بعومر” وطقوس الاحتفاء بالرابي شمعون بار يوحاي وكتاب الزوهَر المنسوب إليه، وهي تشمل التالي:

الغناء والرقص والدبكة في ما يُسمى “الهيلولاه”،

إضرام الحرائق وإشعال المشاعل،

الحلاقة (החלאקה)، حيث يتلقى صبيان اليهود قَصة شعرهم الأولى،

قراءة مقاطع من كتاب الزوهَر،

عقد قران المئات من الأزواج، حيث أن هذا هو اليوم الوحيد المسموح فيه بالزواج بين عيد الفصح وعيد الأسابيع،

إجراء ألعاب ومباريات في القوس والنشاب.

وعلينا أن ننوه هنا إلى أنَّ مقام الرابي شمعون بار يوحاي في ميرون كان عبر أكثر من ألف عام وحتى النكبة عام 1948 مَقاماً مقدساً للعرب المسلمين والمسيحيين في ميرون ومحيطها بقدر ما كان مقدساً لليهود، فكانت نساء الفلاحين من البلدات العربية في الجليل الأعلى يتعاملن معه كـ“صِدّيق” فيُقدمنَ فيه النذور ويوقدنَ القناديل والشموع على الضريح ويضعن النقود وأباريق الزيت على بابه، وتذكر المصادر العربية واليهودية على حد سواء أن الرجال والنساء من الفلاحين العرب كانوا يشاركون في الغناء والرقص والدبكة في الاحتفالات السنوية لعيد الشعلة في ميرون.

أما الاحتكار اليهودي المطلق لمقام الرابي شمعون بار يوحاي وللاحتفالات السنوية في ميرون فلم يحدث إلا بعد أن سيطر تيار “الحسيديم” على المشهد السياسي ومراكز القوة في “دولة إسرائيل”، وهو تيار “حريديّ” عنصري متطرف يؤمن بـ“أرض إسرائيل الكبرى” وبعودة “المِشيح” اليهودي لإقامة الهيكل الثالث، وبأن “أرض إسرائيل هي قلب العالم حيث يتدفق منها الخلاص والرحمة”.

وحركة “حاباد”الحسيدية المتطرفة، وهي أقوى تيار في مجتمع “الحريديم” في “إسرائيل”، هي التي تملي على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياساتها العنصرية المتطرفة تجاه الأماكن المقدسة والمقامات “اليهودية” في سائر فلسطين.
“جرمق”؛ أصله ومعناه

بما أنَّ الاسم العبري “هار ميرون” هو اسم “إسرائيلي” حديث مبني على التمويه والمغالطات، والاسم العبري القديم “هار عتسمون” هو اسم خاطئ كلياً ونابع من غايات استعمارية، والاسم الكنعاني “زباد” أو “زبود” هو اسم على وشك الانقراض من اللغة والوعي، فإنه لا مجال للشك بأن الاسم العربي “جبل الجرمق” هو الاسم الأهمّ والأعمّ لهذا الجبل. فما معنى هذا الاسم؟ وما هو مصدره؟ ولماذا سُمّي هذا الجبل به من دون غيره؟

على إثر ما حلّ بالمستوطنين اليهود في “هار ميرون” في نيسان/أبريل 2021، انبرى كل مَن هبَّ ودبَّ من المدوِّنين والإعلاميين و“المؤرخين” العرب لطرح ما جادت به قريحتهم أو قريحة غيرهم من تفسيرات للاسم العربي لهذا الجبل.

ويمكننا أن نلخص هذه التفسيرات التي تعج بها مواقع الإنترنت بأربع نظريات؛ الأولى والثانية هزيلتان باطلتان لا أساس لهما، والثالثة يحتاج إثبات بٌطلانها إلى التمحيص والنقاش، والرابعة ينبثق إثبات رجاحتها من نقاش الثالثة:

النظرية الأولى تقول إنَّ الإسم “جبل الجرمق” منسوب إلى نوع من الشجر يُدعى “شجر الجرمق” يتواجد بكثرة في هذا الجبل.

أولاً: ليس هناك أي معجم في اللغة العربية ولا في أيٍّ من اللغات الأخرى الممكنة (الآرامية والعبرية والتركية والفارسية) يورد ذكر “نوع من الشجر” من بين المعاني التي يوردها لكلمة “جرمق” (أنظر أدناه)، ولم أعثر على أي كتاب من أي نوع يذكر نوعاً من الشجر يدعى “شجر الجرمق”.

الوحيد الذي أورد التفسير “العروبي” لتسمية جبل الجرمق، والذي يقتبسه الآن مئات وآلاف من المدوّنين على الإنترنت على أنه حقيقة مُنزلة، هو المؤرخ الفلسطيني المعروف مصطفى مراد الدباغ في كتابه الشهير “بلادنا فلسطين”.

ثانياً: ليس هناك أي شجر من أي نوع – لا “جرمق” ولا غيره – على هذا الجبل. صحيح أن الأطراف السفلية البعيدة للجبل، في محيط القرى العربية الموجودة أو المهجرة، غنية بأشجار التين والزيتون والكرمة والرمان والخروب وأشجار اللوزيات والحمضيات وغيرها، ولكنَّ الجبل نفسه الذي يغلب عليه اللون الأخضر مغطى بالأعشاب الموسمية وبالشجيرات الحرجية التي لا يزيد علوّها على 3 أمتار في الحالات القصوى (كالسَّرّيس والزعرور والبلان)، ويمتاز الجبل بنوعين من “شجيرات القَطلَب” (تدعى في المصادر العربية القديمة باسم “قاتل أبيه”)، وهي شجيرات حُرجية صغيرة تثمر توتاً أحمر وتمتاز باللون متموِّج الإحمرار للحاء الذي يغطي فروعها وأغصانها. أما أشجار تدعى “جرمق” فغير موجودة، لا في الجبل ولا في محيطه، ولا في أي مكان.

النظرية الثانية تقول إنَّ الكلمة “جرمق” تعني المكان العالي أو المرتفع، وحيث أن هذا الجبل هو مكان مرتفع، بل أعلى مكان في فلسطين، فقد سُمِّي بهذا الاسم.

أولاً: الكلمة التي تعني المكان العالي أو المرتفع هي الكلمة الكنعانية “ميروم” التي يُحتمل أن تكون المصدر للاسم الكنعاني “ميرون” ولا علاقة لها على الإطلاق بالاسم العربي “جرمق”، وإذا كان هذا هو السبب الفعلي لهذه النظرية فإنه يدل على التلاعُب العبثي المتعمَّد بالحقائق لأغراض شخصية ساذجة.

ثانياً: ليس هناك أي معجم في اللغة العربية ولا في أيٍّ من اللغات الأخرى الممكنة يورد “المكان العالي أو المرتفع” كواحد من بين المعاني التي يسوقها للكلمة “جرمق” ومُشتقاتها، وعليه فإنَّ هذا التفسير ليس إلا ضرباً من “الشطارة” والفذلكة في اختلاق التفاسير.

في ما يلي نخبة مختارة من مُجمل المعاني التي توردها معاجم اللغة العربية للكلمة “جرمق” ومشتقاتها:

جُرمُق: الجُرموق خُفٌّ صغير (“كتاب العين” للفراهيدي، “المحيط في اللغة” لإبن عبّاد).

جُرمُق: ما يُلبَس فوق الخُفّ، ويقال له بالفارسية الجُرموق (“المُغرب في ترتيب المُعرب” للمطرِّزي).

جُرمُق: الجرموق خُفٌّ صغير يُلبَس فوق الخُفّ (“لسان العرب” لإبن منظور، “تاج العروس” للزُّبيدي، “الصحاح” للجوهري، “شمس العلوم” للحميَري، “المعجم الوسيط” لمجمع اللغة العربية في القاهرة).

جُرموق: حذاء قصير يُلبَس فوق الحذاء وقاية له من الماء أو غيره (“معجم الرائد” لجبران مسعود).

الجرامقة: جيلٌ من الناس (“التهذيب” للبراذعي، “لسان العرب” لإبن منظور).

الجِرماق: ما عُصبَ به القوس من العقب (“كتاب الاعتقاب” لأبي تراب، “تهذيب اللغة” للأزهري).

جَرمَق: موضع ذكره أبو بكر ولم يحدده (“مُعجم ما استعجم” للأندلسي).

كما نرى هنا، فلا أحد من اللغويين العرب القدامَى أو المعاصرين يأتي على ذكر “نوع من الشجر” أو “المكان المرتفع” في معرض الحديث عن كلمة “جرمق” ومشتقاتها.

النظرية الثالثة تقول إنَّ جبل الجرمق سُمّي بهذا الاسم نسبة إلى قبيلة الجرامقة العربية التي رحلت قديماً من اليمن واستوطنت في شمال فلسطين وجنوب لبنان.

لم نعثر على أي ذكر لهذه القبيلة العربية اليمنية في أي كتاب من كتب التاريخ أو اللغة، ولا حتى في الكتب التي اعتادت أن ترصد مثل هذه الهجرات والتنقلات من جزيرة العرب إلى بلاد الشام مثل “تاريخ الطبري” و“معجم البلدان” لياقوت الحموي، ولا في كتب المؤرخين الجدد من أمثال جورج أنطونيوس وفيليب حتي وألبيرت حوراني.

الوحيد الذي أورد هذا التفسير “العروبي” لتسمية جبل الجرمق، والذي يقتبسه الآن مئات وآلاف من المدوّنين على الإنترنت على أنه حقيقة مُنزلة، هو المؤرخ الفلسطيني المعروف مصطفى مراد الدباغ في كتابه الشهير “بلادنا فلسطين”، حيث يقول في المجلد الأول (ص 48): “دٌعي”الجرمق“نسبة إلى”الجرامقة“القبيلة العربية التي تركت منازلها في اليمن ونزلت شمالي فلسطين وجنوبي لبنان في العصور الماضية. وخلدت اسمها في جبل الجرمق هذا”.

ولنلاحظ هنا أن الدباغ لا يذكر من أين استقى هذه المعلومة، ولا يورد أي مصدر لتوثيق ما يقوله، وهو الذي يتوخى منتهى الدقة في توثيق ما قيل قبل ذلك وبعده. ثم إنه لا يخبرنا متى انتقلت هذه القبيلة العربية من اليمن إلى فلسطين أو كيف أو لماذا، وإنما يكتفي بالتعبير الغامض الفضفاض “في العصور الماضية”!

ولنلاحظ أيضاً أن الدباغ يورد هذه المعلومة “الغريبة” مباشرة بعد إيراد الاقتباس من ياقوت الحموي الذي يقول فيه: “ووادي الجرمق كثير الأترج والليمون... قُتل فيه علي بن الحسين بن أحمد بن جميع الغساني أخو أبو الحسن، بعد سنة 450 ه”، حتى أن عدداً من المدوّنين على الإنترنت يدّعون بقوة أن هذه المعلومة عن القبيلة العربية من اليمن وردت في كتاب ياقوت الحموي، وهذا خطأ شنيع لأن ياقوت الحموي لم يذكر ذلك بل الدباغ هو الذي أوردها من عنده (أنظر الصورة لما ورد في كتاب ياقوت الحموي)، وذلك على الرغم من أن ياقوت الحموي يتحدث عن “وادي الجرمق” بينما يتحدث الدباغ عن “جبل الجرمق”، وكنا قد رأينا أن الاثنين مختلفان تماماً.

المؤرخ مصطفى مراد الدباغ كان يعرف حق المعرفة أن كلمة “جرمق” ومشتقاتها ليست عربية الأصل بل أعجمية مُعرَّبة، إن لم يكن بالسليقة والحس اللغوي فباطلاعه الواسع على أمهات المعاجم العربية القديمة التي كان كثيراً ما يستشيرها ويستشهد بها، وأهمها “لسان العرب” الذي يتبنّى فيه إبن منظور قول أبي تراب عن “الجَرَمق” و“الجِرماق” و“الجُرموق”: “وهو من الحروف المُعرَّبة ولا أصل لها في كلام العرب”.

فإنَّ هذا التفسير العربي اليمني لاسم جبل الجرمق هو من بنات أفكار المؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ وليس له أي أساس في أي مصدر آخر، دفعته إليه نزعته العروبية “المُفرطة” (علماً بأن الدباغ ألف كتابه “بلادنا فلسطين” بين العامين 1947 و1964، أي في الفترة التي شهدت أعتى موجات العروبة والوحدة العربية وأوج النزعة العروبية وارتباطها بقضية تحرير فلسطين وقضايا بلاد الشام عموماً)، وذلك على الرغم من أن كل الذين أتوا على ذكر قبيلةٍ باسم “الجرامقة” أو الجراميق“من العرب السالفين كانوا يصرون على التوكيد بأن تلك القبيلة لم تكن عربية بل أعجمية؛ فهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي يقول في”كتاب العين“:”جرامقة الشام أنباطها“، وهذا ابن عبّاد يقول في”المحيط“:”وجرامقة الشام أنباطها، والواحد منهم جَرمَقاني“، وهذا الجوهري يقول في”معجم الصحاح“:”الجرامقة قوم بالموصل أصلهم من العجم“، وهذا الحميَري يقول في”شمس العلوم“:”الجَرمَقاني، واحد جرامقة الشام، وهم أنباطه“، وهذا ابن منظور يقول في”لسان العرب“:”وجرامقة الشام أنباطها“، وهذا الزبيدي يقول في”تاج العروس“:”الجرامقة قوم من العجم صاروا بالموصل“... ومع كل ذلك يصر الدباغ على الادعاء بأنَّ”الجرامقة" قبيلة عربية قحطانية من اليمن (ج 6، ص 10)!!

نجزم بأن المؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ كان يعرف حق المعرفة أن كلمة “جرمق” ومشتقاتها ليست عربية الأصل بل أعجمية مُعرَّبة، إن لم يكن بالسليقة والحس اللغوي فباطلاعه الواسع على أمهات المعاجم العربية القديمة التي كان كثيراً ما يستشيرها ويستشهد بها، وأهمها “لسان العرب” الذي يتبنّى فيه ابن منظور (المتوفى عام 1311م) قول أبي تراب (المتوفى حوالى عام 893م) عن “الجَرَمق” و“الجِرماق” و“الجُرموق”: “وهو من الحروف المُعرَّبة ولا أصل لها في كلام العرب”. وها هو الجواليقي أيضاً (المتوفى عام 1144م) ينهي نقاشه المطوَّل للموضوع في كتابه “المعرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم” بقوله عن “جرمَق” و“جرمقاني”: “وهو سرياني وأصله (كرمقيت)”.

الغريب في الأمر حقاً، هو أن السطرين اللذين يقتبسهما الدباغ من “معجم البلدان” عن وادي الجرمق “كثير الأترج والليمون” ويضعهما في كتابه عن بلادنا فلسطين، مُقتطعان اقتطاعاً من نهاية فقرة طويلة يقول ياقوت الحموي فيها عكس ما أراد الدباغ أن يقوله، وإليكم الصورة الفوتوغرافية لهذه الفقرة في صفحة 129 من المجلد الثاني من “معجم البلدان”: “إذاً، بين أصبهان ونيسابور في بلاد فارس موقعٌ يُعرَف بالجرمق ويحتوي على ثلاث قرى إحداها تُدعى”جرمق“، وهذا ما أهمله الدباغ في أخذه عن ياقوت الحموي الذي عاش في القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد (1178-1229م). والويكيبيديا الإيرانية تقول لنا إن هذه القرى الثلاث كانت موجودة منذ بداية الحقبة الأخمينية في بلاد فارس (550-330 ق.م)، وهي المملكة الفارسية المترامية الأطراف التي بسطت نفوذها على معظم أوروبا والشرق الأوسط فاستولت على بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر وكانت عاصمتها مدينة بابل، وامتازت بالمزج الكلي بين الحضارات الفارسية والهيلينية والبابلية والأشورية والآرامية والفينيقية والفرعونية، وكانت طوال فترة حكمها منذ تأسيسها على يد الملك قورش الأكبر وابنه قمبيز الثاني تتميز بانتهاج سياسة نقل الفرس من أماكن سكناهم في بلاد فارس وتوطينهم في سائر أصقاع المملكة. ونحن نعلم الآن من مصادر مختلفة، عربية وغير عربية، أن الجرامقة سكنوا في منطقة الموصل وفي كردستان العراق، وعلى ذلك فإنه ليس من المستَبعد على الإطلاق أن تكون فروعٌ من هؤلاء الجرامقة انتقلت أو نُقِلَت إلى فينيقيا، فتركوا بصمتهم على الأماكن التي سكنوها أو سكنوا بقربها؛ جبل الجرمق وخربة الجرمق ووادي الجرمق في الجليل الأعلى، وجبل الجرمق ووادي الجرمق وقرية الجرمق في جنوب لبنان، ولعلّ هذا الأخير هو الذي قصده ياقوت الحموي في قوله”ووادي الجرمق من أعمال صيداء"، إلا أنَّ هذه العبارة بالذات هي التي أسقطها الدباغ مما نقله عن الحموي كي يترك الانطباع بأن الحموي يتحدث عن وادي الجرمق في الجليل الأعلى.

على هذه الخلفية التاريخية نفهم الشروحات اللغوية الإيتيمولوجية التي تقدمها “Encyclopedia Iranica” و “Persian Wiktionary”، والتي تعزز هذا التفسير لأصل الإسم “جرمق”. فالكلمة الفارسية “Garmak” مشتقة من المصدر الفارسي “Garmakan”، وهذه بدورها مُحرَّفة عن الآرامية (التي يدعوها الجواليقي بلغة أيامه “سريانية”) “Garmakit”، والتي تعني حرفياً “بيت العظام”. ذلك لأن موضع الجرمق بين أصبهان ونيسابور في بلاد فارس كان عبر تاريخه الأخميني مسرحاً لعدد لا يحصى من المعارك الطاحنة بين الفرس الأخمينيين وأعدائهم (وكان آخرهم الإسكندر المقدوني الذي قضى على مملكتهم) بحيث ظلت أرضه مغطاة بعظام القتلى لوقت طويل. هذا الأصل الآرامي لكلمة “جرمق” (وللاسم “جرمق”) هو الذي جعل عدداً من الباحثين والمؤرخين يشكون في ما إذا كانت قبيلة الجرامقة فارسية أم آرامية أم فارسية من أصل آرامي، وهو الذي جعل معظم اللغوين والمؤرخين العرب يقولون إن “جرامقة الشام أنباطها”، فالأنباط كانوا آراميين يتكلمون لهجة من لهجات الآرامية (النبطية) تحولت في ما بعد إلى اللغة العربية.

ليس لدينا أي شك على الإطلاق في أن الاسم “جرمق” الذي يُطلق على جبل الجرمق في شمال فلسطين ليس عربياً وإنما مُعرَّباً، ولدينا ما يكفي من الأسباب للاعتقاد بأنه إسم فارسي من أصل آرامي.

المصادر والمراجع

ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (1972). لسان العرب. بيروت، دار صادر.

الجواليقي، موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر (1990). المُعرب من الكلام الأعجمي على حروف المُعجم (حققه وقدم له ف. عبد الرحيم). دمشق، دار القلم.

حتي، فيليب (1958). تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين (ترجمة جورج حداد وعبد الكريم رافق). بيروت، دار الثقافة.

الحموي، شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله (1993). معجم البلدان. بيروت، دار صادر (نسخة إلكترونية).

الخالدي، وليد (1997). كي لا ننسى. بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

الدباغ، مصطفى مراد (1965). بلادنا فلسطين. بيروت، دار الطليعة.

الذييب، سليمان بن عبد الرحمن (2006). مُعجم المفردات الآرامية القديمة. الرياض، مكتبة الملك فهد الوطنية.

الزبيدي، محمد مرتضى الحسيني (1965). تاج العروس من جواهر القاموس (تحقيق عبد الستار أحمد فراج). الكويت، سلسلة التراث العربي.

سفر يشوع على موقع St-Taqla.org.

شيخ الربوة، شمس الدين محمد أبي طالب الأنصاري الصوفي الدمشقي (1865). نخبة الدهر في عجائب البر والبحر. بطريبورغ، مطبعة الأكاديمية الإمبراطورية (نسخة إلكترونية).

العثماني، محمد بن عبد الرحمن الحسيني (1998). تاريخ صفد (تحقيق وتقديم د. سهيل زكار). الكويت، دار تكوين.

كريغ، بيتر (2016). أوغاريت والعهد القديم (ترجمة فراس السواح). دمشق، دار ممدوح علوان للنشر والتوزيع.

كناعنة، مصلح (2008). حجارة تحكي وأنقاض تنتظر. رام الله، أضواء للتصميم.

كناعنة، مصلح (2018). موسوعة المفردات غير العربية في العامية الفلسطينية. عمان، دار مجدلاني للنشر والتوزيع.

مجمع اللغة العربية بالقاهرة (2004). المُعجم الوسيط. القاهرة، مكتبة الشروق الدولية.

Robinson, Edward (2015). Biblical Researches in Palestine: A Journey of Travels in the Years 1838 and 1852. New York, Arkose Press.

الويكيبيديا الإنكليزية.

الويكيبيديا العبرية.

الويكيبيديا الإيرانية.

مواقع إعلامية وإخبارية وتواصلية على الإنترنت.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 34 / 2184545

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2184545 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40