السبت 25 كانون الثاني (يناير) 2020

نجمة حبيب تقرأ في رواية “عَـوّ” لإبراهيم نصرالله

السبت 25 كانون الثاني (يناير) 2020

من كتاب: نجمة خليل حبيب، “قراءات نقدية في الشعر والرواية”، ط/1، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2018 ص 107-110

- نجمة حبيب تقرأ في رواية “عَـوّ” لإبراهيم نصرالله

كثيرة هي الروايات الفلسطينية المحرضة التي أسهمت في بلورة الوعي الشبابي الذي أدى إلى ثورة الربيع العربي. منها على سبيل النموذج رواية عو لابراهيم نصرالله.
تحكي “عَـوّ” قصة الصراع بين المثقف العصري والسلطة المستبدة. والمثقف العصري حسب إدوارد سعيد ليس فقط الناقد لسياسة الحكومة، بل الذي يرى في المهنة الفكرية حفاظاً على حالة من اليقظة المتواصلة ومن الرغبة الدائمة في عدم السماح لأنصاف الحقائق والأفكار التقليدية بأن تسير المرء معها . هو بمعنى آخر مناهض طبيعي للحاكم المستبد وما يمثله من قمع للحريات وفرض لمفاهيم ورؤى تخدم أهدافه التسلطية بقولبة عقول الناس وتجهيلها لتسهيل حكمها. لذلك يسعى هذا الحاكم لترويض المثقف العصري بأعنف الطرق وأكثرها لاإنسانية حتى يتم له سحقه. فبطل الرواية “أحمد الصافي”، كاتب وطني مستقيم وطموح يستخدم قلمه لخدمة الوطن والحرية والعدالة فتزعج كتاباته الجنرال فيُلاحَق ويُعذَب ويتعرض لأقسى الضغوط حتى يرضخ ويتحول إلى كلب يتمسح بذيول الجنرال.
ونصرالله بإيصال المثقف إلى هذه الدرجة من الانحطاط يكشف عن الدرك السفلي الذي وصل إليه مجتمعنا العربي. لقد تمكن الجنرال من سحق الطبقة المتنورة الواعية القادرة على التأثير في المجتمع وتوجيهه نحو قيم الخير والحق والجمال، وحوّلَها إلى طبقة مرتبطة به تدور في فلكه، تخدم مصالحه وتساعده بما لها من معرفة وثقافة واحترام بين الناس على اكتساب مزيد من القوة وزيادة السيطرة. فالجنرال لا يكتفي بإسكات صوت أحمد الصافي وإنما يريد أن يستغل هذا الصوت لتجميل صورته: تذكر.. إنني أريدك معتدلاً.. نحن بحاجة إلى كمان .. لسنا بحاجة إلى بوق (يقول له).
في كتابه موقع الثقافة حلل هومي بابا علاقة المستعمرَين بمستعمِريهم فقال: إن الخاضع للكولونيالية يلجأ للحفاظ على هويته وثقافته إلى المحاكاة التي هي قناع يخفي المنهزم ذاته الحقيقية خلفه كي يتماثل مع المنتصر. والمحاكاة التي تبدو وكأنها حامية للكولونيالية لا تطمس الهوية الكامنة خلف قناعها، بل إن خطرها يتمثل في رؤيتها المزدوجة التي في كشفها عن تناقض الخطاب الكولونيالي هي ايضاً تعطل سيطرته . وفي رواية عو تماثل شبه تام بين الخاضع للكولونيالية وأحمد الصافي بطل الرواية. ففيها لجأ أحمد إلى المحاكاة وأخفى حقيقته خلف القناع فصار كلباً يقعي وينبح ويهز ذيله تحت قدمي الجنرال، ولكن وفي الوقت ذاته كانت ذاته المموهة تتمرد على الذات الخاضعة وتعطل مسيرتها. فقد لجأ الصافي إلى كتابة قصة متمردة في غفلة من الجنرال عطلت خطته. فبطلها سعد هو في الحقيقة ذات أحمد الصافي الحقيقية التي برزت من تحت القناع. سعد الثائر المتمرد على قوانين الجنرال يقوم بعملية فدائية داخل حدود فلسطين 48، وبعد عودته يلقي جنود الجنرال القبض عليه وعلى رفاقه ويُعثَر في جيب سترته على القصة الملهمة فيُضرَب ويعذب ولكنه يفضح رياء الجنرال أمام جنوده، فإذ هو لا وطني ولا ساهر على أمن الوطن وإنما منفذ جبان لأوامر جنرال أقوى منه متمثل بأميركا وإسرائيل. صحيح أن ذات أحمد الصافي المموهة لم تستطع تمزيق القناع وظلت تدور في فلك الجنرال، ولكنها من ورائه كانت تصنع الثورة وتحرض على التمرد وتكشف كذبه. فهو وإن لم يتمكن من أن يكون بطل روايته "طفل الليلة الطويلة، ولكنه أحس أنه يتوحد معه بالغضب وبالروح المتفجرة وظل سعد يقرأ روايات الصافي ويتمثل ما فيها من تمرد .
وتكمن قيمة الرواية ليس في وقفتها التثويرية المحرضة فقط، بل في قيمتها الفنية التي تجلت بالرسم الواقعي للشخصيات. فشخوصها غير منمطة وإنما يمتزج فيها السلب والإيجاب بطبيعية لا افتعال فيها، تماما كما هم الناس بين ظهرانينا. فالجنرال يحمل إلى جانب الصفات التسلطية الهدامة ذكاء ومعرفة وقدرة على الإقناع يستخدمهما في حربه مع ضحيته. يعرف متى يستخدم العنف والتهديد ومتى يستخدم الترغيب الذي يصل إلى درجة التملق. أجل التملق كأن يقول لضحيته: إنني من قرائك .. أستطيع مثلاً أن أعيد عليك قراءة فقرات طويلة من مقالاتك . بدأ بتعداد عناوين المقالات المنشورة خلال شهر تموز ، فوجئ أحمد الصافي أكثر .. أو قوله: يا أحمد أنت أهم بكثير مما تعتقد . . . إنك الآن أشبه ما تكون بنهر ضائع في الصحراء ، لنعمل سوياً وبصورة عملية من أجل مواطنينا، وإذا لم يدرك هذا إنسان وطني أصيل، مثقف مثلك، فمن سيدرك ؟
وكذلك احمد الصافي هو ليس ضحية بريئة وقعت في براثن ثعلب فقط، وإنما فيه كثير من النزعات الهدامة كالغرور والجشع والضعف أمام مغريات المنصب والجاه. فهو يرى نفسه أعلى من مستوى الآخرين. كان يدرك أنه أكثر أهمية من رئيس التحرير وأكثر شعبية منه .. أما اذا نظر إلى المسؤولين عن الأقسام الأخرى فإنه أكثر أهمية منهم مجتمعين. وهذا يعني أن في نفس المثقف جنرال دكتاتور. ونصرالله في ذلك يدين المثقف وينسب أليه دوراً في إفساد المجتمع وإبقاء الناس مهمشين مقموعين خائفين.
قيمة هذه الرواية ليس في أنها قالت الحقيقة التي نعرفها ونعيشها جميعاً ووثقتها أكثر من رواية فلسطينية وعربية، وإنما في كونها تنبأت قبل عشر سنوات، أو بالأحرى حرضت على الثورة القائمة اليوم المكنى عنها بالربيع العربي التي نأمل أن تقضي على كل جنرالات الأمة المتسلطين.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 171 / 2184551

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع النقد والأدب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2184551 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40