الأحد 21 حزيران (يونيو) 2020

الإبيجراما: الفن الأدبي المتجدد

صادق الطريحي
الأحد 21 حزيران (يونيو) 2020

يعد فن الإبيجرام Epigram أو الإبيجراما Epigramma من الفنون الأدبية اليونانية، وتعني الكلمة في أصلها اللغوي النقش على حجر ليكون شاهدة للقبر، أو تحت تمثال ما للتعريف بصاحبه، أما في المصطلح الأدبي فله عدة تعريفات، فهو مقطوعة من الشعر تتراوح بين بيتين إلى خمسة عشر بيتًا، تكون للمدح أو الرثاء، أو الإعلان. وفي معجم أكسفورد، هو قصيدة قصيرة، تنتهي بانقلاب بارع في التفكير، ومن ثم الانتهاء بقول ثاقب أو متناقض. وفي معجم مصطلحات الأدب، هو المقطوع اللاذع، والملحة الذكية، والحكمة الساخرة. وهو عند الشاعر الإنكليزي كوليردج كيان مكتمل جسده الإيجاز وروحه المفارقة. وقد تغير هذا المصطلح، فصار يطلق عند الشعراء الأوروبيين في العصر الحديث على المقطوعة التي يقصد منها النقد أو الهجاء فقط، ومن أبرز خصائص الإبيجرام استناده إلى المفارقة والهجاء، من خلال الإيجاز، وبراعة الختام، لإثارة الدهشة، عند المتلقي.
ويعد طه حسين رائد هذا الفن الأدبي عند العرب، من خلال كتابه «جنة الشوك» القاهرة 1945، فهو أول من كتب في جنسه، وعرّف به نظريًا، ولم يجد مقابلًا له في العربية، فعرّب المصطلح، وتتبع نشأته في الآداب اليونانية واللاتينية والاسكندرانية، وشعراء روما، حتى العصر الحديث، ووجد من سمات هذا الشعر عند بشار، ومطيع بن إياس، ومعاصريهما في البصرة والكوفة وبغداد، بدون أن يعرفوا المصطلح، لكنه في إبيجرامات «جنة الشوك» تحول به من الشعر إلى النثر؛ كي يمتحن نفسه واللغة وذوق القراء. أما في الشعر فإن عز الدين إسماعيل يعد رائد هذا الفن، من خلال مجموعته الشعرية «دمعة للأسى .. دمعة للفرح» القاهرة 2000، وصدره بما سماه (بدلا من المقدمة) لتقديم رؤيته لهذا الفن الأدبي وشروطه الفنية.
ويمكننا أن نعد عبد الكاظم جبر رائد هذا الفن في الأدب العراقي الحديث، من خلال كتابه «أحاديث أبي بصيرـ إبيجرامات وهوامش» بابل 2017. فقد كتب في قسمه الأول مئة وثلاثا وثلاثين إبيجرامًا، بوعي مسبق بهذا الفن الأدبي وشروطه الفنية، وقد صدّره بمقدمة قصيرة، أشار فيها إلى ريادة طه حسين، ولحظ التشاكل بين فن الإبيجراما وفن التوقيعات الذي شاع في العصر العباسي، وقال إن الكثير من المبدعين العرب يمارسون هذا الفن الأدبي شعرًا، بدون أن يطلقوا عليه فن الإبيجراما، بل اختاروا له (توقيعة) أو (لافتة) أو (ومضة).
قسم الكتاب إلى قسمين، الأول في فن الإبيجراما، وهو ما يعنينا في هذه القراءة، أما القسم الثاني فهو مقالات نقدية في الشعر، ونقد النقد، والتحقيق والنحو، سماه هوامش، ويبدو لي أن ليس ثمة رابط فني يربط بين القسمين، ولو أنه عمد إلى نشر القسم الأول في كتاب مستقل، لكان أفضل لتحديد فن الإبيجراما، وشروطه الفنية، وخاصة أن عدد الإبيجرامات التي كتبها تقترب من عدد إبيجرامات «جنة الشوك» التي بلغت مئة وخمسين إبيجراما.
ويبدو التأثر بطه حسين واضحًا، من خلال اختيار النثر وليس الشعر لكتابة الإبيجراما، فضلًا عن اختيار العنوانات، فقد جاءت عنوانات «جنة الشوك» في كلمة نكرة واحدة فقط، خل ثلاثة عنوانات، وكذا جاءت عنوانات الأحاديث، خلا بضعة عنوانات، وإذا كان طه حسين قد أقام جنته على محاورة بين الطالب الفتى وأستاذه الشيخ، فإن عبد الكاظم جبر أقام أحاديثه على محاورة بين المتحدث وأبي بصير، فيجري على لسان أبي بصير ما يراد قوله، لكن موضوعات الأحاديث، ومرجعياتها الثقافية، ورسائلها المضمرة تختلف أشد الاختلاف، عما جاء في «جنة الشوك» لذا نستطيع القول إن هذا التأثر هو في الشكل فقط.
توزعت إبيجرامات الأحاديث بين عدة اتجاهات نقدية، منها الاجتماعي والسياسي والأدبي والتعليمي، وقد استفاد الكاتب من عدة روافد، هي القرآن الكريم، والشعر العربي، وأخبار الأدب ونقده، وحوادث التأريخ، والأمثال، فضلًا عن النقد اللغوي لتقديم صور فنية، اشتملت على المفارقة والتورية، لما يريد بثه من رسائل في سرعة ودقة وخفة وإيجاز.

ولعلك تجد في هذه الإبيجراما (برودة) نقدا لجمهور واسع من الشعراء، فقد جاء في أخبار الأدب، أن بشارًا استمع إلى رجل يدّعي الشعر، «فقال له بشار: إني لأظنك من أهل بيت النبوة، قال له: وما ذلك؟ قال: إن الله تعالى يقول «وما عَلمناهُ الشعرَ وما ينبغي لهُ»… قلت: كأن لهذه الرواية مناسبة أبا بصير؟ قال: وهل تراني أقول شيئًا بلا مناسبة؟». وقد يتحول البحث عن معنى في اللغة إلى نقد اجتماعي، كما هو البحث عن معنى (هوش بوش) في إبيجراما (إتباع). ويمتزج الماضي مع الحاضر في إبيجراما (تخمين) فتتضاعف قوة التخييل «قال صاحبي: سأل رجل أبا عبيدة عن اسم رجل (يتزعم إحدى المؤسسات العلمية) فما عرفه، فقال كيسان: أنا أعرف الناس به، هو خراش أو خداش أو رياش او شيء آخر، فقال ما أحسن ما عرفته…».
أما في إبيجراما (براعة) فتتحول قضية لغوية تتعلق بسعة العربية وتجسيداتها المعجمية المتغايرة إلى نقد سياسي للسلطات القائمة على النسب، فقد ختمت المقالة بقول أبي بصير «وما زالت مقاليد الأمور في قريش». ونجد في إبيجراما (طريق الشعر) تقديمًا لشخصية الشاعر الناقد على شخصية الناقد «قلت: ما قولك في تفضيل البحتري في الرواية التي تقول… فقال أبو بصير: لا يهمني أمر التفضيل قدر ما يهمني ذلك القول السديد (إنما يعلم ذلك من دفع في سلك طريق الشعر إلى مضايقه وانتهى إلى ضروراته) لله درهُ ما أنفذه». والكاتب جد ماهرُ في التمويه، فكتب في إبيجراما (مصانعة) «قلتُ متمثلاً بقول زهير: ومن لم يصانع في أمور كثيرة / يُضرّس بأنيابٍ ويوطأ بمنسمِ. فقال متمثلًا بقول علي الشرقي: تجلدتُ حتى قيل فيك قساوةٌ / وصانعتُ حتى قيلَ إنك ماكرُ»، فلا ندري أيريد الإشارة إلى شيوع هذه الظاهرة في المجتمع؟ أم يريد الإشارة إلى أخذ علي الشرقي من زهير؟
ومن خلال تحليل نقدي لبعض أبيات عنترة في إبيجراما (ريادة) نصل إلى رأي في الحضارة وأسباب قيامها «قلتُ: نعم نعم، وهو قد رسم بحسامه على الثرى قبلًا نقوشًا واظب على الإجادة فيها، يشهدُ له قولهُ: ولي من حسامي كل يومٍ على الثرى / نقوشُ دم تغنى الندامى عن الوردِ. فقال أبو بصير: يا عجبًا لنا! ما سبقنا إلى مجدٍ إلا وسبقنا إليه بدمٍ».
ومع ذلك فإننا نجد بعض الإبيجرامات وقد خلت من ذلك النصل المرهف الرقيق، كما في إبيجرامات (تحريف) و(تحريف أيضًا) فهما من موضوعات فوات المحققين، وكذا في إبيجراما (تأصيل) أو إننا نجد بعض الإبيجرامات قد طالت مثل (تلاؤم واختلاف) و (وغربة) و (زهد لغوي). ما جعلها بعيدة بعض البعد عن شروط الأبيجراما.
وفي الختام نستطيع القول إن عبد الكاظم جبر، فتح الباب لفن أدبي راق، لم يلتفت له المحدثون، وإن رائده طه حسين لم يكتب به كتابًا ثانيًا، وما أحوجنا اليوم في عصر السرعة، ووفرة الكتابة إلى مثل هذا الفن.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 75 / 2184570

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2184570 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 3


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40