الأحد 17 كانون الثاني (يناير) 2021

محمد بكري في «جنينه»… الرائحة المبثوثة من المَشاهد

سليم البيك*
الأحد 17 كانون الثاني (يناير) 2021

ضمن المتوقع، صدر الاثنين قرار المحكمة الإسرائيلية في مدينة اللد، بمنع عرض فيلم «جنين جنين» لمحمد بكري، الوثائقي الذي صور حالة المخيم وأهله بعد الاجتياح والمجزرة عام 2002. وشمل القرارُ تغريم بكري مالياً ومصادرة كل نسخ الفيلم.

القضية المستمرة منذ بدء الملاحقات السياسية والإعلامية والقضائية، عام المجزرة وإنتاج الفيلم، تتخطى فيلمَ بكري وشخصه إلى عموم الصراع مع الاحتلال، وكان بكري، هنا، في الواجهة منه سينمائياً. تجرأ وأنجز هذا الفيلم الذي مسّ، بأسلوبه وموضوعه، واحدة من الأساسيات التي بنت الصهيونية عليها خطابها الفني، سينما وأدباً.
الفيلم مبني على مقابلات مع أبناء المخيم وبناته، الناجين من المجزرة، وكان المخيم ركاماً، وفيه كلام مباشر وطازج، خارج، إن استطاع، من بين صرخات بيوت المخيم أثناء المجزرة. وهذا يحيلني إلى عملَين أساسيين في تصوير التراوما وحالات ما بعد الكوارث البشرية، أولهما نص لصديق الفدائيين جان جونيه «أربع ساعات في شاتيلا» والثاني فيلم «المحرقة» للصهيوني كلود لانزمان.
كان الروائي والمسرحي الفرنسي جان جونيه من أول الداخلين إلى موقع المجزرة، وسجل في نص يتوازى جمالُ المَحكي فيه مع بشاعة المُحكي، شهادتَه عن المجزرة، وسجل صمت أهله المفجوعين: «هنا في أطلال شاتيلا، لم يعد يوجد شيء، بعض العجائز، صامتات. أغلقن على أنفسهن وراء باب عُلقت عليه خرقة بيضاء». هذا الصمت صوره بكري في فيلمه، ساحباً الكلام من فم الضحية البكماء فيه، كلام بالإيماءات والأصوات المفرغة من معانيها المعجمية، المكتومَة الممتلئة بمآسي لا تُحكى. بأحاديث الختيار والطفلة، وبملامح الأوجاع على أوجه المفجوعين، والقهر يقطر من أفواههم وعيونهم، نسمع ما أرادت المحكمة الإسرائيلية ألا يكون نسخةً أخرى، بصرية، من نص جونيه الذي كتب: «سأتحدث عن الموتى الذين كانوا آخر من رأيت يوم الأحد، حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، عندما دخل الصليب الأحمر الدولي بجرافاته. لم تكن رائحة الجثث تخرج من منزل ولا من جسد منكل به: بل كان يبدو لي أن جسدي وكياني هما اللذان يبعثان تلك الرائحة».(1) هي الرائحة التي لم يخطئها مُشاهد «جنين جنين» الرائحة المتكررة في ذاكرة الفلسطينيين، المبثوثة من المَشاهد. خلد النصُ المجزرةَ. فلا «صبرا وشاتيلا» الآن، كما نعرفها، بدون نص جونيه الذي أعطى المساحات البيضاء لحكايا الغائبين، أعطاها وصفاً أدبياً للمجزرة، وصفاً توسلَ المجازات لنقل الشهادة. حكايا الغائبين لا تعود كذلك، بكتابتها وتصويرها، لا يعود هؤلاء غائبين بهذا النص وذلك الفيلم. ضحايا المجزرتَين حاضرون بآلامهم الطازجة، وقد خلدت، الكتابةُ والتصوير، تلك الطزاجة.

ليس «جنين جنين» وثائقياً بالمعنى التقني للكلمة، ولا فيلماً مشغولاً بحرفية عالية. هو شهادة بصرية حية وخام، وهذه أهميته. شهادة لا تتآكل، ابنة لحظتها، أخرجت المجزرةَ من برودة التقارير الصحافية وأدخلتها في محاكمة معاكسة، إنسانية بطابعها الأول والأخير.
هناك حيث يحكي مِن الضحايا مَن استطاع الحكي، ويومئ من لم يستطع، ويبكي من عجز. ولأن الإسرائيليين يدركون جيداً قيمة الحكي، وكذلك الصمت كفعلٍ يفوق الحكي، وقيمة تسجيله، كتابةً أو تصويراً، وتثبيت صورة طزاجته، أصدرت المحكمة قرارها بمصادرة الفيلم، لكن بعجزٍ تام عن مصادرة المحكي فيه.
يعرف الإسرائيليون جيداً أن المحرقة النازية، أو إدراك العالم لها، بعد فيلم «المحرقة» للانزمان (2). ليس كما هو، الإدراكُ، قبلها.
الفيلم الذي صور كذلك شهادات، كلاماً وصمتاً، لناجين من المحرقة، كما صور بكري الناجين من المجزرة. صور الفيلمُ أكثر من تسع ساعات، مشاهدات الناجين التي تخطت حالة التوثيق، لتصير مرجعاً لما حصل وكيف حصل بحق اليهود آنذاك، مانحاً إياها، أخيراً، غايةً صهيونية، تخدم المؤسسةَ ذاتها التي حاكمت بكري وصادرت فيلمه الذي صور ما صوره لانزمان.
السردية الصهيونية المبنية على نصوص وأفلام كان «المحرقة» أساسياً من بينها، والواعية هي تماماً لذلك، أمكن لفيلم بخمسين دقيقة أن يضع تلك السردية أمام ذاتها في أروقة محاكمها، أن يطرحها معكوسةً، أن يصور أفعالها وآثارها بكلام ضحاياها لترى، أو ليرى قضاتهُا، ما فعلوه، ليذكرهم بما فعله آخرون بهم، ليكون «جنين جنين» و«أربع ساعات في شاتيلا» الرواية الأخرى، رواية الضحية المحاكِمة للسردية الإسرائيلية، المفندة لها، ليحكي فيلمُ بكري ونص جونيه، سيرةَ المهزومين المنكل بهم، سيرةَ طروادة التي «لم تَروِ حكايتَها» والتي أراد محمود درويش أن يتكلم باسم شاعرها، باسم الغائب (3).

كاتب فلسطيني*

هوامش:
1 ـ جان جونيه، «أربع ساعات في شاتيلا» ترجمة: محمد برادة، 1983
2 ـ «Shoah» كلود لانزمان 1985
3 ـ «Notre musique» جان لوك غودار، مقابلة مع محمود درويش 2004



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 341 / 2184617

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184617 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40