الأحد 11 تموز (يوليو) 2021

في ذكرى استشهاده: الرواية التي غدت مؤسَّسَةً ثقافية

ابراهيم نصرالله
الأحد 11 تموز (يوليو) 2021

كنت مدعوّاً لتقديم محاضرة في مؤسسة فلسطينية مجتمعية عبر تقنية «زووم» حين وصل الحديث إلى دوْر الثقافة في المسار الوطني الفلسطيني، في ذلك اللقاء قلتُ إن رواية صغيرة من 100 صفحة لعبت دوراً مذهلاً في حياتنا الفلسطينية أكثر مما لعبته أي مؤسسة ثقافية على مدى ستين عاماً؛ وأن اسم تلك الرواية هو «رجال في الشمس».
قد ينتاب الإنسان أحياناً إحساس ما، أنه بالغ قليلاً، لكن الزّمن الذي مرّ بين تقديم المحاضرة إلى الآن، وهو يتجاوز نصف عام، أكد لي أكثر أن المبالغة لم تكن ابنة لحظة حماسية، ولا ابنة ذلك الحب الاستثنائي الذي أكنّه لغسان كنفاني.
مدهش كم استطاعت هذه الرواية أن تحقق، وأن تظل حاضرة بصورة يومية في حياتنا الإنسانية والثقافية، عربياً وفلسطينياً، دون أن أقلل من حضورها الاستثنائي على الصعيد الثقافي الأبعد، فعلى الصعيد الإنساني، وفي زمن لم تتوقف فيه الهجرات نحو الثقوب السوداء، في زمن لم تعد فيه الأوطان ملجأ آمناً لليوم التالي من حياة ملايين البشر على سطح المعمورة.
ظلت «رجال في الشمس» حاضرة بصورة، ربما، لا شبيه لها؛ فوطنيّاً ظلت تلك الصرخة الكبرى: «لماذا لم يدقّوا جدران الخزان» تدوي منذ لحظة نشر الرواية عام 1962، إلى أن دقّ الفلسطينيون الخزان بثورتهم عام 1965، وتواصلت حتى هبتهم المذهلة عام 2021، وتستمرّ؛ لقد تجاوزتْ تلك الصرخة كل حدّ، وكأنها أقوى نشيد احتجاج في انتظار أن تصدح به حناجر الشعوب في كل مكان. وحضرتْ في المآسي مرثيةً مجروحة، حيث يختنق المهاجرون في صناديق الشاحنات، ويغرقون في بحار لا يهمها جمال أعينهم.
لكن هل كانت الصرخة وحدها هي إكسير حياة هذه (المؤسَّسَة) واستمرارها؟ بالتأكيد لا، على الرغم من نبلها وفجائعيتها وفرادتها التي حولتها إلى مَثَلٍ على كل لسان.
هناك أعمال أدبية يبتلعها الواقع لأنه يثبت أنه أقوى منها، يهزم واقعيتها وخيالها بيسر، وهناك أعمال لا يستطيع الواقع بكل جبروته وتعدده وفيضان أحداثه أن يتغلب عليها، هذه الأعمال تبقى قادرة على تكثيف تاريخ ما، بوجوهه الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وتغدو كقلب الأم الذي يقفز إلى لسانها في اللحظة الحاسمة ليقول: ألم أقل لكم؟
وهناك أعمال يبتلعها الزمن، باعتباره أكثر النقاد صرامة على وجه الأرض، الزمن الذي لا يتوقف أيضاً عن السخرية من نقاد فقدوا بوصلتهم أو ضمائرهم، أو وعيهم، حين اتخذوا مواقف متعالِمة أو متحامِلة وهم يحذفون هذا العمل أو ذاك، فماتوا، وإن لم يدفنوا، وواصلت تلك الأعمال حياتها برشاقة غيمة سعيدة بخضرة الأشجار التي ارتوت بمائها.
لحسن الحظ، لم يكن هناك الكثير من النقاد الذين وقفوا في وجه «رجال في الشمس» وإن كان هناك من كان له مواقف صارمة بشأنها.
لقد استطاعت هذه الرّواية الصغيرة أن تظل كبيرة برؤاها العميقة المُقلقة القادرة على هزّ روح قارئها ووعيه، وبلُغَتها التي تبدو منتمية لعالم الكتابة اليوم؛ كأنها رواية صدرت حديثاً، ثم بفنيّتها التي يمكن أن نقول هنا إنها مهّدت لميلاد رواية «ما تبقى لكم». ومن يقرأ «رجال في الشمس» اليوم، سيدهش أمام حجم تدفق الأزمنة الثلاثة فيها، وسيدهش أمام تنقّلها بين حاضر الحدث، وماضيه، بل ومستقبله. ولذا، فإن القول إن كتابة غسان للرواية الثانية جاءت بعد الصدمة التي أحدثتها رواية «فوكنر» «الصخب والعنف» ليس أمراً دقيقاً، حتى لو باح بذلك غسان نفسه! فجذور «ما تبقى لكم» تقنيّاً، موجودة في «رجال في الشمس» ولم يكن ينقصها إلّا أن يتمّ وضع الأحداث التي يستدعيها العقل في تيار حركته بخط أسود بارز، لتكون صورة لما فعله غسان في «ما تبقى لكم» وإن كانت الأخيرة مسكونة أكثر بهذا الأسلوب، لأنها كُتبت بقرار غسان، وبتحدّيه لواقع ثقافي عربي بُهِرَ برواية فوكنر.
لا ينبت العمل التالي لأي كاتب من فراغ، فإن كان هناك كتاب قبله سينبت متكئاً على ما قد تحقّق فيه، أو ما لم يتحقق فيه كثيراً، أو ما لم يتحقق فيه قطُّ وهو يحاول الابتعاد عن الخطأ نفسه. وإن كان هناك عشرة أعمال، فسينهض العمل الحادي عشر من ترابها مهما بدا أنه منقطع عنها، لأن هذا العمل ينتج، شئنا أم أبينا، «داخل التجربة» فليس ثمة ما يمكن أن ينتج خارج التجربة ما دام يتشكل في وعي مستمر، وروح حاضرة، وتجربة لم يُقفل الموت بابها.
في لقاء غسان بالدكتور إحسان عباس، مصادفة في أحد شوارع بيروت، كما جاء في مقدمة عباس لمجلد الأعمال الروائية، يسأله غسان عن رأيه في الرواية، فيخبره أنها «آسرة متوحشة». فيسأله غسان إذا كان لاحظ البعد الرمزي في الرواية، فيخبره عباس، أنه إن صح قوله، فإنه يعتبر نفسه قد أخفق في القراءة، ولهذا سيعود لقراءتها من جديد، ليكتشف أن غسان قد أنشأها «على وعي تام ببعدها الرّمزي».
حين عدتُ لقراءة الرواية هذا الأسبوع، خطرت ببالي عدة أسئلة، ولعل أخطرها: هل ضيَّق غسان روايته في ذلك الوقت حين جعل من كل شخصية رمزاً محددّاً (أبو الخيزان، مهربو البصرة، أسعد، مروان، أبو قيس؟) أم أنه وسّع الرواية؟
في ظنّي، أنه ضيّق الرواية، لأنه أجبرنا على أن نقرأها كما هي في رأسه، وفكره، حين أحال تلك «الكائنات» كما وصفها، إلى رموز محدّدة المعالم، محصورة بواقع فلسطيني عربي، لكن الرواية أثبتت في ما بعد أنها «انتصرت» على «وعيه التّام ببعدها الرّمزي» وذهبت في اتجاه أبعادها الإنسانية الواسعة، التي بها عاشت، وبها استمرت، وبها تجاوزت نقطتي حدود العراق والكويت، إلى حدود العالم. والأهم، إلى حالات طحنت البشر، لا علاقة لها بالحدود والهجرة. ولعل عظمة هذه الرواية، وكل عمل فني فذّ، أنها استطاعت أن تكون أوسع من صفحاتها المائة، وأوسع من مصيرها الذي كُتِبَ لها، ووضع لها حدوداً، وبذلك كانت أشبه بالطائر الذي رأى النور فوق شجرة، على غصن، في عشّ، لكنه حين طار أصبح الفضاء حدوده، وبذلك كتب مصيره بجناحيه.
وبعــد:
كتبتُ مرات كثيرة عن الأثر الذي تركه غسان في حياتي، منذ شبابي الأول، حين لم أكن أعرف شيئاً واضحاً عن الرّمزية، لكن هذه الرواية بالذات، دفعتني لاتخاذ مواقف غيَّرت مجرى حياتي، ومنذ ذلك اليوم لم يتوقف مداها عند حدّ، في داخلي، باعتبارها واحدة من الروايات النّادرة، التي بقدر ما ولِدَتْ في «المحليّ» عاشت في «الكونيّ».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2184606

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184606 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40