السبت 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

رواية «عطش»… حين يروي يسوع آخر ساعاته

سعيد خطيبي*
السبت 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

■ «كنت دائماً على يقين أنهم سيحكمون عليّ بالموت»، هكذا تبدأ رواية «عطش» لأميلي نوتومب، والمتحدث هنا ليس سوى يسوع نفسه، الذي يروي آخر ساعاته قبل أن يُصلب. تنوب الروائية عن المسيح، أو عيسى بن مريم، وتدون آخر مناجاته ودعواته وحوارياته مع نفسه، تتقمص دوره، وتحيل القارئ إلى ما ساوره من قلق وحزن وفرح أيضاً وهو يُساق إلى نهايته. كان بإمكانها أن تكتب الرواية بضمير الغائب، وتتجنب كثيراً من النقد، ومن غضب بعض المتدينين، لكنها جازفت برواية يلعب فيها يسوع دور البطل الراوي، منحت نفسها هامشاً من التخيل، متجاوزة ما جاء في الكتب المقدسة، وأضافت إلى فصولها ما لا نقرأه في الأناجيل الأربعة، بأن وصفت علاقة حميمة بين يسوع ومريم المجدلية. لقد أرادت الكاتبة من روايتها نصاً مُعارضاً للكتب الدينية في توصيفها للمسيح وحياته الداخلية.منذ أكثر من ربع قرن، تعود القراء على اسم أميلي نوتومب (1966)، تظهر مع نهاية كل صيف متأبطة رواية جديدة، تنط بين بلاتوهات التلفزيونات، وينبعث صوتها من غالبية محطات الراديو، في فرنسا، تتحدث عن حياتها اليومية وعن قصص ومقالب شخصية، أكثر مما تتحدث عن إصداراتها، فرواياتها السابقة كانت ـ في غالبيتها ـ من ذلك النوع الذي عرّفه الصحافي برنار بيفو: «ما إن نفرغ من قراءتها حتى ننساها». كانت أميلي أقرب ما تكون إلى ماركة تجارية، تتصدر رواياتها، كل خريف، قائمة الأكثر مبيعاً، يتقاطر عليها معجبون، جلهم شباب ومراهقون، يصطفون في جلسات التوقيع، يلتقطون صوراً معها، ونادراً ما يقرؤون ما يشترونه منها، فالتعليقات والتعقيبات التي تتلو إصداراتها قليلة، مقارنة بأرقام المبيعات، وكادت هذه الكاتبة أن تصير مجرد ظاهرة موسمية، تملأ التلفزيونات بفضل خفة دمها، وهندامها المثير للانتباه دائماً، وإصرارها على التشبه باليابانيات، فقد قضت أربع سنوات من طفولتها، في أوساكا، حيث عمل والدها قنصلاً لبلجيكا، وذكرياتها هناك لا تزال طازجة لحد الآن. منذ أشهر كان من المتوقع أن تصدر نوتومب رواية جديدة، نهاية أغسطس/آب الماضي، وكان يمكن أن تمر مثل سابقاتها، بإشادة مجانية، من بعض المعجبين، وينتهي أمرها مثل روايات سابقة، إلى النسيان، لولا أن «عطش»، جاءت هذه المرة بما يُشبه قطيعة مع تجاربها الفائتة، رواية صادمة، ومثيرة للنقاش والسؤال والجدل، لا يمكن أن نمر أمام رواية تُحكى بلسان يسوع، بدون أن تثير في أنفسنا أسئلة ورغبة في تصفحها حتى النهاية.
من الوهلة الأولى، يذكرنا عنوان «عطش» في رواية سابقة للكاتبة ذاتها بعنوان «بيوغرافيا الجوع»، التي سردت فيها شذرات من سيرتها، لاسيما طفولتها وسنين المراهقة، لم تقصد من «الجوع»، الرغبة في الطعام، بل رغبة في الكتابة والكتب والحب، وميلاً للانعتاق ورغبة في الجنون والفضول، لكن «عطش» حملت موضوعاً مغايراً، غير مسبوق، هو عطش يسوع إلى قول كل ما ود الإفصاح عنه، قبل أن ينتهي أمره صلباً.

رغم ما يظهر على الرواية من معارضة للكنيسة، ومن ميل لنزع الألوهية عن يسوع، كما ورد في النصوص المقدسة، فقد احترمت الكاتبة الكرونولوجيا والسيرة التاريخية للمسيح، كما نعرفها

في رواياتها الماضية، كانت تظهر جلياً تربيتها الكاثوليكية، كانت تبث قصصاً إنجيلية، ولا تنفي في حواراتها اعتناقها للدين، ومداومتها على العبادة، لذلك بدا مثيراً أن تنزع عن المسيح كل صفات الألوهية (التي وردت في الإنجيل) وتضعه أمام القراء في صفته البشرية الخالصة، تتقصى آخر ساعاته، وكيف أن اقترابه من الموت أتاح له أن يُعيد تأمل حياته، من المهد إلى المأتم، ويعلق عنها، ويحاول ـ من منظور نوتومب ـ أن يصحح كل ما نُسب إليه من كلام ومن أفعال، من بين ذلك ما ورد في إنجيل يوحنا: «أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم»، ترى نوتومب أن تلك الجملة مبالغ فيها، وليس شرطاً أن يحب الإنسان أخاه، هو مخير وليس مجبراً، منذ الصفحات الأولى من الرواية، تحرت الجدل في سيرة يسوع، والتعليق على ما وصلنا على لسانه، و»تصحيح» سيرته، وفق قولها.
تجعل أميلي نوتومب من جسد المسيح موضوعاً أثيراً في رواياتها، ومن مناجاته المتخيلة درعاً تُعارض به الكنيسة، تنطلق من سجنه بعد محاكمته، من عزلته بعدما كان محاطاً بحوارييه، تحكي آلام المسيح وتنزع عنه صفة القدسية، وتصفه في لحظات حب وشبق مع مريم المجدلية، تعود إلى سنوات سبقت الصلب، وتعرفه على أتباعه، وتبتكر قصة لكل واحد منهم، تختصر السنوات الثلاث والثلاثين التي عاشها في 162 صفحة، وفي اللحظة التي يعلم فيها أن نهايته قد صارت محتومة، وهو يتمتم: «أشعر بعطش»، في المحصلة تعيد كتابة سيرة المسيح أدبياً، غير مقتنعة بما جاء في المرجعيات الدينية.
تاريخ المسيحية يرفع يسوع إلى السماء، ويجعل منه مبجلاً، ممنوعاً من النقد والشك والطعن، وتأتي أميلي نوتومب كي تنزع عنه ذلك الرداء، ليس عن رغبة منها في الرد أو الانتقام أو تضليل معتنقي المسيحية، بل كما لو أنها تخبرنا أن الأدب أعلى مرتبة من الدين، وأنه الأقدر على صياغة مصائر الذين مضوا قبلنا، وترميم سيرهم، أو كما لو أنها تود من روايتها الأخيرة أن تضيف فصلاً جديداً إلى الأناجيل التي نعرفها سلفاً.
رغم ما يظهر على الرواية من معارضة للكنيسة، ومن ميل لنزع الألوهية عن يسوع، كما ورد في النصوص المقدسة، فقد احترمت الكاتبة الكرونولوجيا والسيرة التاريخية للمسيح، كما نعرفها، لم تضف شيئاً في حياته، ولم تتخيل مواقف أو مشاهد لا نعرفها (عدا علاقته مع مريم المجدلية، التي لا تزال محل خلاف)، وفي نهاية الرواية، تطرح على لسان بطلها السؤال: «أنزلني أبانا إلى الأرض كي أنشر العقيدة، ولكن أي عقيدة؟»، قبل أن يُجيب لاحقاً: «في البدء قبلت هذا المشروع الهائل لأنني آمنت بفرضية تغيير الإنسان»، ثم نقرأ: «الناس لا يتغيرون إلا إذا غيروا أنفسهم بأنفسهم». مع أنها تقول على لسانه في مقطع آخر، إن العقيدة ليست الدين وحده، بل هي أيضاً الحب، وكل شغف آخر نتعلق به. وتنهي حكايتها على لسان يسوع في مقطع سابق: «إذا كنتم تحبون أمواتكم، فثقوا فيهم واحترموا صمتهم».
أميلي نوتومب لم تحترم صمت المسيح، وأجبرته على البوح في روايتها، ثم آثرت الصمت بدل الرد على الكلام الكثير الذي يُثار عن هذه الرواية باعتبارها مساساً بالمقدس.

٭ كاتب من الجزائر



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 48 / 2184581

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع النقد والأدب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2184581 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40