تطور العنصرية المركبة في الولايات المتحدة

أنجز الرئيس الأمريكي ترامب لمنافسي الولايات المتحدة ما عجز عنه هؤلاء عبر عقود من الزمن. فبدل أن كانت تعاني أمريكا من عنصرية بسيطة ثنائية التركيب، أصبحت تعاني الآن من عنصرية مركبة متعددة الأطراف والفئات. وبدل أن يوحد ترامب بين الناس ويقضي على المظاهر العنصرية البسيطة التي استمرت على الرغم من إلغائها قانونيا، عمل على فتح ثغرات جديدة في المجتمع الأمريكي تهدد بالتأكيد الأمن القومي الأمريكي من الداخل.
سعى الاتحاد السوفييتي المنهار إلى فتح ثغرات في المجتمع الأمريكي ليتغلغل ثقافيا وأمنيا داخل الدولة، ووظف الأموال واستقطب عددا محدودا من العملاء والجواسيس، لكنه لم يتمكن من إحداث اختراقات جوهرية تمكنه من بلوغ مبتغاه. حتى أن الشيوعيين الأمريكيين الذين تجمعوا في حزب بقي مجهولا وكان أكثر من نصف أعضائه من المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي. في حين تمكنت أمريكا من اختراق الاتحاد السوفييتي والصين والهند وباكستان وتركيا وإيران، واستعملت عملاءها للسطو والتخريب وصناعة الأزمات. انهار الاتحاد السوفييتي وسط احتفالات ابتهاج أمريكية، ومشاعر بالانتصارات.
ترامب قلب ظهر المجنّ. بعد أن كانت العنصرية السائدة بين البيض والسود، تطورت الآن لتشمل أغلب فئات وأغلب سكان الولايات المتحدة. ساد ظلم أبيض إجرامي بشع ضد الهنود الحمر، لكن لم يكن بقدرة الهنود مجابهة عنصرية البيض، وانحسر الصراع العنصري ضد الأفارقة السود. الآن ينقسم البيض على أنفسهم بين بيض متعصبين متشنجين ينحدرون من خلفيات مسيحية صهيونية أنجلو سكسونية وبيض آخرين تحرروا من عنصريتهم وأخذوا يتبنون الأبعاد الإنسانية في التعامل مع الآخرين، ويؤمنون بأن العدالة هي التي تصنع الدول والإنجازات وليس الآفاق المنغلقة الضيقة.
والعنصرية توسعت إلى درجة أنها تشمل الأمريكيين من أصول لاتينية والذين يسمون بالإسبانول، والمسلمين والصينيين وذوي البشرة البنية من أصول آسيوية. وهذا يعني أن الشرذمة الاجتماعية الأمريكية ستتسع، وتبعا لذلك ستتسع الشرذمة السياسية. الشرذمة السياسي تعني أن أمريكا ستشهد في الفترات القادمة ظهور تجمعات سياسية جديدة لا ترى في الحزبين الجمهوري والديمقراطي خير ممثلين لكل الشعب. هذا إلا إذا كان في جعبة الرئيس الجديد ما يعدّل الطربوش. غياب ترامب وحده لا يكفي لأن هذه العنصرية المركبة تحولت إلى مكون ثقافي أمريكي جذرها ترامب خلال سنوات حكمه، وسيستمر في تطويرها تحت ضغط طموحاته السياسية. ويجب ألا يستهين أحد بقوة ترامب الشعبية من حيث أنه حاز على حوالي 75 مليون صوت في الانتخابات الأخيرة. العالم في مختلف أنحاء الكرة الأرضية عدا بعض دول الخليج ينظر إلى ترامب على أنه شخص بلطجي مخرب أساء لمجمل العلاقات الدولية ومارس الإرهاب ضد عدد من الدول والتنظيمات الساعية إلى التحرر والاستقلال، لكن هذه ليست النظرة السائدة لترامب داخل الولايات المتحدة. عشرات ملايين الناس ينظرون إليه على أنه بطل قومي وطني عنيد، ولولا كورونا لاجتاح ترامب الانتخابات بسهولة.
الآن أصبحت الفرصة مواتية أمام الصين وروسيا وإيران للتغلغل داخل الولايات المتحدة، وقطعا لدى هذه الدول رؤاها واستراتيجياتها في الدخول ثقافيا وأمنيا، والأمور ستكون لها أكثر سهولة الآن. طبعا أنا لست من الداعين لانتهاك سيادات الدول وتوتير الأوضاع إلى حافة الحرب، لكن أمريكا لم تعف أحدا من شر أعمالها، بالتالي عليها أن تتوقع انتقاما ومحاولات زعزعة الاستقرار الداخلي.
قال أحد المسؤولين الإيرانيين إن الرد على قتل رموزها العسكريين والعلميين سيكون من الداخل الأمريكي. هذا قول نفهمه الآن أكثر مما كنا نفهمه سابقا. الآن ممكن لسببين وهما: إيران ستتمكن من استقطاب متعاونين معها من الداخل الأمريكي بسبب اهتزازات النسيج الاجتماعي، وما سيتبعه من اهتزازات سياسية ستؤثر على الشعور بالانتماء للدولة، أما الثاني فيتعلق بتطور قدرات إيران في القرصنة الإلكترونية، وبالتالي في إمكانية إحداث تفجيرات في مصانع أسلحة أمريكية ومواقع نووية كما يفعل الصهاينة والأمريكيون في إيران. روسيا والصين أكثر تطورا في صناعة الاختراقات الثقافية والأمنية وهما ستستفيدان كثيرا من التحولات الداخلية في أمريكا.
ظن ترامب بجهله وضعف معارفه العلمية أنه يصنع خيرا مع أمريكا، ولم يتعلم من التاريخ أن الاستبداديين مهما بلغوا من الذكاء لا بد ان يج روا شعوبهم إلى الهاوية وتأخذهم سيرتهم في النهاية إلى قمامة التاريخ.