الأحد 7 آذار (مارس) 2021

الأعرج: فدائي وباسل ومثقف بقلم: ريم عثمان

الأحد 7 آذار (مارس) 2021

خلال الأسبوعين الأخيرين، سجل الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية حالتين غاية في التناقض، تعبران عن مدى التردي الفلسطيني الذي ما زال يبلغ مبلغه من الانحطاط والرداءة السياسية الفلسطينية الرسمية. الحالتان هما: اغتيال الفدائي الثائر باسل الأعرج في السادس من آذار 2017، وهو ابن مدينة بيت لحم، والذي اغتيل في قلب مدينة رام الله أوسلوية السلطة اسماً، وإسرائيلية التسيير والتحكم والسيطرة فعلاً، وفوز “يعقوب شاهين في منافسة”آرب آيدول" الغنائية، وهو ابن مدينة بيت لحم ـأيضاً، والذي أعلن عن فوزه من وسط العاصمة العربية بيروت، التي كانت ذات يوم حاضنة دافئة للثورة الفلسطينية.
خرجت حشودٌ من الضفة الغربية في شوارعها تحتفل هرجاً ومرجاً بفوز شاهين ببطولة السبق الغنائي رفيع التنظيم عربياً، بينما خرج القليل من سكان الضفة الغربية لتقديم واجب العزاء لفلسطين السليبة في حضن بيت أهل البطل الأعرج مسحوقين حزناً بفوزه ببطولة السبق الاغتيالي دقيق التخطيط صهيونياً، والسبق الانهزامي الاستسلامي أوسلوياً.
المقاربة جد صعبة، ومحزنة، ومخزية، وأؤكد هنا على أن مقاربتي هذه إنما تخص فقط التفاعل الفلسطيني الرسمي والشعبي مع الحالتين، وليس الأعرج وشاهين، كونهما شخصي المقاربة. فكلاهما ابنا بيت لحم، وكلاهما فازا ببطولة مختلفة، ولكن لا مفر إلا أن أكرر الاسمين طوال مقاربتي.
الأعرج عاش متخفيا قرابة عام في بيت فلسطيني في رام الله، واغتيل بتنسيق “فلسطيني مخابراتي” ووحدة قتل صهيونية خاصة، بينما شاهين عاش علناً في بيت “آرب آيدول” في بيروت أمام العالم أجمع محمياً بحراسات خاصة ومدعوماً بسياسة أوسلوية رسمية.
عندما زج بالأعرج ورفاق نضال معه في سجن بيتونيا، حصل هذا بيد سلطة أوسلو “الفلسطينية”، بتهمة مقاومة الاحتلال، ذلك أن مقاومة الاحتلال أصبحت تهمة من السلطة الأوسلوية قبل السلطة الصهيونية الاحتلالية، وكان يقبع تحت حراسة السجن “الفلسطيني!!” على خلاف الحراسة “الفلسطينية!!” التي ينعم بها شاهين، وقبل أن يفوز شاهين بالبطولة كان الترتيب السياسي الفلسطيني الرسمي قد بلغ مبلغه عندما شارك عباس وأزلامه الحفل الأخير للسبق الغنائي، مقدمين الدعم السياسي العلني ومناشدين على طريقتهم، كل الفلسطينيين، المتحزبين وغير المتحزبين، والعباسيين وغيرهم، ليصوتوا لشاهين بغية تخدير الفلسطينيين أكثر وأكثر لحرفهم عن قضيتهم النضالية لتصبح فقط غنائية. أما مشاركة الغياب الفلسطيني الرسمي حول بطولة الأعرج، فإنها تظل فاضحة حيث صوته في زمن الرداءة “الفسطينية” الأوسلوية إنما هو عار يسبقه ويتلوه عار، فيما صوت شاهين وغيره من أقرانه يصبح مطلباً يصدح في كل دار.
انقطع الأعرج عن أمه وأبيه، وحارته وشارعه وبيته، وأَسكت صوتَه عنا، فترة الاختفاء قسراً ، من أجل المقاومة والكفاح الفلسطيني المسلح، ذلك أن متطلبات الكفاح المسلح في الضفة الغربية تقتضي حالياً الاختفاء، بينما شاهين بقي على تواصل مع أمه وأبيه، وصحبه وذويه، وصوته ومصوتيه علناً، عله يسكن بدل البيت قصرا.
الأعرج، لامس نبضه الأخير نبض الضفة الغربية من أجل ثورة لا نعرف متى ستجتاحها، خاصة في رام الله، وأُعلِن نبأ اغتياله على استحياء شديد عبر فضائيات فلسطينية رسمية وعربية، بينما لامس نبض قلوب الكثير الكثير من الفلسطينيين والعرب نبض شاهين قبل الفوز وبعده، وأعلن عبر الفضاء الإعلامي الفسيح فوز بطل العرب في الطرب، وبكل فخر، كانت وقتها تُحْبَك للأعرج ساعة النحر في الفجر.
كان التناقض واضحاً في استقبال الفلسطينيين حالتي المقاربة حتى آخر اللحظات لكل منهما: فلقد ملأ ضجيج المحتفلين ببطل “آرب آيدول” الشوارع والصحف الفلسطينية، وصفحات التواصل الاجتماعي، حتى خال لي أن قطعة أرض من مغتصبات الضفة الغربية قد تحررت، أو ربما الضفة الغربية مع قطاع غزة قد اتحدت، أو ربما جثامين شهداء يحتجزها الاحتلال الإسرائيلي إلى أهاليها قد أعيدت، أو ربما صلية رصاص أو صليات باتجاه المقاطعة قد صوبت، بينما لم تشهد شوارع الضفة الغربية هذا الضجيج عينه، أو أقل منه بدرجة بسيطة، عندما بدأت معركة الرصاصة والرصاصة المقاومة فجر السادس من آذار هذا العام. إن صيحات الأعرج وحده في ذلك الفجر“هيهات منا الذلة” ستبقى أعلى من غناء أهل الطرب جميعاً، وإن حَلَتْ لهم الأيام وصفق لهم الأنام، ورصاصة الفدائي تبقى عصية على تفريغ أهل اتفاقية أوسلو لها من مضمونها النضالي الفلسطيني.
سيبقى باسل الأعرج ملهماً لمن يقاتل وحده عن شعب سلبته قيادته السياسية الرسمية وطناً وإنساناً، فقد بقي وحيداً يقاوم هذه القيادة التي لن تتمكن من أن تسلب الشعب الفلسطيني ثورته القادمة. لم يكن له رقم ليصوت له عليه كما هو الحال لمتسابقي “آرب آيدول”، ولم يكن له الملايين من المشاهدين يتابعون سبقه النضالي لحظة بلحظة، ولم يكن له مقدمة برنامج مليحة القد تقدم اسمه بدلال متناهٍ يسلب لب المخبولين بصنفها، ولم يقدم سيرته الحياتية مذيع وسيم المحيا، وسخي السخافة، ومهندم الملبس، ولم تكن له لجنة تحكيم من طبقة مجتمعية مخملية، ولم يكن له رئيسٌ يحتضنه ويهتم به ويروج له، بل كان للأعرج فقط هيئة محاكمة في قلب المقاطعة البغيضة، حيث كان يوم الأحد، الثاني عشر من آذار هذا العام، سيكون يوم محاكمة الأعرج ورفاق خمسة آخرين، إلا أن حكم الله ليس بعده حكم، فقد عرج الأعرج للسموات العلى قبل الحكم عليه من وأمام الرئيس الأوسلوي، ويبقى الخمسة الآخرون رهن المحاكمة.
أبرح والد الشهيد الأعرج ضرباً خلال مشاركته في مسيرة تضامنية نظمها وشارك فيها عشاق الأرض والحرية، وذلك أمام المقاطعة البغيضة في يوم كان من المفترض أن تعلن فيه محاكمة ابنه الشهيد والرفاق الخمسة، بينما حج بعض من أزلام المقاطعة العباسية والمحسوبين عليها إلى بيروت معتلين مسرح “آرب آيدول” فرحين مرحين بانتصار شاهين، وهذه معادلة واضحة بين لصوص يحترفون الاستغلال، والاستثمار، والمساومة وبين مقاومين يحترقون من أجل العيش بكرامة وإشعال معركة الاستقلال والمقاومة.
هزلت هذه المقاطعة ومن فيها من لصوص يتميزون باغتيال الشعب الفلسطيني، فاغتيال الأعرج- من حيث النتيجة- لا يختلف عن اغتيال عمر النايف على سبيل المثال لا الحصر. فمن مؤامرة القتل البخيسة في مقاطعة رام الله إلى السفارة “الفلسطينية” في بلغاريا، يبقى هدف الفدائي واحداً، كما يبقى هدف القاتل واحداً أيضاً، وكذلك لا أرى أي اختلاف بين تسليم أحمد سعدات ورفاقه أحياء من سجن أريحا إلى سجون الاحتلال، وبين اعتقال الأعرج ورفاقه في سجن بيتونيا وتحديد موعد لمحاكمتهم في الثاني عشر من آذار 2017، كما أسلفت. ولا فرق بين تسليم مروان البرغوثي من أرض السلطة “الفلسطينية” إلى سلطة الاحتلال الإسرائيلي.
إنه الواقع السقيم، الذي لا يمكن أن يتغير إلا بتعزيز المقاومة الشعبية في أجيال الأعرج ومن بعدهم، لتنبت الضفة الغربية جيلاً يقاوم السلطة الأوسلوية الطاغية بتلقينها درساً مفاده أنه لا حق لها ولمن نظم ووقع اتفاقيات أوسلو أن يصادر حق أي جيل فلسطيني في المقاومة بالكلمة والطلقة، فنحن لنا حق العودة إلى الحجر والمقلاع، والسكين، وتصويب الطلقة عن مسافة صفر وغيرها في وجه عملاء الاحتلال الصهيوني وحكومته، كما وجهوها عن مسافة صفر لباسل الأعرج وغيره من قوائم الاغتيالات الفردية والجماعية.
إنه الواقع اللعين الذي يجعل من السلطة “الفلسطينية” سلطة على رقاب الشعب ترقد، لتدجنه نحو “آرب آيدول” وأشباهه، وليس لتعيده إلى المجد الفلسطيني والعربي عبر السابقين واللاحقين من المناضلين العرب والفلسطينيين الشرفاء. إنها السياسة المخزية التي تتساوق وتمول وتنظم لإنجاح هذه البرامج الطربية لننسى العرب والعروبة والعربية، وننسى النضال والكرامة الوطنية، وننسى أننا شعب فلسطيني عريق له قضية أرض وإنسان. إنها السياسة التي ساوت بين قطاع غزة بمحمد عساف، وبين الضفة الغربية بيعقوب شاهين، ومن خلالها تغنت الشعوب العربية بالكوفية شكلاً وطرباً لا مضموناً ولا مقاومةً، وتماهى السياسيون مع الشخصيات الغنائية، وتباهت مطربة الخليج الأولى مع صاحب الجلالة العباسية.
عار وألف عار، ولكن هكذا مرحلة فلسطينية، تحتاج هكذا قيادة رسمية. إننا نتحمل المسؤولية- نحن الشعب الفلسطيني- الذي وقف يقاوم أعتى سلطة ظلم استعمارية في العالم، ولم نقاوم النظام السياسي الفلسطيني الرسمي الفاسد. وعليه، والحالة كذلك، فلم لا يقتل غيلة كل يوم ألف باسل وباسل، وألف عمر النايف، في الوقت الذي يحيي فيه- دون ذرة من حياء- رئيس شعب محتل الليالي الملاح، حيث يعلن أنه شديد الإعجاب بمغني الاحتلال الإسرائيلي موشيه إلياهو؟! إن الأعرج كان يبني فينا كرامة الإنسان في الأوطان، وكان يعيد للضفة نبضها كما أشعرها حسن ضاهر وأنشدها أحمد قعبور، وأعلن ثورته بنفسه دون أن يطلب من أحد أن يثور نيابة عنه أو يثأر له كما في وصيته. إنه يقود معركته بنفسه رغم استشهاده، وسيبقى- كما كل الشهداء فينا- روحاً ثائرة في الأرض والسماء، وأنشودة وطنية في حناجر الشيوخ والأطفال والشباب والنساء، وفكراً لا يستوعب الأغبياء، ومنظراً وباحثاً في أدب المقاومة لا يهادن على دم المقهورين والبؤساء والفقراء. إنه باسل الأعرج الذي زاوج بين كلمته في التنظير ورصاصته من أجل التغيير.
إن الجيل القادم لا محالة قادم، نحو برامج التعبئة الجماهيرية والتحشيد النضالي، وأرجو أن يكون بعيداً عن الحزبية تماماً، فمهما تعاظم الإقبال حالياً على برامج خطيرة، ووضيعة في الوقت عينه، مثل “آرب آيدول” وستار أكاديمي" التي زجت في صباحاتنا ومساءاتنا وما كنا لها إلا متلقين من جهات مجهولة تجيد الحقن والتلقين، وعلى الرغم من تضافر كل الجهود الفلسطينية الرسمية الأوسلوية مع الجهود العربية الانهزامية لحقن الأجيال الفلسطينية لقاحات ضد الوطنية، لن يأخذ اللقاح مداه ما دام الجسد الفلسطيني المقاوم أقوى من عِداه. إن الأمر ليس معاداة شخوص تفرزها هذه البرامج، فلربما تصدح حناجرهم يوما مثل سميح شقير، وأبو عرب، وجوليا بطرس، وميس شلش، وأمثالهم، غير أن رفضي لها يأتي لأنني أعتقد أن هذه البرامج تنظيمها ليس فنياً من أجل الفن، بل من أجل التتبيع الصهيوني بعد التطبيع العربي الصهيوني. إنه المشروع القادم الذي يستهدف جيلاً خطط له أن يجهل كيف يقاوم: يجهل كيف يقاوم الفساد بالتعليم النوعي، وكيف يقاوم السلطة الجائرة التي تلقمه الفقر فيجتر من جوعه وجهله، وكيف يقاوم الاحتلال الذي يسلبه الأرض والكرامة فيشرده من الدار فيبيت لاجئاً غريباً في بلده أو في بلد الجوار.
ويبقى السؤال البسيط: لِمَ لَمْ يشارك أي رئيس عربي قط، حتى يومنا هذا، في مسابقات “آرب أيدول”، باستثناء الرئيس الأوسلوي؟ هل ثمة وفاق عربي مضمونه: اتركوا للفلسطينيين شيئا يفوزون به إلى جانب فوزهم بحصار المكان وقهر الإنسان. إن كان “آرب أيدول” هو محفلكم الدولي يا سلطة أوسلو لإحراز نصر في مبارزات الموال والغناء وهز الخصر، فإن محفل الشعب الفلسطيني المقاوم سيبقى في ثورته حتى النصر. الأعرج الذي اشتهر بمقولته “عش نيصاً وقاتل كالبرغوث”، ستبقى طلقته تتنقل من جيل إلى جيل، وستبقى “نيصاً” دقيقة التصويب نحو هدفها وكحلها كالبرغوث.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 142 / 2184522

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2184522 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40