السبت 11 نيسان (أبريل) 2020

«خدعة القرن»: تفكيك العنوان وتأملات في لغة العنصرية الكولونيالية

خالد الحروب
السبت 11 نيسان (أبريل) 2020

تقدم «خدعة القرن» ونصوصها اللئيمة نموذجا مُذهلا في آليات قلب الحقائق، وفبركةالتاريخ الماضي والقريب، واستتفاه القانون والأعراف الدولية، وتكرار لوم الفلسطينيين مداورة أو مواجهة، مقابل الانحياز الأعمى والمُعبر عنه بوقاحة إلى جانب المستعمر الإسرائيلي. أحد الجوانب المُدهشة في نصوص الصفقة «القرنية» يتمثل في «فن» نحت، أو تزوير، الكلمات والتعامل مع المصطلحات، وطمس كثير مما هو مُتعارف عليه منها، وتوليد مفردات خطاب جديد مرافق للصفقة والسياسات الأمريكية والصهيونية المُنتجة لها.
الطمس استهدف اللغة والمصطلحات والمفردات التي يستخدمها القانون الدولي والأمم المتحدة حول فلسطين، وطيلة عقود طويلة. ففي طول وعرض مئة وواحد وثمانين صفحة، لا تذكر «الخطة» على الإطلاق مفردة «الاحتلال» حتى عندما احتلت إسرائيل سيناء من مصر، وتستخدم عوضا عن ذلك «وضع اليد» أو «اكتساب». وطبعا لا يمكن أن نجد تعبيرا يشير إلى «انسحاب الجيش الإسرائيلي»، لأن «الانسحاب» معناه أن احتلالا ما كان قد سبقه. وتعلن «الخطة» بوضوح أن قوانين مجلس الأمن والقانون الدولي، لا تشكل مرجعاً لها، وما تقره وتعتمده مرجعية بديلة هو سياسة وقرارات إدارة ترامب الأمريكية الحالية. فعندما تناقش مثلاً موضوع القدس تنطلق من أن الموقف الأمريكي هو اعتبار القدس موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل، وهذه هي نقطة البداية والمرجع الذي يجب أن تتأسس عليه أي توافقات لاحقة.
وبطبيعة الحال ليس هناك أي ذكر إلى حقيقة أن القدس الشرقية تُعتبر منطقة مُحتلة، حسب القانون الدولي، واستنادا إلى عشرات القرارت الأممية الصادرة عن مجلس الأمن. مُقابل عملية الطمس هذه هناك البعث للغة إحلالية جديدة، بعض منها تفككه هذه السطور، لكن البعض الأكبر يحتاج تحليله مساحة أوسع بكثير مما هو مُتاح هنا. وما تتوقف عنده هذه التأملات هو مكونات ومفردات وإيحاءات الوصف الإعلامي الترويجي، الذي نشرته الإدارة الأمريكية عن عمد وهو «صفقة القرن»، وكذلك صياغات العنوان الرسمي كما تُرجم إلى العربية: «من السلام إلى الازدهار: رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي»، وهو ترجمة غير دقيقة للعنوان بالانكليزية:

Peace to Prosperity: A Vision to Improve the Lives of the Palestinian and Israeli People
التحليل التالي يحاول أن يفكك العنوان باللغة الإنكليزية، وهي اللغة التي صدر بها النص الأساسي الرسمي للخطة، وتم ترويجه من قبل الإدارة الأمريكية. ولتكن البداية مع الوصف الذي برز أولا في الخطاب الأمريكي ثم الإسرائيلي: «صفقة القرن»، وهنا فإن استخدام لفظ صفقة deal يشي بعقلية تجارية، تنظر لكل أمور الحياة والاجتماع والسياسة والحقوق من منظور الصفقات التجارية، وما تحمله من إيحاءات ربح أو خسارة أو اقتناص. وفعل وإيحاء الاقتناص مقصود بشدة ولذاته هنا، وموجه ضمنيا إلى الفلسطينيين، كي يقفزوا على الصفقة المطروحة وينتهزوا الفرصة ولا يضيعوها كما أضاعوا غيرها. وكما هو مُتوقع سرعان ما اندلقت المراهقة السياسية من فم جاريد كوشنير «مهندس» الصفقة بعد إصدارها، منددا بموقف الفلسطينيين الذين أضاعوا الفرصة، ولم يقتنصوها كما عادتهم في إضاعة الفرص! وأساس هذه اللغة «الصفقاتية» تعود إلى ثقافة دونالد ترامب نفسه، الذي يعتقد أن «الصفقات» هي الوسيلة الأنجع لمقاربة قضايا كل القضايا، سواء كانت شراء كازينو أو بيع وشراء أوطان، بناء على خبرته الاقتصادية والتجارية والربحية. وحتى لو افترضنا أنه لا ضرر في استخدام هذه المفردة في مجال الحقوق السياسية والوطنية المنُتهكة لأحد الأطراف من قبل الطرف الآخر، فإن الفضيحة الأكبر في هذا الاستخدام، تكمن في أن أحد أهم أطراف «الصفقة المُفترضين» غير موجود فيها أصلاً، وغير موافق عليها ابتداءً، ولم يُستشر في أي من بنودها.

الصفقة تكون بين أطراف ونتيجة لمفاوضات وتوافقات، ولا يمكن أن تكون مفروضة على طرف رافض لها وغير مُشارك فيها بالأساس. إضافة إلى ذلك، كيف يمكن اعتبار هذه الخطة «صفقة القرن» كله، من الآن وحتى نهايته والقرن نفسه لم يمض منه سوى عشرين عاماً فقط؟ على أي أساس تُغلق هذه الصفقة مستقبل العالم خلال الثمانين عاماً المقبلة وتفترض أن هذه الصفقة هي الأهم فيه، رغم أهمية ومركزية الصراع مع الصهيونية في فلسطين؟ الأساس الوحيد هنا هو التضخيم والتفخيم والمبالغة بهدف حشر الفلسطينيين في الزاوية وخنقهم بهذه التهويلات، وإشعارهم بأنه ما من مناص إلا قبول «الصفقة» التاريخية. لكن فيضان التفاهة في الوصف «صفقة القرن»، وبنظرة استرجاعية الآن، يبدو أنها زادت عن قدرة حتى المخرج الأمريكي ذاته عن تحملها، وقاده إلى تحييد استخدام هذا الوصف في العنوان الرسمي للخطة المذكور أعلاه، وقد خلا هذا العنوان بالفعل من التوصيف المعجزاتي، وتهويماته التي أحال إليها تعبير «صفقة القرن».
أما الانتقال إلى هذا العنوان الرسمي نفسه، الذي لا يزيد عن سطر، فبإمكاننا قراءة العديد من التضمينات والاستبطانات الاستعمارية التحقيرية للشعب الفلسطيني، التي تدفعه إلى مرتبة أقل من الإسرائيليين، إضافة إلى نبرته الادعائية العالية، كما سنرى أدناه.
أولاً: يبدأ العنوان من مرحلة تتناسى الصراع كلياً ويقول «من السلام إلى الازدهار» Peace to Prosperity متغافلا عن جوهر «الموضوع» وهو الصراع والاحتلال بالقوة العسكرية، ولا يشير إلى هذا الصراع أساسا، بل يقفز إلى ادعاء عريض يتحدث عن الازدهار. ويمكن أن ينطبق هذا التوصيف التحولي «من السلام إلى الازدهار»، على علاقة أي بلدين، أو عدة بلدان مع بعضها بعضا في العالم، وهو الانتقال من حقبة سلام عادية إلى حقبة ازدهار، متناسياً عن قصد أن ما يسبق أي سلام هو حل أي صراع قائم بين الأطراف المقصودة. وهذا «التأسيس» يعكس فعلا جوهر «الخطة» التي تنطلق من «الوضع القائم» كما هو وتريد أن تبني عليه «ازدهارا» وتنطلق منه وترسخه.

ثانياً: بعد «من السلام إلى الازدهار»، يأتي الوصف «رؤية لتحسين حياة …» الفلسطينيين والإسرائيليين، وهذا يستبطن أن حياة الفلسطينيين والإسرائيليين تحتاج إلى تحسين متساو، وهي حياة تواجه الظروف (والمعاناة) نفسها، والخطة تقترح كيفية معالجتها. وفي هذا الخداع اللغوي تصوير كاذب لمساواة في الظرف المُعاش عند الطرفين، وهو ما تترجمه نصوص الخطة، عندما تكرر الإشارة إلى معاناة الإسرائيليين من «الإرهاب الفلسطيني». في الوقت نفسه تعمل هذه الكلمات الثلاث «رؤية لتحسين حياة …» على طمس أسس الصراع التي هي في جوهرها احتلال واستعمار وسيطرة من قبل إسرائيل على حياة الفلسطينيين وحاضرهم، وليست حصراً مسألة تحسين ظروف معيشية. والمساواة القسرية لحياة الفلسطينيين، حتى من ناحية معاشية مع حياة الإسرائيليين التي تناظر حياة الدول الغربية، من ناحية معدلات الدخل وظروف المعيشة، فيها أيضا خداع واضح وأولي يمهد لما سيأتي في تفاصيل الخطة من «تحسين» لحياة الإسرائيليين أيضا .
ثالثا: يستخدم العنوان كلمة «شعب» people بطريقة غاية في الالتباس والمخادعة، إذ يقول:
to improve the lives of the Palestinian and Israeli people. كلمة شعب ملحقة هنا بالإسرائيليين في نهاية الجملة وعليه يكون واضحا للقارئ والعين العابرة على العنوان، أن هناك «الشعب الإسرائيلي»، بينما لا تلحق اللفظة نفسها بالفلسطينيين، بل يُستخدم وصف «فلسطيني» Palestinian بشكل مجرد. ولضمان عدم إلحاق وصف شعب بالفلسطينيين، فإن الصياغة تضعهم في العنوان قبل الإسرائيليين وهو امر شاذ في الخطاب الأمريكي والإسرائيلي الذي يعمد دائما إلى ذكر الإسرائيليين أولا. وهذا الترتيب في ذكر الإسرائيليين في المقام الأول هو ما حافظت عليه أيضا نصوص «الخطة» في صفحاتها المئة وإحدى وثمانين. ويتبدى هذا بوضوح في عنوان القسم الثالث من «الخطة» الذي يقول، «رؤية للسلام بين دولة إسرائيل والفلسطينيين والمنطقة». ليس هذا وحسب، بل في معظم حالات الإشارة للطرفين، فإن الوصف الغالب يكون: «دولة إسرائيل والفلسطينيين»، بمعنى التهرب من ذكر وصف «شعب فلسطين» أو «دولة فلسطين»، حتى بعد أن تم تعريف هذه الدولة، في «الخطة» بكونها عمليا ليست دولة ولا سيادة لها على الحدود أو الموارد ومنزوعة السلاح وهدفها الوظيفي صيانة أمن «دولة إسرائيل»، فإن النص يبخل في ذكرها بشكل كاريكاتيري.
رابعا: من الواضح أن من صاغوا العنوان الرئيس للخطة واجهتهم معضلة لغوية سياسية تكمن في محاولة تمرير عنوان يبدو محايدا لكن يحافظ في الوقت نفسه على التراتبية الكولونيالية التي «ترقي» مرتبة الإسرائيليين و«تخفض» من مرتبة الفلسطينيين. فلو كان العنوان فرضاً «رؤية لتحسين حياة الفلسطينيين والإسرائيليين» فإن هذا سوف يساوي بين الطرفين، ويبدوان من ناحية حقوق جماعية to improve the lives of the Palestinians and Israelis … وكأنهم على المستوى نفسه، فضلا عن أن عنواناً كهذا يخفض من مرتبة إسرائيل والإسرائيليين، حيث لا يؤكد على خاصية «الشعب» أو «الدولة» التي يجب إلحاقها بهم. أما إن كان العنوان «رؤية لتحسين حياة الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي، أو الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي» to improve the lives of the Palestinian people and the Israeli people فإن فيه رفعا لمستوى الطرف الفلسطيني إلى مرتبة الشعب، وهو ما حرص صاغة العنوان على تفاديه.

خامساً: هربا من هذين الخيارين انتهى مهندسو العنوان إلى صيغة غريبة فعلا، هي التي استخدمت عنوانا رسميا، وترجمتها إلى العربية خلافية جدا، وفي أحسن الحالات وأدقها يمكن أن تكون: «رؤية لتحسين حياة الفلسطينيين والشعب الاسرائيلي»، على خلاف الصيغة التي انتشرت إعلامياً وهي «رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي»، وهي غير دقيقة. غرابة العنوان الذي اعتمده النص تكمن في عدة نقاط، منها استخدام الجمع لمفردة حياة lives، أي حيوات، بما يعني الإحالة إلى طرفين، وفي الوقت نفسه استخدام كلمة «شعب» بصيغة المفرد people فقط وملحقة بالإسرائيليين فقط. ولو كانت هناك مقاربة صادقة في النظرة للطرفين على قدم المساواة، لتم استخدام لفظ الجمع «شعبين» peoples نستشف من هنا أن الجمع الذي استخدم في مفردة حياة، حيوات، هو رشوة لغوية لئيمة، هدفها تشتيت الانتباه عن الانتقاص الأهم، الذي حدث في تفادي صيغة الجمع لكلمة people، وهكذا وعبر هذه البهلوانية اللغوية سوف تمر التراتبية الكولونيالية التي تخفض من شأن وموقع الفلسطينيين. الخلاصة إذن، من ناحية المعنى والسماع الصوتي، هي أن استخدام «شعب» بصيغة المفرد، يحيل إلى أن الموصوف الأقرب هو الطرف الإسرائيلي فقط، والقراءة ستكون: «الشعب الإسرائيلي»، وليس «الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي». إذن قبِلِ «مهندسو» العنوان الركاكة اللغوية هذه مقابل أن لا تتم مساواة الطرف الفلسطيني بالإسرائيلي في العنوان، فلم يستخدموا صيغة الجمع (المثنى بالعربية)، أي «الشعبين» في خاتمة العنوان كما تفترض سلاسة اللغة: «رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي»، مثلا.
سادسا: تتضاعف ركاكة وغرابة والتباس العنوان أيضا لأنه قد يُقرأ قراءة أخرى تشي بأن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي هما شعب واحد مكون من مجموعتين اثنتين مختلفتين، وأن هدف الخطة هو تحسين حياة هاتين الاثنتين، بسبب استخدام صيغة المفرد لكلمة «شعب» كما أسلفنا. وهذه القراءة التي تعيد خلط الأوراق تعكس مقاربة مهمة تطرحها «الخطة» وتريد أن ترسخها، وجوهرها تعريف الصراع بكونه نزاعا إثنيا بين مجموعتين بشريتين يمكن حله من خلال إعادة ترتيب «آليات» التعايش بينهما. وإعادة التعريف هذه تريد أن تشطب من القاموس كل ما له علاقة بمفاهيم الاحتلال، والسيطرة على السكان، والتراتبية الاستعمارية، وسرقة الأرض والموارد، وسوى ذلك مما كرسه القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة. ومن هنا فإن الوصف الذي تستخدمه نصوص «الخطة» عند الحديث عن المستوطنين اليهود هو «السكان اليهود في الضفة الغربية والقدس الشرقية» أو «الجاليات اليهودية». وتتحدث بلغة مشابهة عن فلسطينيي المثلث داخل فلسطين المحتلة عام 1948، مُوحية بأنهم جالية فلسطينية تعيش في إسرائيل، وبذلك فإن المشكلة تكمن في التعايش بين إثنيات فلسطينية ويهودية، ويمكن التفكير بحلول «إبداعية» مثل نقل السكان وغيره.

«خدعة القرن» ونصوصها وعنصريتها واستعماريتها واحتقارها للفلسطينيين والعرب واستعادتها لكل منطق الاستعمار الغربي الأبيض في فلسطين، كما يقول الصديق رامي خوري، تُقدم درسا مُتجددا في تمثلات العنجهية الامريكية والإسرائيلية التي لا تعرض على الآخرين إلا ما يركعهم ويكرس من إذلالهم، وفي حال قبلوا وركعوا فإن مصيرهم مواصلة الدوس عليهم إلى الابد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2184556

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184556 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40