السبت 21 آذار (مارس) 2020

الأسلوب الواقعي والهوية في تجربة المغربية حليمة الفراتي

لحسن ملواني*
السبت 21 آذار (مارس) 2020

سيظل الفن التشكيلي فنا متشعب الموضوعات والمدارس والاتجاهات، وهو في كل ذلك يحاول مجاراة غيره من الفنون في رسم الجمال العاكس للقيم الإنسانية، والقدرات الخاصة بهذا المبدع أو ذاك. وفي هذا السياق تأتي تجربة الفنانة حليمة الفراتي، التي تعد من التجارب المتميزة في المغرب، حيث الفرادة في رسم الملمح بدقة متناهية، وبعمق الرؤية المستحضرة للمشاعر أمام الأشياء المنتقاة للتجسيد في الأعمال الفنية.

كل مُشاهد للوحات حليمة، يدرك مدى الوقت الذي يستغرقه أي عمل فني من أعمالها، تنقل الصغيرة والكبيرة واللون والظل والخلفيات والمحيط، بدقة متناهية تدعو إلى الاندهاش من مهارة المحاكاة. فهي تبعا لأسلوبها الفني الواقعي، تحاول تسجيل المرئي بدقائق قسماته وملمحه العام، وبموضوعية تجعل اللوحة تأريخا وتوثيقا حقيقيا يعكس حرصها الكبير على إيصال الملمح بكل تفاصيله. ويبدو أن الأشياء التراثية الأمازيغية وغيرها من التراث المغربي تستهويها وتستحوذ على نظرتها، فتأبى إلا أن تنقلها نقلا تخضعه لتركيب معين، يضفي عليها جمالية آسرة. ففي أعمال الفنانة نعيد النظر لنكتشف مكامن الجمال والبهاء فيها. إن الواقعية كأسلوب تشكيلي معروف يفرض على الفنانة تصوير معطيات محددة ضمن صياغة مضبوطة يحددها الشيء المستهدف بالرسم والمحاكاة، ما يجعل رسوماتها قريبة من الجمهور العريض، الذي يحبذ المعتاد وينفر من غيره. فالأسلوب الواقعي في مختلف الأنواع الفنية يحيل إلى مدرسة الشعب، حيث الصياغة الدقيقة من قلب الواقع المعيش. ما يجعل الجمهور يقبل على العمل الفني، بدون أن يكون مسلحا بكثرة الخلفيات الإبداعية بتشعباتها وتطوراتها عبر العصور.
وانطلاقا من ذلك تبقى الفراتي فنانة الجماهير العريضة، وفنانة النخبة في الوقت ذاته، لوحاتها تصور القائم في الوجود تصويرا موضوعيا لا مجال فيه للتجريب والعشوائية، ولا ريب في كون ذلك يقتضي من بين ما يقتضيه مهارة رسم الأشكال، عبر سلم الأبعاد، علاوة على التلوين الذي يفرض على الفنان الدقة في الاختيار والانتقاء بالمزج، وفق درجات معينة، وكل ذلك يقتضي مدة زمنية ليست بالقليلة.

التراث يزهو

من الطبيعي أن يصير التراث حافظا للهوية والطراز التعبيري والتفكيري والفني والصناعي، لشعب من الشعوب، فهو الراسم لفلسفة الشعب ورِؤيته الخاصة، إزاء الكون والحياة. وأمام الخوف من تمييع الهوية بشكل يؤدي إلى محوها وطمسها، تجتهد الشعوب عبر مبدعيها وفنانيها من أجل تجديد عناصرها وإثارة الانتباه إلى جماليتها وقيمتها الإنسانية.
وفي هذا الإطار يندرج أسلوب واتجاه حليمة الفراتي، التي تتبنى التوصيف المبني على التوثيق التدويني للتراث، مقربة إياه إلى الجمهور العريض، مساهمة بذلك في الدعوة إلى معانقة هذا التراث الجميل، الذي يستحق التخليد والاستمرار.
في لوحاتها أثاث جميل منقول ضمن رؤية تركيبة إبداعية، تحيل إلى ذوقها الرفيع في جمالية موضعة الأشياء بشكل يعطيها المظهر البهي، في لوحة تجد آلة العود يجاورها الطربوش المغربي، ويتوسطهما شمعدان، معطيات تذكرك بالموسيقى الأندلسية وموسيقى الملحون وليالي السمر، في رحاب أضواء الشموع، لوحة تذكرك بشكل غير مباشر بلمحة عن تراثنا الجميل.
في لوحة تجد البقراج النحاسي بلونه الناصع الجميل، متاخما لطبق خزفي جميل، صحبة بلغة نسائية مزينة بزخارف من نسيج متنوع الألوان، تراث محلي مشهود له بالخصوصية والجمالية الفريدة. في لوحة إبريق شاي بلون فضي لامع محاط بكؤوس البلور، وطبق السكر أو الشاي، لوحة جميلة جدا تحيل إلى الشاي ولوازمه كشراب لا يخلو منه منزل مغربي،علاوة على كونه علامة ترحاب وكرم من قبل كل المغاربة… وبهذا تجسد الفنانة في أعمالها الفنية المتنوعة لمحات مفصلة منقولة بدقة من أدوات المطبخ والموسيقى والمناديل والملابس وغيرها، وفي ذلك توثيق خادم للحفاظ على جانب من جوانب تراثنا العريق.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 280 / 2184606

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع فنون مسرح وسينما   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

2 من الزوار الآن

2184606 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 1


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40