الأحد 17 كانون الثاني (يناير) 2021

قراءة في رواية “عذبة” لصبحي فحماوي

إلهام الشرع*
الأحد 17 كانون الثاني (يناير) 2021

تتجلى في رواية “عذبة” الصادرة عن دار الفارابي 2005 لصبحي فحماوي المتناقضات بتآلفٍ عجيبٍ يمنحها قيمةً نوعيةً وأثرًا له ظلاله المشرقة في الحركة الروائية التي تناولت القضية الفلسطينية.. إنها روايةٌ، بعبارةٍ أخرى، تُعَدُّ منعطفًا مهما أثرى أدب القضية الفلسطينية، وجعل له مكانًا ومكانةً في الآن عينه، ولفت عيونَ النقاد وأقلامهم إليه؛ ليتناولوا روايته بعين التأمل والنقد والتشريح النقدي اللافت.
عندما نتحدث عن الألم الفلسطيني والمعاناة في رواية “عذبة” فإنها تبدأ من عذابات القتل والتشريد الذي تعرض له الفلسطينيون ، إلى عذابات المعيشة الضنكى في المخيم أو “المعسكر” كما يسميه فحماوي.. هذا المستوى المعيشي الذي انحدر بعد التهجير ليرمي بهم في معسكرات لا تقيهم حر الصيف، ولا برد الشتاء.. لقوله: “ودخل في زقاق المعسكر المكتظ بالبيوت الطوبية المتراصّة على بعضها….فإن الطريق شبه المعبد بحفريات ورمال وصفائح ، تتوسطه قناة مياه مجار زرقاء مسودّة اللون، وقطط تتحرك فوق كومة من النفايات المتناثرة فوق فراغ ينبعج من الطريق”[1].
وحتى أيامنا هذه يقف أربعة وستون مخيما شاهدين على نكبة الـ 1948 عندما اقتلعت العصابات الصهيونية الشعب الفلسطيني من أرضه، ومنذُ البداية ظلت المخيمات الفلسطينية أحد أكبر الشواهد الحقيقية على النكبة الفلسطينية، لكن، وفي الوقت نفسه، كان الإصرار على أن اللجوءَ مؤقت، هذا الحلمُ ..حلم العودة، الذي ظنّه الفلسطينيون المهجّرون سيتحقق قريبًا، لكنه أمسى كابوسًا ما زال يقضُّ مضاجعهم حتى هذه اللحظة. ورغم أن المخيمات تشكل بؤرة “فقر وقهر” إلا أنها شكلت بؤر تمرد على الواقع، وأصبحت نماذج لعزة الإنسان الفلسطيني وكرامته.
وهذا، في الحقيقة ما يؤكده صبحي فحماوي في رواية عذبة، بكل حنكة وحكمة، إنها الحقيقة التي تسعى إلى تأكيد وجود الفلسطيني وواجب عودته الى أرضه فلسطين،بل إنها إشارةٌ وتصريحٌ في الوقتِ نفسه إلى الجنة: جنته التي خرج منها مجبراً، كما قال أبو البطيخ:
“إن شاء الله إلى الجنة ياعماد! وكلمة الجنة، لها أكثر من معنى، ففلسطين جنة الله على الأرض، والمعنى الآخر الذي قصده أبو البطيخ، هو جنة الآخرة! إلى الموت..إنشاء الله تروح ما ترجع..!”[2]إن تلك المحاولة الجادة في إبراز صورة فلسطين بصورة قداسية، متكئة على الموروث الوطني المهم في تكنيكات التعبير التي وظّفها فحماوي ببراعة في روايته، وهي محاولة ناجحة ذات أفق مهم أدّى إلى نجاح الرواية وذيوعها في الوسط الثقافي، بالضرورة.
بدأت رحلة عماد المنذر، الشخصية المحورية في الرواية، بعودته إلى قريته ومحبوبته عذبة، برحلة استمرت ساعتين، وباسترجاع أوجاع الماضي، التي أخذت بالتداعي في مخيلته عن طريق مونولوج (حوار داخلي) مع عذبة:
“أحكي لك ياعذبة حكايات وخُرافيات فقط لأسليك، لا بل لأسلي نفسي حتى توصلني هذه الحافلة إليك!”[3]. أمر مهم يجب علينا الالتفات إليه، ألا وهو توظيفُ اللهجة المحكية الفلسطينية بشكل متقن ذي خبرة كبيرة، وعبقريةٍ في الاختيار، بحيثُ أصبحَ للحزنِ المرصوف في الرواية صدى واقعيّ ملموس بشكل بارزٍ، إن الكاتب في روايته صوّر الانكسار الفلسطيني بأسلوب أدبي رفيع، مما أسهم في وصول الرواية.. وهي رسالةٌ في المقام الأول، هدفها الوصولُ وإيصالُ الصوتِ الفلسطيني إلى أبعد مدى.
تأخذنا ذكريات عماد المنذر إلى قرية الزيب تلك القرية العكاوية، المهّجرة التي “كانت تتمدد مسترخية بهدوء، وتنام حالمة بأمواج البحر المتوسط”[4]،هذه القرية وغيرها الكثير من تلك القرى، التي أُبعِدَ أصحابها عنها، وطردوا منها، وحوّل المستعمر مساجدها إلى بارات وملاهٍ للسكرو العربدة.. هذا ماجاء به الاحتلال والاستيطان: التخريب والتدمير وطمس الهوية الفلسطينية، بل تجاوزت وحشيتهم إلى أبعد من ذلك من أفعال لا إنسانية؛ تقمع وتُخرب في أراضيهم وتقتل نساءهم وأطفالهم بمشاهد صورها الكاتب، قد لا تخطر على بال، فيتفننون في القتل بأساليب عجيبة ووحشية لم يسبق لها مثيل بتعذيب نفسي ينافي حتى القتل الطبيعي؛ لإرهابهم أكثر، والاستمتاع بمشاهدة تعذيبهم:
“ابقروا بطونهن، كي لا يلدن أولاداً أو بناتاً، يعلمن أولادهن الانتقام لمجزرة دير ياسين وغيرها!”[5]. هذه الوحشية التي تعامل بها الصهاينة مع النساء، فكانوا يتراهنون على الجنين الموجود في أرحامهن، هل سيكون ولدا أم بنتا، وبكل دم بارد يُبقر بطن هذه الأم الحامل وهي حية، وذلك أمام صراخ وبكاء وفزع الأخريات”.. وعندما كان يحزر أحدهم، ويكسب الرهان، وتفوح رائحة الدماء والبول من الجنين الخارج من الرحم،….،كانوا يتصايحون مبتهجين متفاخرين، بأن الذي كسب الرهان كان ذكياً! ومن كان يخسر الرهان، كانوا يبهدلونه مازحين:
“طول عمرك فاشل!” …لقد خسرت الرهان لأنك أحول! …أنت لاتعرف كيف تفتح علبة سردين، فكيف يوكِّلونك بفتح بطن امرأة حامل!”[6].
جاءت هذه المجازر البشعة تحت ما يُسمى (التطهير العرقي)الذي يعني تطهير فلسطين من سكانها العرب، وإخراجهم منها عن طريق الهجرة القسرية، وقتل كل من بقي داخل تلك القرى، فمجزرة دير ياسين التي تقوم على أنقاضها اليوم مستوطنة (جفعات شؤول) قد بقيت شاهدة على القتل والتهجير والإبادة الوحشية، إذ انتشرت عصابات الهاغاناه في دير ياسين في الساعة الثانية فجراً، فقتلوا كل من وقع تحت مرمى أسلحتهم… كانت الأوامر تقتضي أن يقتلوا الجميع؛ نساء وأطفالاً وشيوخا، وتدمير البيوت، إلى درجة أنه بعد انتهاء العملية جمعوا كل من بقي منهم حيًّا، ورموهم بالرصاص.
إن هذه المشاهد التي رصدها الكاتب صبحي فحماوي ما هي إلا بعض من تلك المجازر التي اقترفها الصهاينة بحق الفلسطينيين العُزّل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث استهدفوا الأطفال والنساء والشيوخ بدبابات وصواريخ ومليشيات ومدرعات وأسلحة محرمة، لكن هذه المشاهد عبّرت بشكل واضح وعميق عن مدى وحشية الاحتلال، وأبرزت أحد أعنف أشكال الدمار والعنف والقتل على مّر التاريخ؛
“وبعد انتهاء لعب القمار، في تلك الساحة الحمراء، المشبعة بروائح الماء البولية والبرازية، حملوا العذارى، وغير الحوامل منهن عرايا، في ثلاث شاحنات مكشوفة بشكل جماعي، وأخذوهن في جولة سياحية، ليحتفلوا بانتصاراتهم عليهن”[7].
يتابع الكاتب سرد هذه المشاهد المأساوية فتقف الأنفاس وتقشعر الأبدان لتلك الصور المخيفة المرعبة المستفزة للإنسانية والضمير، فاستطاع أن يصفها لدرجة أن القارئ ينفد صبره وتستثار حماستهُ للانتفاض على الظلم الذي عانى منه أهلنا في فلسطين…ومن حديث أبي هذا، لم أفهم الدوافع النفسية، والفلسفة التي سيورثونها للتاريخ، من مثل تلك الاحتفالات الصهيونية، بانتصار عدة جيوش عالمية منتصرة في الحرب العالمية، على أهالي قرية صغيرة مغدورة، ليس لها وليُّ أمر، ولا جيش، ولا حتى خفيرُ مختار مسلّح، سوى حكومة الانتداب البريطاني المانعة للحمل!”[8].
ويؤكد لنا فحماوي أهمية نقل هذه المشاهد، ليستطيع القارئ أن يُشاهد ما لم يشاهده، وما لم تنقله وسائل الإعلام، وما تكتمت عن ذكره المنظمات الدولية، فإن الرواية بتصويرها لمشاهد العنف هذه، والرعب والقتل الذي وقع عليهم، تكون قد تفوقت بمصداقيتها؛ بسبب تقريبها الواقع المؤلم وتُعطي للذي عايش هذه الأحداث، أو عانى منها، ومن همجية العدوان الإسرائيلي متنفساً؛ حيثُ تظهر الحقيقة كالشمس، وتكشف عذابات المقتولين، وتنتقم الكلمة من القاتل بتوثيق جرائمه.
إن هذا الهجوم جعل بعض أهل القرى الذين نجوا من هجمات الأسلحة والدبابات يلجؤون إلى المغارات ليحتموا بها، تلك المغارات التي كانت تُشكل في ذاكرة الفلسطيني مكانا موحشا تختبئ فيه خرافات غولة ذات أنياب حادة قاتلة، لكن كانت المفارقة العجيبة أن الغولة تقبع في الخارج متمثلةً بدخول الصهاينة إلى فلسطين فجعل المغارة مكاناً آمناً لهؤلاء المفجوعين بقتل أحبابهم وأصدقائهم وحرق بيوتهم وتدميرها، فاحتوتهم المغارة وحمتهم” وبعد هروب كبير، داخل غابات الجليل الداكنة الخضرة، التي احتضنتها عتمة مغارة موحشة، راقبت الأم بحذر شديد، ما إذا كان هناك داخل المغارة ذئب، أو ضبع، أو أفاعٍ سامة! ولكنها كانت جسورة، لأن أبشع الوحوش لا تقتل أكثر من شخص واحد، كي تُشبع معدتها الخاوية، وتسد رمقها، ولكن هؤلاء الغرباء لا يشبعون من القتل”[9].
ويضيف الكاتب أن “هؤلاء الغرباء المتحضرين، القادمين من الغرب ليس لديهم مبرر للقتل، لأنهم ليسوا جوعى”[10]. هنا يقدم لنا الكاتب الحجج والبراهين، ويطرح الأفكار بصورة منطقية؛ ليتسنى للقارئ استيعاب الفكرة، فيعمد إلى طرح الأسئلة، وتقديم الإجابة المنطقية لعمل غير منطقي، وعدوان همجي، فحين سأل الجندي أم فرحات سؤالاً كان مفاجئاً لها:
“من هو أبغض هؤلاء الأطفال إلى قلبك يا امرأة؟
“لماذا تسأل هذا السؤال يا خواجة، فكلهم أحشائي وفلذات كبدي!”
نخن بصراخة، نريد أن نخلصك من الطفل الأشقى، كي (نريخك) من عذابه ونكده..ونبقي لك طفلين، (ترخلين) بهما إلى بلاد العرب!”[11].
هل يُعقل أن تُسأل أم عن أحب أبنائها؟! بل هل يُعقل أن تتخلى عن أحدهم لمجرد أنه شقي؟ هذه الأسئلة اللامعقولة، هي العذابات النفسية لأم تُحاول أن تحمي أطفالها، وهي أسئلة تستفز الجرحَ الذي لم يتوقف عن النزف في ذاكرة العربي الفلسطيني، بعد تشرد أصحاب الأرض واستقرارهم بعض الشيء في بضع أماكن من الوطن العربي، تلك المخارج التي وضعها الصهاينة؛ ليخلوا لهم الأرض، وتبقى لهم وحدهم، كأن لسان حالهم يقول: أيها الفلسطينيون تيهوا في الأرض… وبتعبير آخر، فقد فُرض عليهم التعايش مع وضعهم الجديد، وحياتهم قد انقلبت رأساً على عقب.
وفي روايته “عذبة” يطرح عماد المنذر سؤالاً:
“لماذا تطعمنا وكالة الغوث، مادام جماعتها هم الذين خططوا لنسفنا وتدميرنا وتهجيرنا من وطننا، وإسكان اُناس آخرين مكاننا؟ ففهمت أنهم يريدون خلق روح التأقلم فينا، أو التطبيع مع حياة الهجرة، وعدم الحاجة للوطن، والاعتماد على مصدر آخر للحياة، غير مصدر الوطن”[12]. إذاً لماذا يظلمون الفلسطينيين، ويخرجونهم من أرضهم، ويرمون عليهم الفتات؟ هذا ما يتبادر إلى ذهن القارئ لرواية عذبة، بعدما كان هذا الشعب ينعم بخيرات أرضه وبحره..
كانت تبعات اللجوء لدى الفلسطيني تفوق قدرته على التأقلم في البداية؛ فأعطى لأناس صلاحيات التحكم بالخلق.. فها هو الشاويش أبو شرِّين رئيس المخفر لمخيم أنصار 13 يأمر وينهى، كأنه رئيس دولة ما، وهو في الحقيقة ليس رئيسًا ولا يملك أي منصب، إنما هو فقاعة فارغة لا طائل تحتها، إنه مجرد عريف شرطة، وجد مكاناً يفرغ فيه شحنات مرضه النفسي ولعنته وسخطه على أبناء المخيمات المظلومين أصلاً، وإلا لمَ سُمّوا لاجئين، لكنهم وجدوا أن ظلم العربي على العربي أشدَّ مضاضة، فيقومون باتباع أوامره وأوامر الأقل رتبة منه؛ الشاويش أبو زكي الذي كانت لديه صلاحيات واسعة، فبسهولة نجده يمد يده على (الكايش) ذي الحافة المعدنية المربعة الثقيلة.. يتفنن بضرب الناس الواقفين عند مركز توزيع المؤن لتصحيح الصف”[13]. فمن أين سوف يتّقي هذا اللاجئ المسكين الطعنات والنكبات والانكسارات المتمثلة في ظلم الاحتلال وظلم وتعذيب الموكّلين بحفظ النظام.
يتابع الكاتب تبعات اللجوء، فنشهد في روايته ظهور جماعات سمت نفسها باسم المقاومة، أو قامت بإضفاء صبغة المقاومة على أهدافها.. ولو بحثناعن كلمة “مقاومة” في المعجم لوجدنا أنها تعني (مجابهة القوة بالقوة، أو صمود في وجه المهاجم ) فكانت المقاومة بذلك ردة فعل طبيعية للظلم، وظهرت إثر ذلك الجماعات التي انضم إليها كثير من الشباب والرجال، فاخترقوا حدود من كان في الداخل من المحتلين، وقاموا بتفجير بعض الآليات، وقتلوا عددا من جنود الاحتلال، وهذا ماعبر عنه غسان كنفاني بقوله: “خيمة عن خيمة بتفرق”
وبعد، فإن العذابات في رواية عذبة تبقى هي الجانب الأكبر المسيطر، تلك العذابات التي يجب أن تُقال وتُكتب وتوثق، وكما قال المستشرق الفلسطيني إدوارد سعيد: “على كل فلسطيني أن يكتب روايته”، فقد قدم لنا الكاتب العربي الفلسطيني صبحي فحماوي خلاصة العذابات والعذوبة في رواية عذبة، مبيّنًا الجانب المشرق وكذلك الجانب المظلم الذي أودعه أماني، من أجل التحرر من هذا العذاب، ومن ثم تحقيق حلم العودة إلى الجنة فلسطين.

* جامعة اليرموك

[1]فحماوي، صبحي: عذبة، ص 12.
[2]المصدر نفسه، ص 13
[3]المصدر نفسه، ص 23.
[4]فحماوي، صبحي: عذبة، ص 24.
[5]المصدر نفسه، ص 37.
[6]المصدر نفسه، ص 38.
[7]المصدر نفسه، ص 39.
[8]المصدر نفسه، ص 39.
[9]فحماوي، صبحي: عذبة، ص 75.
[10]المصدر نفسه، ص 75.
[11]المصدر نفسه، ص 76.
[12]المصدر نفسه، ص 122.
[13]فحماوي، صبحي: عذبة، ص 123.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 123 / 2184606

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

3 من الزوار الآن

2184606 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 3


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40