السبت 26 أيلول (سبتمبر) 2020

ملف الأخبار: الثقافة العربية في مواجهة الخيانة

السبت 26 أيلول (سبتمبر) 2020

سوفَ أخرجُ من داخل الأرض في الليلٍ:
كفّاً رخاميّةً تحمِلُ القمرَ الجديدَ قدحْ.
فاغتسلوا في النهورْ
وانتظروا لحظتي.
سوفَ أخرجُ من داخل الأرض في الليل
كفّاً رخامياً ممسكةً بعنان الفرسْ،
فرس الملائكة،
وستصهلُ في جهةٍ حرّة من براري البلاد،
فيُبعثُ كلّ مَن في البلادِ
هوى قتيلاً بالرصاصِ،
وتهتزُّ النجوم كأنّها شبكةُ.
فانتظروا وجهتي.
وسأخرجُ من داخل الليل
قبضةً من تراب، فازرعوا في ترابي أصابعكُم
غابةَ أقمارٍ سترمي البلاد إلى الضوء
فانتظروا تربتي
واحذروا الانتظار
والأزمنةَ الحالكة.

* من قصيدة «الرحلة إلى داخل الأرض» للفلسطيني حسين البرغوثي (رام الله - 1988)

- سعيد محمد
عن السقوط النهائيّ لمثقّفي الهيمن

هستيريا تطبيع الأنظمة العربية مع الكيان العبريّ أسقطت آخر أوراق التوت عن الدور الاستسلامي الخطير الذي تلعبه فئة مثقفي الهيمنة التقليديين والتكنوقراط والعضويين البرجوازيين المنخرطين في مشاريع الحكم ما...

- مروان عبد العال

في خريف العُربان... كيف تصبح صهيونيّاً؟

الإجابة عن السؤال تظل مفتوحة على تشعّبات الرغبة كما في رواية «كيف أصبحت غبياً» للفرنسي مارتن باج. بفلسفية ساخرة، تأخذنا الرواية في رغبة البطل في أن يصبح غبياً وكيف يسخّر كل ذكائه، الذي ندركه من...

- محمد ناصر الدين

مبدعون من المحيط إلى الخليج: هو... هو الذي اختار أن يكون له اسم وحيد: العَدُوّ!*

إنها أكبر من تلك المساحة التي وصفها هيرودت في تاريخه: «ويسكن البلاد الممتدة من أرض الفينيقيين حتى حدود مدينة كاديتس [غزة] السوريون الذين يُسمون «الفلسطينيين». ومن هذه المدينة -التي تضارع مدينة سارديس...

- شاكر لعيبي
ألا شاهتِ الوجوه

كتبت دائماً بأنني شاعر وكاتب عربي، الآن بمناسبة التطبيع، أودّ الإشارة إلى أنني كاتب وشاعر عراقي. ذلك أني سأتحدث عن «عقال» أجدادي في العراق وأخاطب الناس عن التطبيع. فقد قال علي: «حَدِّثُوا النَّاسَ،...

مراد القادري
نكسة أخلاقيّة وثقافيّة

التطبيعُ هو أن نجْعل مِمّا هو غيرُ طبيعيّ، أيْ ممّا هو شاذّ وغيرُ مقبولٍ، طبيعيّاً وعادياً. إنه حالة من فقدان الذاكرة، التي تجعل الضحيّة تنسى سوط جلادها وهو يهوي على جسدها، ورائحة الموت التي ترفرفُ...

* عن السقوط النهائيّ لمثقّفي الهيمنة

هستيريا تطبيع الأنظمة العربية مع الكيان العبريّ أسقطت آخر أوراق التوت عن الدور الاستسلامي الخطير الذي تلعبه فئة مثقفي الهيمنة التقليديين والتكنوقراط والعضويين البرجوازيين المنخرطين في مشاريع الحكم ما بعد الكولونيالي كمروّجين ومبشّرين بأجندات سياسيّة ثقافيّة واجتماعيّة تكرّس التبعيّة للغرب الرأسمالي، وللسلالات القروسطيّة وكيلة الإمبرياليّة الجديدة، ومحتلين للفضاء العام. مهمتهم إقصاء أيّ حسّ نقدي تجاه الخيارات السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية التي تتخذها تلك السلالات ولو كانت كارثيّة التأثير على الأكثريّة المغيّبة. أمر يجعل من مهمّة كسر احتكار تلك النخبة لوظائف المثقّف وتعويم مفهوم المثقف العضوي المعادي للهيمنة على أوسع نطاق ممكن بين الطبقات المستضعفة، مهمّةً ملحةً أكثر من أيّ وقت مضى، ولا سيّما من خلال تعظيم الانتفاع من نافذة التواصل العريض مع المجتمعات والسهولة النسبيّة للوصول إلى المعارف التي يوفرها الإنترنت وأدوات الإعلام الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي.

لا يمكن الحديث عن المثقف ودوره في المجتمعات عموماً من دون ضبط بعض المفاهيم والمصطلحات الأساسيّة، ولا سيّما أنّ الترجمة العربيّة للتسمية المبتدعة أصلاً في الثقافة الغربيّة البرجوازيّة (Intellectual) تبتعد بنا من حيّز توظيف العقل في إطار التقسيم المتزايد للعمل إلى مساحة أقرب إلى الإلمام بالثقافة السائدة في مجتمع ما، لتعكس ربّما حدود اللغة والخبرة المعاشة في المجتمعات العربيّة التي عاشت على هامش الحداثة، وحيث الشاعر والعرّاف والنسّابة هم طليعة المجتمع وقوّته الدافعة الفكريّة. وتبدو إشارة ماركس وأنجلز في «الأيديولوجيا الألمانيّة» رائدة لناحية تحديد دور للمثقفين كجزء من سياق المجتمع الرأسمالي «حيث الطبقة التي تمتلك وسائل الإنتاج الماديّ بتصرفها (بما فيها رأس المال بالطبع)، تسيطر في ذات الوقت على وسائل الإنتاج الفكري»، وأن مهمة الإنتاج الفكري «توكلها الطبقة المسيطرة لمفكري الطبقة المنتجين لأيديولوجيتها». لعل الصورة التي كانت في ذهن ماركس حينها مرتبطة بتلاميذ الفيلسوف الألماني هيغل الذين انقسموا بعد وفاة أستاذهم في عام 1831 إلى جناحين متناحرين وخاضوا معارك فكريّة هائلة «حتى لتبدو – والوصف لماركس وإنجلز دائماً – معها الثورة الفرنسيّة بالمقارنة أقرب إلى لعب الأطفال». لكن ماركس عاب على هؤلاء انفصام نشاطهم الأيديولوجي – الألماني – عن واقعهم – الألماني – وامتناعهم عن نقد الظروف الماديّة لمجتمعهم، معيداً الرّبط بين الفلسفة وقيادة التغيير الاجتماعي، حيث «الفلاسفة – أقرأ المثقّفين - دائماً اكتفوا بتفسير العالم، فيما المهمّة هي تغييره».

نيكولا غرين ــــ «نضال» (2010)

لكن أدقّ توصيف للمثقف ودوره في المجتمعات ما زلنا ندين به للمفكر الشيوعي (الإيطالي) أنطونيو غرامشي، الذي ترك ضمن دفاتر سجنه قبل مئة عام تقريباً نصوصاً مؤسسة في تعريف المثقفين وأدوارهم في إطار أنموذج الهيمنة (بمعنى سيطرة طبقة حاكمة على مجتمع ما عبر الأيديولوجيا لا بمحض أدوات العنف الرسميّ) لا تزال إلى اليوم نقطة انطلاق أي بحث معاصر في هذا الشأن. ويُفهم من مجموع النصوص الغرامشيّة بأن المثقفين يندرجون تحت ثلاث فئات: مثقفون تقليديون (رجال الدين الرسمي، موظفو الدّولة والصحافيون المحترفون مثلاً) وهم حكماً من بقايا نظام اقتصادي وسياسي اندثر منذ بعض الوقت وليست لديهم أيّ قيمة فعليّة، لكن الطبقة المهيمنة تجدهم مفيدين في إعادة انتاج أيديولوجيا الخضوع والحفاظ على الوضع القائم. وهناك مثقفون تكنوقراط (الخبراء المتخصصون في الإدارة والماليّة والأكاديميا الذين يعملون في فضاء مؤسسات الإنتاج الاقتصادي والمالي وتأهيل البيروقراطيّة بشكلها المعاصر) وهؤلاء يتجنبون عادة الخوض في المسائل السياسيّة مباشرة ويعملون بدقة ضمن قواعد وخطوط غير مكتوبة لكن متوافق عليها. وأخيراً، هناك المثقفون العضويّون وهم أولئك الذين لا يرتبط نشاطهم الفكري حصراً بوظائفهم بقدر ما يتجاوزها نحو التأثير الأوسع بالمجتمع، وتقديم نوع من قيادة أخلاقيّة ثقافيّة وفكريّة نقديّة الطابع لتوجهاته السياسيّة والاجتماعيّة في نطاق ظروفه الماديّة البنيوية. ويُقرأ من غرامشي بأن المثقفين العضويين يمكن في النهاية أن يكونوا على طرفَي نقيض من الهيمنة، أكانت من إمبريالية أجنبيّة مباشرة أو من طبقة محليّة حاكمة: مثقفو الهيمنة، وهم حكماً من الطبقة البرجوازيّة أو من المتوهمين بإمكان الالتحاق بأجوائها ينخرطون بالكليّة في مشاريع الحكم القائمة ويروجون لخياراتها السياسيّة والثقافية والأخلاقيّة، ويحتلّون الفضاء العام لإقصاء أيّ حسّ نقدي تجاه الخيارات السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية التي تتخذها تلك النخب الحاكمة، في مقابل مثقفين معادين للهيمنة قد يكونون برجوازيين أصلاً (كما ماركس مثلاً) انتصروا على وعيهم الطبقي الزائف، وتجاوزوا سقوف أيديولوجية البرجوازيّة سايكولوجيّاً وسياسياً، وتلك قلّة نادرة دائماً، أو منحدرين من الطبقة العاملة. يراهن غرامشي دائماً على دور ثوري وطليعيّ لفئة المثقف العضوي المعادي للهيمنة نتاج الطبقة العاملة ـــ بمعناها العريض من دون الاقتصار على مفهوم بروليتاريا العصر الصناعي الضيّق ـــ بوصفه الأقدر على تحدي الأوضاع القائمة وكشف تهافت أيديولوجيا النخبة المهيمنة ونقد السياق الاجتماعيّ والثقافيّ للمجتمع، وبالتالي صياغة نوع من توجه محدد نحو التغيير وقيادته لتأسيس الحالة الثوريّة.
وعلى الرغم من صلاحيّة المنهج الغرامشي في وصف صور المثّقف ـــ باستعارة تعبير إدوارد سعيد من نصّ محاضرته الشهيرة حول الموضوع ـــ فإن ثمّة تراجعاً ملموساً في قدرة المثقفين العضويين بموقفيهم المتناقضين من الهيمنة على التأثير بمجتمعاتهم، أقلّه مقارنة بدورهم خلال النّصف الأول من القرن العشرين لمصلحة صعود سيطرة الأجهزة الاستخباراتيّة والأمنية (نموذج المخابرات المركزيّة الأميركيّة) بعد الحرب العالميّة الثانية، وتحكّمها المطلق في صياغة الخطاب الثقافي والأيديولوجي للمجتمعات. حتى يمكننا القول – كما ذهب البريطانيّ برتراند رسل – إلى أنّ المثقف العضوي المعاصر قد يؤثر على أحاديث الناس العاديين، لكن حتماً ليس على سلوكياتهم، وأن تصور المثقفين عن أهميّة آرائهم موهوم ونرجسيّ ولا يمت للحقيقة بكبير صلة، بدلالة أن الدّفق الاجتماعي الغالب يدفع باتجاه مناهض للمصالح الاستراتيجيّة للمجتمعات وللبشريّة عموماً.
تبدو تجربة مختلف المجتمعات العربيّة منذ بداية القرن العشرين وإلى اليوم كأنها في صيغة انتقالها من ظلام قرون الاستعمار العثمانيّ إلى عصر الاستعمار التقليدي وانتهاءً بعصر التبعيّة للإمبرياليّة الغربيّة الجديدة. تشترك معاً في الدّور المخيّب للآمال الذي لعبته النخبة المثقّفة في كل منها سواء لناحية انخراطها الكليّ في تكريس هيمنة الاحتلال الأجنبي بداية ولاحقاً سلطة السلالات القروسطيّة (ملكيّات ومشيخات وجمهوريّات معسكرة) التي وليت وكالة إدارة الكيانات الوظيفيّة تركة الاستعمار التقليدي لمصلحة الإمبرياليّة الجديدة، أو لدورها في الترويج لأجندات سياسيّة ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة تكرّس التبعيّة للغرب الرأسمالي وللنظام النيوليبرالي، وسلوكها الخيانيّ في إغلاق الفضاء العام لمجتمعاتها وإقصاء أيّ حسّ نقدي تجاه الخيارات السياسيّة والاستراتيجيّة التي تتخذها السلالات الحاكمة، ولو كانت تلك الخيارات كارثيّة التأثير على الأكثريّة المغيّبة ومناهضة لمصالح (الدّولة) ذاتها، والإقليم العربيّ على المدى المتوسط والطويل. وإذا كانت هناك استثناءات فرديّة صارخة لهذا التوجه العام (نموذج ناجي العلي، غسّان كنفاني، حسن حمدان، أم كلثوم، أمل دنقل، إدوارد سعيد، وديع حدّاد، ناصر السعيد، عبد الرّحمن منيف، الصادق النهيوم وعبد الخالق محجوب وغيرهم)، فإنها كانت دائماً حالات فرديّة نادرة وعبقريّات معزولة تجاوزت سياقها الطبقيّ والمحليّ، وغالباً ما دفعت أثماناً باهظة من دمها، وأكدت القاعدة ولا تنفيها.
ولعل مراجعة نقديّة لدور هذه النخبة في المفاصل الحاسمة من تاريخنا المعاصر (سواء في مسار القضيّة الفلسطينية انتهاء إلى دولة رام الله وإمارة غزّة، أو في هزيمة الـ 1967، أو في حرب أيلول 1970 في الأردن، أو في حرب تشرين 1973، أو في حرب لبنان الأهليّة، أو في سقوط مصر في مربّع كامب ديفيد، أو ردّة عسكر الجزائر إلى حضن الأميركي، أو حربَي الخليج وسقوط بغداد 2003 إلى ويلات ربيع العرب الأميركي والهجمة الغربيّة على سوريا وليبيا، وكسر ثورة البحرين، والعدوان على اليمن، واستهداف المقاومة في لبنان)، لتكشف عن نسق روتيني من انحياز يكاد يكون رثاً ولا عقلانياً مع الإمبرياليّة ضد الأوطان، ومع السلالات الحاكمة ضد المواطنين، ومع مصالح النخبة المهيمنة ضد الطبقات الأقل حظاً. بل انخرط كثيرون يصعب حصرهم في خدمات استخباريّة وتجسسيّة مباشرة كـ «مخبرين محليين» وطلائع للجيوش الغازية ودعاة تطبيع علني، ناهيك بالطبع عن أكوام الكتّاب والصحافيين المهاجرين إلى مصانع البروباغندا السعوديّة والقطريّة مدّاحين ومتزلفين وأبواقاً مشرعة ضدّ أعداء الهيمنة. ومنهم كثيرون – كما وجد إدوارد سعيد - انطلقوا من جوار اليسار والقوميين العرب لينتهوا محللين (وفق المفهوم الشرعي) لأسوأ تطرفات اليمين الرجعيّ المتخلّف.
لكّن هستيريا تطبيع الأنظمة العربيّة (العلني حصراً - تأكيداً على عمق الاتصالات السريّة وعراقتها)، وتسارعها الانهياريّ الطابع تجاه تأسيس علاقات رسمية ونخبوية مع الكيان العبري (تحت الرّعاية الأميركيّة المباشرة) كشفت عن سقوط نهائيّ لا رجعة عنه لفئة مثقفي الهيمنة البرجوازيين، ليس التقليديين منهم والتكنوقراط فحسب، بل والأخطر: المثقفون العضويون. تسابق هؤلاء، متطوعين أو مضطرين لا فرق، للتّرحيب الحار – حد التّهريج أحياناً - بالاختراق العبراني السافر لبلادهم، وقرارات السلالات الحاكمة بكسر كل غلافات السريّة التي طالما أحاطت بها علاقاتها الحميمة العتيقة بالكيان الاستيطاني، كلٌّ بحسب موقعه ومساحة تأثيره.

دمقرطة مفهوم المثقّف العضوي المعادي للهيمنة وتوسيعه بالإفادة من معطيات التكنولوجيا المعاصرة

هذا السّقوط المدوي والنهائي لفئة مثقفي الطبقة البرجوازيّة العربيّة – على أنواعها - يدفع بقيتنا من بقيّة الطبقات (العاملة والوسطى كلتيهما) والمعنيين باستمرارية المواجهة مع الإمبراطوريّة وذراعها العبريّة لإعادة التفكير مليّاً في طرائق استرداد مساحات التأثير من مثقفي الهيمنة، ليس لناحية مقاطعة منتجاتهم الثقافيّة والإعلاميّة فقط، وبل التضامن لبناء مساحات وفضاءات بديلة عنها تسمح بتصعيد مثقفين عضويين معادين للهيمنة من أبناء الطبقة العاملة، وأيضاً من أبناء الطبقة البرجوازية والطبقة الوسطى الذين لديهم الحد الأدنى من القدرة على تحدي الذّات ومساءلة الأيديولوجيا الغالبة على مجتمعاتهم.
وفي الحقيقة، فإن الفضاءات التقليديّة للمواجهة الثقافيّة في العالم العربي من خلال الأحزاب اليساريّة (والشيوعيّة!) والصحافة – بمفهومهما الكلاسيكيّ – والجامعات واتحادات العمّال قد خضعت بالكامل للأنظمة الحاكمة وأجهزتها الأمنيّة والاستخباريّة، فأُخرجت تماماً من الخدمة الفعليّة ولم تعد بذات صلة بأي جهود تغييريّة، أو انتهت بالكليّة، أو تحوّلت إلى روابط مشجعين للسلطات السياسيّة في كل مبادراتها من منح نساء الطبقة البرجوازية الحق في قيادة السيّارات وصولاً إلى التطبيع العلني وما بينهما. لذا، لا مفرّ أمامنا اليوم من نقل ساحة المواجهة الثقافيّة – للسواد الغالب من المتعلمين من أبناء الطبقتين الوسطى والعاملة الذين يتعذر عليهم بالطبع الانخراط في العمل العسكريّ المباشر للمقاومة لسبب أو لآخر - إلى فضاء الميديا الإلكترونيّة وتأسيس وجود هناك يمنع بداية احتكار تلك المساحة من قبل مثقفي الهيمنة وتحويلها من قبلهم إلى مساحة إضافيّة للبهلوانيّات الأيديولوجيّة. وتالياً فرض مناخ نقدي للنقاشات العامّة يسمح بتقييم المواقف الاستراتيجيّة الطابع للأنظمة الحاكمة وسادتها الإمبرياليين من وجهات نظر بديلة، وتقديم تصورات وأفكار ونظريّات تتحدى الأنساق الرجعية المحافظة والليبراليّة المتوحشة - التي تحبها الأنظمة وترضاها – وتعريها على العلن، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الأدب أو السينما أو الفنون. وربّما نكون محظوظين أكثر من غيرنا في الأجيال السابقة لناحية ما تنتجه التكنولوجيا الحديثة اليوم من أدوات قريبة تمكّن تعظيم الانتفاع من نافذة التواصل العريض مع المجتمعات، وتسمح بالوصول اللحظيّ غير المسبوق إلى المعارف التي يوفرها الإنترنت، كما إمكانات التنوير عبر أدوات الإعلام الإلكتروني (صحف افتراضيّة ومدونات ومواقع متخصصة وغرف نقاش عام وبودكستات ومواقع تواصل اجتماعي، رغم هيمنة الشركات الأميركيّة على تلك الأخيرة). وهي أدوات زهيدة التكلفة بمجملها، واسعة الانتشار بما لا يقارن مع أدوات الإعلام التقليديّ (أيّ مذيعة حسنة الطلعة في تلفزيون عربيّ متخلّف لديها عادة متابعون افتراضيّون أضعاف ما تملكه جريدة «الشرق الأوسط» السعوديّة الأكثر بذخاً بكل تواجدها الورقي والإلكتروني معاً)، وتكسر نموذج العمل الهيكليّ للمؤسسات في النظام الرأسمالي وأبراج الأكاديميين المرتزقة العاجيّة لمصلحة نماذج جديدة من التعاون التطوعيّ الموسّع والتضامن الطبقي العريض، وأقرب بما لا يقارن بأيّ من وسائل الجدل الثقافي الأخرى لمفهوم ديمقراطيّة العمّال المثقفين والبراكسيس (النظريّة المتعانقة مع الممارسة) وتكوين شبكات التثقيف الذاتيّ والتنظيم حول القضايا والمطالب (العابرة للجغرافيا ومؤسسات التلقين الأيديولوجي في الجامعات والمدارس والمعابد والإعلام الرسميّ معاً)، وربّما بلورة كتلة تاريخيّة منحازة إلى ناسها وأوطانها في مواجهة التفلّت والعبث والانحناء للعدوّ.
على أنّه ينبغي التنويه دائماً إلى أن التواجد المكثّف للمثقفين العضويين المعادين للهيمنة – بحسب الإطار اللانخبوي الأوسع كما أعلاه - في فضاء الميديا الإلكترونيّة ليس كافياً ولا بديلاً عن النشاط السياسيّ الفاعل على الأرض بأشكاله المدنيّة والعسكريّة. ويجب التعاطي معه دائماً بوصفه ساحة نضال ومواجهة وتثقيف وتنوير أخرى موازية للساحات الأخرى ليس إلا، ومرفقاً عاماً يمكننا إلى الآن على الأقل تحدي سيطرة مثقفي الهيمنة عليه.
إن موجة التطبيع العلني التي أقدمت عليها بقيّة الأنظمة العربيّة التي تأخرت عن مصر والأردن والسلطة الفلسطينية (بجناحيها) هي دلالة على الأزمة الخانقة التي تعيشها السلالات الحاكمة وانسداد آفاقها ومحدودية خياراتها في صياغة استجابات استراتيجيّة للتحديات الوجوديّة التي تواجه مجتمعاتها، وتعرية لضعفها البنيوي والأخلاقي، وواقع اعتمادها في صراع البقاء حصراً على دعم الإمبرياليات الأجنبيّة الطامعة وهزالة نخبها البرجوازيّة وانحطاطها. ولذا، فإن دمقرطة مفهوم المثقّف العضوي المعادي للهيمنة وتوسيعه بالإفادة من معطيات التكنولوجيا المعاصرة ليست ترفاً اليوم بقدر ما هي مهمّة عاجلة وفرصة تاريخيّة قد لا تتكرر.

* نكسة أخلاقيّة وثقافيّة

التطبيعُ هو أن نجْعل مِمّا هو غيرُ طبيعيّ، أيْ ممّا هو شاذّ وغيرُ مقبولٍ، طبيعيّاً وعادياً. إنه حالة من فقدان الذاكرة، التي تجعل الضحيّة تنسى سوط جلادها وهو يهوي على جسدها، ورائحة الموت التي ترفرفُ فوق رأسها، بل أن تشرعِـن مُصافحة قاتلها على الرّغم من رؤيتها لآثار وبقايا دمِها على يدِه.

يفرضُ التطبيع واقِعاً غير طبيعي، يشارك فيه الأخ فِراش مُغتصِب أخته، بل يتلذّذ باسْتلطافه ومُداعبتِه على حِساب شرفِها وجسدِها المُثخن بالعذابات ونفسيتِها المُثقلة بالذّكريات الأليمة والبغِيضة.
هي نكسةٌ أخلاقية وثقافية، أنْ نرى بعضاً منّا يبيع عِرضه رخيصاً ويُهرول جِهة الظلم والقتل والخراب، ويوقّع للمجرم والمغتصب شهادة حسن السلوك.
لقد ضجّ سمْعي، في الآونة الأخيرة، بصوتِ الخُطى وهي تجْري في اتّجاه حتفها، وآلمني أنّ ذلك يحدثُ في وقتٍ تنتصرُ فيه العديدُ من الأصوات الحُرة في العالم لقضية فلسطين، باعتبارها قضية إنسانية عادلة، مُشدّدة على ضرورة مُقاطعة الكيان الصهيوني وعدم التطبيع معه، حتى يتوقّف عن جرائمه البشعة في حق شعبنا الفلسطيني ويقرّ بحقوقه كاملة فوق أرضه، وفي مقدّمتها حقّه في العيش الكريم وإقامة دولته المستقلّة وعودة مهجّريه ومنفيّيه الموزعين في أصقاع العالم.
إنّ قرار التطبيع الإماراتي – البحريني مع الكيان الصهيوني عِلاوة على كوْنه يحقّق الاعتراف بكيانٍ غاشم وظالم، ويجيزُ له الاستمرار في بطشه وتنكيله بالشعب الفلسطيني، فإنه، على المستوى الثقافي، يُهدّد منظومة القيم والأفكار التي مثّلت وجودنا وهويتنا... وفي مقدمتها الإيمان بالسردية الإسرائيلية وتكْيِيف التاريخ ليصير مُنسجماً مع مزاعمِها الباطلة، وذلك في نظري، أخطرُ أشكال التطبيع الذي يُمكن أنْ يتمّ مع هذا الكيان.

فعل يُهدّد منظومة القيم والأفكار التي مثّلت وجودنا وهويتنا

لقد انتبهنا في بيت الشعر في المغرب، إلى هذا البعد، وجاء البيان الصادر عن مؤسستنا مُنسجِماً مع المواقف التي عبّر عنها دوماً الشعب المغربي بمُختلف طبقاته السياسية والفكرية، من حيث نُصرة القضية الفلسطينية ورفض التطبيع بكل أشكاله وتمظهراته السياسية والاقتصادية والثقافية، وخاصة التطبيع مع السردية الإسرائيلية بما هي قتلٌ للحقيقة، وافتعالٌ لكذبة لا أساس لها من التاريخ والجغرافيا، فبالأحرى أنْ يكون لها حضارة أو وجود.
إنّ موقفنا في بيت الشعر في المغرب من التطبيع لا تحكمه مواقف عروبية فقط، بل مبادئ إنسانية بالنظر إلى كون القضية الفلسطينية هي واحدة من أنبل قضايا العصر التي لطالما انتصر الشعر لها ودافع عنها وعن سرديتها التي لا تقبلُ التشكيك أو التضليل.

* رئيس «بيت الشعر» في المغرب

* في خريف العُربان... كيف تصبح صهيونيّاً؟

الإجابة عن السؤال تظل مفتوحة على تشعّبات الرغبة كما في رواية «كيف أصبحت غبياً» للفرنسي مارتن باج. بفلسفية ساخرة، تأخذنا الرواية في رغبة البطل في أن يصبح غبياً وكيف يسخّر كل ذكائه، الذي ندركه من مواقف كثيرة له في الرواية، لتحقيق هذا المبتغى. أي كيف يهرب من الذكاء مستخدماً ذكاءه ضد نفسه! سؤال رواية باج يذكرنا بكتاب الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري، «كيف أصبحنا أميركيين؟» الذي يغوص في مفهوم الأمركة والعلاقة الإشكالية المستجدة بين الثقافة والحضارة، بين الميديولوجيا والأيديولوجيا. من هذين المؤلفين، نستطيع أن نستولد سؤالاً جديداً: «كيف تصبح صهيونياً؟». إذ نحن في عصر انتشار ثاني أكسيد الغباء واستشراء وباء التطبيع، وحيث أصيب جسد بعض النظام العربي السياسي «بالصهينة» والأمركة التي استجلبته إلى حظيرة الجانب الآخر من المتراس.

في الاستراتيجية الصهيونية، حلم الدولة الإقليمية العظمى، بدل «دولة إسرائيل الكبرى»، المبنية على فكرة وجود دولة لليهود ذات حدود معروفة يتم التفاوض عليها لاحقاً مع أذنابها لتلبّي الشروط التوراتية للشعب اليهودي وحلمه في هيمنة استعمارية على كل المنطقة من حولها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وغيرها. أساس قيام هكذا دولة هو تعميم أيديولوجيا الهزيمة وفكرة القبول بالكيان الصهيوني، التي طبعاً لم تبدأ مع صفقة القرن، وسابقة لوجود ترامب. وان كان جاء البوح بها في مسرحية هزلية لاستثمارها في المسألة الانتخابية، إلا أن العملية برمّتها ليست مسألة تكتيكية، بل تأتي في سياق تثبيت ركائز استراتيجية في المشروع المعادي لشعوب المنطقة. لذلك جرى تمريرها من خلال العديد من القرارات الدولية، وتأكيدها من خلال سلسلة من الاتفاقات التي وقِّعت من كامب ديفيد إلى أوسلو ووادي عربة، والجامعة العربية والإسقاط التدريجي لقرار المقاطعة يوم أقرت القمة العربية بالسلام كخيار العرب الاستراتيجي، والتهيئة الجماعية في ما سمّي مبادرة السلام العربية، التي صاغها الأميركي وقدمتها السعودية وصارت عربية!
من الغباء أن تعتقد أن بإمكانك ان تصبح يهودياً، فأنت من الأغيار، وإن وقعت باسم «ابراهام» وبكلمة «شالوم»، فاليهودية ليست ديانة تبشيرية ولا يمكن أن تتعايش مع الأغيار، بل جرى اعتداء صهيوني وقح على النصوص الدينية اليهودية ذاتها، بهدف تحويلها إلى قومية عنصرية مغلقة، حين أجادت التعامل مع العالم من داخل أسوار الغيتو والعزلة. في وصيته لنتنياهو وشارون وبيغن، انطلق أبوهم الروحي جابوتنسكي من فكرة صهيونية أن معاداة السامية وفشل الاندماج هما أسباب وجود الشعب اليهودي، وبالتالي بضرورة أزلية المعاداة لليهود كممكن مادي اجتماعي لوجودها، فالتركيب الحضاري لليهود يختلف عن سائر البشر: هم شعب الله المختار وما عداهم هم الغوييم/ الأغيار. هم «الشعب الكاهن» الذي يقدس العنف والمال والارتماء في حضن الاستعمار والإمبريالية والقيم الرأسمالية. نستخلص إذاً أن الصهيونية نقيض المصالحة مع الآخر، بحكم جوهرها العنصري وماهيتها الإقصائية. والأسطورة الصهيونية أنكرت وجود الآخر الفلسطيني ومكانة اليهود في الثقافة العربية، وأحلّت مكانها نظرية العداء والاضطهاد الأزلي في تبرير اغتصاب فلسطين، ليكون شعار فلسطين «أرض بدون شعب لشعب بدون أرض» أكبر الأكاذيب في تاريخها.
في معادلة الميديولوجيا، الثقافة هي أداة من أدوات الصراع وليست قطب الصراع الوحيد. القتل المعنوي يسبق القتل البشري. هنا أثر الصورة وصراع الرموز في حرب بدون مدافع وأسلحة. وفيما حرصت الصهيونية على اختراع وعي جديد لليهود (وكل ما يتطلبه هذا من رموز قومية مثل: العلم، النشيد القومي، اللباس، أبطال، لغة، وطوابع بريدية باعتبارها أدوات مهمة في اختراع شعب ثم دولة)، استهدفت الصهيونية الرموز المعنوية وساغت الصراع المادي وأذكته وشحنته بمقومات التعبئة. كما فعل اليانكي وأطلق اسم «جيرونيمو» على عملية قتل بن لادن. و«جيرونيمو» هو رمز بطولي للسكان الأصليين من الهنود الحمر وزعيم قبيلة الأباتشي المحارب الذي لم يستسلم، وأصبح ملاحقاً من الجيش الأميركي. وتتم تسمية طائرات حربية أميركية بأسماء قبائل هندية جرت إبادتها مثل: أباتشي وبلاكهوك وكومانشي وتشايان وشينوك وآراباهو ولاكوتا وموهوك. وزد عليه أن طائرة التطبيع إلى الإمارات حملت اسم «كريات غات» وهو اسم مستوطنة أصبحت مدينة إسرائيلية على أنقاض بلدتَي الفالوجة وعراق المنشية الواقعتين 32 كم شمال شرقي غزة. اختيار الإسرائيليين لاسم يرمز بالتحديد إلى بطولة ضابط شاب في عام 1949، اسمه جمال عبد الناصر قاتل فيها ضد العصابات الصهيونية، ما هو إلا تدمير لفكرة البطولة ككيان رمزي وحافز روحي ومعنوي يذكّر بشيء كان موجوداً وتصونه الذاكرة.
وفي معادلة الميديولوجيا التي هي أداة التطبيع العصرية في صناعة وعي جديد، أن تسرب الصورة واللوغو الصهيوني الى مفردات اللغة العربية والوعي والذاكرة، والقبول بالمفردات والمقاربات الصهيونية الأيديولوجية كما في إعادة صياغة التاريخ، وإعادة صياغة مناهج التعليم لشطب كل ما يشير إلى الاحتلال، وتغيير أسماء الأمكنة، والاستيلاء على التراث (أزياء، أكلات شعبية ورقص شعبي)، والعبث بالآثار وسرقتها، كما إخفاء وتدمير كل آثار الجرائم التي أدت إلى تدمير القرى والمدن والأحياء العربية وتغيير الخارطة التاريخية لفلسطين، كما الآلة الدعائية للكيان الصهيوني لتبييض جرائمه وتبرير أفعاله في سياق. ميديولوجيا التطبيع وساحتها الأكثر إنتاجاً هي انتهاج الأمركة والرقمنة التي طغت على كل ما يدور فى حياتنا من مفردات، ولعل أولاها وسائط السوشال ميديا، والتي لا يمكن إنكارها كعنوان للحضارة البشرية الآن، كما لا يمكن إنكار أن الذي أعطانا ثورة المعلومات هو الـ 2000 موقع عسكري للولايات المتحدة الأميركية والموزعة على خمس قارات، والـ 35000 مطعم «ماكدونالد» للأكلات السريعة، موزعة في مختلف أنحاء العالم. ويوم حلم شيمون بيرز بشرق أوسطه الجديد، تحدث عن اختلال جديد يتمدد بقوة «الشيكل» لا الدبابة، وعن الاستحواذ على ثروة المادة السوداء/ النفط، بفعل ثروة المادة الرمادية أي مادة الدماغ اليهودي الذي عنى فيها قوة العقل.
كيف تصبح صهيونياً؟ عليك القيام بمطابقة المواصفات اللازمة حسب دفتر الشروط وبالطرق والخطوات التالية:
أولاً، أن تجيد النسيان مثل ذاكرة السمك التي تبتلع الطعم ذاته ألف مرة، ولا بأس أن تُبتلى بالزهايمر كي تنسى أن الذين أمامك هم الأعداء الأكثر عنصرية وحقداً ووحشية في العصر الحديث. وعليك أن تقبل بقولهم الشهير بأن «العربي الجيد هو العربي الميت»، وتقبل من قال يوماً: «وإذا أردت أن تعرف العربي على حقيقته، فيجب أن تفتح رأسه».
ثانياً، أن تحرم أشواق وحنين اللاجئين لبياراتهم في يافا، وأن توقف خيالهم عن الحلم باليوم الذي سيقطفون موسم البرتقال هناك. وحتى تكون آمناً ويكون السلام منتجاً، عليك أن تقنع الفلسطينيين بضرورة التنازل عن رواية الماضي، في ذكريات البلاد وحكايا الأجداد، وأحلام العودة.
ثالثاً، أن تقر أن الحرب التي خاضها غيرك قد انتهت. هو انتصر وأنت هُزمت وعليك التنازل عن كل ما رفضه المحارب، وأن تتنازل مسبقاً عن الجيش الوطني والتراب الوطني والسلام الوطني والحق العربي والفضاء الوطني. لا بل عليك قبل كل هذا أن تكون نموذجاً للتعايش والسلام وتتنازل أيضاً عن استقلالك.
رابعاً، أن ينتصر السلام، يوم تدخلون في «الأسرلة» أفواجاً، وباللغة العبرية؛ بسيوفكم المشرعة بوجه المتنبي وأبي تمام وأبي فراس الحمداني وقيس ابن الملوح وعنترة وصلاح الدين والظاهر بيبرس في حلف واحد مع أحفاد شيلوك حتى يرفع أبناء جلدتك الراية البيضاء وحتى لا ينكسر طالوت اليهودي مرة أخرى أمام جالوت الفلسطيني. دعكم من هوس التاريخ، ولكم كل مراكز التّسوق (MALLS) ومول العم سام وكينون رامي ليفي، ولنا السايبر والدرونز والقاذفات المقاتلة من طراز «اف -35» وما بعدها.
في سؤال الغباء في استدخال الأمركة والصهينة، بات على عربان التطبيع أن يقروا أن «إسرائيل» جزء عضوي من ما بعد استعمارية، وأن يضمنوا تحولها إلى إمبريالية إقليمية، تتعدى حدودها الميثولوجية من النيل إلى الفرات إلى منطقة تمتد من المغرب على الأطلسي إلى آسيا الوسطى شرقاً، كي تؤدي وظيفتها للحيلولة دون تغيير في ميزان القوى العالمي أو اختلاف في طبيعة التوازن الدولي الذي ــ منذ النصف الثاني من القرن العشرين ــ كان راجحاً لمصلحة معسكر الولايات المتحدة.
في العقدين الأخيرين وفي السنوات القليلة الماضية بشكل خاص، دخل العالم مرحلة تحول كبرى في ميزان القوى الدولي. مرحلة ترقى لأن تكون انعطافاً تاريخياً عميقاً نحو عالم جديد حتماً ليس عالماً أميركياً. في هذه الانعطافة، كانت صفقة القرن أشبه بـ «بوليصة تأمين أميركية» للكيان الصهيوني، في حال وجد نفسه أمام تراجعات اضطرارية جديدة؛ وباستراتيجية تطبيقية هدفها تحويل وتثبيت وظيفة «إسرائيل» إلى وظيفة إمبريالية إقليمية لها وجودها ودورها وزعامتها على المنطقة، وهذا يحتاج إلى تأمين درع أو عمق أمني واستثماري ومالي وعسكري وسياسي يؤدي لها هدفها في تصفية القضية الفلسطينية.
هذا بالذات ما وصفه المحلل الروسي ألكسندر نازاروف بالغباء الاستراتيجي، مقدّراً أن «الانضمام إلى تحالف عسكري أميركي، عشية تغيير جذري في النظام العالمي، سيكون جزءاً منه خسارة الولايات المتحدة الأميركية لقيادة العالم، ما يشبه شراء الأسهم عشية انهيار البورصة. نحن إذاً في عصر تفشي مريع لوباء التطبيع الذي يُسخّر فيه عربان الغزو وسلاطين الزيت والغاز والنفط والفول ومدن الملح، كل ثروات شعوبهم وإمكاناتهم لشراء بوليصة تأمين عشية انهيار البورصة. «فما أعظم ما صنع النفط العربي بنا»، كما قال مظفر النواب، ونحن «نتجشّأ حتى التخمة جوعاً والملك النفطي يخاف على النقد من الفئران». قد تكون هذه طريقته الذكية في أن يكون غبياً! ولكن ذكاء السلطان وقف له بالمرصاد وحال دون وعيه أنّ بطل رواية مارتن باج دخل الدوامة بالموت؛ بدأها بالإدمان على الكحول وانتهى في مدرسة لتعليم الانتحار. فلا محال، سيدرك العربان والنظام الرجعي الزاحف نحو حتفه، معنى أن يكون عدواً لنفسه، وأن يكون صهيونياً. وميدان التاريخ سجال.

* كاتب وروائي فلسطيني.
مسؤول «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في لبنان

* مبدعون من المحيط إلى الخليج: هو... هو الذي اختار أن يكون له اسم وحيد: العَدُوّ!*

إنها أكبر من تلك المساحة التي وصفها هيرودت في تاريخه: «ويسكن البلاد الممتدة من أرض الفينيقيين حتى حدود مدينة كاديتس [غزة] السوريون الذين يُسمون «الفلسطينيين». ومن هذه المدينة -التي تضارع مدينة سارديس في حجمها- فإن جميع الموانئ حتى جينيسيوس تتبع ملك العرب. والمنطقة التي تمتد من هناك حتى بحيرة سربونيس (سبخة البردويل) والتي بالقرب منها ينحدر جبل كاسيوس ليصل إلى البحر، بل هي الأرض والحب والشعر والطريق والطواف والزيتونة والجلجلة والحواريون والمعراج والقيامة... هي».

«الأرْض، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين»، كما يقول شاعرها وعاشقها محمود درويش. هي «أمّنا الريح، هاجر المتعبة» التي تعد الطعام لأبنائها العائدين على عربات المنافي، كما يقول سميح القاسم، وكل «بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة حطموها على قحف أصحابها» كما يقول مظفر النواب. المهرولون، المطبّعون، المنبطحون، شذّاذ الآفاق، والمطبّلون طمعاً بصرّة من الدنانير من جوائزهم وعطاياهم والراقصون بالسيف في مهرجاناتهم لن يمسوا شعرةً من مفرِقها، هي رغم الدم على عباءتها المطرزة والممزقة بألف خنجر، العروسُ والحسناء والجميلة إلى ألف من أسمائها الحسنى، والعدو وإن وجدوا له ألف اسم جديد هو الغول وغدّة السرطان والوحش. هم ثلة من المثقفين والشعراء والكتّاب من أهلها ومحبّيها ومريديها من المحيط إلى الخليج، من البحر إلى النهر، ممن يوجهون اليوم أمام موجة التطبيع المخزية تحية حب إليها. يقبّلون أياديها، ويمسحون فوق شعرها الذي لطالما تحنّى بالدم، ويرددون أمام الغول ما قاله شاعرها معين بسيسو: «لتنسني يميني/ لتنسني عيون حَبيبتي/ لينسني أخي/ لينسني صديقيَ الوحيدْ / لينسني الكَرى/ على سرير سهادْ/ مثلما السلاحْ في عنفوانِ المعركهْ/ ينسى يدَ المحاربْ/ ومثلما الناطورْ/ ينسى على كرومِهِ الثعالبْ/ إذا نسيتْ/ أنَّ بينَ ثدييْ أرضنا يبيتْ/ إلهُ أورشليمْ/ وأنَّ من قطوفْ/ دَمِنا يَعتصرْ/ الشهدَ واللّبنْ/ وخمرةَ السّنينْ/لكي يعيشْ/ ويُفرخَ الوحوشْ».

محمد حسونة ـــ 2013

◄ صالح لبريني
(شاعر من المغرب)
بالنسبة إليّ، كل حديث عن فلسطين والتطبيع هو حديث عن صراع قائم بين المشروعية التاريخية والوجودية وبين الخرافة الصهيونية المفتعلة والمؤسّسة على الاحتلال واغتصاب الحق الفلسطيني. والمعادلة هنا لن تستقيم في طرحها لإيجاد الحل النهائي لقضية عمّرت وستعمّر لقرون نظراً إلى العديد من الحيثيات التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها. وما دام الصراع قائماً والمحتلّ متمادياً في اغتصابه للإنسان والجغرافيا والتاريخ، فلا مجال لأيّ تطبيع. فكل تطبيع من أيّ طرف يُعتبر خيانة للتاريخ والحضارة والوجود. ذلك أن فلسطين ليست قضية فلسطينية تخص الفلسطينيين وحدهم، بل قضية كل عربي ومسلم أولاً، وثانياً قضية كل من في قلبه ذرة إيمان بالحق والعدل. ومن ثمّ فالقضية الفلسطينية قضيتي، التي لن أتنازل عنها مهما كانت الظروف والسياقات، لأنها دمي الذي تتنفّس به شرايين القلب النابض بروائح أمكنتها وأزمنتها الضاربة في عمق الوجود البشري، وهويتي التي تشكّل عصب كينونتي العربية الإسلامية.
إن مسألة الصراع مسألة وجود، وتفرض قضاء طرف على آخر بكل الوسائل المتاحة، ولعلّ الصهيونية المهيمنة على دواليب السلطة تعمل جهدها من القضاء على الشعب الفلسطيني، وهذا مستحيل ويندرج ضمن المستحيلات السبعة. والسبب يعود إلى إرادة الشعب الفلسطيني القوية والصامدة في مواجهة كل أشكال التهويد الممنهجة من لدن القيادة الصهيونية، وإلى الشرعية التاريخية وليس الدولية، لأن الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة بكلّ تشكيلاتها مع العدو الصهيوني وضد الحق الفلسطيني، رغم ما نراه من تمثيل مسرحي فاشل لدول العالم. لكن الغريب ما نراه من تهافت ساذج، ينمّ عن انعدام التجربة في الحياة السياسية، من لدُن بعض الدول العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ضارباً عُرض الحائط كل التضحيات الجسام للشعب الفلسطيني والعربي. وهذا في اعتقادي الخاص أبشع جريمة تُرتكب في حق الشعب الفلسطيني باسم السلام، لأن هذا التطبيع ضد التاريخ، وضد الهوية، وضد المنطق الحضاري. وباعتباري مثقفاً عربياً، أعلن رفضي التام لتطبيع الخذلان والمهانة، الذي تمّ مع بعض الدول العربية، وأدعو المثقفين العرب للخروج من سلبيتهم وصمتهم لمقاومة هذا التطبيع وفضح مخططات الصهيونية الهادفة إلى القضاء على الوجود العربي في المنطقة.

◄ عبد الهادي العجلة
(كاتب وأكاديمي من فلسطين)
إن الدول قضايا، والقضايا مواقف، والمواقف هي المحدِّد في العلاقة، وهكذا هم الأشخاص، فهم ذوو مواقف، والموقف دوماً قضية. فإما يكون الإنسان صاحب قضية أو لا. وقضية فلسطين هي أمّ القضايا، وبالتالي هي أمّ المواقف، فالموقف من فلسطين وقضيتها والفلسطينيين وقضيتهم هو المحدِّد، سواء للأشخاص أو الدول أو الأنظمة السياسية أو الأنظمة الحاكمة. إن الموجة الأخيرة من التطبيع العلني الفاضح بين أنظمة عربية لم تكن يوماً سوى أداة من أدوات قمع الفلسطينيين بشكل مباشر، أو غير مباشر، ولأن الموقف قضية، فإن المتتبّع لمواقفهم السابقة من القضية يجد أنها لم تكن سوى «رفع عتب». تحرّكني ملاحظتان أكثر من غيرهما، ليس غيرة ونقمة على المطبّعين الجدد في العلن، ولكن أسفاً وشفقة عليهم مما يرتكبونه بحق أنفسهم.
أخبرني صديقي الدنماركي قبل أعوام طويلة عن أن الدنماركيين مثل علبة «الكاتشب»؛ تحاول التقرب منه وتجد صعوبة في بناء الصداقة أول الأمر، لكنه عندما ينفتح يكون كعلبة الكاتشب، ينهمر دفعة واحدة. وهكذا هم المطبّعون الجدد، ومن يناصرهم من شخصيات صنعوها في كذا مواقف لتدعمهم أمام العالم حين تكون شعوبهم مكمّمة الأفواه.
فجأة بدا ألحب كأنه من طرف واحد، وبدأت الهدايا من مقالات حول السينما الإسرائيلية والعلم الإسرائيلي (ولا نستغرب لاحقاً أن يكتبوا عن الحمص والفلافل الإسرائيلي!). أما الملاحظة الثانية وهي الأهم، أن الأنظمة الديكتاتورية والقمعية هي فقط التي تستطيع التطبيع. من يستطيع إخماد شعبه وتكميمه هو من يستطيع فعل ذلك بنجاح. النظام الذي يستطيع أن يتحدث هو والأصوات التي يريدها ويدير الاقتصاد والمجتمع حسبما يريد، هو من يستطيع التطبيع لأنه يعرف أنّه لا رفض ممكناً من قبل الشعب، وإن وجد لن يتعدى صوتين وإن خرجت التظاهرات (كما في البحرين) يمكن قمعها، كما فعلوا على مدار السنوات الماضية، بل وقتلوا وحاكموا القائمين عليها أيضاً.
التطبيع موقف، والموقف قضية، والتطبيع هو أيضاً قضية ولكنه، حتماً القضية الخاسرة.

◄ ريمة راعي
(روائية وصحافية من سوريا)
«أشعر بأمان شديد كي أقول ذلك: أنا من إسرائيل». هكذا وصفت عارضة الأزياء الإسرائيلية ماي تاغر تجربتها الأولى في عرض الأزياء لمصلحة شركة إسرائيلية في صحراء دبي؛ الأرض العربية التي كان مقدّراً لها ألا يشعر فيها عدو بالأمان. الأمان! يا للمفردة العذبة! ويا لظلها الطويل الذي تحدث فيه مسرّات كثيرة! هل من مسرّات ممكنة دون أمان؟ هل يستطيع أشخاص خائفون أن يختبروا المسرّات أو حتّى الحياة؟
لم يعد بإمكان الإسرائيلية أن تجيب عن هكذا سؤال؛ فقد باتت آمنة ومحمية، لكن خير من يستطيع الإجابة هن نساء فلسطين، اللواتي لطالما شاهدناهن على الشاشات يلطمن على صدورهن، بينما الجرّافات الإسرائيلية تحوّل بيوتهن إلى ركام. أو قد نكون أكثر قسوة على أنفسنا، ونبحث عن الإجابة في مشهد الاحتماء المتبادل بين محمد الدرّة وأبيه قبل أن يستشهد بنيران الصهاينة، أو نستعيد صور المجازر الإسرائيلية في غزة وحيفا ودير ياسين وخان يونس وصبرا وشاتيلا وغيرها.
أستعيد كل هذه الصور، وأشعر بالذل والإهانة بينما أنا متسمّرة أمام شاشة التلفاز، أتابع البثّ المباشر بين تلفزيون دبي والبحرين وإسرائيل، وأسمع المذيعَين العربيين يتبادلان التحيّات مع المذيعة الإسرائيلية: شالوم!
فكّرت في هند، صديقتي الفلسطينية التي هُجّرت عائلتها من فلسطين، وولدت وكبرت وتزوجت في دمشق. ترى هل تتابع هذه المشاهد الآن؟ هل شاهدت الأعلام الإسرائيلية ترفرف على السفارات في أبو ظبي والمنامة؟ هل رأت أطفالاً إماراتيين يرتدون قمصاناً تحمل علم إسرائيل؟
استعدت حديثنا في اتصالنا الهاتفي الأخير، حين سألتها عن ابنتها قمر، فهمست لي بصوت خافت كي لا تسمعها طفلتها ذات الست سنوات: تصوري، منذ أيام سألتني، لماذا الله لا يحب جدو يا ماما؟ وحين استفسرت عن سبب استنتاجها العجيب هذا؛ قالت إنها تسمع جدها، بعد كلّ صلاة يرجو الله أن يصلّي في المسجد الأقصى.
- لماذا لا يسمح الله لجدو أن يصلي في المسجد الذي يحبه يا ماما؟
أخبرتني هند أنها غصّت، وهمست للصغيرة: الله يحب جدو كثيراً، لكن إسرائيل هي التي تمنعه من الذهاب إلى المسجد. وإسرائيل غول كبير يلتهم الناس، ولا بد من موت الغول؛ حتى يصلّي جدو وبابا والجميع في المسجد الذي يحبونه.
قلت لهند: إذا صدّقت قمر حكاية الغول، سيكون سؤالها الجديد هو: متى سيقتلون الغول يا ماما؟
لا إجابات ممكنة عن سؤال «متى»، لكن اليقين الوحيد هو «من» سيفعل ذلك. وحدها بنادق المقاومين تجيب، وحجارة أطفال فلسطين، ومفاتيح البيوت التي يحتفظ بها العجائز قرب قلوبهم. وحدهم الشرفاء يعرفون من سيقتل الغول.

◄ شيخة حسين حليوى
(قاصّة وروائية من فلسطين)
كانت قريتي «ذيل العِرج» قبل هدمها عام 90 تحاذي ما تبقّى من محطّة العفّولة، التي كانت جزءاً أو فرعاً من سكّة حديد الحجاز الواصلة بين حيفا ودرعا في جنوب سوريا، لافتة قديمة ظلّت تُشير إليها. لاحقاً، انضمّت قريتي إلى قائمة «ما تبقّى» دون لافتة سوى أطلال مصاطب الأكواخ تطلُّ منها أعشابٌ عنيدة. لا تعبير كان يمكن أن يصفّ إحساس الفقد الذي كان يرافقني وأنا أتخيّل محطّة تعجُّ بالمسافرين من فلسطين إلى دمشق كلّما مررتُ من هناك. أراضي قريتي تمّت مصادرتها لمصلحة سكّة حديد غير معروفة وجهتها، سكّة طويلة مسيّجة ومحطّات خالية، وقد تندّر البعض أنّها ربّما بُنيَت ليتمّ عبرها تهجير فلسطيني الداخل إلى عواصم عربيّة توطّنهم فيها، وهمس البعضُ أنّ الآتي أعظم وأقسى. كأن تعود الحياة إلى محطّات قطار الحجاز! ليس هناك فلسطينيّ واحد في الداخل لم يحلم أن يزور عاصمة عربيّة، أن يشتري تذكرة من محطّة قطار، ببساطة، ويجد له مكاناً في مقطورة ويختار لاحقاً أيّ محطّة ينزل بها. ليست هناك أسرة فلسطينية لم تتقطّع أوصالها في نكبة 48 ويتوزّع بعضُ أفرادها لاجئين في الدول العربيّة، ليست هناك أسرة فلسطينيّة لم تحلم بقطارٍ يرتقُ ما تقطّع. يستقلّ القطارَ فلسطينيٌّ، ينزل منه في عاصمة عربيّة فلسطينيٌّ!
بعد أكثر من سبعين عاماً على النّكبة، قطارٌ سريع، أكلَ ما أكل من أراضينا، سيمرُّ من محطّاتنا، سنتابعهُ بألم وحسرة، سيقولُ المنتظرون:
شتّان بين قطارٍ يلمُّ الشّملَ وآخر يفتّتُ الشّملَ.

◄ لطفي الشابي
(شاعر وروائي من تونس)
إنّ معاهدات الخيانة والتطبيع مع الكيان الصهيوني لم تنطلق في السنوات الأخيرة. ما يقع اليوم هو خطوة في سلسلة حملات التطبيع التي هرولت إليها بعض الأنظمة العربية الرسمية منذ عقود. ولستُ ممّن يوجّه إصبع الاتّهام إلى الآخر الغريب، فذلك مشروع لهم، فهي حربُ وجود وهم حريصون على ضمانه. أمّا نحنُ، فقد صحّ فينا قول الشّاعر: «وكأنّا لمْ يَرضَ فينا بريْب الدّهر حتّى أعانَه من أعانَا». نحن من هدمنا كلّ الصّروح التي كانت تصدّ حملات الصّهاينة ومن والاهم: منذ غزو العراق بقيادة صهيو/ أميركيّة وتنفيذ عربيّ متواطئ... إلى إطلاق فتيل «الرّبيع العبري» وتوجيه دفّة الهبّة العربيّة الرّافضة للاستبداد ولحكم الخوَنة الخانعين إلى تعميق الأزمة في البلدان العربيّة وتوسيع مدار البؤس وتعميمه. كلّ ما عاشه الواقع العربيّ في العقدين الأخيرين كان استكمالاً لضرب ما تبقّى من حصون الممانعة والرّفض، بأيادٍ عربيّة هدّامة لا تخدم إلاّ مشروع الآخر الغريب ولا تدفع إلاّ إلى توسيع نفوذه في المنطقة.
كلّ ذلك كان يحصل وفق تمشّ مدروس ومحكم البناء. تعوّدنا كلّ المواقف المندّدة القديمة التي ظلّت نبرتُها تخفت من واقعة إلى أخرى. حتّى وصلنا إلى صمت جلّ الدول العربية الذي يَشي بتواطؤ الجامعة العربية التي صارت عرّاب التطبيع الرسمي مع الصهيونية.
والآن، ما الذي يمكن أن نقولَ (فلم يعد للفعل الآن من سبيل) لكيْ نواجه هذا المدّ المرعب المتعاظم من عام إلى آخر؟ لم نعد نملك إلاّ فَضْلةَ إصرار وبقيّة عزْم والكثير الكثير من الأحلام التي لا نريد أن نودّعها. لم يبقَ لنا، نحن الشّعراء، إلاّ أن نستكمل ما بقيَ من الطريق الطّويل الذي سلكَه قبله الحالمون، وأضاؤوا الوجهة وزيّنوا في أعيننا وقلوبنا وعودَ العواصف.
سنحلمُ، ونغري بالحلم، ولن نقول مع الخانعين: «لا فائدة». بل سنقول مع الواثقين بالرّؤيا: «نحن محكومون بالأمل»، ولا يمكن أن يكون هذا الوضع قدراً أبداً. ولنحلم معاً بما كان يطلبُه أبو القاسم الشّابي، وهو الخالد بيننا بمثل ما كان يرى ويريد: «لا عدْلَ إلاّ إن تعادلتِ القوى وتصادمَ الإرهابُ بالإرهاب»

◄ عائشة بلحاج
(شاعرة من المغرب)
ما الذي تبقى من الشعارات القديمة وزمن الرفاق، سوى سقف قد يقع بين لحظة وأخرى، وريح تهبّ حولنا... سأنطلق من موقف جيلي مما يحدث الآن؛ فلنقل إن الجدران تقع من حولنا، نحن الذين وُلدنا في الثمانينيات ووسط القمع الذي عشناه في بلداننا، كانت فلسطين هي الثورة المسموح بخوضها حيثما شئت، في بيتك أو في الشارع أو في المدرسة أو الجامعة... يمكن أن تغنّي عن فلسطين، وتشتم العدو الإسرائيلي، وتركض متظاهراً ضده في الشوارع، وتحرق علمه، ثم تعود إلى بيتك، وأنت ممتلئ بالحياة، مع حلم مشروع بالثورة.
ما الذي تبقى من ذلك الآن؟ لا شيء على الإطلاق. نحن في زمن يقول فيه مذيعون عرب لـ «زميلتهم» الإسرائيلية في بث مشترك: شالوم... بوجه أحمر، ويغني فيه فنانون لتل أبيب. وبعدما كنا ندعم مقاطعة الشركات المطبّعة، أو الداعمة للصهيونية، أصبحت الآن منّا وفينا. الوضع غريب لدرجة أننا عندما نتحدث عن فلسطين في بلادنا، يُقال لنا: اخرسوا. ولا يقولها رجال شرطة أو مخبرون، بل يقولها رفاقك الذين ينصحونك بألا تضيع صيحة واحدة من أجل فلسطين. وبدلاً من ذلك تأتيك النّصيحة حادة كالسيف: انتبه لبلدك.
هكذا علينا جميعاً أن ننسى فلسطين وندسّ رؤوسنا في بلداننا التي قد نفيق بين ليلة وأخرى لنجدها قد طبّعت مع العدو التاريخي الذي اتفقنا جميعاً على معاداته، وكان آخر ما اتفقت عليه الدول العربية. والآن، حتى وهي تطبّع واحدة بعد الأخرى لن تتفق. والسخرية أن ما تظن أنها قد ربحته، لن تحصد منه سوى الفراغ، ولعل ما شهدناه في حفل التوقيع الأخير خير دليل على خسائر التّطبيع الرمزية.
لقد ضحكوا علينا وسمحوا لنا بعقود من الثورة العاطفية، وبعد أن يقضوا على حلم دولة فلسطين، من يقدر من هذه الدول على تخدير السّعي الإنساني للتحرر. الانتصار لفلسطين انتصار للإنسانية فينا، وللقيم. إنّه جزء من التّغيير الذي سيحدث يوماً ما.

◄ نصر جميل شعث
(شاعر من فلسطين)
التطبيع، كإجراء خرج للعلن، يعني أن الصراع مع الصهيونية طويل. للأسف، ومن باب التبذير: فعل المضارع «يعني» يُقدّم شرحاً لما هو واضح منذ زمن بعيد. الواضح هو أن أنظمة عربية بعينها تعمل جنباً إلى جنب مع الصهيونية وكخادمة لها.
الجديد في هذه المرحلة أن عربدة المال، باسم المصالح المشتركة وإرساء «السلام والاستقرار» في الشرق الأوسط؛ أن هذه العربدة قد بلغت مبلغها وألبست النكاية بالفلسطينيين وبالشعوب العربية لبوسَ الكرنفال؛ فرحاً وثقةً بالمجرمين وسرّاق الأرض العربية. والمتابع لكيف يوجّه الإماراتيون، الآن، آلة إعلامهم الرسميّ؛ يدرك حجم تطرفهم الدفين في معاداة كلّ ما هو جوهري وأصيل وحقيقي وعادل. كاتبة من الإمارات ترى أن في عقد حاكميها اتفاقية سلام مع الصهاينة سياسة وحكمة، وفي الوقت نفسه ترى أن لفلسطين شكل الروح في الإماراتيين حكومة وشعباً. وعليه، ليس هناك من تعليق عليها سوى: يا لهذا التخبّط ويا لسياسة اللغة على نحو ركيك ومكشوف؛ صيانةً للعبودية وتبريراً وقحاً للخيانة.
وتظلّ كلمات كتبها شعراء وأدباء وفلاسفة حول العالم في حبّ فلسطين والوقوف مع شعبها؛ تظلّ أهمّ تاريخياً وجمالياً من كيانات صنعها الاستعمار وأرخى لها حبال الوهم؛ وهم الاستقلال. ففي مواجهة حامية كان خاضها مع مراسل علهمشمار (الإسرائيلي)، قال الكاتب جان جينيه في معرض دفاعه عن الفلسطينيين ووصفه لهم، أثناء زيارته لمخيمات اللاجئين، في الأردن، عام 1970: «هناك شيء أصيل، شيء حقيقي... هذا يعني أن تكون في قلب أغنية عصرية، لا رواية رخيصة... إذا كنتَ تعرف هايدغر، فستعرف أن الفلسطينيين يُمسكون، الآن، بزمام وجودهم».

◄ شكير نصر الدين
(ناقد أدبي ومترجم من المغرب)
التطبيع وفلسطين. فلسطين لا تقبل حرف العطف.
التطبيع فلسطين: تناقض في الألفاظ.
التطبيع تلطيف في اللفظ يُحتال به قصد توطين فكرة الاحتلال في الأذهان، كناية مغرضة، تعريض باطل يريد إفراغ المعنى و التاريخ والحضارة بعدما أفرغ أهل الأرض من ديارهم، منذ سايكس و بيكو إلى أحفادهم، ترامب ومن لا يستحق الذكر لاسمه النتن، برعاية «سامية» من أمم تدعي الديمقراطية ولا تؤمن بها خارج المركز الغربي وصنيعتها المرفوضة، الجسم الدخيل الذي وإن أخذ شكل دولة، فهو أحقر من فلس فلسطيني، عملة رائجة قبل نهوض الكيان الغاصب ومن يبارك احتلاله من قبائل لم تكن حتى الأمس سوى شرذمة عشائر، دولة كان اسمها فلسطين، وما زال اسمها فلسطين، فحتى لو مسحته google، فإن الخريطة ليست هي الأرض، الأرض لها أبناؤها الشهداء منهم والأحياء، المقيمون تحت الاحتلال أو المهجرون.
التطبيع لا يكون مع محتل، غاصب لأرض، ولو امتلك قوة السلاح والدعم ممن هم على ملته الصهيونية، سواء كانوا من دينه أو من أشياعه وأتباعه أو ممن لهم حسابات الاصطفاف خلف المحتل، والحال أن فلسطين منزوعة السلاح أقوى بشرعيتها الحضارية، القومية وحوزتها الترابية، لأن أضيق درب، في أصغر حارة في فلسطين أعرق من ناطحات سحاب مستوردة أقيمت في أرض صحراء. لا يعني هوان العرب اليوم الاستهانة بحق فلسطين في استرجاع أرضها، وأهلها في الشتات، فهذا حق لا يطاوله التقادم. وكل تطبيع سياسي أو تجاري أو ثقافي هو خيانة لهذا الحق الشرعي. لا للتطبيع.

◄ عبد الفتاح بن حمودة
(شاعر من تونس)
لم يكن الأمر مفاجئاً أبداً بعد إعلان الإمارات والبحرين التطبيع العلنيّ مع الكيان الصهيوني، فقد سبقته معاهدة السلام مع مصر عام 1979 ثم مع الأردن كذلك وصولاً إلى معاهدة «السلام» في أوسلو. كانت بريطانيا الاستعمارية قد زرعت ذلك السرطان منذ وعد بلفور. منذ ذلك الوقت قامت أميركا برعاية إسرائيل وتسليحها وجعلها تملك ترسانة نوويّة. كانت دول عربية عديدة مطبّعة سرّاً منذ عقود، وها هي تعلن ذلك رسمياً. ما يعنيني أن تكون الشعوب قد تعلّمت الدرس بأنّ الأنظمة العربية هي أول الخائنين للقضيّة الفلسطينية التي تاجروا بها كذباً ونفاقاً. على النخب أن تقاطع كل تعامل ثقافي وفني ومعرفي مع أي دولة عربية قامت بالتطبيع، وأيضاً مقاطعة المهرجانات العالميّة التي يشارك فيها ضيوف من الكيان الصهيونيّ. إن أخطر أنواع الأنظمة العربية هي التي تتستّر وتتاجر بالدين من أجل التغطية على جرائم خيانة فلسطين، البلد الذي تمّ اغتصابه واحتلاله وتهجير شعبه وحرمانه من تقرير مصيره وإعلان دولته المستقلّة.
وعلى الفصائل الفلسطينيّة أن تتوحّد وأن تنبذ كلّ خلاف. لأن التوحّد هو السبيل الوحيد لمقاومة الاحتلال. وعلى الشعوب العربية مقاطعة الحجّ إلى مكّة لأن أموال الحج تهدى إلى أميركا التي تسلّح الكيان الصهيوني. فبناء مدرسة أو مستشفى أفضل من الحجّ فالشعوب العربية تهدر طاقاتها ومقدّراتها.

◄ مريم ميرزادة
(شاعرة وروائية من إيران)
بالنظر إلى أنّ مصطلح «التطبيع» يعني لفظياً جعل الشيء «عادياً» أو «طبيعياً»، وتطبيع العلاقات بالتالي يعني جعل العلاقات طبيعية، فإنّ الخطوة الأولى لفهم المعنى المفهومي للمصطلح يتطلّبُ فهم الطرف الذي يعود إليه. يرى الدكتور هشام غصيب بأنّ حقيقةَ أن يكون التطبيع مع الكيان الصهيوني، تتطلّبُ فهماً لطبيعةِ هذا الكيان والمخطّط الأميركي والنظام الأمبريالي الذي غرسَه في المنطقة، من أجل فهم تعبير «التطبيع مع إسرائيل».
لعلّ الأمرَ أشبه ما يكونُ بفهم القضايا الفلسفية التي تعدُّ خطوةً أوليةً في تعريف المنهج المتّبع في تحليل هذه القضايا كما يرى روبين كولنجوود. فإنّ فهمَ قضية الاحتلال تستتبعُ تلقائياً فهماً للسبل التي تنتهجُها الدول المتأثرة بهذا الوجود من أجل تحليل وضعِها في ظلّ هذا الوضع المفروض عليها وفهم هويّتها. راحت الدول العربية تخطو باتجاه التطبيع خلال محطّاتٍ تاريخيةٍ مختلفة منذ عام 1948 وحتى اليوم، تراوحت بين السرّ والعلن، تحت عنوان اتفاقيات السلام تارةً وتارةً بعناوين أكثر مقبوليةً في الذهنية العربية ومراعاةً للتوجّهات المناهِضة لهذا الوجود، رافعةً شعارَ القضيّة الفلسطينية أوّلاً.
وما بين ظلّ المخطّط الكبير لدولة شعب الله المختار، الذي تقصُرُ أنظارُ الكثير من أعراب الخليج الفارسي عن رؤيةِ نَيرِه وشؤمِه الممتدّ زمنياً وجغرافياً، وبين الغايات الأمبريالية العالمية التي باتت مستشريةً تحت مسمّى العولمة في خلايا الأمّة العربية دون أن تعيَ ذلك، في الاستهلاك والثقافة والإعلام والتكنولوجيا وفي كل مكانٍ من حياتِنا، بين هذا وذاك، طارَ ثوبُ جسد الأمّة العربية، وانكشفتِ البِطانة الأصلية. تداعى الحياءُ وتهافتَت المُداراةُ وسارعَت الحكوماتُ العربية إلى إعلان التطبيع مع إسرائيل والمجاهرة به. وفي كل مرة، تتبدّلُ وجهةُ أصابع الاتهام لتشيرَ إلى إيران عدوّاً مشتركاً يهدد المنطقة. فالوحدة العربية والإسلامية تشكّلُ تهديداً لمصالح الأمبريالية التي لم تجد حيلةً أفضلَ من اللجوء إلى تذرية الشعوب وتدمير قوميتها وتفكيك هويّتها بكل الأشكال المقدور عليها ومن كلّ المنافذ ونقاط الضعف ومواضع الخلل والانشقاق.
يشكّل التطبيع العربي مع إسرائيل تضييعاً للذات، وفقداناً للهوية بل موتاً للعقل العربي، حيث لا سبيلَ للتعايش مع كيانٍ غاصب بنيانُه محض أيديولوجيٍّ تشتغل عليه الأنظمة التي تحمل خطابَ الهيمنة والتمدّد من أجل احتكار القوة بكلّ أشكالها. رغبةٌ متدفّقةٌ لا تنضب، للسلطة، إرادةٌ عمياء للقوة. وفي حضرة السلطة والقوة، ثمةَ دائماً ضعيفٌ مسلوبُ الإرادة، لا يمكنُ أن يقدّمَ مشروعاً لدولةٍ حديثة مستقلّة في ظلّ تفتّت وجودِه، وتذرّي هويّته.

◄ محمد خطّاب
(كاتب ومترجم من الجزائر)
اسم إدوارد سعيد مقترن بفلسطين اقتران العطر بالوردة. هوية العطر لا تنفصل عن الوردة مطلقاً. لكن إدوارد سعيد خلّاق للمسافات، من يريد فهم روح المقاومة عنده، عليه بإدراك نقدي وحقيقي لروح المسافة. خارج المكان هو تعبير عن قسوة النفي حيث لا بيت ولا سكن لك، سوى الذاكرة وما هو قادم، مع الإحساس الدائم بتهديد الانزلاقات تحت القدمين. سفر سعيد كان سفراً في الثقافة، مع أنه مناضل حقيقي، وهب فلسطين أجنحة حقيقية وظلاً مناسباً. لقد حوّل المعرفة التي صادفت فيه أرضاً خصبة منذ البداية إلى سلاح قوي بخبرة ناقد لم يستسلم لسحر الخطابات النقدية التي تضمنتها السرديات الكبرى. روح الحداثة عند سعيد لم تكن مفصولة عن «جسده». المعرفة والنقد والثقافة كلها كانت أدوات لمقاومة ما يسمى بالهمجية التي تزيّت بأثواب الحداثة المعاصرة.
يكفي أن نقرأ «خارج المكان» – مذكراته الحزينة – لكي نعرف أين تسكن روح المقاومة، بغض النظر عن الكتب التي كتبها أساساً في فلسطين مثل كتابه «مسألة فلسطين» الصادر سنة 1979. «خارج المكان» هو الفضاء الثالث أو المكان الذي استطاع أن يتحرك فيه سعيد لإنتاج ثقافة مقاومة للنظرية وللهمجية معاً، للمعرفة المتسيّدة وللإمبريالية. ثم اجتمع في فلسطين نموذج الجمع بين الصفتين، كيف يكون جسد المثقف؟ ما هي عناوين نضاله؟ كيف خاطب التاريخ الخاص والعام؟
كل كتب سعيد حتى المجردة منها مثل كتاب «بدايات القصد والمنهج»، تقول جسد سعيد وكيانه وحبه لفلسطين: تاريخاً وذاكرة وأرضاً وثقافة وحلماً، لأن قيمة الثقافة تتعزز بروح نقدية منفتحة غير متصلبة ولا تعرف الأحياز أو الجهات، وهو ما منحه له المكان الثالث أو خارج المكان، أو بتعبير القرآن الكريم لا شرقية ولا غربية.
الآن سعيد لا يزال مستمراً في روح النقد الذي اتسع شرقاً وغرباً، وازداد صلابة وقوة وانفتاحاً ضد كل أشكال الهيمنة. ويمكن تخيل إدوارد سعيد وهو يشاهد مسرحية التطبيع التي تجعله يفقد ثقته كما هو في العادة في شكل الفكر الهش والمسنود بقوة المال الذي غطى على فضيحة التبعية والخذلان.

◄ دارين حوماني
(شاعرة من لبنان)
هل نحن حقاً بحاجة إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني كما يريد إيهامنا الملوّحون له؟ هل نحن بحاجة فعلًا إلى التقرّب من الولايات المتحدة من باب إقصاء فلسطين من ذاكرتنا وهويتنا؟ لا تقتصر أهداف أميركا في الشرق الأوسط على حماية دولة «إسرائيل» وحفظ أمنها بل تتمدّد لتعزيز اقتصادها المعتمد بشكل شبه كلّي عليها عبر فتح الأبواب العربية لدولة الاحتلال، لكن الاقتصاد ليس إلا شكلاً من أشكال التطبيع، سنجد أنفسنا أمام أشكال تتناوب للترويج لفكرة التشارك مع الإسرائيلي في كل القطاعات ومنها السياسية والاقتصادية والثقافية. هي أبواب لغرفة مشتركة يمكن عنونتها بـ «تجميل وجه» إسرائيل البشع والعنصري بأصابع عربية، وبشرط أن يلغي العربي من كتابه فكرة الإسرائيلي «المغتصب» واستبدالها بالإسرائيلي «المظلوم» الذي يريد السلام والطمأنينة فقط في أرضه؛ إنه يريدنا أن نشطب ما ارتكبه من مجازر وتهجير بحق الشعب الفلسطيني «الذي لا يستحق كل هذه التضحية»، ويريد لنا استبدال الدماء التي سقطت منا مقابل فواتير من الخسارات ليس أكثر، يريدنا أن ننسى في مقابل احتفاظه بدعاواه التوراتية وبأرض ميعاده التي تخيّلها أجداده منذ ثلاثة آلاف سنة ولا يزالون يحتفلون بها سنوياً.
ماذا يريد الإسرائيلي من التطبيع الثقافي غير إضعاف مناعة العربي الذهنية تجاه فكرة «المحتلّ والمغتصب» وتشتيت وجدانه نحو أرض أخرى يحرث فيها؟ هل يصدّق هؤلاء الملوّحون للتطبيع أن الصهيوني سيتنكّر لما في داخله من استعلاء تجاه العربي؟ إنهم يشيدون بديمقراطيّة هذا الكيان في الوقت الذي يعمل حرّاسه جاهدين لقمع فلسطينيّي الداخل وتهميشهم وتكريس دونيّتهم، وهذا ما يحكي عنه العديد من المثقفين اليهود وليس على لسان أهل فلسطين. إذا مررنا في شوارعهم سنسمع أصواتاً تخبرنا بحزن عن إنجازاتهم على أجساد قتلانا منذ ما قبل النكبة، سنجد فيهم من هم أكثر منا اقتراباً من فلسطين.
بعد أول اتفاق عقده الكيان الصهيوني مع طرف عربي وإلى آخر اتفاق، منذ كامب ديفيد إلى الاتفاق الإماراتي-الصهيوني وضع الاسرائيلي عينه على المثقف العربي على مستوى واحد مع السلاطين العرب بل وأكثر. في عام 1982 أسّس الكيان الصهيوني «المركز الأكاديمي الإسرائيلي» في القاهرة، ولم يكن هدفه كما هو مكتوب في بيانه: «توثيق أواصر العلاقة بين الجامعات والباحثين في مصر وإسرائيل»، بل كان يهدف إلى غسل عقول الأكاديميين والباحثين العرب في جميع المجالات من أجل أن يتسلّل الإسرائيلي بين جثثنا ويُفقدها القدرة على الصراخ. وقد تَبع الاتفاق الأخير بين الكيان الصهيوني والإمارات اتفاقية تعاون للتدريب والإنتاج في 21 أيلول/سبتمبر من هذا الشهر بين «لجنة أبو ظبي للأفلام» و«صندوق الأفلام الإسرائيلي» ومدرسة «سام شبيغل» للسينما والتلفزيون الاسرائيلية تتضمّن خططاً لمهرجان سينمائي سنوي بالتناوب بين أبو ظبي و«إسرائيل». كما يضمّ إقامة ورش عمل مشتركة وبرامج تدريبية متقدّمة لصنّاع الأفلام في البلدين ولتطوير النصوص، بهدف تطوير إنتاجات مشتركة بين أبوظبي و«إسرائيل». وبين عامَي 1982 و2020 ثمة اتفاقات تطبيعية ثقافية علنية وسرية بين أطراف عربية وإسرائيلية لا يهدف الإسرائيلي منها إلا إلى تشويه التاريخ وكتابة تاريخ فلسطين بخط يد العربي بما يتوافق مع الرؤية الصهيونية.
من مسلسل «أم هارون» ومن أحلام بفائض عتمة لزياد الدويري وآخرين سنكون أمام ساعات مترابطة على توقيت الإسرائيلي «المظلوم»، يكتب رئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة تل أبيب يرون فريدمان في مقال نشره موقع «يديعوت أحرونوت»: «إن مسلسلَي «أم هارون» و«مخرج 7» يهدفان إلى إبراز مظلومية اليهود والتدليل على أنهم ضحية القمع العربي ويعبّران عن محاولة للتمهيد للتطبيع بين إسرائيل والخليج، وأن مسلسل «أم هارون» حرص على تبنّي المصطلحات التي اعتمدتها الحركة الصهيونية في توصيف تاريخ فلسطين». قد يبدو جلياً أن الإسرائيلي هو الذي يحتاج إلى التطبيع مع العربي وليس العكس. لكن صحيح أن ثمة جهداً لتكريس الإسرائيلي «الطيب» في الوعي الجمعي العربي، إلا أنه في المقابل ثمة وعي آخر يجمّع نفسه على شكل زيتونة فلسطينية ويزرعها من جديد على سطح الأرض العربية جمعاء وسنقتفي جذورها لنجدها حتى في أعمق أعماق الدول الساعية إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني.

* من قصيدة «العدو» لمحمود درويش

* ألا شاهتِ الوجوه

ألا شاهتِ الوجوه
‏ضرار الـزغـير ـــ فلسطين

كتبت دائماً بأنني شاعر وكاتب عربي، الآن بمناسبة التطبيع، أودّ الإشارة إلى أنني كاتب وشاعر عراقي. ذلك أني سأتحدث عن «عقال» أجدادي في العراق وأخاطب الناس عن التطبيع. فقد قال علي: «حَدِّثُوا النَّاسَ، بما يَعْرِفُونَ». ذلك أن أجدادي وأعمامي وأخوالي العراقيين من بني تميم، كانوا يعتمرون العقال جيلاً بعد جيل وما زالوا إلى يومنا. وهو العقال واليشماغ الذي يرتديه أبناء عمومتنا وقبائلنا نفسها في الخليج والبحرين، منطوياً على قيم وأخلاقيات وفضائل العربيّ الافتراضية. أقول ذلك لأقول إن رجلاً بأنفة وأخلاق القبائل العريقة التي يزعمها المطبّعون العرب الجدد يأنف من مصافحة خصم لئيم يحتل مقدساته (في الأقل مقدساته العليا) ويعيث بها فساداً، ويلعب بعقله ليسرق أمواله ولعوباً يقترح نفسه صديقاً. عقال عمومتي وأجدادي يتحرك وسيتحرّك غضباً لفعل كهذا. فما الذي يا تُرى جعله ساكناً مطيعاً على رؤوس المطبّعين؟ نعم، إنه عقالنا العربي والعراقي العريق بحذافيره، لكن محمولاً اليوم على ثالثة الأثافي، محترقاً بنار التطبيع. هل من قسوة في قول ذلك، هل من تجنِّ؟ لست على الضد من أجدادي وأخوالي، وسأظل أحتفظ لهم بكبير الاحترام لكن ليس للصاغرين منهم. شعوب المنطقة، ولأسباب عقلية وتاريخية، كانت دائماً ما تتماهى مع قضية عادلة، ودائماً ما برهنت على ذلك ولو بعد حين، رغم القمع الثقيل. شعوب منطقة الخليج ليست بدعاً عن ذلك، خاصة مع إرثها وفضائلها وقيمها المعروفة. أتكلم دوماً عن أجدادي وأبناء عمومتي في العراق والخليج عارفاً بفضائلهم وبسواها.

لكن تطبيع الخليج، وعلينا الاعتراف بذلك، مثقل بقيمة رمزية قادمة بالضبط من «رمزية العقال» العربيّ، حقاً وباطلاً. فلطالما صُوِّر العربيّ في آلاف الأدبيات والفوتوغراف والكاريكاتورات الأوروبية والأميركية رجلاً يعتمر العقال، غنيّاً وأشياء أخرى. العربي في اللاوعي الغربي هو رجل بعقال (وبالمناسبة احتفالية التوقيع على معاهدات التطبيع البحرينية والإماراتية في واشنطن غاب عنها خليجياً هذا البعد بشكل متعمد ولنا أن نخمّن السبب). هذا التطبيع ينحط بهذه الرمزية إلى أدنى مستوياتها الآن، لأنه يصوّر العربيّ هذه المرة جاهلاً حتى بأعدائه الحقيقيين، مصوّباً خبط عشواء إلى إيران، وإلى سوريا والعراق، معميّاً بشكل مؤسف... عمىَ أثبت أنه قادر على تبرير نفسه واتهامنا جميعاً بحمل عمائم آيات الله وما شابه.
لكن، ومرة أخرى أتكلم كمواطن عراقي، التطبيع هذا لا يستهدف إيران فحسب، إنما يستهدف إسرائيلياً بلداناً كالعراق وسوريا واليمن. ومن هنا إدانتي القصوى له:
أعطيكم هذه الإشارة: يبعد العراق مثلاً عن البحرين 1006 كم. وهي مسافة ليست ذات شأن بالنسبة إلى قوة مخابراتية وعسكرية كبيرة كإسرائيل ستحط في ضيافة البحرين. هذا سيمنح إسرائيل مكاناً مثالياً جديداً لتخريب العراق على كل صعيد: جوياً وبحرياً واستخباراتياً. ليس العراق في منأى يوماً عن شر إسرائيل رغم وجود مسافة كبيرة بينهما وأراضي بلد أو بلدان أخرى من جهة الشرق. أضف إلى ذلك أنّ حكام شقيقتنا البحرين، الحكّام برهنوا على موقف طائفي متطرف ضد إيران وكل بلد ذي غالبية شيعية كالعراق.
كم من مكان سيصير متاحاً لإسرائيل لتخريب العراق: أميركا في العراق نفسه وبإحداثيات إسرائيلية، كردستان العراق في شماله، والآن البحرين جنوباً. هذا كثير.
ثم إن هناك الفكرة التي يُراد إشاعتها بين الجمهور العربي وهو أن كل بلد ذي سيادة من حقه أن يفعل إطلاقاً ما يشاء. لو نظر كل عربي إلى مسألة التطبيع مع إسرائيل من وجهة نظر الحيّ والحارة التي يسكنها، فإن الأمر سيبدو أن العالم الكبير وعلاقاته قد تقلّص إلى حارةٍ وحيّ، بينما هو ليس كذلك، ولاكتشف بعد فوات الأوان كم هي ضيقة رؤيته ومأزومة. إذا لم نقل شيئاً آخر. هذا هو التطبيع من خرم الإبرة.

تطبيع الخليج مثقل بقيمة رمزية قادمة بالضبط من «رمزية العقال» العربي

التطبيع مع حكام إسرائيل خيانة؟ هاكم هذه القصة التأريخية التي كرّرها إعلام الخليج يوم ساءت علاقته بقطر:
كان «الملك صالح إسماعيل الأيوبي، يحكم دمشق وفلسطين، فطمع في ضم مصر الى مملكته، وكانت مصر يحكمها ابن أخيه الملك صالح أيوب زوجته شجرة الدر. فجهّز جيشاً كبيراً، فطلب الملك صالح إسماعيل من بعض ملوك الممالك الصليبية مساعدته على حرب ابن أخيه، فاشترطوا عليه التنازل لهم عن القدس مقابل المساعدة، فوافق على ذلك وأعطاهم فوق ذلك مدينة عسقلان، ودارت معركة شرسة بين الجيشين، وموقع المعركة كان عند مدينة غزة. وفي نهاية المعركة انتصر الملك صالح أيوب على جيش الملك إسماعيل والجيوش الصليبية. أما الجيوش الصليبية ففرّت هاربة إلى مدنها مخلفة وراءها ثلاثين ألف قتيل. أما الملك صالح فواصل تقدمه الى مدينة القدس وحرّرها، وظلت القدس عربية حتى احتلت مرة أخرى من قبل إسرائيل». وتخلص الصحافة إلى القول: «وهذه الخيانة تمت بعد موت صلاح الدين خلال أشهر قليلة من وفاته، هذا هو الجانب المظلم في تاريخ أمتنا العربية».
نُشرت القصة عن أشهر الخيانات في التأريخ العربي الإسلامي، فما عدا مما بدا؟ عناصر القصة هذه تتطابق مع تطبيع الإمارات والبحرين اللتين لتطبيعهما حسنة واحدة: أنه كشَفَ الأقنعة للجمهور العربيّ الذي كان بعضه ساهياً، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.
قال النبي محمد بن عبد الله: «ألا شاهت الوجوه». وأحسب أن الفعل شاهت ها هنا يبعد قليلاً عن تشوّهت إلى دلالة الانمساخ.

* كاتب وتشكيلي عراقي



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 31 / 2184548

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2184548 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40