الأحد 22 آب (أغسطس) 2021

الفيلم الفلسطيني مبنيا على ديكورات إسرائيلية!

سليم البيك
الأحد 22 آب (أغسطس) 2021

يكون الفيلم فلسطينياً باعتبارات محدودة. يعنينا منها، في هذه الأسطر: الشخصيات. فالفيلم في قسم أساسي منه حكاية، والحكاية تصنعها الشخصيات، الحكاية علاقات وتناقضات وتفاعلات الشخصيات بينها وبين بعضها، ومتى تكون هذه فلسطينية تكون الحكاية كذلك، ويكونه الفيلم وبمعزل عن جنسية صانعه.

تُعطى، عادة، أمثلةٌ لمخرجين غير فلسطينيين للقول بفلسطينية أفلامهم، ففلسطين حالة نموذجية هنا، هي قضية وفكرة، هي مسألة إنسانية وليست وطنية بالمعنى المحدود للدول «المستقلة» وذات الهوية القُطرية المحددة، في العالم. منذ سنوات الثورة الفلسطينية في السبعينيات، حتى اليوم، توالت الأفلام (الوثائقية تحديداً) التي صنعها غير فلسطينيين، وتكون «فلسطينية» بانتمائها للقضية الحاضنة لمفاهيم أضيق، من بينها «الهوية الوطنية».
لكن، تثبيتاً لافتراضي أول المقالة بشأن الشخصيات، سأتناول الحالة معكوسة. لنبتعد قليلاً تجاه أمثلة لا تكون «الدولة» فيها قضية ولا فكرة، وهي أمثلة تكون الأفلام «بانتماءات» لا خص لها بالانتماء الوطني أو جنسية صانعها (الحالة الفلسطينية بمخرجين غير فلسطينيين، مقلوبةً). أختار أفلاماً لإيرانيين تكون غير إيرانية، أولها «نسخة طبق الأصل» 2010 لعباس كياروستامي. هو فيلم لا علاقة له بإيران، بل أوروبي بامتياز (مكانه إيطاليا، شخصيتاه فرنسية وبريطاني، ولا أحد يتكلم الفارسية في كل الأحوال) ولمواطنه أصغر فرهادي فيلم «الكل يعلم» 2018، الإسباني مكاناً ولغةً وشخصيات. ليس أي من الفيلمين إيرانياً (لا تهم هنا دول الإنتاج، وهي متعددة في كل من الفيلمين). لا حكاية إيرانية ولا حياة لإيرانيين فيهما، ولا حتى شخصيات إيرانية في سياقات أوروبية. هذه الأخيرة نجدها في فيلم آخر لفرهادي هو «الماضي» 2014، فسياقاته (مكاناً ولغةً) فرنسية، باستثناء أن شخصية رئيسية فيه تكون إيرانية تزور باريس. ينقل الفيلم، بذلك، حياة شخصية إيرانية خارج سياق إيراني، ولأن الحكاية تُبنى بشخصياتها (لا بالديكورات) تكون حكايةُ الفيلم وبالتالي هويته، إيرانية بشكل أو بآخر. هي تشبه بذلك حكاية فلسطيني/إيراني في المنفى/اللجوء/الاغتراب، فليست هذه حكايات أقل فلسطينية/إيرانية من غيرها تجري داخل البلاد، بديكورات «وطنية».

ليس هذا الكلام استثناءً عالمياً، فالأفلام تُحدد هويتها بمعزل عن صانعها، والأمثلة العالمية هنا عديدة، إنما لنبقَ في النموذج الإيراني، فللفيلم الإيراني هوية شديدة الوضوح، وهذا سبب اختيارها هنا، يمكن لأحدنا أن يمر أمام مشهدٍ بلا كلام ليعرف، تلقائياً إنه من فيلم إيراني: السياقات، الثيمات، الهموم، الجغرافيا، الأزياء، السلوك، الأسلوب، التعبيرية الشديدة لدى الممثلين، والواقعية حيث تتداخل روائية الفيلم ووثائقيته، وغيرها مما صار «ميزة» في هذه السينما ومعرفاً بها. الهوية الواضحة إذن للسينما الإيرانية، يمكن أن تكشف بسهولة ما هو غير إيراني، بل السطوة الشديدة لميزات هذه السينما تسهل على كاتب أفلامها ومخرجها، استحضار مسرحية للأمريكي آرثر ميلر (مثلاً) «موت بائع متجول» 1949، إلى السياق الإيراني، فيكون فيلم فرهادي «بائع متحول» 2016، إيرانياً تاماً لسطوة عناصره المحلية.
ننتقل من النموذج الإيراني إلى الفلسطيني، وقد استحضرتُ الإيراني لسبب جوهري في تشكيل الهوية لدى الفيلم، هو «ميزات» الهوية وبروزها، وهو في ذلك يتشابه مع الهوية الفلسطينية في السينما، فكما للفيلم الإيراني هوية واضحة، للفلسطيني هويته الواضحة كذلك، مع فارق الجودة، تراكمت عناصرها وشكلت «السينما الفلسطينية». تأسست هذه الميزات منذ أفلام الثورة الفلسطينية في السبعينيات، وتحولت في أشكالها مع تحول طبيعة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، ظاهرةً في هذه الأفلام. يمكن لجغرافيا المخيمات والمدن في الضفة والقطاع، لطبيعة القرى والمدن في الـ48، لصورة دائمة الحضور للجدار العالي ولزي الجندي الإسرائيلي، وللحاجز وصفّ السيارات الطويل العالق أمامه، لاشتباكات بحجارة، لكوفية وملثمين مسلحين، لهروب وقفز، للسجون السياسية، لحوارات شعاراتية حامية ومفتعَلة، وغيرها من العلامات الفارقة، يمكن لها أن تشي بهوية الفيلم الفلسطيني لأي مشاهد عارف بحدود أدنى في السينما والسياسة والعالَم من حوله.
هذه السطوة للعلامات الفارقة الفلسطينية، لم تتسبب بها جودةُ الأفلام، بل ما هو النقيض من ذلك، فالجودة بأفلام نوعية وإن قليلة، تُلصق الميزات في ذهن المُشاهد، أما السطوة للميزات الفلسطينية فتسبب بها التكرار المتناسِخ في أفلام فلسطينية بالكاد يخلو أحدها من واحدٍ، أو كل «الميزات» المذكورة، عرَضاً أعلاه. يكفي أن يشاهد أحدهم ثلاثة أفلام فلسطينية أو أربعة، ليَخرج بالـ»كود» الذي يدله على تحديد ماهية الفيلم الفلسطيني، و»الكود» هذا مبني على صور، كأنها وسوم: #جدار، #جندي، #حاجز… تحدد الوسومُ العشوائية والبارزة، الصورةَ العامة للفيلم الفلسطيني، أو لما «يجب أن يكون عليه» الفيلم الفلسطيني، كأنها محددات تُسقط صفة «الفلسطيني» عما دونها. فيلتف الفيلم بكامله حولها، يتمحور بحكايته وشخصياته حولها بتناسخ شبه مطابق بين هذا الفيلم وذاك، ما يجعلها كلها فيلماً فلسطينياً واحداً طويلاً يدور في حلقة مفرغة من الأحداث والصور، فلا تتطور الحكاية، ولا تتمايز الشخصيات. ليكون، أخيراً، الحضور الأهم هو لديكورات الأفلام الفلسطينية (الإنشاءات الإسرائيلية) وليس لشخصيات لكل منها حكاية فردية تدخل في صياغة الحكاية الجمعية. قد يصعب إلغاء تلك الميزات من عموم المَشهد السينمائي الفلسطيني، بل من الخطأ إلغاؤه، فهو حاضر يومي لدى قسم كبير من الفلسطينيين فلا بد، لذلك، أن يحضر في أفلامهم. ليست المشكلة في حضورها، بل في نوعية هذا الحضور وكميته وفي اقتحامه، وفي اتكاء صناع الأفلام عليه واطمئنانهم له، في تحوله من تابع لشخصية فلسطينية لها حكايتها، إلى مستتبِع لها.

مشهد من فيلم الماضي

أعود إلى الأسطر الأولى في هذه المقالة، لأقول إن الحكايات تُبنى بشخصياتها أساساً، والمثال الذي أخذناه عن أفلام غير إيرانية لإيرانيين واضحٌ ويمكن مقابلته، من حيث الشخصيات، مع الحالة الفلسطينية. الحكايات إذن تُبنى بسرد شخصياتها، لا بصورة بارزة لواحد من تلك «الوسوم» السينمائية الفلسطينية (المتوقعة على كل حال) ويمكن، بهمة عالية وضرورية تستلزم بعض الجهد، إبداع سياقات جديدة لشخصيات فلسطينية لا تُنسخ عن غيرها ولا تُستَنسَخ من غيرها، فلم يجد الفلسطينيون، كشعب، أنفسهم، فجأة أمام الجدار والحواجز. كانت لهم حياة قبله وستكون من بعده، ولهم في بقاع أخرى حياة لا «إنشاءات إسرائيلية» فيها.
فلتكن الشخصيات أساسَ الفيلم لأنها أساسُ الحكاية (أدباً وسينما) فلتكن أساسَ الصورة لأنها أساسُ الحكاية، ولم يكن الكونكريت الإسرائيلي يوماً أساس حكاية فلسطينية، بل تابعاً لها وديكوراً مُقحَماً، وإن مؤثراً. وليتجهز صانع/ة الأفلام الفلسطينية للرد على منتج أجنبي يسأل بعد قراءة السيناريو: أين المعاناة؟ أين العويل؟ أين البطولة؟ أين الاشتباك؟ أين الجنود؟ أين متسلق الجدار؟ أين الجدار على الأقل؟ نحن نتعاطف معكم ولأننا كذلك نريد فيلماً فلسطينياً وهذا ليس فيلماً فلسطينياً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2184563

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2184563 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40