السبت 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

هل في مصر حياة ثقافية الآن؟

ابراهيم عبد المجيد*
السبت 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

سؤال دار بيني وبين أحد أصدقاء العمر، ونحن نحتسي قهوتنا وحدنا في المقهى. عادة حين نلتقي يكون حديثنا عما يشغل كل منا في الكتابة أو القراءة، لكن هذا السؤال قفز لا أدري كيف. كنا نتحدث عن الإنتاج الكثير جدا من الروايات في مصر، وعن حيرة النقاد في هذا الكم الذي تصدره دور النشر كل يوم، وكيف أنه من الصعب متابعته على أي ناقد، ومن ثم فأسماء كتاب مثل، شاكر عبد الحميد ويسري عبد الله والشعراء جمال القصاص ومحمود قرني وشعبان يوسف، والقصاص الليبي أحمد الفيتوري، الذي يعيش في مصر، وغيرهم ممن يعطون الوقت للندوات ومتابعة الإصدارات الجديدة، أمر طيب جدا، لكن الأمر يحتاج إلى أعداد أكثر، قياسا على الإنتاج الروائي. تحدثنا عن أزمة الشعر الذي لم يعد على هوى الكثيرين، وصارت الندوات عنه قليلة وعادة تقوم الأسماء نفسها بمتابعة ما تقدر عليه منه. لكن الأمر أخذنا إلى معارك الثقافة المصرية في العصر الحديث. كانت المعارك في عصر محمد علي هي دعوات للتمدين والتحضر، وتعليم البنات والنهضة في البناء، اتسعت في عصر إسماعيل إلى بناء المسارح والأوبرا وغير ذلك، رغم أن هؤلاء الولاة لم يفعلوا ذلك بدون ظلم وعسف للشعب العادي، لكن كل ذلك الظلم صار بعيدا عن الفكر وبقيت الإنجازات. فأول مجلس نواب تم في عصر إسماعيل لم يكن أي نائب يستطيع أن يعارض الحاكم، في النهاية زال الحاكم وبقي مجلس النواب. ولا تنس من فضلك أنه أول مجلس نواب وأن العالم تغير في مصر وخارجها.
وتحدثنا عن معركة الشعر التي قادها سامي البارودي بعد أن تعرض الشعر إلى النسيان أيام الاحتلال لمصر من كل الدول، ثم قفزة الشعر مع أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فوجدنا نفسنا ننتقل إلى القرن العشرين، ومعركة مدرسة الديوان، التي قادها العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري في مواجهة الشعرالقديم، القائم على وحدة البيت لا وحدة القصيدة. وهكذا مشينا حتى وصلنا إلى قصيدة النثر مرورا بالشعر الحر ورواده. الأمر نفسه في القصة القصيرة والرواية فقد بدأت محاكاة للقصة في الغرب، ثم صارت نسيجا مصريا وتجديدا للبيئة المصرية ومكانها وزمانها، وكثرت أسماء من خاضوا هذه المعارك، ابتداء من محمد تيمور مرورا بيحيى حقي ومحفوظ ويوسف إدريس وجيل الستينيات ومن بعدهم، والأمر نفسه في المسرح الذي بدأ بمحاكاة للغرب ثم صار لدينا كتاب يقدمون مسرحيات تقوم على كسر الحائط الرابع وتجاوز الأشكال الكلاسيكة من أبرزهم طبعا يوسف إدريس ومحمود دياب، وغيرهما من بناة المسرح كفن عظيم منذ الخمسينيات، سعد الدين وهبة ونعمان عاشور وميخائيل رومان وغيرهم، وهكذا حتى المجلات الأدبية وكيف أنه في يوم ما في الستينيات حين كانت الدولة صاحبة مشروع مركزي سموه الاشتراكية، وانتهت ملكية المجلات التي كان يصدرها المجتمع الأهلي إلى الدولة، وكانت على علاقة طيبة وأساسية بالاتحاد السوفييتي، كان لمسرح العبث الأوروبي المكروه في الاتحاد السوفييتي مكانه في مسارح مصر وإصداراتها ومجلاتها.
أما السينما فحدث ولا حرج، عن طموحاتها وتحتاج وقتا، وكانت يوما المصدر الثاني للدخل في مصر، بعد القطن المصري الذي ذهب أيضا مع الريح. كان السؤال محاولة منا أن نجد في المسرح ما يعني استمرار الطموح، لكنها في النهاية مسرحية أو اثنتان أو ثلاث مسرحيات كل عام، والباقي إعداد عن نصوص قديمة أو عن روايات، ولم يعد سهلا أن تحصي عددا من الكتاب الجدد يزيد عن ثلاثة أو أربعة كتاب. أعني يؤلفون المسرحيات لا يقومون بإعدادها عن نصوص سابقة.

الفن هو المعيار وليست الشعارات الكاذبة مثل الحفاظ على القيم التي انتهت بالتحرش الذي يملأ الشوارع وبطفل يقتل طفلا لأنه حاول منعه من التحرش بفتاة

أما التأليف للسينما فقد صرعته الرقابة وصرعته نزعة الورش للكتابة وصرعته رغبة الممثلين النجوم والمخرج أن يكون النص للممثل لا لموضوعه، فضلا عما يراه الإنتاج من قلة الأفلام ولن أدخل في التلفزيون ومسلسلاته.
كنا نتحدث عن ذلك وكأنه يحدث في بلد آخر، والحقيقة أن الأمر هكذا بالنسبة لنا نحن كبار السن يبدو أفضل. لقد ابتعدت هذه الدولة عن أحلامنا أيام الشباب، وأنا شخصيا صرت مُدَاهما بالاكتئاب حين يكون الحديث عن الشأن العام، فكل ما نطلبه للثقافة أو الحياة لا يتحقق وصرنا مشغولين بما يحدث على الأرض من أحاديث في الفضائيات تشغلك بقضايا سياسية مع دول وجماعات إرهابية، أو غير إرهابية، ولا أحد يفهم أن الحرب على الأرض هي في إعداد شعب متعلم وفي ترك المجال لحرية التعبير والثقافة، فالقوة التي تُسمي بالناعمة هي رصيد الفرد العادي في مواجهة أيّ أفكار متطرفة، فضلا عما يجب أن يتحقق من عدالة على الأرض تشمل الكبير في منصبه كما تشمل الفرد العادي. في غياب ذلك لا ثقافة ناعمة ولا خشنة ستفيد هذا الوطن. هذا حديث يصيبني بالإحباط، لأنه حديث قديم والحاصل أن الفوارق الاجتماعية تزداد بشكل رهيب، والطبقة الوسطى تنحدر كل يوم إلى مستنقع الفقر، وهي أصلا حاملة الثقافة وحاميتها.
طبعا لم يأخذنا الحديث إلى وزارة الثقافة والأعداد الهائلة لمراكزها الثقافية، التي أغلبها تنعى من بناها أو لا تجد فرصة الأضواء، وحمدنا الله، أنه مازالت هيئة مثل هيئة الكتاب تصدر كتبا مهمة، وكذلك المركز القومي للترجمة، أما المجلس الأعلى للثقافة، فقد توقف عن النشرلأسباب مالية، وما زالت الثقافة الجماهيرية تنشر أعمالا مهمة، لكن كل ذلك وسط الأعداد الغفيرة للشعب لا يساوي شيئا، فالمجتمع الأهلي هو الأَولَى بالحركة، لكن أسعار الورق في ارتفاع رهيب ولا أحد يفكر في إعفاء الورق من الضرائب، ولا أدوات الطباعة، فصار الكتاب الذي يقع في مئة وستين صفحة يتجاوز الخمسين جنيها في القطاع الخاص غير المدعوم طبعا، رغم أن دعمه بسيط جدا هو إعفاء الورق كما قلت من الضرائب، أو تقوم الدولة بشراء طبعة من ألف نسخة، مما يصدر من أعمال مهمة، لكن حتى لو فعلت الدولة ذلك فهناك الرقابة في الهيئات التي ستقوم بالشراء مثل وزارة التربية والتعليم أو غيرها. رقابة تصل إلى أن التدخين ممنوع في الروايات، فما بالك بالجنس والمشروبات الروحية لأبطال الروايات الضائعين، فقد صار العرف الغبي الآن هو الكتابة عن الأسوياء فقط، لأن الكتابة عن غيرهم تُغري بالتقليد ولم يسأل أحد نفسه لماذا يكتب الكاتب عن الأسوياء والأصل أن يكون الناس كذلك. الكتابة هي عن غير المتوافقين مع الحياة وهي تقدم المتعة موضوعيا والأهم شكليا، أي بنائيا، فالفن هو المعيار وليست الشعارات الكاذبة مثل الحفاظ على القيم التي انتهت بالتحرش الذي يملأ الشوارع وبطفل يقتل طفلا لأنه حاول منعه من التحرش بفتاة، وهي الحادثة البشعة التي وقعت منذ أيام في محافظة المنوفية. للأسف حاولت أن أقاوم الاكتئاب فوجدت نفسي أكتب في الحقائق الواضحة فداهمني الاكتئاب. لم تعد الأرض أرضا ولا الفضاء فضاء. إذا تحدث مفكر عن الليبرالية وضرورة توسيع مساحة الحريات، يقفز من يتهمه بالانتماء لجماعة محظورة، واذا تحدث آخر عن تجديد الخطاب الديني يتم اتهامه بازدراء الأديان فكيف نطمع أن تكون لدينا حياة ثقافية تبني البلاد والعباد.

٭ روائي من مصر



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 43 / 2184633

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2184633 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40