الخميس 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022

من فدوى طوقان إلى سامي حداد: رسائل حُبّ… أم ذكريات الزمن الضائع تحت الاحتلال؟

الخميس 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022

- عبداللطيف الوراري

ظهرت في الآونة الأخيرة رسائل جديدة للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (1917- 2003) كتبتها إلى سامي حداد بين عامي 1975 و1977، غير التي كتبتها إلى أخته الأديبة الأردنية ثريا حداد (دار طباق – رام الله 2018). واللافت في هذه الرسائل أنّها توثق قصة حبّ تودعها أسرار عاطفتها الخاصة ورؤيتها في تلك الأيام للذات والعالم، كما أنّها كُتبت تحت الاحتلال، حيث عانت المضايقات؛ إذ تحكي في إحدى رسائلها كيف أخذ الرقيب اليهودي على الجسر إحدى قصائدها وقرأها بفضول واستهتار، وتساءلت: «ترى هل خُلق الإنسان ليقع في فخّ عالمٍ يحكمه الشرّ والعبث؟».. ولهذا تظلُّ الرسائل ـ بعبارة الشاعرة نفسها- «تُرجع لي ذكرى الزمن الضائع من أيام العمر».

دوار العصر

ضxمّنت الشاعرة فدوى طوقان رسائلها جوانب مهمّة من سيرة حياتها وشعرها ومواقفها من الأشياء والوجود، وهذا مبرّرٌ آخر يُضاف إلى قيمة هذه الرسائل. وبالنظر إلى تاريخ الرسائل؛ أي أواسط السبعينيات (75، 76 و77) فقد كانت تشعر بـ»الدوار» الذي أخذ يلفُّ حياتها على الصعيدين الخاص والعام. فهي تدين الاحتلال الإسرائيلي وما يفرضه من عوامل القهر والاستلاب، وتدين الزمن العربي الرديء والمتخاذل وسط مؤامرات لا نهاية لها؛ ومن ثمة تقف مشدوهة أمام ما يجري، وتحاول أن تبحث عن معناه عبثا. لقد رأت أنّ المتآمرين على القضية قد قطعوا الطريق التصاعدي الذي ابتدأ بعد أكتوبر/تشرين الأول 1973، وأوقعوا الأذى بها أكبر مما توقعه إسرائيل نفسها، كأنّما كُتب عليها وعلى غيرها أن يكون «جيل العذاب والصلب والجلجلة». لقد وجدت من خلال المقدمات التي استنتجتها لنفسها، أنّ التجربة السياسية دخلت في حركة المد والجزر في تلك الفترة، وأنّ المنطقة دخلت في حقبة مظلمة لا نهاية لها، وقائمة على رمال متحرّكة. هل هي نبوءة الشاعرة؟ لا تخفي خوفها، وتشاؤمها كذلك، ومع ذلك تحاول أن تتّخذ موقفا أقوى من طبيعتها ومن «حتمية الطبائع» وأن تستدعي تفاؤلها وتأمل لو امتدّ العمر بها حتى تشارك في فرحة الشعب المكافح؛ لأنّ «إرادة الحياة هي الأقوى، وإلّا فما معنى استمرار الصراع بين قوى الظلام وقوى الشعب، الذي يُصرّ على الحياة ويرفض أن يستسلم؟». الصراع قد يطول ويستغرق جيلين أو ثلاثة أجيال فأكثر. ولهذا، لا تتوانى بوصفها شاعرة حالمة ومكافحة تريد أن تهزّ بقصيدتها النخلة «المريميّة» التي هي أحقّ للأمة أن تستمتع برطبها وعطائها. تقرأ بوازع الهمّ المعرفي كتبا عن قضية شعبها؛ مثل «المسألة الفلسطينية ومشاريع الحلول السياسية» وتقوم بندواتها الشعرية في مختلف مدن الضفة، بما في ذلك محاضرة عن «الشعر الفلسطيني» قدّمَتْها في منتدى الشباب في «أم الفحم» ليظلّ هذا الشباب ذا صلة بشعراء فلسطين وشعرهم قبل 1948 بسبب انقطاعهم عن الفكر العربي تحت نير الاحتلال، لكن من المستحيل أن ينقطعوا من جذورهم. كما حال الإنسان العربي الذين يعيش في قلب الحضارة الأوروبية، حتى وهو يشعر بالضياع والندم، لن يفقد جذوره مهما غاب عن دياره وقومه، فالجذور تظلُّ باقيةً في الأغوار البعيدة تلتمع بالشمس والنخيل.

يحزنها أن يظلّ العرب (كُنْتيِّين) ويغُطّون في ليل الفقر والجهل والمرض، بل عليهم أن يتجاوزوا الماضي إلى حاضر ومستقبل يحفلان بعطاء حضاريّ خصب، كالذي قدّمه أجدادهم إلى العالم في القرون الغابرة. كما يحزنها أن تستغل بعض الطبقات الدِّينَ لنزواتها ومصالحها الضيّقة من أجل أن «تقبض على زمام الشعوب الإسلامية التعيسة وتتحكّم بمُقدّراتها» ولذلك تعلن رفضها لمثل هذا الدين «السياسي» الذي يصبح مطيّة استغلال لحساب طبقة معينة، إلى حدّ أنها تتمنى من منظور نزعتها الذاتية لو «اكتسحت الشيوعية كلّ بلدان النفط العربي».
لقد كان الواقع السياسي أو الصعيد العام يؤثر في حياتها الخاصة ويؤذيها أيّما إيذاء، كما تُؤثّر فيها هموم الناس من أهلها القريبين: «ولماذا أحملُ هموم النّاس؟ وهل يحمل أحدٌ همومي؟ لقد عشتُ حياتي كلّها أتألّم وحدي وأشقى وحدي وأبكي وحدي دون أن يشاركني القريب أو البعيد في حمل شيء من همومي. لكن ماذا أصنع بهذه الرُّوح التي يُعذِّبها دائما شقاء الآخرين؟».

عزاء النفس وترياق الشعر

تحاول أن تجد سبيلا للتصالح مع النفس، وأن تختار ما يمليه عليها نزوعُها الشخصي، وأن تستعيد الانسجام والتناغم، لكن هيهات؛ فالصراع مع النفس لن يهدأ إلا في لحظة الموت، وهي التي تصدع في لحظة تجلٍّ مهيبة: «يا له من بَرْقٍ ضرب غابات النفس بالصاعقة فأشعلها!».

لقد بدت روح الشاعرة، في ظلّ هذا الحصار بالواقع وهموم الناس إلى حدّ الاختناق، متعطشة إلى الوحدة المطلقة والاستغراق في مطالعة الكتب التي تُحبّها، وإلى الكتابة ثُمّ الكتابة. تسافر إلى أريحا من أجل نخلة الله، وتغوص لياليَ الأرق في عالم تشيكوف، الذي يعجُّ باللواعج الإنسانية الداخلية كما لو أنّها تستمدُّ منها العزاء المنشود أو الطاقة المفتقدة. وتُحبّ الليالي، وتُحبّ أن تسمع موسيقى المُوشَّحات والمواويل من ذوات الشجن، التي تعيدها إلى أيام الطفولة السحيقة، وتجعلها تحيا مرّة أخرى «في السنين التي ولّت ولن ترجع ثانية». ولا تحبّ من الموسيقى الغربية إلا بعض السيمفونيات. وأحيانا يأتيها نُزوعٌ إلى التصوُّف، فتجد نفسها تكتب عن «الحلول والفراغ» وغزال الشوق الذي خرج من مخبئه على حين فجأة.
لقد مدّ كُلٌّ من الأدب، والفنّ، والشعر، والموسيقى روحها بالثراء والفرح، وبالينبوع الذي غاض في الاهتمامات السياسية والفكر السياسي والموضوعات. ولم تخْلُ رسالةٌ من شعر ومن حديثٍ عن الشِّعر، فقد كانت مسكونة به ومتعطّشة إليه مثل الماء والهواء. لكنّ الذي يعنينا هو مزاجها أثناء كتابة القصيدة، وطقوس كتابتها ودوافعها النفسية. فهي لا تكتب وفق تصوُّر قبليّ، بل تترك لانفعالاتها الآنية واللاشعورية أن تقود القصيدة إلى غير ما بدأت به: «حين بدأت بنظم القصيدة كنت أظنُّ أنني سأستمرُّ في استرجاع ذكريات الزمن الضائع من أيام العمر السحيقة، أيام الصبر والشعر والحبّ؛ لكن الذي حدث لاشعوريًّا أن الموضوع انقلب معي ليتحوّل إلى ما صارت إليه القصيدة». وهي تنقاد لتلقائيتها في كتابة الشعر إلا إذا أصابها عطبٌ تحت ما تسميه «وطأة تلك الازدواجيّة الشعورية وتناقضها». كما أنّها لا تعتمد الصيغة التي انتهت إليها القصيدة، بل تنقّحها وتُجري بعض الإضافات وبعض الحذف: «أجريْتُ بعض التغيير في القصيدة الأخيرة عن أريحا. من عادتي أن أترك القصيدة بعد كتابتها ثُمّ أعود إليها حيث تكون قد اكتسبت منظورا زمنيا فأُبدّل وأُغيّر هنا وهناك».
وتصل كتابة القصيدة عندها إلى ما يُشبه طَقسا تعبديا مهيبا: «حين جلستُ صباح أمسِ مع قلمي وأوراقي لأجيبك على رسالتك، وجدْتُني أُحسّ فجأةً بميلاد قصيدة في داخلي، وكعادتي في مثل هذه الحال تسمَّرْتُ على الكرسيّ أمام الطاولة دون حراك، وسرحتُ ـ لو ترى صديقتك وهي في استغراقتها الشعرية تحسبها واحدةً من رُهْبان الهنود غائبةً في تأمُّلات تعبُّديّة».

هل هي قصة حُبّ؟

ثمة دلائل نصية مختلفة تشير إلى أنّ الحبّ الذي تعالجه الرسائل وتكتب عنه ببهجة وحرقة في آن، هو حبٌّ حقيقيٌّ، متعيّن ومعيش بالحواس كُلّها. وقد بدأت قصة هذا الحُبّ عام 1975، بعد أن زارت فدوى إنكلترا والتقت بسامي وسعدت بالتعرُّف عليه كما تذكر هي نفسها في رسالتها الأولى، ثم توطّدت العلاقة بينهما أكثر، عندما بادرت فدوى إلى مساعدة سامي أثناء إعداده رسالة جامعية عن شاعر العامية الأردني المعروف نمر العدوان، إذ توسّطت له عند عائلة الشاعر من أجل جمع قصائده المُدوّنة في بعض الدفاتر الموزعة هنا وهناك، والاطلاع عليها. ورغم قصر المُدّة التي تعرّفت فيها على سامي، فإنها شعرت كأنها تعرفه من أعوام بعيدة، وهو دليل على زمن الوحدة الذي كانت تعيشه الشاعرة وتُذكّره به من حين إلى آخر.
وبعد أن وثقت الشاعرة بهذه العلاقة، وأحكم الحُبّ وثاقه عليها، لم تتوّرع عن البوح والاعتراف بما كانت تشعر به من حالٍ لم تتغيّر في زمن الاحتلال الصهيوني الغاشم لبلدها فلسطين، حيث تعاني مثل أبناء شعبها من عقابٍ جماعيٍّ على حافة الجسر، وحيث الأيام تتشابه ولا ترى في الأشياء التي حولها إلا وجهها المظلم، وحيث الطّوفانُ «الكاكيُّ» يهجم على طرق الإسفلت في كل يوم من أيّامَ السبت، الذي هو يوم العطلة في إسرائيل، حيث يتدفّق فيه الإسرائيليون على بلدها المُحتلّ ويجوبون الشوارع بحماية جنود الاحتلال، على نحو يُكثّف عندها الشعور بغربتها في الوطن المحتلّ. وفي إحدى الرسائل نسمعها تصرخ بملء فيها شعرا: «ها أنا أغرف يا سامي من نهر الوقت/ مَنْ ينقذني، من ينقذني من هذا الموت».

من نابلس إلى لندن، أو العكس، كانت الرسائل التي يتبادلها المُحبّان ترياقا وجسرا من العواطف الحيّة؛ فهذه فدوى تتلقّى الرسالة بذراعين مفتوحتين، وتستكين روحها إلى دفء المشاعر المتدفقة فيها، وتنهض للردّ في الغد أو بعده؛ «حيث أكون قد لملمتُ بعض الأجزاء من نفسي المبعثرة هنا وهناك». فرسائل فدوى ـ كما يظهر- لا تكتبها تحت طائلة الرد السريع، بل على مزاجها وتوقيت قلبها؛ لهذا نظفر من رسائلها بأبعاد فكرية وفنية لا تخلو من صدق وإمضاء شخصي. لكن تظلّ، مع ذلك، على مسافة ذهنية وجمالية بينها وبين رسالتها، إذ لا تسترسل في كتابتها كما اتّفق وتتوخّى الحيطة من لسان يراعها السيّال، وأحيانًا تأتيها فكرة التوقّف بسبب ما عُرف عنها من تكتُّم على مشاعرها وميلها الانطوائي، ثمّ سرعان ما يغلبها دَفْقُ «المطر المنهمر من آفاق القلب والرُّوح!» إذ كان الحُبّ مقودها، وكانت رسالة الحُبّ تعني عندها أن تفتح الشُّرفة وأن تتغلّب على «صقيع الوحشة» الذي تشعر به في وحدتها.
عدا هذا الجسر الذي تمدُّه مع من تُحبّ وتُبادله شجون مخدعها الخاصّ، تجد الشاعرة في راديو (بي بي سي) الذي ينقل إليها صوت المحبوب ترياقا آخر، إذ دأبت على الصحو مبكرا لتصغي إلى البرامج التي يقدّمها منذ (هذا الصباح) ويسافر بها من خلالها في أروقة المتاحف وقاعات المحاضرات والحفلات الموسيقية الشرقيّة، كأنّه نوع من الحضور الأثيري الذي يُشعرها بالفرح وتحاول أن تستجمعه من رعشة الموجات. تقول: «في حلقة «هذا الصباح» التي قدّمْتَها اليوم أحسستُ بك إحساسا بعيد الغور. حقًّا إنّ إحساسي بك يتّخذ عندي صفة الديمومة، لكنّه في بعض الأحيان يشتدُّ بشكل تسلُّطيّ ومسيطر».
لهذا تظلُّ تترقّب بشوق ذلك الصوت صباح كُلَّ يوم، وتتأفّف إذا كان متصنعا، وتُحبّه إذا كان أثر الرّشْح واضحا فيه، بل تقلق إذا غاب لفترة ما، وإذا طال الغياب عن صباحاتها تتساءل: «إذا غاب صوتك عن آفاقي فمن يشحن الأيام الباهتة بالضوء والحرارة؟». كما كان للموسيقى التي تأتي عبر الأثير فعل السحر في مشاعر فدوى، ولاسيما الأغاني القديمة التي تستثير ذكرياتها المخزونة، أو تلك التي تحملها إلى ذكريات «جوبيلي»؛ الحيّ اللندني الذي كان شاهدا على حُبّهما، فتتلاحق الصور في خاطرها. من الرسالة إلى الأثير، وفي حالات اشتداد الشّوْق، تصبو الشاعرة لو أنّ تُطوى الجسور ليتحقّق «الحضور الماديّ» فلم يعد الحضور الرُّوحي يكفيها ويبلّ ظمأها ويغني عن وعد اللُّقيا بالمحبوب مرة أخرى في لندن، أو في نابلس حيث ما تزال تترقّب رحلته النابلسية (الموعودة) قبل أن تصير بالنسبة لها أملًا ميؤوسا منه.

القدرة على أن نُحبّ

كانت فدوى صادقةً في حبُّها ومن أجل حُبّها؛ الحُبّ الذي نعتته بأنّه على «توقيت الديمومة» ولم تنبس بكلمة تعكر صفاءه وتكدّر ماء بحيرته التي تتماوج بأجمل الأقمار وأنقى البجع، إلى أن انفتح بصورة مفاجئة «جُرْحٌ ملمومٌ» وتراءى لها أنّ كلُّ الأشياء الجميلة أخذت تتعذّب، بل «يتشوّهُ وجه العالم». لقد ظهر «الشخص الثالث» المُسمّى (ياجو) على المسرح وأخذ يؤذي تلك الأشياء في الصميم.
هذا ما ولّد في نفس الشاعرة النزوع (الهامليتي) المتردّد، فبدأت تشكُّ حينا، وتسخر ولا تبالي حينا آخر إزاء عالم غريب مليء بالتناقضات، وساءت علاقتها برسائل الحبّ التي كانت تكتبها بصدق وعلى سجيّتها، وبالمرسل إليه نفسه، مِمّا منعها عن تعرية روحها على أوراق المراسلات. لكن دون أن تصدر منها بذاءة ما، أو تتصرّف بأنانيّة قبيحة، بل ترفّعت أمام ما يحصل ويتناهى إليها من أفاعيل القناع ومن أخبار اللغط والثرثرة، بهمّة ورباطة جأش.
كما ولّد في نفسها أذىً ونزيفا داخليا، لكنّها ظلّتْ حريصة على إخفائه حتى لا تُفْسد حلاوة ما كانت تعيشه من فصول القصة، وعلاقتها بالآخر المحبوب، وعلى أن تترك الأمور تجري بلا تعقيد، غير أنّ ذلك أوقعها في تناقُضٍ وجدانيٍّ بين غبطتها بالموجود القريب وإحساسها الجارح بالمفتقد والبعيد. شبّهتْ نفسها، بعدما أخذ الصمت والفراغ الموحش يدبّ في أوصال العلاقة، بـ(ميديا) الأسطوريّة لكنها ليست مثلها؛ تفعل السيئ لإيذاء الآخرين، بل تؤذي نفسها لإرضاء الآخرين، وهو ما أشعرها بالضياع، فظلّتْ تبحث عن نفسها في الصحراء التي تسلكها وحدها بصمت وحيرة، قبل أن تتأقلم مع الأرض الصخريّة القاحلة، وتغنم من الأمر جميعا ثراءَ التجربة. لقد تحوّلتْ قصة الحُبّ الحالمة في لحظة إلى هزليّة مضحكة، ثُمّ إلى مأساة حكمت على كل شيء بالانتهاء.. إِلا الذكريات الملونة: «كان مبعث حزني الصورة الكئيبة التي انتهت إليها صداقتنا الجميلة، دون مُبرّر أو سبب. فقد كان كلُّ شيء على أكمل وجه من الوئام والتفاهم المتبادل. ثم، ودون مقدّمات، توقّفتْ حركة الحياة بيننا».
في رسالة، هي الأطول بين الرسائل؛ بسبب بعدها الكنائيّ ـ الرمزي وجريانها على منوال تيار الوعي وتداعي الذكريات، تنتهي فدوى إلى هذا الدرس البليغ؛ وهو: «القدرة على أن نُحبّ!». تستحضر في الرسالة حكاية رفيقة ترجع الصُّحبة بها إلى أيام الطفولة. لكن هذه الرفيقة لم تكن إلا فدوى نفسها، فدوى الصدق والعفويّة، وفدوى القول الذي لا يصدر إلّا عن إحساس حقيقي عميق، وفدوى العاشقة التي كانت تملك ديناميكية عاطفية عجيبة إلى ما قبل حرب حزيران/يونيو 1967، وكانت تنشغل بالحبّ انشغالا أبديّا. قبل أن تصبح واحدةً من شخصيّات تشيكوف، التي يعجُّ باطنها بالمشاعر المتلاطمة وغير القابلة للفهم. وقبل تتحوّل إلى (ميديا) الأسطورية، وإلى الفتاة النابلسية التي تلتمع على وجهها درامية الدمعة؛ الدمعة التي تزخر بعنفوان التيار وهو يجري تحت الماء، والشاعرة التي تنقطع عن العالم الخارجي بأخيلتها وانفعالاتها، لكنّها تحاول أن تتعلّم من شرط كينونتها الخاصّ، وأن تحافظ على جدارة الحبّ واستحقاق الحياة رغم مصاعبها الجمّة: «القدرة على أن نُحبّ!». هذا كل شيء، وما تبقّى مجرد تفاصيل في صميم الحكاية الإنسانية؛ ثم ماذا بوسع شاعرة نبيلة وهشّة أن تفعل أمام مرآة الحياة وقد هشّمها المجتمع الظالم.

كاتب مغربي*



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2184599

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184599 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40