السبت 9 أيار (مايو) 2020

الجزائر.. بلد يحوم حول «شرف القبيلة»

سعيد خطيبي
السبت 9 أيار (مايو) 2020

قبل ثلاثين عاماً ويزيد، صوّر رشيد ميموني حال الجزائر اليوم. كتب عما نعيشه الآن، بنبرة ساخرة ومتألمة، كما لو أنه يعيش بيننا. لم تكن نبوءة ولا استشرافاً، لم يكن الكاتب سابقاً لوقته، ولم يدع معرفة ما يجهله غيره، بل نبهنا فقط إلى أن التاريخ في الجزائر يتكرر حد الملل، إننا ندور في حلقات ونخفض رؤوسنا ونعجز عن التقدم خطوة إلى الأمام. كتب عن حاكم، ينتقل من الشعوذة إلى السياسة، ينتفع من عطف أهله وأصحابه، قبل أن يستلم منصباً عالياً فينقلب عليهم، ويتنكر لهم، عن مشقة الوصول إلى المعلومة، وفشل الناس في الإلمام بالأخبار التي تخص حياتهم اليومية، عن رجل دين يُراكم الأرباح، ولا يتعب من السطو على الخيرات، عن شيطنة الأجانب وحذر الشعب منهم.
إذا أردنا أن نفهم ما يحصل في الجزائر، في الآونة الأخيرة، يكفي أن نعود إلى رواية «شرف القبيلة» لرشيد ميموني (1945-1995)، التي تدور وقائعها في قرية متخيلة اسمها «زيتونة»، شبيهة بماكوندو، في رواية «مئة عام من العزلة». في رواية تتداخل فيها عوالم «ألف ليلة وليلة» والحكايات الشعبية، يسرد ميموني خوف الجزائري من الحداثة، وتعلقه المرضي بأنماط الحياة التقليدية، مبالغته في تأليه السلطة، وانعدم ثقة الناس في بعضهم بعضاً. إنها رواية الفرص الضائعة، وكيف أننا لم نخرج من دستور الخضوع، فضلنا العيش في نمط القبيلة، ورفضنا ما أتيح لنا من شرائع الديمقراطية والمُساواة.
تحكي الرواية قصصاً عن قبيلة لا تخرج من صدمة إلا لتدخل أخرى، يعيش أهلها في منطقة جبلية ومعزولة، تشبه تضاريسها قرى أخرى يمكن أن نعثر عليها في الجزائر، حيث الناس لا يزالون يقضون وقتهم في خمول، وفي تبادل أساطير من ثورة التحرير، ولا شغل لهم طوال اليوم سوى الزحف من ظل إلى آخر، كي لا يلفح وجوههم الحر. أناس مطمئنون للبؤس الذي يتقاسمونه بالتساوي، يسمعون عن مدن البلاد الكبرى، مثل الجزائر العاصمة، ويشعرون بأنها من بلد آخر، وليست قطعة من وطنهم. ولا سبيل لهم في الوصول إلى الأخبار سوى من لسان ساعي بريد، فقد كان الشخص الوحيد الذي يدخل «زيتونة» ويخرج منها، ويمدهم بالحد الأدنى من المعلومات، ومن الشائعات التي تدور خلف الجبل الذي يعيشون فيه. في صورة كاريكاتيرية، لكنها واقعية، ففي الوقت الحالي أيضاً لا نصل إلى الأخبار سوى من شفتي رجل واحد، ولا نفرق بين الخبر والشائعة، لأنه مثل ساعي البريد في القرية، يردد مثل ببغاء ما يسمع، والأهالي يصدقون كل ما يصل أذانهم. وبينهم يسطع نجم إمام، مستغلاً تعلق من يعرفهم بالدين، فيصير سيداً وصاحب رأي، بل إنه يتدخل في شؤونهم الخاصة، وله الحق في دفن من يشأ أو منعه من مقبرة القرية، ويتكئ على سمعته الدينية، كي يسطو على عقارات تركها المعمرون بعد الاستقلال، في إسقاط صريح أراده رشيد ميموني على رجال الدين الحاليين، الذين حولوا العقيدة إلى حصان طروادة، يستعينون بطاعة الناس لهم كي يكسبوا ما طاب لهم من أرباح ومن أملاك.

تدير تلك القرية ظهرها للتاريخ، مستغنية عن البلدات المحيطة بها، ولا شيء يغري ساكنتها سوى تكرار يومياتهم، في الجلوس تحت الأشجار، والبحث عن الظل، والتلصص على النسوة، وتكرار ما يعتقدون أنها بطولات أجداد، يروون حكايات عن ماضٍ يطغى عليه الزيف، كما لو أن المؤلف ينبهنا إلى عدم الثقة بما جاء في كتب التاريخ، وأنها تشبه حكايات قرية زيتونة، بالإمكان أن نستمع إليها لكننا لسنا مجبرين على تصديقها.
سوف تنقلب الحياة في تلك القرية، بعد الاستقلال، بعدما تمت ترقيتها إلى «بلدية»، توهم ساكنتها أن حياتهم سوف تتغير، وظنوا أنه تغيير نحو الأحسن، أنهم سوف يجنون مالاً، وينصرفون عن تربية الماشية، لكن الصدمة لم تتأخر، حيث عينت الإدارة عمر المبروك رئيساً للبلدية، ذلك المشعوذ الذي تسبب في مقتل والده، والذي فرّ وظن الناس أنه مات، بينما كان يقضي وقته وسهراته مع كبار المسؤولين في عاصمة البلاد، وعينوه في ذلك المنصب، وبدل أن يرأف بحال بني قريته، استحال وحشاً، عاد كي ينتقم منهم، وكي يحملهم تبعات كسلهم وانحنائهم في السنوات الفائتة، وصارت حياتهم شقاء بعدما خيل لهم أن ترقية القرية سوف تجلب لهم خيرات. ومع الوقت، سوف يفقدون أيضاً أسماءهم، يتحولون إلى ظلال وصفات لا أكثر، الشخصيات تصير «الأعرج» و«الحداد» وغيرهم، بل إن «جورجو»، الذي قضى عشرين عاماً في باريس، نسي اسمه، ونسي الناس لقبه أيضاً، واكتفى بذلك الاسم المقتبس من اسم رب عمله، خلف البحر. قرية زيتونة التي انتقلت من حرب التحرير إلى الاستقلال، وظن أهلها أن حياتهم سوف تستقر بعد خروج الفرنسيين، وأن الرزق يدنو منهم بعد ترقيتها إلى بلدية، تصير قرية معادية لنفسها وللأجانب، في إسقاط مبطن من ميموني عن رهبة الجزائري من الاختلاف، خوفه من كل وافد جديد، وتشبثه برغبته في البقاء معزولاً، والعيش مع إرث الآباء، وتمنعه عن الانفتاح وعن الاختلاط بالآخر.
في هذه الرواية، ينتقد رشيد ميموني سلوكيات الحكومة، وتعاليها في التعامل مع الناس، وتعيينها أشخاصاً يحملون نوايا سيئة في مواقع قيادية، يسرد قلق الجزائري من الخروج من الحيز الذي عاش فيه دائماً، وتآلفه مع الملل والتكرار، ويذهب الجنون بعمر المبروك إلى قطع أشجار الكاليبتوس، التي عمرت عقوداً، بحجة أنه لم يحتمل زقزقة العصافير، وأنها تمنع عنه الاسترخاء في قيلولته. ففي رغبته في تغيير عقليات الناس، يحيلهم إلى التشتت، ويسبب غضب الناس منه، ويثير رغبتهم في الثورة ضده. هكذا بدل أن يلعب الحاكم دوراً في تحسين معيشة الناس، يصير سبباً في زعزعة استقرارهم.
في هذه الرواية، نُشاهد صورة مصغرة عن جزائر تعجز عن السير إلى الأمام، تطوقها الأوهام وبقايا تربية عشائرية، يصر الكاتب على صورة البطل عمر المبروك، رمز السلطة المتجبرة التي تفرض رأيها، ولا تناقش الشعب، يحكي عن أناس أرهقوا من تكرار التاريخ، وتضييعهم الفرص في تحقيق طفرة حلموا بها، لكنهم لم يفعلوا شيئاً قصد بلوغها، إنها مختصر بلد يحوم حول «شرف القبيلة».

٭ كاتب من الجزائر



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2184599

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184599 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40