الأحد 24 كانون الثاني (يناير) 2021

17 عاماً وما زال مرتحلاً بين المنافي: عبد الرحمن منيف... العربي التائه

الأحد 24 كانون الثاني (يناير) 2021

- ملف الاخبار

اقتحم عبد الرحمن منيف (29 مايو 1933- 24 يناير 2004) حقل الكتابة الروائية متأخّراً. أتى إلى عالم التخييل وهو يحمل على كتفيه النحيلتين خيبات السياسة بوصفها خديعة كبرى، وعطباً غير قابل للإصلاح. كانت روايته الأولى «الأشجار واغتيال مرزوق» (1973) بمثابة مفاجأة، لا تقل في ثقل رنينها عن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، لجهة أنماط السرد وتمثلات الذات العربية المقموعة، مروراً بأزمة المثقف العربي، وتحوّلات المكان، وصولاً إلى الهزيمة المحقّقة، وتلاشي معنى الوطن كمحصلة نهائية للقمع، والعسف السلطوي، والخيبة العاطفية.

- خيبات السياسة أخذته إلى تجربة روائية فريدة

آداب وفنون خليل صويلح

خيبات السياسة أخذته إلى تجربة روائية فريدة

عمل على أرشفة سيرة المدن، ومعنى المنفى، و«لوعة الغياب»، بالإضافة إلى عنايته بالتشكيل

اقتحم عبد الرحمن منيف (29 مايو 1933- 24 يناير 2004) حقل الكتابة الروائية متأخّراً. أتى إلى عالم التخييل وهو يحمل على كتفيه النحيلتين خيبات السياسة بوصفها خديعة كبرى، وعطباً غير قابل للإصلاح. كانت روايته الأولى «الأشجار واغتيال مرزوق» (1973) بمثابة مفاجأة، لا تقل في ثقل رنينها عن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، لجهة أنماط السرد وتمثلات الذات العربية المقموعة، مروراً بأزمة المثقف العربي، وتحوّلات المكان، وصولاً إلى الهزيمة المحقّقة، وتلاشي معنى الوطن كمحصلة نهائية للقمع، والعسف السلطوي، والخيبة العاطفية. رحلة تيه في قطار بلا محطة نهائية، ومثقف خائب بأحلام مجهضة (منصور عبد السلام)، وإذا بجواز السفر يتحوّل إلى «جواز قهر». هذه الثيمات التي ستتسرب إلى أعماله القادمة بمسالك مختلفة، وبعدسة مكبّرة تعمل على تشريح ألم الكائن الشرقي المحمول على رافعة الشجن التاريخي للمكان، لا ضوء في نفق هذا الليل الطويل للخزي. سنقرأ «شرق المتوسط» (1975)، باعتبارها إنجيلاً للتعذيب البشري في السجون الصحراوية العربية. سنعيش الكابوس كما لو أننا في ذلك القفص المكشوف فوق الرمال الملتهبة وغزو العقارب السامّة، تحت لهيب الشمس الحارقة، وسيغلق القوس لاحقاً في ما يخص أحوال التعذيب وتطور أدواته في «الآن هنا أو شرق المتوسط مرّة أخرى» (1991).

يبتكر عبد الرحمن منيف في كلّ رواياته أمكنة افتراضية بأسماء وهمية، بقصد توزيع غنائم الخذلان والحيف البشري على كل الخرائط العربية أو على «عالم بلا خرائط» وفقاً لعنوان روايته المشتركة مع جبرا إبراهيم جبرا، وذلك من باب التذكّر لا النسيان. من ضفة ثانية، سيراود الفضاء الصحراوي في روايته «النهايات» التي كانت من أوائل الروايات العربية التي رصدت مجاهل الصحراء، قبل أن يضيئها إبراهيم الكوني بكشّاف آخر، عملاً وراء آخر. في هذه الرواية، نتعرّف إلى بنية النظام البدوي والصراع مع الرمل وطرائد الصيد بمشهديات إيقاعية آسرة، وفتنة سردية، تعوّض خسائر المكان إزاء الجفاف وغضب الطبيعة، والموت، حين تثور عواصف الرمل، فتبتلع قنّاص القبيلة وتدفنه مع كلبه تحت الرمال. هكذا يطيح عبد الرحمن منيف فكرة الرواية المدينية، مكتفياً بفضاء مفتوح على الصمت والريبة والخوف، هو البدوي المرتحل قسراً من بلدٍ إلى آخر والذي عرف عن كثب إغواءات الرمل وأعراف الصحراء، مؤرّخاً يستبصر ما سيأتي من أهوال، بالاتكاء على خطاب لغوي مهجّن، هو مزيج من فصحى ولهجة بدوية بقصد تأصيل سرديات محليّة للمكان، تستأنس بالموروث الحكائي حيناً، وانفجارات اللحظة طوراً. إذ لا يتردّد باستدعاء حكايات من التراث السردي القديم في سمر ليالي صحراء «النهايات»، فيما يغذّي طبقات الحوار بما يشبهها في البيئة البدوية. عالم مأتمي ومراثٍ مفتوحة على خرائط حائرة ستتشكل خطوطها على مهل في «مدن الملح» مغامرته السردية الكبرى، وملحمة الصحراء المقبلة على الخراب.

ابتكر أمكنة افتراضية بأسماء وهمية في رواياته، بقصد توزيع غنائم الخذلان والحيف البشري على الخرائط العربية

كأن «الأشجار واغتيال مرزوق» مجرد تمرينات أولية لخوض الأسئلة الشائكة وتفكيك شيفراتها. كان نجيب محفوظ قد أسس للرواية النهرية بثلاثيته المعروفة، لكن عبد الرحمن منيف سيتجاسر أكثر، في استدعاء طبقات الحكي، وينجز «خماسية» في تأريخ لعنة النفط، وانعكاسه على أخلاقيات المدن الطارئة التي لا تتكئ على تاريخ حضري متراكم. ربما أسرف الراوي في تدوين التحوّلات والتغيّرات التي طرأت على هذا المكان، إذ سيبقى القارئ أسير الأجزاء الأولى لجهة الدهشة وفكاهة البداوة الغارقة في الحفاظ على أعرافها في مواجهة كولونيالية الشركات الأجنبية، والصراع القبلي على الحكم. على الأرجح، فقد تماهى المؤرخ وخبير النفط مع الروائي بوصفه صاحب مشروع متكامل، إذ ارتأى تذويب أنماط السرد بالوقائع التاريخية، في هجاء علني لهذه المدن البديلة للحواضر العربية الراسخة: «قصدت بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حادّ» يقول. لن ننسى شخصية «متعب الهذال» البدوي الذي رفض سلوكيات الأميركان، فاختفى في الصحراء احتجاجاً على هذه القيم الوافدة التي زعزعت طمأنينة المكان. كان على متعب الهذال أن يتوارى إذاً، كي لا يلوّث روحه بما لا يشبهها، لكنه سيظهر كطيف أو كشبح يراقب ما حدث ويحدث في «وادي العيون» من ارتكابات معادية، في نسخة تراجيدية/ شكسبيرية موازية من طيف والد هاملت. تبع متعب الهذال حدسه أولاً، ريبته البدوية، خشيته من الغرباء، إذ رأى باكراً أن النفط لعنة ومصيبة وفخّ، ما جعله يدعو ولده إلى زراعة نخلة وعرقٍ أخضر كي لا يباغت الجفاف أرض النفط، لكن «حرّان» المدينة التي أسّستها الشركة الأميركية ستزحف على ما حولها وتطيح بما قبلها.
الآن، بنظرة استرجاعية، سنكتشف، أن تأريخ «مدن الملح» كان صائباً وضرورياً لهذه الجدارية السردية المبهرة، فالصراعات التي وردت في المتن الروائي كحالات تخييلية، صارت وقائع ملموسة، خرجت من ردهات القصور المغلقة على أسوارها إلى العلن. تكمن هنا إذاً، أهمية الجغرافيا المتخيّلة واستيعاب أرواح شخصياتها ومصائرها، بدون رهانات إيديولوجية جاهزة تهيمن على سلوكياتها. فههنا يعمل الروائي وحسب، بعيداً عن سيرة المؤلف وتحوّلاته الإيديولوجية بين أحزاب اليسار، إذ ينظّف حقوله السردية من رهاناته الفكرية لمصلحة العمارة الروائية في المقام الأول، من دون أن يتخلى عن تحريض شخوصه على مواقف وتطلعات مختلفة، في ما يسميه فيصل درّاج «علم جمال المضطهدين». هذا المسح الطوبوغرافي لتضاريس شبه الجزيرة العربية تقابله وتشتبك معه قراءة سوسيولوجية للمجتمع القبلي المتحوّل الذي فقد أصالته البدوية من جهة، ولم يؤثث مدنية وحداثة من جهة ثانية، فالملح لا ينخرّ المدن وحدها، وإنما يتسرّب إلى أرواح بشرها.
في مدوّنة أخرى هي ثلاثية «أرض السواد» (1999)، سيستعيد الروائي/ المؤرخ تاريخ العراق في القرن التاسع عشر والمؤامرات التي حيكت في/ وعلى هذه البلاد، راسماً بدقة طبائع الشخصية العراقية في قسوتها وحنانها، في شغفها وأحزانها، بالإضافة إلى موروث الحب والغضب والطغيان، والملاحم السومرية والأكادية والبابلية، وخيانة الوصايا، ما أدى إلى الخراب والفوضى وانطفاء النشيد. كأن ما حدث أمس حدث لاحقاً بالعنف نفسه، معوّلاً، كما في «مدن الملح» على الجموع، بإعادة الاعتبار إلى البشر المهمّشين، وكتابة تاريخهم المهمل. وفي سكةٍ ثالثة، سيقارب الموضوع الفلسطيني في روايته المشتركة مع جبرا إبراهيم جبرا «عالم بلا خرائط» في مواجهة صريحة مع تاريخ الهزائم، فالهزيمة ليست هي الهدنة وفقاً للمرجعيات المراوغة. رواية تنشئ فلسطين مشتهاة، بعيداً عن الخديعة الرسمية في تأريخ الاحتلال والاغتصاب وتواطؤ الأنظمة. هذا التنوّع في الجغرافيات الحكائية يأتي ترجيعاً لسيرة الروائي نفسه، وترحاله القسري بين معظم البلدان العربية، وعلى نحو أدق، بين المنافي: من عمّان إلى بغداد، إلى القاهرة، إلى بلغراد وباريس، وانتهاء بدمشق التي دُفن فيها. روائي وجد نفسه محروماً من جنسية بلاده (السعودية)، فانتمى إلى كل الجنسيات العربية. لم يكتفِ منيف بالكتابة الروائية، إنما ذهب إلى حقول كتابية أخرى، فعمل على أرشفة سيرة المدن، ومعنى المنفى، و«لوعة الغياب»، بالإضافة إلى عنايته بالتشكيل. مراسلاته مع مروان قصاب باشي تؤكد على شغفه باللون وتوقه للرسم بدلاً من الكتابة، مثلما سيصوغ الأخير تخطيطات مائية لأغلفة كتب الروائي، وبورتريهاً له، وإذا بانكسارات وجهه تنفتح على ما يشبه صحراء بالبني المحروق والأحمر الداكن، صحراء موشومة بالألغاز.

- عن «مدن الملح» التي لا ذاكرة لها

آداب وفنون حسام عبد الكريم

لا بد للباحث في شأن الرواية في الأدب العربي الحديث أن يتوقّف طويلاً عند الكاتب «العربي» عبد الرحمن منيف. ونضع «العربي» بين قوسين لأن صفة «العربي» هي وحدها التي تليق به. فأعماله الأدبية الرائعة كانت تغطي طيفاً واسعاً من البلاد العربية في آسيا. «شرق المتوسط» عن سوريا، «سيرة مدينة» عن الأردن، «أرض السواد» عن العراق، وأخيراً والأهم «مدن الملح» عن السعودية. وعدا مواضيع أعماله، صفة «العربي» هي أكثر ما يناسبه من ناحية شخصية! فهو من نجد في جزيرة العرب، ولكنه ليس سعودياً (سُحِبت منه الجنسية السعودية) بل ربما لم يعشْ في بلده الأصلي قط! فقد وُلد سنة 1933 في عمان في الأردن، ونشأ فيها يتيماً بعدما توفي أبوه وهو طفل. ليس هناك الكثير من المعلومات عن والده وأسباب علاقاته (الوثيقة) مع بلاد الشام والعراق. بعد إنهائه دراسته الثانوية في عمان، أخذته أمه العراقية (هناك من يقول إنّ جدته لأمه هي العراقية) إلى بغداد سنة 1952 حيث استقر، طالباً في جامعتها يدرس في كلية الحقوق. لكنه سرعان ما تعرض للطرد من العراق على يد النظام الملكي سنة 1955 (بعيد توقيع معاهدة حلف بغداد) بسبب نشاطه السياسي (انضم إلى حزب البعث العربي الاشتراكي) فانتقل بعدها الى مصر ليتابع دراسته في جامعة القاهرة. بعد تخرّجه، سافر إلى يوغوسلافيا سنة 1958 وحصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بلغراد سنة 1961. عاد منيف بعدها إلى سوريا، ليعمل في قطاع النفط ومن ثم إلى بيروت حيث اشتغل في الصحافة. وفي عام 1975، رجع إلى العراق حيث تولى مسؤولية تحرير مجلة «النفط والتنمية» وبقي في العراق إلى عام 1981 حين غادره (بسبب معارضته للحرب العراقية الإيرانية وحكم صدام حسين) إلى فرنسا. وفي عام 1986، عاد إلى سوريا حيث بقي إلى أن توفي سنة 2004.

هكذا كانت حياة الأديب النجديّ تنقلات متواصلة في بلاد الشام والعراق ومصر، تخلّلتها فترات في أوروبا، من دون أن يكون لوطنه الأصلي (تعود جذوره العائلية إلى منطقة القصيم في السعودية) منها نصيب. فمعارضته الصلبة والمبدئية لنظام آل سعود بقيت معه إلى آخر يوم في حياته. يروي الصحافي الكويتي نجم عبد الكريم، أنّه في أواخر عمره، وعندما أصيب بالفشل الكلوي، أرسل له الأمير عبدالله بن عبد العزيز من يعرض عليه العودة إلى السعودية مع وعد بالعفو عنه، بل رعايته وعلاجه، لكنه رفض رغم المعاناة وضيق الحال وفضّل البقاء في دمشق إلى أن مات فيها. وقد أوصى زوجته بأن لا تقبل أي عرض لدفنه في السعودية. وقبل ذلك، رفض عرضاً من الأمير عبد العزيز بن فهد بتحمّل نفقات إرساله للعلاج في أي دولة في أوروبا. ويقول نجم عبد الكريم إنّ عبد الرحمن منيف رفض حتى تسلّم مبلغ نقدي كبير أرسلته له جهات في السعودية من خارج العائلة الحاكمة. وقال لمن جاء يعطيه المبلغ في المستشفى: إن هذا المبلغ هو محاولة لشرائه وهو يأبى أن يبيع نفسه!
هذه المواقف الحادّة من النظام الحاكم في السعودية ليست مستغربة من الرجل الذي كتب «مدن الملح»، فهذه السلسلة هي بلا شك أعظم وأهم عمل أدبي/ تاريخي عن المملكة السعودية ومجتمع نجد والحجاز في القرن العشرين. إنها عملٌ ملحميّ حقيقي يتكوّن من حوالى 2500 صفحة كتبها عبد الرحمن منيف ما بين 1984 – 1989 في خمسة أجزاء سماها: «التيه»، «الأخدود»، «تقاسيم الليل والنهار»، «المنْبَتّ» و«بادية الظلمات».

السلسلة هي أعظم عمل أدبي تاريخي عن المملكة السعودية ومجتمع نجد والحجاز في القرن العشرين

قراءة «مدن الملح» تحتاجُ إلى نفس طويل، وإلى تركيزٍ وانتباهٍ شديدين. عنوان الرواية معبّر وناطق بما يكفي. هذه المدن هي من ملح، إذا هطل عليها المطر، فإنّها ستنهار دون شك. إنها مدنٌ شاسعة ببناياتٍ شاهقة وشوارع ضخمة وبنية تحتية رفيعة، ولكنها مصطنعة وليست حقيقية، بلا عمق ولا جذور. إنّها دول من إنتاج مقاولين وأجانب ونهّازي فرص، قبضوا ثمن شغلهم نقداً وسَلَفاً.
تناولت «مدن الملح» مجتمع الجزيرة العربية، وبالذات نجد والحجاز، قبل اكتشاف النّفط، وهو الذي كان يعيشُ في بيئةٍ بدوية متواضعة، وبحياة بسيطة جداً. سبّبَ اكتشافُ النّفط تغييراً جذرياً في البلاد، وأدى إلى تحوّل قيم المجتمع بشكلٍ مخيف ومتسارع. الصدمة حدثت بعدما جاءت الشركات الأجنبية وبدأت تشيّد مراكز لها في موران (الاسم الرمزي الذي اختاره منيف لبلد روايته) من أجل مشاريع الاستثمار واستخراج النفط. كانت تلك الشركات تضمّ في صفوفها رجالاً بيضاً ونساءً شقراوات (شبه عاريات) خلافاً للقيم السائدة. وضع منيف في «مدن الملح» شخصية استثنائية، وهو متعب الهذّال، الّذي كان حضورهُ مكثّفاً في الجزء الأوّل من الرواية، وهي شخصية أقرب إلى الحلم، نظراً إلى القيم والمبادئ السامية التي يحملها، وهو الغاضبُ المتوجّس بفطرته من الآخر الأجنبي، والذي دافع وبشدّة، عن أصالة المجتمع؛ رافضاً الاستثمار الأميركي، ومعتبراً أن النّفط صار نقمة لا نعمة. وقد أبدع عبد الرحمن منيف وهو يصف نهاية متعب الهذّال في الصحراء التي خرج إليها بصمتٍ رهيبٍ وحزنٍ تاركاً خلفه الأهلَ والولد، رفضاً لما يجري ويأساً مما رآه من تخاذل أهل قريته.
تحدثت الرّواية بالتفصيل عن ثلاثة ملوك: خريبط وخزعل وفنر، وصفاتهم تنطبق تماماً على الملوك الذين حكموا في تلك الفترة (عبد العزيز، سعود وفيصل). انتقل منيف في أجزاء روايته الخمسة من ساحات المعارك التي خاضها السلطان خريبط لتوحيد الجزيرة العربية وتثبيت حكمه فيها إلى مخادع نسائه وصراعاتهن وتأثيراتها على علاقات الأبناء وتنافسهم على السلطة. وانتقل من القصور ودهاليزها وحكايات الخدم والعبيد إلى حياة البسطاء من أهل البلد المأخوذين بالتحولات السريعة.
وشرحت الرواية تفاصيل انقلاب فنر على أخيه خزعل واستيلائه على الحكم، وكيف تحوّل «الملك» خزعل، صاحب الجاه والهيلمان، الى منفيّ تعيس في ألمانيا (جاءها لقضاء شهر عسل مع عروس جديدة) يثير الشفقة وهو غير مصدق لما جرى ويعيش أحلام اليقظة بأن «رجاله» سيعيدونه إلى البلد، وعندها سوف ينتقم ويعاقب كل الخونة الذين ناصروا أخاه الغادر! وكم كان رائعاً عبد الرحمن منيف وهو يغوص في أعماق عقل السلطان خزعل ويكشف عن هواجسه وطريقة تفكيره وأوهامه... كأنه كان هو !
ومن الشخصيات الرئيسية في الرواية «الدكتور صبحي المحملجي» الذي هو طبيبٌ شاميّ جاء طمعاً في الثروة في بلاد الفرصة الناشئة، واستطاع بذكائه ودهائه الوصول إلى «العود»، وهو المصطلح الذي يستعمله منيف للإشارة إلى الملك، وصار شخصاً لا يستغني عنه السلطان خزعل يوماً واحداً بعدما أصبح كاتم أسراره الصحية ومزوّده الرئيسي بالمقوّيات الجنسية. وبحكم العلاقة الخاصة جداً هذه، أصبح «الحكيم» من أهم الشخصيات في السلطنة وأكثرها نفوذاً وثراءً، قبل أن تتم الإطاحة به على يد الأمير/ السلطان فنر الذي اعتبره من رجال أخيه المخلوع. لكن ابنه «غزوان» الذي تعلم في أميركا، تمكّن من تجاوز أزمة أبيه وتابع المسيرة وصار من أثرى الأثرياء، بعد أن دخل في شراكات مع أمراء العهد الجديد وصفقات سلاح وسمسرة. كان غزوان يضع نصب عينيه دائماً نصيحة أبيه الحكيم: الوطن، يا غزوان، ليس البلد الذي تعيش فيه، ولا الأرض التي ولدتَ فيها. الوطن، يا غزوان، هو القرش الذي في جيبك.
اختلفت آراء الباحثين حول من يكون صبحي المحملجي في الحقيقة، فمنهم من اعتبره محمد خاشقجي، ومنهم من قال إنّه كمال أدهم، أو رشاد فرعون. وربما يكون هو كل هؤلاء مجتمعين. لكنّ آراء الباحثين لا تختلف على أن «مدن الملح» مثّلت نقلة نوعية في السرد التاريخي الأدبي وخلّدت الأديب المبدع عبد الرحمن منيف الذي قال: «وإذا كان لكل قريةٍ ولكل مكانٍ ذاكرةٌ وقلب، فإنّ المدنَ الكبيرة، خاصة التي تتكوّن وتتغيّر بسرعة، تفقد ذاكرتها وتتعلمُ القسوة بإتقان».

* كاتب وباحث من الأردن

- أن نبقى، لا أن نعود

آداب وفنون يزن الحاج

بعدما فرغ عبد الرحمن منيف من روايته الأخيرة «أرض السّواد» (1999)، اتّجه إلى جنس كتابيّ آخر: المقالة. كانت تلك المرحلة أشبه باستراحة بعد الجهد الهائل الذي بذله في كتابة «أرض السّواد» وما سبقها من روايات. كان منيف قد أصدر عام 1991 كتاب «الكاتب والمنفى»، ولكنّ ذلك الكتاب - على أهميّته العظيمة - كان تجميعاً لحواراته، فيما كانت المرحلة الجديدة مختلفة. وكانت أولى ثمارها كتاب «بين الثقافة والسياسة» (1999) الذي بدا أقرب إلى مفتاح للحياة المزدوجة التي عاشها منيف: السياسيّ السابق والروائي الحاليّ. ولعلّ هذا المفتاح لم يكن ليظهر لولا انغماس منيف مع سعد الله ونّوس وفيصل درّاج في سلسلة «قضايا وشهادات» التي كانت المعبّر الأكبر والأفضل عن الدور المزدوج للكاتب في الفضاء العام. ومن ثمّ اتّجه منيف إلى زاوية مهملة في الكتابة العربيّة: الكتابة النظريّة في الرواية وعنها. كانت الكتابة النظريّة، وما زالت إلى حدّ كبير، حكراً على النقّاد، إذ يفضّل الكتّاب الإبداعيّون النأي بأنفسهم عن التحدّث عن «مطبخ الكتابة»، والتفرّغ للكتابة الإبداعيّة في ذاتها. لم يطرح منيف نفسه ناقداً، بل فضَّل البقاء على الحافّة، بحيث كانت تجربته النقديّة النظريّة مُستمدَّةً من تجربته الإبداعيّة، كي يمنحنا عام 2001 ثلاثة كتب تبدو أقرب إلى ثلاثيّة متكاملة: «رحلة ضوء»، الكتاب الأبرز الذي طرح فيه منيف رؤيته الشخصيّة للكتابة، وللرواية على الأخص، «ذاكرة للمستقبل» الذي يبدو قريباً من «بين الثقافة والسياسة» مع تركيز أكبر على التاريخ بوصفه «ذاكرة إضافيّة للإنسان» على حدّ تعبيره الأثير، «لوعة الغياب» الذي لا يشبه أيّ كتابٍ من كتب منيف، ولا أحسب أنّ له مثيلاً في العربيّة، حديثاً على الأقل.

ينطلق كتاب «لوعة الغياب» من الموت، ثيمةً وتأسيساً لكتابة تنوس بين النقد والذاكرة، بين الموضوعي والذاتي. ينطلق الكتاب من عنوانه البديع، إذ يشير منيف إلى أنّه استعار الكلمة الأولى من ديوان «لوعة الشمس» لجبرا إبراهيم جبرا، فيما استعار الكلمة الثانية من القاموس البدوي، حيث يستخدم البدو كلمة «الغياب» لا بمعنى التلاشي، بل للدلالة على الغروب الذي سيتبعه شروق حتماً. الغياب هنا، وإنْ كان موتاً، غياب موقّت تُخلَق منه حياة جديدة، حين يشدّد منيف على أهميّة «المراكمة الإيجابيّة»، أي استثمار الموت بهدف قراءة موضوعية لتجربة من رحلوا كي نؤسّس عليها بناءً جديداً للجيل اللاحق؛ ذاكرة تتراكم لتبني، لا أن تكون محض فرصة للرثاء العابر الذي ينتهي بانتهاء مناسبته. وبذا، لا يبتعد منيف من الفكرة الجوهرية التي تقوم عليها أعماله كلها تقريباً: سباق التتابع، حيث يُسلِّم كلّ جيل أو كل شخصيّة اللواءَ للجيل أو الشخصية اللاحقة، كي تستمرّ دورة الحياة ولو تخلَّلها موت عابر. ينتقي منيف هنا 26 شخصيّة أدبيّة وثقافيّة ارتبطت بالموت، إما حرفياً حين رحلت تلك الشخصيّات فكتبَ عنها منيف دراسات مهمّة، أو مجازاً في الاستثناء الوحيد الذي مثَّله حليم بركات، حيث كان عمله لا شخصيّته، هو المرتبط بالموت، في رواية/ سيرة «طائر الحوم». انتقاء الشخصيّات مرتبطٌ بذائقة منيف، إذ يشير إلى هذا صراحةً في مقدّمته للكتاب. سيفترض وجود الذائقة اختلافاً ضرورياً حيال مدى أهميّة أحكام منيف التي أسبغها على هؤلاء الكتّاب، إذ قد نتّفق أو نختلف بشأن الاحتفاء المبالغ به بشأن نزار قبّاني مثلاً، أو بشأن التفاوت في عدد الصفحات المكرَّسة لكلّ شخصيّة من الشخصيات. لا حلّ بشأن معضلة نزار، لكنّ المعضلة الثانية مرتبطة برحيل منيف نفسه، إذ أضاف الناشر 12 أو 13 شخصيّة لم تكن في الطبعة الأصليّة للكتاب في حياة منيف (2001)، بحيث بدا الفارق واضحاً بين الرثائيّات السريعة لتلك الشخصيات، وبين الدراسات العميقة المكرَّسة للشخصيّات الـ14 الأولى.
لكن فلنبق في ما نحن متّفقون عليه، أي الدراسات الـ14 الأولى في الكتاب، حيث يمنحنا منيف دراسات عميقة ومهمة وفريدة تنتقل بسلاسة بين الثقافة، والأدب، والنقد، والذاكرة، والتاريخ. ولعلّ أهمّ دراستين في الكتاب هما الدراستان اللتان كرّسهما منيف لسعد الله ونّوس ولغائب طعمة فرمان، ويمزج فيهما ببراعة جميلة بين الذاتي والموضوعي، ليقدّم لنا جنساً أدبياً غير معترف فيه عربياً بكل أسف، إذ تندرج القراءات النقدية العربية بين تصنيفين منفصلين بينهما هوّة كبيرة لا سبيل إلى رتقها: كتابة نظرية جافة منفّرة كما في الغالب الأعم من القراءات النقدّية، أو كتابة ذاتيّة تبدأ وتنتهي بالعلاقة الشخصية التي تربط الكاتب بالشخصية التي يكتب عنها بدون أدنى مسافة موضوعية، بحيث تتحوّل إلى احتفاء مجاني لا قيمة له بعد انتهاء مناسبته. يكتب منيف انطلاقاً من تجربته الشخصية، لكنّه يوسّع آفاق تلك الكتابة لتسليط أضواء مهمّة على الجوانب المهملة من حيوات الشخصيات موضوع الدراسة. تتحوّل رسائل غائب طعمة فرمان الشخصية إلى وثائق فريدة لنفهم شخصيّة فرمان وأعماله أكثر، على الأخص من ناحية التأثير المتبادل بين فرمان والمنفى الطويل والبعيد الذي أقصاه عن بغداد. وتتحوّل تجربة منيف الشخصية في مشاهدة مسرحيّة ونّوس «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» إلى نقطة انطلاق يُعمِّق فيها منيف دراسة علاقة ونّوس بالتاريخ وبالسلطة، مع تركيز خاص على مسرحيّة «منمنمات تاريخيّة» وكتاب «عن الذاكرة والموت». وتتحوّل ذكريات منيف الشخصية مع جبرا إلى تحليلٍ دقيقٍ لبغداد الخمسينيّات بكلّ تيّاراتها السياسية والاجتماعية والثقافية. على أن ذلك التّلاقي البديع بين الذاتي والموضوعي يصل إلى أقصى درجات اللوعة حين يتحدّث منيف عن حسين مروّة، لينطلق من سؤال مروّة العابر عن شخصيّة متعب الهذّال في رواية «التّيه» (الجزء الأول من خماسيّة «مدن الملح») بشأن الفارق بين العودة والبقاء، ليتحوّل مروّة إلى تجسُّد آخر من تجسّدات متعب الهذّال، أو العكس بالعكس، ويوغل منيف في تشريح معنى القتل ومعنى الحرب الأهليّة ومعنى غسيل العقول الذي يُنتج قتلةً بمقابل تنوير العقول الذي ينتج أجيالاً جديدة. لكن يبقى سؤال مروّة ومنيف صادحاً: هل المهم أن نعود أم أن نبقى؟ لا نعلم النّتاج الذي كان منيف سيقدّمه لنا لو عاش هذه السنوات الـ17 التي تفصلنا اليوم عن رحيله. كان قد باح لمروان قصّاب باشي بأنّه لن يعاود كتابة رواية طويلة بعد «أرض السّواد»، ولكنّه قال العبارة ذاتها بعد «مدن الملح». ليس هذا مهماً، ولا فائدة من التحسّر. منيف لن يعود، ولكنّه سيبقى. هذا هو المهم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 54 / 2184598

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع أعلام واستذكار   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184598 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40