الأحد 23 آب (أغسطس) 2020

فلسطين والسبات العربي

نادية هناوي
الأحد 23 آب (أغسطس) 2020

نبهتُ في مقالي (مراجعات .. مفارقات ) المنشور في جريدة «القدس الإسبوعي» بتاريخ 19 يونيو/حزيران 2020 إلى خطورة ما صرنا إليه نحن العرب، حتى أن أبسط مراجعة لحياتنا ومسيرة مجتمعاتنا العربية، مما مرتْ عليه السنون، وتقادمت عليه العقود، سيكشف لنا عن مفارقة ساخرة ومريرة تفضي بنا إلى حقيقة واحدة هي أنها مسيرة غير ظافرة.
فبعد قرن من الحروب والثورات التحررية، والانتفاضات القومية والوطنية، والتجارب النضالية، والاحتجاجات الهادرة والمظاهرات العارمة لم نحصد سوى الهزائم والخسائر والانكسارات تعقبها مرارة الشعور بالإحباط والخيبة والفشل.
وتساءلت في المقال نفسه لماذا لم تحصد الشعوب العربية ثمار مسيرة كانت حافلة بالكفاح والنضال والتضحيات؟ أ لأن من قاد المسيرة لم يكن مهيئا لغرس ثمر جني؟ أم لأن المسيرة نفسها لم تكن سائرة في طريق إنضاج أي ثمر، ومن ثم قطعت الأشواط تلو الأشواط، وما من نتائج تثلج الصدور أو محصلات تريح القلوب، أو مواقف تقنع العقول، بل إننا لن نجانب الصواب إذا ما وصفنا مآلاتنا بالسيريالية أو الغرائبية، أو بكل ما لا يمت للعقل بصلة؟ وإذا لم يكن السبب لا هذا ولا ذاك، فلماذا إذن فشلت كل محاولاتنا للوصول إلى أهدافنا الوطنية والقومية، وخابت كل مشاريع تأكيد إرادتنا وذاتنا بين أمم العالم، ولنا ما يفوق ما لديها وعلى كل الصعد، حتى تعثرت مشاريعنا التي أردنا لها أن تكون تحررية وتنموية؟ ولماذا بتنا نعاني عجزا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، فضلا عن ويلات الحروب المجانبة، وأزمات البطالة والقهر والمنافي والنزوح والتهجير القسري؟
وما تحصلت عليه بعد الأسئلة أعلاه أن حالة الفشل والخيبة التي منينا بها اليوم، ناجمة من التراجع الخطير والسريع في مستويات الإنتاج والنمو والتطور في بلداننا، التي ترزح تحت نير أنظمة حكم ممزقة ودساتير مشوهة وقوانين عجفاء، ليصير ما نكابده بألم ونتحسر عليه بمرارة هو في الحقيقة نتيجة متوقعة عملت عليها أجندات أعدائنا، الذين كلما تراجعنا تقدموا، وكلما خفتت وتيرة البناء والنمو عندنا ازدادت طاقاتهم على تغيير البناء، ببناء أقوى وأصلد. وهكذا انتهينا إلى الصفر اقتصاديا وحضاريا وتعليميا، وبلغوا هم الذروة في تلك المجالات وغيرها عالميا.
واليوم وبعد أن صار أمر اعتراف دولة الإمارات بالكيان الصهيوني واقعا معلنا وغير متدارٍ؛ نقول (لا عجب) فوضعنا العربي اليوم تراجيدي أكثر من أي وقت مضى، منخور السطوح والأعماق، متقاعس إلى درجة لا ينفع معها استنهاض ولا إيقاظ، وفيه نعيش حالة سبات لا صحوة من بعده. وكيف يصحو من هو مطمئن في سباته، راض بما آل إليه مصيره. فأما السؤال عن مكان السبات فالجواب هو كهف الدعة الذي فيه تعودنا النوم. وأما السؤال منذ متى ونحن نيام؟ فمنذ وعد بلفور المشؤوم ونكبة 1948 ونكسة 1967، ومخيمات صبرا وشاتيلا وانتفاضة الحجارة، إلى اجتياح الموصل ونكبة الايزيديين، وسيستمر الحال على هذا المنوال، كلما اقتطعت أرض ودنس عرض وانتهكت سيادة وضاع حق.
وفلسطين الأمس التي ما أن تشتعل فيها شرارة، حتى تهب نار الاحتجاج في الجماهير العربية واعدة بالثورة والانتقام، صارت فلسطين اليوم قضية مميعة في مشروعيتها ومضيعة في أحقيتها، وهي في حياتنا العربية ليست أهم القضايا ولا أكثرها مركزية ومصيرية. فلسطين اليوم جُردت من بعدها الرمزي كعنوان للمصير العربي المشترك، وصارت واحدة من عناوين كثيرة تخضع للمزايدات السياسية ذات الغايات النفعية والمصلحية، تطبعا وتطبيعا، وبشتى المبررات والحجج. وفي مقدمة تلك الحجج السلام الذي لا شكل له ولا لون إلا شكل التركيع، وكذلك الاستقرار الذي لم تعرف له فلسطين طريقا، لا قبل التطبيع ولا بعده.. وما خفي من المبررات والحجج هو أعظم مما أعلن.
كل ذلك جعل نصرة الشعب الفلسطيني نصرة ظاهرية، مقتصرة على مستوى الحكومات التي تتدارى بالتسوية والسلام، وهي تتخذ سياسات التطبيع مع العدو هدفا لها، متواطئة معه بأقنعة مزيفة وأحادية وقرارات شخصية لا علاقة للجماهير العربية بكواليسها، كما أن القطاع الواسع والعريض من الأنتلجنسيا العربية، بعيد كل البعد عن تلك السياسات والكواليس رسميا وشعبيا.
وما إخفاقات الصراع العربي الإسرائيلي، سوى إخفاقات الحكومات في معترك السياسة بأدناسها ورذائلها، والمثقفون السلطويون النخبويون يدعمون تلك الحكومات ويغطون عليها، مطبلين لصوتها المتخاذل والرجعي، وقد أغرتهم بالمراكز والهبات، ومنحهم أصحاب القرار إمكانيات يفيدون منها في استقطاب المفكرين الواعين والمثقفين النهضويين بشتى وسائل الإغراء، كي يتكتلوا معهم ضد جماهيرهم خائنين ضمائرهم متقنين لعبة التضييع لقضايا العــــرب وفي مقدمتها فلســـطين.. والمثقف الذي يخون جماهيره مثقف متنصل من مبادئه، لا يهمه تشرد شعب ومآسي احتلال بشع ووحشي، ولا يعنيه مشهد طفل يعتقـــله جندي مدجج بالسلاح، ولا توخزه صرخة أم تقبض على حفنة تراب من أرضها، ولا يهزه موقف شباب يشرعون صدورهم، متلقين الرصاص الحي والمطاطي بكل إصرار وإباء. كما لا تلسعه دمعة شيخ يخاتل بندقية الجندي المحتل بسجادته مبتغيا شبر أرض في المسجد الأقصى يؤدي عليه صلاته.

وما إخفاقات الصراع العربي الإسرائيلي، سوى إخفاقات الحكومات في معترك السياسة بأدناسها ورذائلها، والمثقفون السلطويون النخبويون يدعمون تلك الحكومات ويغطون عليها، مطبلين لصوتها المتخاذل والرجعي، وقد أغرتهم بالمراكز والهبات.

وستظل هذه اللوحة الدامية تتكرر، وفلسطين جوهرة الشرق الأوسط تئن أمامنا على مرأى ومسمع منا جميعا. وأي قسوة بعد ذلك والفاشست العربي يوغل في تعتيم المشهد كي لا نرى ولا نسمع، ولا نتكلم، متقصدا التدليس. وأي خيبة والشعوب العربية ترى التآمر على فلسطين ولسان حالها يقول (خلينا في حالنا) فلا تفرق بين ما هو في صالحها وما هو ضدها، قانعة بالتخاذل والانهزام، وبعضها يقول لبعضها الاخر(ما في شيء وخليك بالبيت) وكأن الأمور كلها سواء بجيدها ورديئها، لا فرق بين رطبها ويابسها. فما عادت جماهيرنا تأبه بحالها وهي تشعر أنها مراقبة ومستهدفة في يقظتها ونومها، حاضرها ومستقلبها. ثم كيف للجماهير أن تفكر في فلسطين كقضية مركزية، والمثقفون هم أول من يتنازل عن مركزيتها، والسبب إما تواطؤهم مع السلطات، أو إسقاطات إخفاقاتهم الفكرية والإبداعية، التي تجعلهم يتصورون واهمين أن لا جدوى في التفكير بفلسطين مبدئيا وسياسيا.
فإما مبدئيا فلأن الانهيار العربي تيار جارف من منابعه إلى مصباته، ولا جدوى من التجذيف ضده. وأما سياسيا فلأن بالمال والمغريات المادية تشترى الذمم وتباع الضمائر في حلقات لا نهاية لها من الرذيلة والخديعة والأوهام، ولا مكان فيها للآلام والحرمان والدموع.
إن الضرر الذي يجلبه تسويف القضية الفلسطينية على الصعد الحياتية المختلفة، مبدئيا وسياسيا وأدبيا، كبير وخطير كونه يزيد الطين بلة، ويجعل الطرف المغلوب أكثر غلبة وخسرانا وذلة. وبمرور الأيام يصبح هذا التسويف كأنه حقيقة، فنسلم له طائعين بلا ردة فعل تدلل على بقية إحساس بالوجع والإهانة. وها هي دولة الإمارات تعترف رسميا بالكيان الصهيوني، دولة لها الشرعية والسيادة على الأرض العربية في فلسطين. ويمر الاعتراف بيننا مرورا عابرا، فلا هو أثار حفيظتنا ولا هو حفّز فينا ردود أفعال غاضبة، باستثناء بعض الردود الفردية المناهضة والشاجبة. وهذه النظرة اللااكتراثية العربية، هي سمة من سمات التبعية الكولونيالية في زمن تعدى فيه العالم إلى ما بعد بعد الكولونيالية، ونحن ما زلنا ننقسم حول ذواتنا وننظر لبعضنا بعضا بعين التفرقة، مع أن الوحدة داخلنا متحققة من تلقاء نفسها باللسان والدين والأعراف.
وطبيعي أن تتمزق الذات العربية بهذه التقسيمات والاختلافات، وتتفكك منظومتها الوحدوية فكرا ووجودا. وها قد أفرز لنا واقعنا التطبيعي عن تراجع حياتنا المعاصرة، حتى صرنا بضاعة يتاجر بمقدراتنا غيرنا بتعاون زعاماتنا وأعوانهم، بينما نحن ما زلنا على نياتنا نتأمل منهم أن يأخذوا بأيدينا جالبين لنا الخير، مدافعين عن حقوقنا ومناصرين قضايانا.. فلنعترف أننا لم نكمل ما كان قد بدأه السابقون، ولم نكن كما ينبغي أن نكون، أو كما كانوا يحلمون لنا بغد عربي مشرق، وتلك مفارقة ساخرة أخرى علينا أن نتجرع هولها، والسؤال: من السبب؟ أهو الزمان؟ أم ذواتنا؟ أم هو الحظ السيئ الذي منينا به، فحال دون أن نكون قادرين على تحقيق أحلام راودت أجيالا وأجيالا قبلنا؟
بالطبع لا ندين الحظ لأننا لا يمكن أن نؤمن به عكازا نتوكأ عليه، ولا نلقي باللائمة على الزمان، فالنقص ليس في ذواتنا، كون الذي جرى على أمتنا من أهوال لم يكن يسيرا، لأنه نتاج نظام عالمي جديد لم نتفكر به ملياً.. فخيم علينا وقد غيّر أجنداته، وبدلا من استعمال القوة الغاشمة تحول إلى اعتماد القوة الناعمة بوصفها سلاحا فعالا، يمرر عبره مشاريعه في الهيمنة والاستقطاب. والنعومة التي يتسم بها النظام العالمي الجديد لها خبثها الذي ينتهك المواثيق بحجة الدفاع عن الحقوق، وينادي بالديمقراطية، وهو ينتهج العنصرية، ويدعو إلى التعددية الثقافية، بينما هو يحمي الطغاة ويحول دون أن تطيح الجماهير بهم.
هكذا تمضي عجلة العالم سريعا وعجلة العرب لا تحرك ساكنا، لأن السبات غشي عيونهم، والمحصلة أن لا ثمن للإنسان بالمطلق ولا قيمة للوطنية، بل المزيد من المكابدة حروبا وفوضى وبطالة وفسادا وجريمة ومرضا وجوعا. والألم العربي يتقد بأجساد ممزقة ومنازل مدمرة وضحايا هم مجرد أرقام مودعة في سجلات غير مضبوطة وشعارات تخفي وراءها بذاءات يمثلها دجالون يتاجرون بنوايا الذين يتْبعونهم.
وهل لنا بعد هذا أن نسأل عن أحوالنا ولماذا نحن في سبات قبل التطبيع والاعتراف وبعدهما؟ ثم كيف نحرك ساكنا وسباتنا هو عنوان حياتنا النمطية التي تخشى التغيير لأن فيه ينكشف ضعفنا وجمودنا؟

٭ كاتبة عراقية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2184548

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2184548 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40