الأحد 10 كانون الثاني (يناير) 2021

ذاكرة للشاشة الصغيرة!

الأحد 10 كانون الثاني (يناير) 2021

- لينة عطفة*

لينة عطفة - شاعرة سورية

(في وداع حاتم علي)

الشرط غير الطبيعي الذي يعيش ضمنه الإنسان العربي في بلدان تحكمها أنظمة قمعية استبدادية قروسطية، تجعله كأنما يعيش داخل قفص حديدي مقفل، فيكون عاجزاً عن الانطلاق والتعبير عن نفسه، يجهل كيف يلتقط عواطفه ويعبّر عنها، وإذا تمكن من التعبير قليلا فإنه يبقى تعبيرا محدودا ومجتزأ.
أن يمتلك الإنسان موهبة ما في بلدان كهذه، فذلك ضرب من المعاناة المضاعفة لأنه يجد نفسه مقيّدا عاجزا عن التعبير عنها، أو عن تأدية ما تمليه عليه هذه الموهبة. والعبقرية هي أن يجد المبدع وسيلة يحتال بها على كل هذا القمع والضغط الهائل الذي يُمارس عليه ليقدم من خلالها إبداعه، ويجعل رسالته تصل إلى الناس فيخلق تواصلا مع الآخرين وبين الآخرين.
أمام الرقابة والتقارير والموافقات الأمنية، وأمام المحرمات والتابوهات والخطوط الحمراء، عدا عن بنية العلاقات وطرق الوصول، في بلد مكرّس لعبادة الفرد، تمكنت أسماء قليلة من مناورة كل ذلك القمع، حالمة بوطن حر وإنسان يعيش بكرامة، أسماء قليلة لمعت في سماء ظلمتنا العربية في ظل ما نعيشه منذ عقود. قلائل تمكنوا من تجاوز القيود والاحتيال على الجلاد ومنح الناس أملا بالتغيير المقبل؛ أملا في أن ثمة من يفهمهم ويراهم ويستمع إليهم، وأن وجودهم ضروري ومحقق وله غاية وقيمة إنسانية.
وللأسف ومع تقادم الزمن، ومع تطور أدوات الاستبداد وقمعه للثورات، التي حاولت أن تغير الواقع، ومع تلقي أنظمة القمع الدعم الهائل من كل العالم، سواء بشكل مباشر أو عن طريق تجاهل رغبة الإنسان العربي في الحرية، وتجاهل الجرائم المرتكبة والانتهاكات المريعة لحقوق الإنسان؛ ولأن الاستبداد نقيض الإبداع، تراجعت الحالة الثقافية -على ضآلتها- أمام تعاظم القيود وسيل العنف والقمع، وتابع الطغاة سحق روح الإنسان وقيمته، ورغبته في تحقيق ذاته، وفي الوصول إلى معنى وغاية للوجود.
المبدعون الذين أضاؤوا لنا طريقنا عاليا فقدناهم، إما بالتغييب داخل السجون أو بالتغييب داخل بوتقة القمع، أو بالانكفاء واليأس، أو الموت، لكن الأقسى على الإطلاق أن يقبل المرء برهان الهروب والمنفى ليستمر في إبداعه، ثم يخطفه منا الموت بدون مقدمات فيكون الموت كالقتل كما يقول المتنبي: إذا ما تأملت الزمان وصرفه / تيقنت أن الموت ضرب من القتل. لقد قتل الموت حاتم علي بعمر لم يتجاوز ثمانية وخمسين عاما، وهو في توقّد العطاء، ليرحل فجأة، تاركا متابعي أعماله في ذهول وخيبة وعدم تصديق. ترك حاتم علي بصمة هائلة في ذاكرة جمعية جريحة تبحث عن هوية، ضمن ظروف قاهرة لا يستطيع الإنسان العبور منها أو تجاوزها. كانت أعماله من الأشياء القليلة التي أعادت للسوريين ذاكرة جميلة، وخلقت لهم أحلاما وشكلت لهم رؤية جديدة للواقع.
يتجلى ذلك في مسلسل «الفصول الأربعة» الذي كان بمثابة مرآة ونافذة على العالم، العالم الذي كرس نظام حافظ الأسد كل جهوده لعزلنا عنه، وعن كيفية تطور المجتمع وكيفية العيش، وكيفية التعاقد الاجتماعي بين بعضنا كعوائل وأسر وأفراد. مسلسل اجتماعي لطيف، منجز بمنتهى الصدق والإخلاص، أعاد للمواطن السوري قليلا من الرؤية الحقيقية للواقع ليعود إلى ذاته ويتواصل مجددا مع واقعه، وليتذكر أنه إنسان يملك حلما ورغبات، وله أسرة ليست معزولة عنه وليس معزولا عنها. وبنقلة نوعية في الدراما السورية استطاع تسليط الضوء على الحياة الحقيقية التي حجبها نظام الأسد. استطاع تسليط الضوء على حقوق المرأة وحالها في المجتمع الذكوري الأبوي، وعلى القضاء، والفساد وقمع الحريات، والحرمان الذي يعيشه الإنسان السوري، في أعمال متنوعة لامعة مثل «عصي الدمع» «أحلام كبيرة» «على طول الأيام» وغيرها الكثير. تمكن من كل ذلك محايلا نظام القمع مجاهدا في سبيل إخلاصه لمهنته ومشروعه.
حاتم علي قدم الكثير ليس فقط للدراما والفن، بل أيضا للإنسان العربي، إذ نحن ضمن عصر الظلمة الذي نعيشه الآن، عاجزون عن التواصل الحقيقي والبناء مع تراثنا، عاجزون عن فهمه، عاجزون أساسا عن بناء المعرفة، فالإنسان العربي لا يملك ترف القراءة، والأجيال العربيّة مجهّلة لا تستطيع التواصل مع كتاب، لا تستطيع أن تقرأ تحت ضغط الحياة في البحث عن أبسط وسائل العيش اليومي، كالغذاء والماء والغاز والكهرباء، فالثقافة تصير من الكماليات بالنسبة لإنسان مهدد بلقمة عيشه.
نقلت أعماله لأجيال من الشباب العربي، الكثير من التجارب الإنسانية، وعرضت الكثير من الأسئلة وسردت التاريخ في أعمال عديدة منها «الزير سالم» الذي كان من كتابة الكاتب والشاعر ممدوح عدوان، إضافة للأعمال التي كانت نتاج ثنائية رائعة شكلها مع الكاتب وليد سيف، ولعل ألمعها كان «حكاية الأندلس» التي استعرضت تاريخ الأندلس السياسي والأدبي والاجتماعي، وتفاصيل الماضي وشخوصه، بمزج خرافي بين الدراما والتأريخ، وبومضات تنبه المتفرج إلى موقعه ودوره، وتضيء له معنى الحرية ومعنى العمل، وكل ما دمره الاستبداد؛ فذهب بالدراما لما هو أبعد من التسلية والتوثيق، وجعل منها كتابا يستطيع المشاهد أن يتعلم منه ويبني ثقافة، وبالتالي منح التلفزيون نجمة كانت دائما من حصة السينما، وهو تمكنه من التأثير في ذاكرة المتلقي فلم يكن ما قدمه عابرا، بل بقيت شخوصه وحبكاته ماثلة حاضرة ولها زاوية في ذاكرتنا.
كنا ننتظر ساعة الكهرباء كي نشاهد عملا جديدا لحاتم علي، كنا ننتظر ساعة الكهرباء لنشاهد مسلسله، الذي كان بالنسبة لنا كساعة التنفس في السجن، ساعة للتواصل مع العالم الخارجي المعزولين عنه، والتاريخ الخائفين منه؛ التاريخ الذي تجرأ حاتم علي على أبطاله لينقلهم لنا بصورة جديدة، صورة لا تطابق مفاهيمنا لقيمة الخير والشر، بل مستمدة من الإنسان الذي يحمل كافة التناقضات. في مسلسلات عديدة مثل «الزير سالم» «صلاح الدين» و «عمر» و «ثلاثية الأندلس»
فتمكن من أنسنة أبطالنا وضوارينا، وهو ما لم يجرؤ عليه أحد قبله!
كما أنه وثّق في أحد أعظم أعماله «التغريبة الفلسطينية» النكبة والشتات ومأساة الشعب الفلسطيني، ومأساة تهجير الفلسطينيين، هجرة بعد هجرة ونزوحا تلو نزوح؛ الشيء الذي عاشه حاتم علي مرتين، مرة عندما نزح وعائلته طفلا من الجولان السوري المحتل، ومرة كما ملايين السوريين، الذين هجّرهم النظام الأسدي، ليموت نازحا غريبا ويعود إلى وطنه في كفن، بينما تبكيه عيون السوريين في شتاتهم الكبير في كل أصقاع الأرض مسمرين أمام الشاشات يراقبون بذهول رحيل البطل.

شاعرة سورية*



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2184505

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2184505 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40