الأحد 29 آب (أغسطس) 2021

جولة مقالات ومحطات

الأحد 29 آب (أغسطس) 2021

- جان ألبير واستراتيجيات السرد المستحيل
نادية هناوي*ليست الترجمة الأدبية متاحة لأي أحد يتقن اللغة الإنكليزية، إذ لا بد للمترجم من أن يكون ذا ذائقة وهو ينتقي هذه اللفظة دون تلك، أو هذا التعبير دون سواه. وعلى الرغم من أن للأدب ونقده جهازا لغويا له سياقاته التي يعي المتخصص أهميتها، فإن كثيراً من المفاهيم الأدبية والمصطلحات النقدية التي تُرجمت إلى العربية لم يُتفق فيها على تداولية موحدة بشأنها باستثناء قليل مما اتَفق عليه وبشكل غير مباشر الباحثون والمهتمون بالشأن الأدبي والنقدي.
ولعل من مقتضيات الترجمة الأدبية أن يُراعى في تعريب أي مفهوم أدبي الدقة الاصطلاحية، ومن ثم لا بد للمترجم من ذخيرة لغوية وخبرة معرفية، تعينه على انتقاء المفردة الأنجع في التعبير عن المعطى الدلالي للمفهوم المترجم، ومن دون ذلك لا تقدر الترجمة الحرفية على تأدية مهمتها بأي حال من الأحوال. وكم أعجبتنا روايات، والسبب دقة ترجمتها الناجم عن مهارة لغوية في انتقاء الأساليب اللغوية التي تماثل الأصل المترجم. وهو أمر لا يتوفر إلا لمترجم ثقَّف ذائقته بالقراءة الأدبية، وكان على صلة وثيقة بالأدب وحركاته. وكثير من مترجمينا المعروفين هم نقاد وأدباء مثل عبد الرحمن أيوب ومحمد عناني وسعد البازعي وفخري صالح وشكري المبخوت وغيرهم.
وعلى طول تاريخ الترجمة إلى العربية لم يدّعِ مترجم أن ما يُعرِّبه من مفاهيم الأدب والنقد هي حق له، مدعياً أنه الأول في استعمالها، ناسبا إياها إلى نفسه وكأنها من عنديات أفكاره، فذلك بالطبع يُعد انتهاكاً لملكية أصحابها الأصليين. بيد أن هذا يحصل أحيانا بقصد أو من دون قصد، ومن ذلك ما صرنا نشهده من ادعاءات بعض باحثينا بابتكار وليس ترجمة مفاهيم نظرية، ومنها مفاهيم السرد المعرفي ونقده التي دشن أبعادها المنظر الأمريكي ديفيد هيرمان بدءاً من مقالته المهمة (narratology as cognitive science) ومن بعدها كتبه التي كرّس فيها جهده لدراسة تلاقي السرد بالعقل، فطرح مفاهيم علم السرد ما بعد الكلاسيكي، والسرد المعرفي، ومنطق القصة، وتوظيف الوسائط الافتراضية في السرد وغير ذلك كثير مما طبّقه على الروايات والقصص الخيالية القديمة والحديثة، التي فيها يمكن لما هو غير بشري أن يمارس اللعبة السردية من منظور إدراكي مقارن وتطوري. وقد انضم إلى مشروع هيرمان مجموعة باحثين، ومن هؤلاء خمسة أسسوا لمصطلح (السرد غير الطبيعي) وهم ستيفان إيفرسون وهنريك سكوف نيلسون وبراين ريتشاردسون وجان البير، واشتركوا في تأليف كتاب «السرديات غير الطبيعية، علم السرد: ما وراء النماذج التقليدية» (Unnatural Narratives, Unnatural Narratology: Beyond Mimetic Models )2010.
وسبق أن تناولنا مفاهيم ( السرد غير الطبيعي أو المضاد Unnatural Narratives ) لبراين ريتشاردسون في مقالات كثيرة مثل (ديفيد هيرمان والسرد المعرفي/ علمية السرد ما بعد الكلاسيكي /نظرية السرد وتداول مفاهيمها/ علم السرد اللاطبيعي/الحكي بطريقة السرد غير الطبيعي/ السرد غير الطبيعي في خرابة ميشو..) وهنا أقف عند مفهوم (السرد المستحيل impossible narrative) الذي تناوله الألماني جان البير Jan Alber في كتابه «السرد غير الطبيعي: عوالم مستحيلة في التخييل والدراما»
Unnatural Narrative: Impossible Worlds in Fiction and Drama الصادر عن جامعة بنراسكا 2016.
وعلى الرغم من أن هذا المفهوم كسابقه السرد غير الطبيعي، لم يختمر بعد، وما زال الباحثان يواصلان الكتابة فيهما، فإن بعض كتاّبنا أخذوا يغيرون على المفهومين، ناسبين إياهما لأنفسهم كاصطلاحين مفروغ منهما، وهم فيه( الأوائل عربيا). وفي هذا بالطبع سطو على ملكية الآخر الفكرية، فضلا عن طبيعة الترجمة وما ينجم عنها من تغاير في إدراك المفهوم واستيعاب أبعاده.

وقد فسَّر البير حالة الذهول والدهشة التي صار عليها السارد، بسبب حرف الألف الذي بدا هو (الكون الذي لا يمكن تصوره) بما سماه «الرؤية الكلية» التي تجعل السارد على صلة بما حوله، وهو يتعرف على نفسه في الألف الذي يراه يبعث بشكل خاص رسائل غير معقولة وفاحشة، فيحاول التفكير في ما لا يمكن تصوره، معتقداً أن الألف مزيف وأن الكون هو نفسه غير طبيعي.

ومن المهم أولا أن نؤكد أن جان البير لم يطرح (السرد المستحيل) مصطلحا قارا، بل إن فكرة الاستحالة في السرد هي استراتيجية من استراتيجيات السرد غير الطبيعي، طرحها في دراسته (عوالم القصص المستحيلة: ماذا تفعل معها) المنشورة بالإنكليزية في مجلة «الدراسات السردية» المجلد الأول 2009. وفي هذه الدراسة اهتم البير بتفحص العناصر السردية في مجموعة من القصص القصيرة والروايات والمسرحيات، التي فيها يغدو جزء من الجسد ناطقا، أو شخصية تنطق وهي ميتة، مما هو شائع في الحكاية الخرافية والملحمة البطولية والرومانسية، وشاع أيضا في آداب القرن الثامن عشر كالرواية القوطية ومسرحيات الأشباح والسرد الخيالي، وما عُرف في سرديات ما بعد الحداثة عن السفر عبر الزمن، وتوظيف الذكاء الصناعي وتكنولوجيا المعلومات والوسائط الافتراضية وغيرها من الموضوعات التي يستحيل حصولها في العالم الواقعي. وقد وجد البير أن لاستراتيجية السرد المستحيل خمس صور ينتج عنها السرد غير الطبيعي ومن هذه الاستراتيجيات:
1 ) تفسير بعض العناصر المستحيلة على أنها أحلام أو تعصب أو هلوسة.
2 ) التغييرات المستحيلة في طبيعة الطقس والأثاث، وما إلى ذلك من الجوامد والمتحركات غير المعقولة.
3 ) توظيف الرموز التي تقرأ مجازيا عن العالم، كبديل عن وجود أفراد ناطقين وعنها تنشأ سيناريوهات مستحيلة.
4) السيناريوهات المستحيلة التي فيها يكون الراوي حيواناً أو جثة أو كائناً غير حي.
5) دمج النقاط السابقة في ما سماه البير (البرامج النصية) التي توسع أطرنا في فهم المستحيل وإعادة التفكير في ما هو ممكن.
وعلق جان البير على هذه الصور الاستحالية للسرد غير الطبيعي بالقول: (على الرغم من أن استراتيجياتي الخمس هذه قد تتداخل أحيانا، فإنني أحاول تحديد خمس عمليات عقلية فيها: أولا/ إننا نفسر المستحيل على أنه غير معقول وغير مقبول. ثانيا/ نقرأ السرد غير الطبيعي كسيناريو وليس كأحداث ذات دوافع محاكاتية. ثالثا/ القراءة المجازية هي الأكثر تقبلا لعناصر الأحداث السردية المستحيلة. رابعا/ التعامل مع السرد غير الطبيعي من خلال دمج استراتيجيتين موجودتين سابقا لإنشاء استراتيجيات جديدة. خامسا/ إن إضفاء الطبيعية على ما هو غير طبيعي هي طريقة لتنويع العوالم الخيالية داخل العالم الواقعي.
وبهذه الطريقة تصبح السرديات غير الطبيعية اعتيادية، ليس فيها غرابة ولا تتولد عن قراءتها مشاعر الانزعاج أو الخوف أو القلق. وقد طبق جان البير هذه الاستراتيجيات الخمس للسرد المستحيل على أعمال مسرحية وروائية وقصصية باحثا فيها عن سيناريوهات سردية مستحيلة زمانيا ومكانيا وجسدياً. فبدأ بمسرحية «رغبة قلب» ( Heart’s Desire) لكاريل تشرشل 1997 ثم رواية «سهم الوقت» ( Time’s Arrow) لمارتن أميس 1991 فقصة «الألف» من مجموعة «The Aleph» لخورخي لويس بورخيس، محللا أحداثها، وفيها ينزل السارد بضمير المتكلم إلى قبو فيرى الحرف الأول في العربية (الألف) فيقول: (كيف بوسعي أن أنقل للآخرين لانهائية الألف الذي لا تكاد ذاكرتي الجزعة ان تحيط به؟ بيد أن الحيز الكوني جميعه كان هناك بلا اختصار في حجمه كل شيء (صفحة المرآة مثلا) لأنني بالطبع كنت أراه من أنحاء الكون كافة (قصص الألف، بترجمة محمد أبو العطا).
وقد فسَّر البير حالة الذهول والدهشة التي صار عليها السارد، بسبب حرف الألف الذي بدا هو (الكون الذي لا يمكن تصوره) بما سماه «الرؤية الكلية» التي تجعل السارد على صلة بما حوله، وهو يتعرف على نفسه في الألف الذي يراه يبعث بشكل خاص رسائل غير معقولة وفاحشة، فيحاول التفكير في ما لا يمكن تصوره، معتقداً أن الألف مزيف وأن الكون هو نفسه غير طبيعي.. وبعد سيناريوهات غير طبيعية نكتشف في النهاية أننا لا بد من أن نركن إلى طبيعة العقل البشري.
ومن الروايات التي حللها البير ووجد فيها سيناريوهات مستحيلة رواية جون هوكس (Sweet William: A Memoir of Old Horse ) 1993 وبطلها حصان متمرد يسرد أحداث حياته متخوفا بحساسية مفرطة وشديدة من العالم، أكثر من تخوف البشر منه، محاكيا محاكاة ساخرة طرائق البشر في فهم الذات. وقد استدل البير من تحليل هذه الرواية على أن الهدف من جعل الحيوان سارداً، هو نقد اللامبالاة والغطرسة التي بها يتعامل البشر مع الحيوانات. وأكد البير وهو يحلل رواية أليس سيبولدThe Lovely Bones بأن السرد المستحيل يدعونا إلى توسيع نطاق تصوراتنا المعرفية، كي ندرك كيف يستمر السارد الميت في التفاعل مع العالم الذي كان قد غادره، وهو الآن جثة أسرد قصتها، مكذبة حقيقة أن الموتى لا يستطيعون الكلام، في إشارة إلى أن الموت ليس نهاية محددة لوجودنا، وأن الموتى بطريقة ما يستمرون في الوجود.. وقد افتتحت الرواية على النحو التالي: (كان اسمي السلمون. كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما قُتلت في 6 ديسمبر/كانون الأول 1973). أما السارد الذاتي في قصة لريك مودي القصيرة «The Grid « 1995 فيحكي بالضبط ما الذي يحدث في غرفة فوق رأسه، وما الذي سيحدث له في المستقبل عارفا ما يعتقده الآخرون ويشعرون به تجاهه.
هذه التطبيقات وغيرها هي نماذج سردية تخالف نماذج السرد الطبيعي، وفيها يتجاوز السارد إمكانيات العالم الواقعي، إلى ما وراء الواقعي والمألوف، مختبرا فكريا قدرات المتلقين الفكرية، مثيرا اهتمامهم نحو رؤية الأحداث البشرية، من خلال سيناريوهات لم يسبق لهم أن لاحظوها أو حتى حلموا بها من قبل. ومن الاستنتاجات التي توصل إليها البير أن الساردين غير الطبيعيين ليسوا دائما بشراً، بل هم مجموعات هجينة من السمات البشرية وغير البشرية. ويمكن قراءة هذه المجموعات على أنها تقول شيئاً عنا وعن العالم الذي نعيش فيه وعن وجودنا في هذا العالم أيضا.
وليس جان البير في طرحه هذا بمنفصل عن مشروع ديفيد هيرمان الفكري وما تبناه تلاميذه الذين طوروا مفاهيم السرد المعرفي ومنها سيناريوهات السرد غير الطبيعية، التي فيها السرد المستحيل عبارة عن استراتيجية ذات صور.

كاتبة عراقية

- مِنْ وَجَعِ السير ذاتي الفلسطيني العراقي: «لملمة أوراق تبعثرت» لسلوى جراح
سمير حاج*

كتابة السيرة الذاتية الفلسطينية أو التغريبة الفلسطينية، المسموعة من الذاكرة الجمعية، من رؤى مَن يعِشْنَ في المنفى أو خارج المكان، هي كتابة مأساوية مُترعة بالمواجع والامتهان والتلاشي، فيها تستعيد الكاتبة شريط ذكريات لَم تَعِشْها، لكنها سمِعَتها شَفَويا مِن ذاكرة والدَيَها وجَديْها عن حقبة ما قبل النكبة، حيثُ وقف الزمان بها، وكأن الكاتبة بقيت تلك الطفلة المشدوهة، التي تشكلت هناك ولمْ تكبرْ، داخل عتبة البيت العكي، الذي خسرَهُ أهلُها وبقيتْ هيَ تبحثُ عنهُ. الغربة في توصيف الكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا هي «أوجع اللعنات» والغريب أو المُغَرب، رغم وجعه يبقى برؤية المُفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، رهينَ ذكرياته، في المكان الأول الذي خسره. وها هي الكاتبة الفلسطينية ابنة عكا سلوى جراح، مَسكونةً بالوجع الفلسطيني العراقي، وبلعنات الغُربة، تبكي فلسطينَ والعراقَ معاً، وتقوم بتعريجاتٍ مُتعددة إلى مدينتها الأولى عكا التي لا تخافُ هديرَ البحر، على خُطى إدوارد سعيد، في زيارته العاطفية الخجولة عام 1992، لبيت عائلته المسلوب الواقع في الطالبية – القدس الغربية، وغادة الكرمي عام 1991، إلى بيت عائلتها الواقع في القطمون، تماهياً مع سعيد. س التخييلي، في مزمور غسان كنفاني الحزين «عائد إلى حيفا».
سلوى جراح العكية الجذور، وهي عائدة إلى طفولتها المُشتهاة في عكا، ترنو باندهاشٍ، إلى مدينتها وأهلها الباقين فيها، تلعق حنْظَل الغُربة الحارقة، وتستمد نَسَغَ الحياة وهي تلملمَ، أوراق ذكرياتها المُشتتَة والمبعثرة بين أسوار عكا، أو في الوعاء العكي بلغة باشلار «كنتُ على أبواب الخمسين من عمري حينَ زُرْتُ عكا لأول مرة. وقفتُ عند مدخلها القريب من جامع الجزار مشدوهةً أكاد لا أصدق ما أراه. وحين خطوتُ في شوارعها، انهمرت دموعي، وأنا أرى أمامي كل حكايات جدتي وأبي وأمي، جامع الجزار وسبيل الطاسات، كما كانت تصفه أمي، ومطحنة جدي في الزاوية عند مدخل السوق. والبحر والصخور التي يؤدي إليها السوق العتيق». هذا الحنين للمنزلٍ الأول، شدها لتكرار زيارتها إلى عكا التي حملتها في تلافيف ذاكرتها وفي عالمها التخييلي، «في سنين تالية، تكررت زياراتي لعكا وجعلتها مسرحاً لأحداث روايتي الثانية «صخور الشاطئ» التي قال عنها أصدقائي العكاويون: «إنها تصف عكا بدقة وكأنني عشتُ فيها عمري». كما أن هوية البيت تغيرت « وقفتُ على عتبةِ بيتِ جدي وأنا أستذكرُ كل ما حَكَتْهُ جدتي عنهُ. لمْ يَطُلْ وقوفي على العتبة لأن البيتَ تسكُنُهُ ثلاثُ أسر يهودية جاءتْ مِنْ بولندا. التقطْتُ الصور وتمنيْتُ أنْ أكونَ قدْ عرَفْتُ جدي». كتابة المَنفى هِيَ أم المواجع، وكما يشي عنوان التغريبة «لملمة أوراق تبعثرت» الصادر عن دار الكتب العلمية ـ بغداد 2019 .

سلوى جراح

ذكريات الطفولة بين برج البراجنة وكركوك وبغداد الزمن الجميل

تسرد الكاتبة التي وُلِدَت في فلسطين وغُربَتْ عنها طفلةً، وعاشت في العراق حتى عام 1977 وتعيش اليوم في لندن، من جعبة ذاكرتها الطفولية، أن والدها في عام 1950 سافر إلى إنكلترا، في دورة تدريبية ضمن عمله في شركة نفط العراق، فاضطرت هي وأمها العيش في بيت جدتها في منطقة برج البراجنة في بيروت. وهناك كانت جدتها تحمل رزمة من مفاتيح تتأملها وتقول «هذا مفتاح بيتنا بعكا، بيت جدك نجم الدين الله يرحمه، وهذا مفتاح مطحنته اللي كانت في أول السوق» و»عكا اللي بيسلم عليها البحر عالرايحة والجاية». ثُم تستعيد صورة مدينة كركوك التي عاشتها بين 1955-1962 «كانت كركوك في الخمسينيات، مدينة صغيرة على قدر كبير من الحداثة، شوارعها منسقة تتوسطها مساحات، مزروعة بالورد وشجيرات الآس. كركوك مثل بغداد يقسمها إلى جزءين نهر خاصه صو» وتشير الكاتبة إلى ميزة عراقية جميلة، أن العراق يتميز عن كل الدول العربية، بأن الآباء والأمهات يتكنون باسم المولود الأول، بغض النظر ذكراً كان أم أنثى، وتصف بغداد الجميلة التي كانتْ، والتي عاشتها بين الأعوام 1962-1977، حيْثُ كانت تتنقل حسب تنقل والدها في عمله في شركة نفط العراق. كما ترسم حبها لبغداد بأسلوب شاعري «أحببت بغداد حبا لا فكاك منه. سحرني دجلة الذي يتلوى حولها ليحتضن بساتينها، وشوارعها العريضة وبيوتها الواسعة. أحببت أسواقها العامرة وشارعها الشهير، شارع الرشيد، قلبها النابض بالحركة» كما تحكي التحاقها بالإعدادية الشرقية للبنات، التي كانت تديرها واحدة من أشهر الشخصيات التربوية في بغداد، الست لميعة الأورفلي. وتكتب سلوى جراح بأسف قيام السلطات العراقية، بإغلاق جامعة الحكمة، التي أسسها الآباء اليسوعيون، وضمها إلى جامعة بغداد «في يوم شتائي كئيب في بداية عام تسعة وستين، ودعنا في مطار المثنى ببغداد أساتذتنا الذين تعلمنا منهم كيف نفكر ونحلل ونبحث ونحترم تنوع الفكر، وما أزال أفاخر بأنهم علموني، لا لأنهم واسعو العلم والمعرفة، بل لتواضعهم وحرصهم الشديد على توصيل ما لديهم من معرفة لطلابهم، وترسيخ فكرة البحث عن الحقائق والدقة الموضوعية».

الكاتبة تعتمر قبعة الناقد

في هذه السيرة الفلسطينية العراقية النِسْوية، التقاطع بين الواقعي والتخييلي هو جوهر الكتابة الإبداعية، وإلا لما اعتَمَرَتِ الكاتبة قبعة الناقد، لفك شيفرات عملها الروائي بكَشفٍ المُضمَر وإزاحةٍ القناعِ، عن شخصياتها الروائيةِ بهذا الشكلِ الفاضِحِ. لماذا تكشفُ هوياتِ شخصياتها؟ أليس كان أجدى لو أفضت الكاتبة بهويات شخصياتها، بحوار أدبي أو مقابلة وليس ضمن السيرذاتي، عَطْفًا على ما ورد في قصيدة «ماذا يقولُ النهرُ» للشاعرة نازك الملائكة: «لَوْ كَشَفَ الزنبَقُ أسرارَهُ / لَمْ يَبْقَ معنى لشذاهُ العميق» رُبما أرادتْ الكاتبة إضاءة عتمات غابة النص الروائي الشائكة. تفكك الكاتبة رُموز وشيفرات شخصياتها الروائية، وتعترف بأنها مُستقاة من عالمها المعيش، ففي روايتها «صورة في ماء ساكن»- 2014، بديعة ابنة العاشرة، التي شاهدت على شاشة التلفزيون عام 1963، صور إعدام الزعيم عبد الكريم قاسم، هي الكاتبة نفسها. وفي روايتها الأولى «الفصل الخامس» ـ 2005، تحضر صديقتها في الغُربة، المُخرجة العراقية في بي بي سي أولغا جويدة، باسم وليدة الصالح.

بين حسرة قطع النخيل ودمعة الزيتون

عاشَت حلاوة الماضي وعانت وجع الحاضر. احتفَت بطفولتها في العراق الجميل وبشموخَ نخيلهِ في البصرة بين الأعوام 1950-1977، حتى أصبحتِ النخلةُ هويتها ومعشوقتها ورسمتها الجميلة منذ صغرها «صارت النخلةُ بالنسبة لي رمزًا لكل شجرةٍ، وإنْ قيلَ لي ارسمي شجرةً أرسمُ نخلةٌ لأنها بالنسبةِ لي ترمزُ لكل الأشجارِ» لكن حينَ ذُبِحَ العراقُ واقتطعَ نخيلهُ تركَ جراحا وجيبةً في قلبها، هذا ما اعتمل في صدرها حين زارت العراق عام 2010، بعد قطيعة 33 عاما، «لم يَخْطُر لي ببال حينَ كنتُ أعيشُ في ظلالِ نخيلِ البصرةِ أنهُ سيأتي يومٌ تقفُ فيهِ تلكَ النخلاتِ الباسقة، مقطوعةَ الرؤوسِ، تروي ما عاناهُ العراقُ من حروبِ وظلمِ وعسف». كما أن نصفَ قلبها الوجيع، حمل الهم الفلسطيني وعانى وجع اللجوء والاغتراب، فبقيَ يرددُ مع محمود درويش «لوْ يذكُرُ الزيتونُ غارِسَهُ / لصارَ الزيتُ دمعا» لأنها عاشتْ في لبنانَ لاجئةً وغريبةً.
إنها كِتابةُ مواجع، سيرة سيزيفية مُطعمة بذكريات طفولية جميلة، لكن غالبيتها مُترعة بتداخل الأحزان، بدءا بحسرة خسران البيت الأول في عكا، وخراب الوطن الثاني العراق.. سيرة التغريبة الفلسطينية، أضلاعها تعدد أمكنة الغُربة الموحشة والمُشظاة.. وزواياها أوراقٌ مبعثرةٌ.

كاتب فلسطيني*

- قراءة في رواية “كان وأخواتها” لعبد القادر الشاوي: منطق القراءة في شكل الكتابة
لحسن أوزين*
حاولت في هذه القراءة للرواية أن أبتعد ما أمكن عن التناول المباشر للرواية كما لو كانت خطابا إيديولوجيا، أو نقدا سياسيا للاستبداد السياسي. صحيح بأن الرواية تتناول تجربة الاعتقال السياسي التي طالت مجموعة من الافراد والمنظمات السياسية اليسارية في مغرب السبعينات، أي ما يسمى بمرحلة الجمر والرصاص، بشكل عنيف وظالم ومتناقض كليا مع قيم ومبادئ حقوق الانسان. خاصة وأن الاعتقال مس طاقات شبابية من المثقفين والكتاب والسياسيين. حيث كان ذنبهم الوحيد أنهم فكروا بطريقة أخرى وفق رؤية متناقضة لكل ماهو سائد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. لكن الرواية كعمل إبداعي لا ينبغي أن تختزل في الأيديولوجي بشكل مباشر وتقريري مما يفقدها قدرتها الفنية والجمالية في إعادة صياغة وبناء وتركيب واقع تجربة الاعتقال السياسي بكل ملابساتها وظروفها المؤلمة والقاسية.

ميثاق القراءة ومسألة التجنيس

أسئلة كثيرة تطرحها كان وأخواتها سواء في ما يتعلق بتمفصل الذاتي والموضوعي، أو في ما يخص العلاقة بين السيرة الذاتية والشكل الروائي. أو في خلخلتها للاجناس الأدبية بين الشعري والسير ذاتي والروائي. إنه نوع من الشغب الفني تؤطره رؤية مغايرة للجاهز الإبداعي والنقدي. وعلى حد النقد والحوار تنتج كان وأخواتها علاقاتها الأدبية، كما تؤسس لقراءتها كميتانقد. وذلك انطلاقا من محاورتها لذاتها ككتابة إبداعية، وهي بذلك تقحم القراءة في هاجس مساءلة أدواتها ومفاهيمها، من خلال وعي بلورته الدراسات الحديثة في مجال اللغة والكتابة” أعني ممارسة تهدف الى خلخلة الاجناس الأدبية: في النص لا نتعرف على شكل الرواية أو شكل الشعر أو شكل المحاولة النقدية”1.
إذا كان فليب لوجون يحدد طبيعة النص انطلاقا من مواثيق القراءة، فإن الكاتب اختار الجنس الذي يندرج فيه إبداعه. لكن إذا كانت كان وأخواتها تحمل على غلافها اسم رواية، فإن قراءتها تبين لنا أن الامر يتعلق بكتابة يختبئ في طياتها وعي إبداعي ونقدي يقلب اطمئنان القارئ للمعايير النقدية التقليدية، وذلك انطلاقا من مفهوم التجريب الذي تركبه الكتابة عند الكاتب. فمن الصفحة الأولى يلاحظ القارئ، من خلال كلام العروي، أن الرواية تنقض ميثاقها، فتدخل القارئ في هواجس أسئلتها ككتابة. فهل هي سيرة ذاتية أم رواية؟
أثناء القراءة نتعرف على أماكن، أسماء، مدن وأشخاص واقعيون. متن الحكي معروف على الأقل في الذاكرة. كما أن النص تخترقه قصائد شعرية وتفاصيل شاعرية رغم عنفها وقسوتها. ” إنه نص معجون، أساسا، بطينة الواقع وطينة الذات وطينة اللغة، طينة مركبة وملبدة وساخنة ولزجة، أعطت في النهاية وبعد معاناة ومخاض، هذا التشكيل الادبي الفسيفسائي الممتع والمثير الذي يحمل عنوان كان وأخواتها.”2 إنها كتابة يصعب تصنيفها، الشيء الذي يجعلنا نتساءل عن سر تسمية الكاتب لنصه ب “رواية”. يمكن القول إنها رواية إذا تعاملنا معها وفق مفاهيم النقد الحديث، الذي يعتبر الرواية كتابة مفتوحة. إنها رواية إذا نظرنا إليها من المسافة الفنية والجمالية. هذا يعني أنها رواية في قدرة مستوى الخطاب على استيعاب مستوى القصة، وعدم السقوط في الكتابة التسجيلية، والتقريرية المباشرة.
لقد سميت رواية لانها أكثر من رواية ” يعني أننا أمام خلخلة للاجناس، فمنها ما يحاول شق طرق جديدة. والجديد يتميز بقدرته على إحداث نوع من الصدمة، من حيث إنه يرفض تقليدا لم يعد إلا اجترارا وانخراطا في التقليد الادبي”3 . إن ذلك الالتباس الحاصل حول مسألة تصنيف “كان وأخواتها”، هو ما شغل النقاد، حيث حاول بعضهم تقديم مسوغات لاختيار الكاتب وصم عمله الإبداعي بوصمة الرواية. ” كيف يستقيم هنا مصطلح رواية الذي يحيل الى كون تخييلي استيهامي، إزاء هذا الكون الواقعي الملموس الذي يتدفق حارا وطازجا عبر سطور النص، لافحا بهجيره وجه القارئ وآخذا بأنفاسه وخناقه إنه في رأيي مكر المؤلف ومراوغته واصراره على تشويش قواعد اللعبة الأدبية.”4 إنه مكر وعي نقدي أطرته الأبحاث اللسانية والبنيوية والسردية…
وأثناء قراءتنا لمجموعة من الروايات المغربية والعربية لاحظنا بأن الرواية العربية عموما لا تستطيع أن تكون نصا روائيا إلا من خلال اعتمادها بشكل أو بآخر على مكون السيرة الذاتية. وقد سبق أن ناقشنا هذه الملاحظة في دراسة سابقة5.

القراءة وشكل الكتابة

يستخدم الكاتب أدوات لغوية تجعلنا نعتقد أن هناك الراوي والشخصية الرئيسية. ثم فجأة يغدو المروي عنه راويا، وهو في ذلك يحاول أن يجعل السرد يتكلم عوض تدخله المباشر الذي سيضعف فنيا عمله. يطل الراوي علينا بالضمائر التالية: هو، نحن، أنا، أنت. فيبدو الراوي ملتبسا، مترددا في شكل حكيه. هو الواحد المتعدد، القائم على النقد والاختلاف.ف(ش) الطفل ليس هو (ش) الذي تعرض للاختطاف ومورس في حقه أبشع أشكال التعذيب هو ومن معه. كما أنه ليس (ش) الذي يحن في راهنية السرد الى قريته وطفولته. هذا الواحد المتعدد، الغامض، الملتبس، سرعان ما يبدو عنصرا فنيا، منسجما مع شكل الكتابة الذي اختاره (ش). الكاتب مهووس بخلق مسافة حيادية وموضوعية بينه وبين الراوي والشخصية، من خلال لعبة الضمائر. يتموج السرد بين الذاتي والموضوعي، وذلك هو شأن الرؤية مع كما يحددها النقد الحديث ” إن الرؤية مع أو العلاقة المتساوية بين الراوي والشخصية هي التي جعلها توماشفسكي تحت عنوان” السرد الذاتي” والواقع أن الراوي يكون مصاحبا لشخصيات يتبادل معها المعرفة بمسار الوقائع. وقد تكون الشخصية نفسها تقوم برواية الاحداث”6. الكتابة عنده تنهض بها ذاكرة موشومة بفواجع مرحلة تم إجهاض أحلامها الكبيرة التي صارت مجرد غبار تذروه رياح الجمر والرصاص. ذاكرة تنقل الواقع التجربة في حركة الكتابة، فالراوي ” يخلق ذلك الماضي أكثر مما يعيد تكوينه، يخلقه الراوي داخل حاضر الكتابة التي بواسطتها يتم الإعلان عن ميلاد الذات المعاصرة للمحكي”.7 تعرف ذاكرة الراوي أن ليس هناك ماضيا جاهزا يكفي سرده ببساطة، إنه ماض يخترقه الحاضر. ذاكرة تعرف سيرورتها كوعي متحرك، تعيش ماضيها بسؤال الحاضر والمستقبل. لا شيء في الماضي يحافظ على براءته ونقائه وقدسيته. إنه ليس أكثر من مرحلة تترابط وتتفاعل مع صيرورة الزمن، في سياق سيرورة تحولات الذات في فضاء روائي اجتماعي قمعي يمارس هدر الانسان في حياته وكرامته. الماضي يدخل دائرة الوعي ككتابة أدبية، التي هي دائرة السؤال النقدي. هكذا هي الكتابة في ” كان وأخواتها”. كتابة تعرف مقوماتها وخصائصها المعنوية والأدبية والفكرية والدلالية. فهي لا تلجأ الى النقل الأمين كمفهوم متعال. ولا تؤرخ للذات إلا في ارتباطها الجدلي مع الذوات الأخرى، كعلاقات إنسانية لها سياقها التاريخي. ” كان وأخواتها” لم تختزل نفسها الى مجرد حكاية غارقة في الحديث عن الذات، فالكاتب ينوع ضمائره هروبا من تحديد فليب لوجون للسيرة الذاتية من حيث تطابق الكاتب والسارد والشخصية الرئيسية، حيث يقول” السيرة الذاتية حكاية إرجاعية نثرية يحكيها شخص واقعي عن وجوده الخاص ندما يركز على حياته الفردية وخصوصا على تاريخ شخصيته”.8
الراوي يبدأ سرده كما قلنا بضمير الغائب محاولا خلق مسافة بينه وبين (ش) الشخصية الرئيسية” يحن (ش) الى الماضي” . كما نلاحظ في الوقت نفسه أن السرد ينخرط في مسافة زمنية يمثلها حنين (ش) الى الماضي ” مسافة ووهم إذكار مشبع بالرغبات والتوجع، الماضي يعود اليه كأن ذكرياته الطرية ما وقعت في حياته الطفولية إلا بالأمس.”9 ثم يصبح المروي عنه راويا ” وحين كان المؤذن يطل من مربع الصومعة كنا نخلي المقهى.”10 إن الراوي رغم محاولاته تحقيق نوع من التمايز من خلال تنويع الضمائر، إلا أن السياق الدلالي يؤكد تماهي الراوي بالشخصية” لا أعلم هل تبدلت هذه القرية المكسورة أما ( ش) فقد تبدل. وهل استعاد سكانها عافيتهم السليبة أما هو فقد انطوى على نفسه وبايع الاحزان”11. ثم يضيف قائلا ” وأنا أذكر هذا أشعر بالضياع التام”12. إن (ش) يجعل من نفسه تارة راويا أو مخاطبا، وتارة أخرى متكلما عنه أو مخاطبا. إنه يشعر بهذا التعدد الذي صاره، بهذا التحول والتغير اللذين أنتجتهما مسافة الماضي الذي تقوم عليه الذاكرة في سردها المتهاطل. هذه المسافة التي سوغت السرد فجاءت ب “كان وأخواتها”. ف (ش) يعي هذا التعدد من خلال فعل الكتابة، حيث فنيتها تفرض ذلك ” أقول مع نفسي يجب أن أرتب هذا السرد إذا كان في نيتي أن أكتب للحكاية صوتها أو على الأقل شيئا مفهوما مسكوبا فلاسبيل لدي لكي أسعد كما أبغي باللحظات الطفولية الهانئة في القرية.”13 مسافة واضحة،/ وتحول كبير بين (ش) السجين و(ش) الطفل. إن الكاتب غير واثق من قول كل ما يريد، إنه لا يستطيع أن يزعم قول كل شيء حسب رغبته، لان منطق شكل الكتابة مغاير لمنطق الوقائع والاحداث التي عاشها (ش) في ماضيه البعيد والقريب ” فالكتابة كل كتابة تنهض على مستوى المتخيل، بمعنى أن الكاتب حين يكتب لا يتعامل مباشرة مع الواقعي، بل مع ما يرتسم في ذهنه أو في مخيلته من صور تخص هذا الواقع وتمثله وتعنيه”14. هكذا يتحرر الكاتب يتحرر الكاتب من الشكل السيرذاتي التقليدي الذي يرى في التسلسل الحدثي والتتابع الزمني المنطقي شكل الكتابة السيرذاتية.
إن الراوي يزح تحت عبء وطأة ذاكرته بين أحداث ووقائع تتدافع وتتزاحم على طرف اللسان، وبين سرد جنوني كما لو كان في حالة طوارئ قصوى. ” إن السرد يتجاوزني وذكرياتي تتحداني وكيف أضبطها وأرتبها وبأي مقياس أفرض عليها النظام والحساب إذ يخل ألي أنني يجب أن أقول كل شيء حتى ما يحرج من الخفايا المقموعة.”15 ولن يتأتى له ذلك إلا من خلال تقنيات السرد الروائي.” في فوضى وتوتر سأخرج من الماضي ولكني سأعود اليه كلما دعاني في ارتعاش عداد ذاكرتي”16.
يعني أن المنطق الذي يحكم بنية النص هو منطق التكسير الزمني وتقاطع الاحداث والوقائع، في تعقد وتركيب التفاصيل والازمنة . إنه منطق الذاكرة عند اشتغالها: الانتقاء والبتر والتجزيء.” إذ لا يستطيع السارد أن يأتي على ذكر ميع التفاصيل، ولا أن يقيم العلائق السببية الرابطة بين ما تحكيه الذاكرة وتستحضره. ولعبة الذاكرة هذه التي هي جزء من تكونها وطبيعتها، فرضت على كتاب الرواية والسيرة الذاتية مراجعة طريقة التعامل مع المحكيات”17.
تنهض الذاكرة كمتخيل فتتجاوز المكان/الزنزانة، تنهض الذاكرة كضرورة لها منطقها الخاص والمستقل عن رغبة الراوي، رغبته في الاستراحة .” ذاكرته السيالة، ذاكرته السائبة هل تريحه لأنها تشتغل في نسيج دماغه كدودة خضراء(…) فالذاكرة تشتغل وهو يريد الراحة والهناءة والبراءة والاشباع ، والذاكرة تمور بالالوان الصارخة، دماغه فيه دودة خضراء متحفزة ولا بد من إيقاف هذا التلاطم النفسي الراقص بشيء يحدث التوافق على الأقل إن كان لا يستطيع إحداث الانسجام على الأكثر والمشكل من أين يبدأ في السرد وهل سيكون لسرده صوته ولغته وهل يقدر البحر على سرد أمواجه المتلاحقة.”18
الرواية معنية بأسئلة بمنطق وشكل الكتابة، فهي تعبر عن وعي نقدي يدفعها الى تجاوز شكل لسيرة الذاتي التقليدية. فتعليقات الراوي تعبر عن رغبته في عدم السقوط في الانفعالية، لأنه على وعي بأنه ” قد حذر نقاد كثيرون بالفعل من الخلط بين السارد الخيالي والمؤلف الواقعي، فهذا ف. ايزرwolfgang kayser ينبه الى أن ( السارد شخصية مختلفة تنتمي الى العمل الابي في جملته) ويستخلص بأن ( السارد في فن المحكي ليس أبدا المؤلف المعروف أو المجهول، بل دورا يختلقه المؤلف ويتبناه)19.
لهذا تنهض الذاكرة في كان وأخواتها كمتخيل وتخييل ، كواقع فني، فتكون الكتابة متميزة، حركتها كحركة البحر أو حركة الواقع في تعقدها، لا تعطي الكتابة ذاتها إلا في سيل من الأمواج والوقائع المتلاحقة والمتمفصلة في تعقدها وتناقضها.
“كان وأخواتها” سيرة روائية تصدم أفق انتظار المتلقي النقدي، فهي تتجاوز وتخرق قواعد هذا الجنس الفني من الكتابة الأدبية. تغير منطق اشتغالها كسيرة ذاتية من خلال الصياغة الروائية في شكلها الحديث. ففي الشكل الفني انفتاح على السرد الروائي الحواري، وفي الوقائع والاحداث متكأ للسير ذاتي المنولوجي

- القاصة المغربية الزهراء وزيك تقدم: اشكال متنوعة من الالم في مجموعة قصصية “أنوثة معلبة”
بغداد – حمدي العطار:
احيانا نقرأ قصة نشعر بالصعوبة التي واجهت من كتبها، قد يكون السبب عدم أنسيابية اللغة ، ويمكن عدم النجاح في إمساك كل خيوط اللعبة السردية، او الانفعال العاطفي الزائد، او غياب الرؤيا الاجتماعية ، او ضعف الخيال وعدم تجسيد عناصر القصة بصورة فنية مقبولة.كل هذه الاشياء لم نشعر بها ونحن نقرأ المجموعة القصصية (أنوثة معلبة) للقاصة المغربية “الزهراء وزيك” والصادرة من دار السرد للنشر والتوزيع ، سنة الاصدار 2021 وتقع في 75 صفحة وتضم 12 قصة قصيرة.
الايحاء في العنوان
هل القاصة تتعمد ان تخلق الدهشة الممزوجة بالسخرية بهذا العنوان الغريب (أنوثة معلبة) والله لا يمكن ان يخطر في بال اي انسان ان تكون الانوثة (معلبة) يمكن ان تكون الفواكه واللحوم والحلويات (معلبة) لكن القاصة تعمدت العنوان (الصدمة) لتقول بإنكم (اي الرجال) قد تجعلون الانوثة أيضا معلبة، الم تتغزلون بالانثى وتقولون (لذيذة وناضجة وحلوة – او مثل البطة ) واحيانا تعبرون عن شدة الاعجاب بالقول (بالباكيت) أو (تنوكل ) او باللهجة العراقية الشعبية “تنقرط قرط” ولا يمكن ان تتحلى بالصبر الا بعد قراءة قصة (أنوثة معلبة)!!
سردية متحركة في (أنوثة معلبة)
في كل قصص المجموعة هناك إشارات واضحة على تعرض المرآة الى الاستغلال الجنسي والجسدي، ومعاملتها كمواطن من الدرجة الثانية، حتى في صفقات الزواج او العمل ، وتزداد وتيرة الاستغلال حينما تكون الفتاة جميلة جدا ، كما في بطلة قصة (أنوثة معلبة) “لا تزال ملامح عامل الشاحنة عالقة بين عيني، تبث الرعب في جسدي الغض الطري، لقد تدلى أنفه وتحلبت شفتاه حتى كاد أن يلتهمني وهو يفتح لي الباب الخلفي للشاحنة”ص45 من هذا الاستهلال الرشيق بالوصف للتحرش الجنسي ، ولم يكن التحرش بالكلمات (اللسان) او باللمس(الايدي) بل اختارت حواس (الحيوانات) عندما تتغزل وتخطط لممارسة الجنس (تدلى أنفه- الشم- وتحلت شفتاه –بالتذوق) انها انطلاقة موفقة وتوحي بالخوف مقابل الرغبة وبالابتعاد مقابل الالتصاق “خائفة أن يلحق بي ككل مرة ويلتصق بي متعلالا بإحكام إغلاق الباب والإمساك به، أنفاسه اللاهثة تخنق أذني وتجثم على صدري” هذا الاستهلال يدفعنا الى الترقب والفضول ، وبما ان القاصة جعلت الاسلوب المنولوج هو السارد فهي فرصة للاستذكار والاسترجاع بكل سهولة وبلا تحفظ “”فقبل دقائق معدودات انفلتت وبصعوبة من قبضة لهاث العجوز عمي صالح، صاحب العربة الوحيدة في قريتنا – ومثلها تملك مواصفات الفريسة لا تصلح ان تكون (أمانة) – بعد أن أوصلتني أمي إليه كأمانة، ناصحة إياه أن يحميني إلى أن أصل الطريق الرئيسية حيث تمر شاحنة عاملات معمل السردين- ظهرت علامات التعليب بكلمة السردين- فما أن يكز العجوز حماره ويبدأ بجر العربة حتى يهتز جسده منتفضا فيتمايل فيلقيه على جنبي، ثم يهوي على الدابة المسكينة بالسوط كأنه يحاول أن يطفئ نارا مستعرة داخله”ص46
تتصاعد وتيرة السرد لتعبر عن الصراع داخل القصة، فالام تلوم بنتها لأن لها جسم انثى مغري ” آه يا أمي فطومة، شوفي هذا الجسد الممتالئ لن يجلب لنا غير المتاعب نحن في غنى عنها، لسنا إلا مجرد نساء وحيدات”ص47 انها تكلم الجدة التي يعجبها جسم حفيدتها (خليها عليك، ابنتي الغزالة، إنه قد متين ورثته عنا، عن عماتها وأعمامها، القامة الطويلة والبياض والجسد الممتلئ، سلالة دكالية (منطقة دكالة) تملأ العين ما شاء الله، لا أحد يشبهنا) امام تفاخر الجدة بمواصفات الحفيدة تدس القاصة صفتين بكلمات محددة (وحيدات) بمعنى فقدان الرجل (بالموت او السفر او الهجران) وكذلك (الفقر) “اييه يا أمي فطومة أورثونا المصائب، الناس ترث الأراضي ورؤوس الأغنام ونحن لم نرث منكم ومن سلالتكم غير هذه اللحوم”ص48 واذا كانت بطلة القصة لا تستجيب لعامل الشاحنة وتحرشه ولا تتجاوب بل تقرف من محاولات العم صالح صاحب العربة فهي بالتأكيد لا تفلت من (مراقب العمل) والذي (نقلني من ورشة تنظيف السردين وإفراغ أحشائه إلى ورشة الحزام المتحرك حيث كلفت بمهمة مداعبة العلب بأصابعي تحت أنبوب الزيت الحار اللامع متبل بالملح وتوابل حارة) هنا القاصة تمهد الى نوعين من الاشتهاء ، اشتهاء الصبية البطلة الى التهام سمكة من الحزام وهي تتضور جوعا ونظرات شهوة مراقب العمل لتلك الصبية التي ستكون عقوبتها غالية جدا لنرى قوة التشبيه في المقطع الاخير من القصة “كنت أرى جسدي الطري وأنا أقلب إحدى العلب، كتلك السمكة ممتلئة، تختلف عن أخواتها، وما أن وقع بصري عليها حتى اشتهيت التهامها ..مع حبة الفلفل الحارة الصغيرة فوقها، فلم اتناول كسرة خبز منذ ست ساعات متتالية..التقفتها بخفة ووضعتها بين فكي وتابعت بأصابعي تحريك العلب تحت الأنبوب، وما أن رفعت بصري قليلا نحو الاعلى والسمكة لا تزال بين أضراسي، حتى لمحت المراقب في قميصه الأزرق الواسع، وهو يتأملني بتلذذ، وجبينه يتصبب عرقا يخفي ابتسامة ماكرة بين شفتيه الغليظتين..دوي صافرة الاستراحة تصم أذني، ورأس المراقب ويده وكل جسده تلوح إلى أن ألحق به إلى مكتبه في الاعلى”ص51
تعالج القاصة الزهراء وزيك في هذه القصة قضية اجتماعية بأسلوب تحليلي وصفي، ولا تفتقر القصة من المفاجئة وتعبر عن الواقعية النقدية وموقف تقدمي من رفض الاستغلال.
الجوانب الفنية
من بين العناصر الفنية في كتابة القصة القصيرة الناجحة هو وجود تمهيد مسبق للشخصيات والاحداث حتى لا يتم انتزاع الشخصية من ارض الواقع، فمن الضروري جدا معرفة هذه الشخصية ، احلامها، طموحها، تطلعاتها، في قصة (أربعية الفقيه) والاربعية تعني (النقود التي تمنح لرجل الدين – الفقيه او امام الجامع- جراء ما يقدمه للصبية والصبيات من تعليم وحفظ القرآن الكريم- هنا في هذه القصة البطلة فتاة اسمها خديجة تبلغ من العمر عشر سنوات، تدرس القرآن عند امام الجامع ، لنتوقف عند التمهيد المناسب لشخصية خديجة ” سارت بخطواتها الصغيرة، وقدماها تتعثران وسط الحذاء، تمسك القطعة النقدية بقوة…تحذيرات أمها لا تزال ترن في مسمعيها: خذي، هذه أربعية الفقيه، وهذا لكيس وضعت فيه قطعة سكر وحفنة شاي قرطستها جيدا، وكسرة خبز أبيض وكأس زجاج، انتبهي ، إياك أن تركضي، حتى لا تكسيرها وتضيعي الأربعية..إياك”ص7 بعد هذا التمهيد المناسب للشخصية ، تبدأ القاصة بوصف المكان وهنا يكون الجامع وتأثر هذا المكان (المقدس) على تلك الفتاة البريئة المؤمنة “الجامع يبدو قويا، متينا، باب لا يمكن لها ولا لرفيقاتها الاقتراب منه، فالجامع لا يدخله إلا الرجال والأطفال الصبيان..وعلى الطرف الآخر من الجامع، وعبر ممر ضيق، يجوز لها ولصديقاتها المرور عبره ليصلن إلى المسيد وهو كتاب الجامع، فيه يتم تحفيظ القرآن لأطفال الحي”ص9 ، السرد يوضح (اشتراك الام والاب بأعمال مقاومة للاحتلال الفرنسي، وتنقل الفتاة – من دون ان تدري- البريد عن طريق رغيف الخبز ) وقد قال لها الفقيه عبارة جعلتها قلقة وتفكر “آه يا خديجة بنت حمادي، كم يفرحني أنك قد حفظت ثمن الكتاب، وتجيدين ترتيله، وتحسنين كتابته بأجمل خط، سنفتقدك يوما يا بنت حمادي. وقع كلامه على قلبها ثقيلا”ص10 ، القاصة في كل مناسبة هناك اشارات للتفرقة بين الرجال والنساء ، وهناك نوع من المفاضلة ، قد لا تعترض عليها النساء بسبب الجهل والقناعة ويملكون مبررا دينيا ، في كل يوم جمعة تطبخ النساء اكلة (الكسكسي) وهي اكلة شعبية مغربية تتكون من (دقيق السميد المبخر ويسقى بمرق منسم بالقرفة ومعسل بالبصل والزبيب،يسكب ذو اللون الذهبي على قطع لحم الخروف الطرية تغطيه جبال من الحمص) “تقدم وجبة الكسكسي للرجال والصبيان اولا، بعد العودة من صلاة الجمعة، أما النسوة فيكون نصيبهن مما أكلوا، بل يتبركن من صحنهم لأنه- وكما يعتقدن- قد تناولت منه أفواه رتلت القرآن وصلت الجمعة في جامع الحارة” وتستنج خديجة التي هي ايضا لا تتوقف شفتاها عن ترديد كلام لله وحفظه ان سبب عدم الاكل مع الصبيان والرجال فقط (لأنها ليست صبيا) ولا علاقة للقرآن او دخول الجامع في هذا الموضوع! دائما القاصة تجد ضالتها في التصعيد والتوتر وصولا الى النهاية المفاجئة، حينما يقتحم العسكر الفرنسيون دار خديجة يفتشون عن الاب لأنه (يهرب السلاح! يقتل عسكرنا، أين ذاك الخائن المدعو حمادي الدرويش) كلمة الخائن يطلقها الجنود الفرنسيون على الوطني الغيور ، بينما تكتشف خديجة من هو الخائن الحقيقي ” التصقت بالجدار خلف باب الغرفة، كادت أنفاسها أن تتوقف وهي تلمح من شق صغير، نعلي فقيه الجامع بين أحذية العساكر..لحظتها فقط تذكرت كلام الفقيه يوم قال لها: “سنفتقدك يوما يا بنت حمادي” هذه القصة بالذات تحتاج الى اكثر من قراءة، وتحتاج الى تأويل لأنها تتجاوز تابو او خط أحمر حينما تجعل الفقيه يمتهن التجسس على الثوار ويتعاون مع المحتل.
الاناث تضحي دائما
تتجسد قصة (البتول) ما تقدمه الانثى من تضحي في سبيل ان يكون الذكور في الاسرة بخير ،(الله يرضى عليك يا أبنتي خدوجة، أخوك سعيد قد التحق بمدرسة داخلية والمصاريف كثيرة) ص68 هذا يعني على خدوجة ان تعمل خادمة ولا تر في حياتها (الكراريس والأقلام ولا حتى المدرسة) وبسذاجة تتقبل خدوجة هذا الثمن الباهض وتكون سعيدة ايضا (تغمرني الفرحة وأنا متأكدة بأن تعليم أخي سعيد رهين بحبسي في هذا البيت الشاسع)ص69 ،هنا البناء الفني لهذه القصة يلفت النظر فضلا عن المضمون الاجتماعي، وامعانا من القاصة في تجسيد رؤيتها (ظلم الانثى) حتى من الاهل بسبب الفقر والحاجة على الاخص كان التمهيد في الاستهلال (وككل عام، ينقضي الصيف مخلفا هكتارات من ألارض العطشى، وهكتارات من الأشجان تملأ القلوب الظمآى)لذلك لا مانع من الاهل ان يتم ارتهان الاخت الاصغر التي لم تبلغ الا اربع سنوات عند (باشا المدينة) (- ان شاءالله سيكون حظ البتول الصغيرة أفضل لقد وعدت باشا المدينة، وسيغدق عليك بالكثير، أحضرها معك) يستنتج القارئ بإن بتول الصغيرة سوف لا تكون خادمة مثل شقيقتها فالحيرة التي تصيب البتول عند رؤية شقيتها بعد سنة (لم استطع حتى ملاعبتها كما عهدنا، وجدتها صبية وتدلت ضفيرتاها على كتفيها، بالكاد تعرفت علي..كانت شاردة فاغرة فاها، لم أتبين أهو شرود أم بلاهة تصيب أهل الجبال كلما وطئت أقدامهم سهول المدينة؟”ص73
الخاتمة
جميع قصص المجموعة غاية في القوة والتماسك الفني ، فضلا عن المضمون الاجتماعي ونقد الظواهر السلبية في المجتمع، تحية للقاصة المغربية (الزهراء وزيك) فهي بما تقدمه ن قصص قادرة على المساهمة في التغيير الاجتماعي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 42 / 2184667

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2184667 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40