الأحد 6 كانون الأول (ديسمبر) 2020

«اعتقال»… فيلم فلسطيني يضع القضية في مواجهة النار والدم

كمال القاضي
الأحد 6 كانون الأول (ديسمبر) 2020

لا تزال الصورة التقليدية للتعبير عن القضية الفلسطينية سينمائياً، هي الأكثر تميزاً والأقوى تأثيراً، ربما لأن القضية ذاتها لا تحتمل رفاهية التعبيرات الرمزية والإسقاطات السياسية البعيدة، فأمام المعارك الضارية والاشتباكات الدامية لا يمكن للسينما الفلسطينية ـ الفلسطينية أن تذهب بعيداً عن مرمى النيران لتطرح صور الخلافات الجبهوية والفروق الأيديولوجية بين الفصائل لتأخذ المُتلقي خارج دائرة الاقتتال الطاحنة بين الكيان الصهيوني وكتائب المقاومة، فالأجدر بالسينما الواقعية أن تقترب من بؤر اللهب لتنقل الصورة الحية كما هي.
هذا ما فعلته بالضبط المخرجة الفلسطينية امتياز المغربي في فيلمها «اعتقال»، حيث ذهبت مباشرة إلى صُلب الموضوع، فحملت أدواتها وخرجت لتنقل وقائع الحرب اليومية وترقبها عن كثب، فلا يكون للتشكيك مجالاً ولا يعلو صوت فوق صوت المعركة، فالقضية محلها الميدان، أما المفاوضات فمكانها هناك داخل الغرف المغلقة، فحول الموائد المستديرة تتداول الأوراق وتُبرم الاتفاقات، أما في ساحة الوغى فالكلمة للبندقية وشارة النصر وبينهما الشهادة.
تلك هي المرتكزات التي انطلقت منها المخرجة في رؤيتها إزاء قضيتها الحية، فلا اعتبار لديها للمُقدمات والاسترسال والتمهيد، فالاقتحام هو أقصر الطرق إلى إصابة المعنى، ولهذا كسرت امتياز المغربي طوق الاعتقال لتعبر عتمة الزنازين إلى وهج الضوء الساطع من نيران المقاومة، كأنها تُعلن كفرها بالمفاوضات وكافة الحلول السلمية، أو أنها تفضح خرس الأنظمة العربية على الملأ، بإبراز التناقض الفج بين الصلف الإسرائيلي والهدوء العربي المقيت، فما هو كائن في جوهر الصورة السينمائية لا يُنبئ إلا بالحقيقة، فدانة المدفع لا تكذب، وألسنة النيران لا تكذب وبكاء الأطفال الصغار هو البيان بذاته لا ريب فيه.

لم يرق للمخرجة التناول الرومانسي المعهود في بعض التجارب للقضية التاريخية العادلة، فاتبعت أسلوباً مغايراً، وعلى عكس النماذج المطروحة في هذا الصدد للإبداع النسائي الناعم، تميز فيلم «اعتقال» بالخشونة، وهو وصف مجازي لقسوة المشاهد في الكوادر التسجيلية الموثقة لجرائم الاحتلال وجبروته، فعلى قدر المباشرة جاء البلاغ في الخطاب الوثائقي الروائي التسجيلي صادقاً وموجعاً، وهو المطلوب إثباته لجلاء الحقيقة بالشكل والمضمون والمعنى.
الخطوط البيانية للقصة والحوار وحكايات الأبطال، لم تكن مُستهدفة في البناء الفني والموضوعي للفيلم، فما يمكن أن يُحكى عن الشهداء وزوجاتهم وأطفالهم في السياقات الروائية، جاء ثرياً وغنياً ومتوافراً في المشاهد الساخنة، وبقع الدم، وأعمدة الدخان ولهيب النيران، وجولات الكر والفر وهدير المدافع، وإيقاع المُجنزرات وصوت البنادق، إلى آخر أدوات التأثير والتعبير المُستخدمة بفنية عالية وتوظيف مُتقن ودقيق.
لقد اعتمدت المخرجة على تقنيات التصوير والمونتاج، فأضافت للكادر السينمائي عمقاً، ووسعت زوايا الرؤية، ليتمكن المشاهد من متابعة كل أبعاد الصورة بتفاصيلها الصغيرة، وهي مهارة متناهية، ساعدت على إدراك ما يجري في المواجهات العنيفة بين طرفي الصراع، الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي، كأنها المراقبة الشخصية للحرب عبر المجهر، غير أن الجهد المبذول من جانب المونتير في تقطيع المشاهد، بحسب الضرورة الدرامية ودرجة التأثير المطلوبة، قد أفاد كثيراً في الإحساس العام بفداحة الثمن، والتضحيات والتكلفة التي يدفعها الفلسطينيون وحدهم في الحروب الدائرة بينهم وبين عدو يُفرط في استخدام القوة، في مواجهة من لا يملكون سلاحاً أو عتاداً، ويُعلن انتصاره على العُزل بزهو وفخر وتباه، ليخبئ عاره وخوفه من حجارة الأطفال التي تنقر رأسه كطيور الأبابيل، فتردي جنوده قتلى وتحولهم إلى جيف في لمح البصر!

إنها البطولة الاستثنائية التي يشير إليها الفيلم ضمناً، بلا تدخل مباشر عبر حوار منطوق أو مشهد تمثيلي مُتخيل، وإنما تجليات الصورة التسجيلية تتولى نقلها من الواقع إلى الشاشة، فتأتي صادقة ووافيه بالغرض، وغنية عن التعليق.. «اعتقال» هو التجربة السينمائية مُتعددة الأضلاع فهو يقدم رؤية تحليلية لمضمون الواقع الفلسطيني بإيجابية شديدة، رغم ما يعتري هذا الواقع من آلام مُزمنة وأوجاع مبرحة، إذ يعتني بنقل كل التفاعلات، المقاومة الجسورة والدفاع عن الأرض والعرض والهوية والكيان، وحيوية الشخصية الفلسطينية وبسالتها، وعار الصمت العربي وخزيه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2184555

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع فنون مسرح وسينما   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2184555 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 2


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40