الأحد 25 نيسان (أبريل) 2021

حفريات أجناسية في التراث النقدي عند العرب

الأحد 25 نيسان (أبريل) 2021

- عمر رعد

عُرف الناقد الأكاديمي فاضل عبود التميمي باهتمامه بالتراث الأدبي والفلسفي عند العرب؛ إذ تؤسس قراءاته للمتون النقدية القديمة وعيا نقديا ونظرا تأصيليا لكثير مما نقرأه اليوم، من طروحات نظرية وإجراءات منهجية وافدة إلى العرب، ويُعدّ كتابه «جذور نظرية الأجناس الأدبية في النقد العرب القديم» الصادر عن دار مجدلاوي في الأردن 2017 تجربة حفرية، تمتد برؤى حداثية معاصرة إلى بواكير تأسيس الظاهرة الأجناسية العربية، وفق معطيات ومعالجات تنسجم مع طبيعة النص وطرائق تلقيه، فمن المعروف أن البحث الأجناسي يرتبط بـ(نظرية الأدب) بوصفها أسساً فلسفيةً تسعى لإرساء قوانين الكتابة الأدبية، وإبراز وظائفها التكوينية لتحقيق توزيع منتظم يراعي معايير تمييز الأجناس، وتصنيفها وبيان خصوصيتها، وتعالقاتها وإشكالياتها، ويمكن القول إنّ المؤلف في إجرائية تحليل المتون النقدية في ذلك الكتاب فرّق بين (نظرية الأدب) بمفهومها الشمولي و(نظرية الأنواع الأدبية) التي تقف عند طبيعة الجنس الأدبي وتضع قواعده وتؤسس لمقوماته البنائية، فحديثه يجعلنا أمام مفهوم الجنس الأدبي، وظائفه، علاقاته، أسسه التصنيفية، أثر الذائقة في ظهوره، التطور الأجناسي.
ومن هنا يكون قد دقّق النظر في الجنس الأدبي أكثر من مجرد الحديث عن النظرية الأدبية، وما تشتمل عليه من موضوعات تتعلق بالأدب وتاريخه ونقده، أو نقد النقد التي تسعى للإجابة عن أسباب وجود الأدب، وعن أسسه التصنيفية، وما الذي يجعل الكلام أدبا؟ والحدود الفاصلة بين الأجناس ومواضع تداخلها وطرائق ولادتها، وهي رؤية يستثمر المؤلف صداها من الخزين المعرفي الإنساني، منذ بيانات أرسطو امتدادا إلى الدعوات الحديثة التي تتباين في طرائق النظر إلى الأدب، لتخرج في النهاية إلى أن لكل جنس أدبي خصوصية يختلف بها عن غيره شكلا وماهية ووظيفة.
تتوزع خريطة الكتاب على مقدمة يعرض من خلالها المؤلف الوعي العربي والغربي في الأجناس الأدبية، مشيرا إلى تأخّر العرب في تطوير رؤاهم النظرية للأجناس، مع أنهم عرفوا الأجناس بما ينسجم مع ذائقتهم الخاصة، التي تنطبق على نصوصهم منذ وقت مبكّر، يسبقها تقديم أحمد مطلوب (رحمه الله) الذي بيّن فيه أنّ خصوصية هذه الكتاب تتمثّل في منهجية واعية، تبرز التراث بما يكتنز من آراء خصبة في الأجناس الأدبية، التي ظن بعض الباحثين أن التراث لم يمس أصولها التي مثلت دعوة النقاد العرب القدماء للتميمي، ليتناول نتاجهم الأدبي، ويقف عند ملامح الأجناس في مؤلفاتهم وقفة جادة، تستخلص أبعاد الجنس الأدبي، وتؤسس لحدوده وتستنبط قوانينه.
وجاء الكتاب بتمهيد، رأى أنّ الأدب بحاجة لأنْ يُنَظَّم في أشكال كتابيّة تضمن له حدوداً معروفة، وصفات ثابتة شأنه شأن موجودات الكون حيّة كانت، أو جامدة، وهذا يعني أنّ الذائقة الإنسانيّة بما تملك من قدرات كانت قد تقبّلت فكرة تقسيم الأدب على أجناس، بوصفها مبدأ تنظيميّا لا يصف الأدب وتاريخه حسب الزمان والمكان، وإنما حسب بنية النوع الأدبيّة المتخصّصة، وتنظيمها؛ ولهذا حافظ كلُّ جنس على خصائصه الأسلوبيّة المتجانسة التي يمكن أنْ ينطبق عليها تعريف فنسن، الذي يرى أنّ الأجناس، أو الأنواع: صيغ فنّية عامّة لها مميزاتها، وقوانينها الخاصّة، وهي تحتوي على فصول، أو مجموعات ينتظم من خلالها الإنتاج الفكري على ما فيها من اختلاف وتعقيد، من هنا وجد التمهيد متنه ينفذ إلى حدود الأجناس الأدبية وموقعها من نظرية الأدب للوقوف عند تصنيف هرمي يتفرع إلى (جنس، نوع، شكل، نمط) تمهيدا لقراءته ومعرفة خصوصيته، ومن هنا أيضا فإن التمهيد جعل فكرة الأجناس في مواجهة طروحات حديثة دعت لإلغاء فكرة التجنيس، ونادت بفكرة اندماجها مع نظرية الخطاب، وعلم النص؛ ليؤكد أنّ الأدب بحاجة إلى فكرة، كونه أجناسا وأنواعا؛ لأنّ وجوده اليومي يقتضي تنظيماً، يجعل كل جنس محافظاً على خصائصه الأسلوبية، وبُناه التكوينية؛ فالكتابة أصلاً مقامها أجناسي، وقد حافظت على ملامحها منذ أن وجد الأدب بوصفه كائناً قابلاً للانشطار والتوزيع والتفريع، في محاولة لمعرفة مقاصده ووظائفه ومرجعياته وعلاقاته، وقد أدرك ذلك أرسطو في كتابه «فن الشعر» فوصف الأجناس: الملحمة والمأساة والملهاة، وجعل خصائصها المهيمن الموضوعي في كتابه؛ لأنّ فكرته كانت قائمة على تجاوز إشكالية الأدب من خلال تجنيسه، ولذلك تعرض المؤلف إلى مناقشة آراء النقاد المعاصرين حول فكرة الأجناس في النقد العربي القديم، فجعل له رأيا يعالج شطحات بعض النقاد ويقف عند ركاكة بعضها، لاسيما تلك التي توصلت إلى أن فكرة الأجناس دخيلة على نقدنا العربي، بسبب هيمنة الرؤية البلاغية على الذائقة النقدية، فأثبت هشاشة مثل هذه الآراء؛ لأنّ المقولات التي وجدت في المتون النقدية تشير إلى تجنيس الأدب، بوصفه تراثا حضاريا يحيط بالأدب وإشكالياته التجنيسية.

كما تضمّن الكتاب قراءة منهجية لطبيعة الجنس الأدبي عند النقاد العرب القدماء الذين تناولوا هذه الإشكالية، فبرّز في الفصل الأول الذي سماه (التجليات) ما أورده هؤلاء النقاد بشأن الجنس الأدبي، أو وردت إشارة في معرض حديثهم عن قضية معينة، وللباحث إمكانية دراسة بعض الآراء والتوسع فيها، لاسيما طروحات الجاحظ ومسكويه والكلاعي، إذ تتبلور أفكارهم برؤى تأصيلية لظاهرة الأجناس العربية.
ثم انتقل في الفصل الثاني إلى إضاءات أبي هلال العسكري للتدقيق في مقولاته المتشكّلة من رؤية بلاغية ضمن كتاب «الصناعتين: الكتابة والشعر» بوصفه مدخلا لنظرية الأجناس الأدبية، فعتبة العنوان تحيل صراحة إلى محمول أجناسي، بجعل الشعر قسيم النثر ومقابله، وإشكاليتهما الأجناسية دعته للحديث عنهما برؤية تنطلق من الوعي بالجنس ووظائفه وطبيعته؛ ليحيل على معالجات تؤسس لخصوصية تتّجه نحو فاعلية المصطلح، وطرائق التباين التوظيفي في سياق كل جنس وردت فيه.
وفي الفصل الثالث قدم الكتاب وعيا مختلفا بقضية الأجناس، من خلال تفحص إعجاز القرآن الذي قام به الباقلاني في كتابه «إعجاز القرآن» وكان المؤلف قد تتبع آراء الباقلاني ليكشف عن طبيعة النص القرآني ولغته التي جعلته جنسا يتمايز عن أجناس الأدب الأخرى، فالفكرة التي أطلقها الباقلاني تتضمن الحديث عن لغة الشعر والنثر، وأنّ الوعي بأجناس الكلام الأدبي واسطة إلى معرفة إعجاز القرآن، ليخلص إلى أنّه خارج وجوه الأدب وأجناسه ومباين لطرائق تشكيلها لأنها دونه.
وكان الفصل الرابع إضاءات ابن خلدون في كتابه «المقدمة» التي تعرض من خلالها إلى ملامح الأجناس وتباينها وإشكالياتها؛ لمنح النص هويته ضمن إجراء يمسّ علوم اللسان الأربعة: اللغة، النحو، البيان، الأدب، ولعل إشارته بأن لسان العرب يجري على فنين: الشعر والنثر، وكل منهما يشتمل على فنون ومذاهب، تشكّل حجر الأساس لدخول عوالم الأجناس وتصنيفها على وفق المقومات المميزة للجنس والنوع، ثم يحيل رؤيته على علاقة الجنس الأدبي بالأسلوب الذي يناسب طبيعته، فيجعل الأجناس ضمن تقسيمات تجري بوساطة اللغة، فهي المسؤولة عن التعريف بطبيعة الجنس الأدبي.
والإشارة المهمة هنا أن كلّ فصل من هذه الفصول يتضمن خطاطات تفصيلية عن التقسيمات الأجناسية، ومقدمة وخاتمة فضلا عن مقدمة الكتاب وخاتمته وبعد: فالخطاب البلاغي النقدي العربي حسب الكتاب قد احتوى على مقولات كثيرة يمكن أن نجدها متفرقة عند كثير من النقاد، أو مجتمعة في كتاب بعينه، كلّها تحيل على جذر يتحرّى مسائل التجنيس الأدبي التي تلحق الشعر، والنثر يوم ذاك، لكنّها على قلّتها، وتشتّتها في مصادر شتى تفضي إلى تشكيل مدخل نقديّ لا يخلو من الإجراء، يرتبط بطرائق إبداع الأدب عند العرب، إذا ما نُظر إليه اليوم من خلال ظروف إنتاجه المتعلّقة بزمانه، ومكانه القديمين، فإنّ القبول به سيصبح شيئاً ممكناً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2184665

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2184665 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40