السبت 11 نيسان (أبريل) 2020

الغرابة في الرِّواية العربية صبحي فحماوي نموذجاً

د. عزوز علي إسماعيل
السبت 11 نيسان (أبريل) 2020

من هنا أصبح لزاماً علينا أن نبحث في أدب صبحي فحماوي للتنقيب عن آليات الإبداع لديه وشعريته فكانت الغرابة من تلك الآليات التي انتهجها في بعض أعماله للتعبير عن بعض تلك الأفكار التي كانت تمور في عقله تجاه أمته العربية، لأنَّ الأدب ما هو إلا تعبير عن الحياة

مدرس الأدب والنقد والبلاغة – بالمعهد العالي للغات والترجمة الفورية بالقاهرة “التاريخ يا برهان مثل موج البحر، يرتطم بصخور الشاطئ، ثم يرتد، مدحوراً، ولكنه يلم شتات نفسه، ثم يهاجم الشاطئ من جديد!”
رواية ” الإسكندرية 2050″
الأديب العربي صبحي فحماوي له العديد من المؤلفات في أجناس أدبية مختلفة أهمها الرِّواية، حيث كانت مجالاً خصباً للتعبير عن الهم العربي من المحيط إلى الخليج، وقد رصد في تلك الأعمال الروائية والتي تزيد عن عشر روايات خلاصة فكره حول الغرابة التي عاش معها وبها في أمور عديدة بعد أن شحذ قلمه لتصويرها والتعبير عنها، وأيضاً الغربة التي نالت منه عبر سنوات عمره فضلاً عن بعض الآلام التي نلمحها في تلك الأعمال الروائية، وهو ما سنتناول بعضه هنا في هذا البحث، وقبل البدء في البحث عن الغرابة، فإنه يجدر بنا أن نذكر أن هذا الأديب أقيمت حول أدبه مؤتمرات علمية عديدة في أقطار عربية مختلفة هنا وهناك، وهذا إن دلَّ، فإنَّما يدل على أهمية ما كتبه هذا الأديب العربي، وهو الأمر الذي جعلني أدقق البحث في جزئية مهمة لديه ألا وهي الغرابة وما يعتريها في أدبه، وكيف استطاع الربط بين الحياة التي عاشها بعيداً عن موطنه الأصلي وتلك البلاد التي طافها، فأعلمُ أنه كثير التجوال شرقاً وغرباً، باحثاً ومنقباً عما يعنُّ له في تلك البلاد، راصداً أهم ما تقع عيناه عليه، مستجدياً العالم للوقوف مع قضيته الرئيسية، كما رأيناه في روايته “على باب الهوى” والتي حاول فيها المقارنة بين ما يراه في غربته وما آل إليه حال العرب، من انتكاسات وهزائم هنا وهناك، وفي “الإسكندرية 2050” نراه يستشرف أحداثاً مهمة للتاريخ مستخدماً تقنيات سردية مختلفة للتعبير روائياً عن أمله في غد أفضل، وفي الوقت نفسه كانت عيناه على الماضي العربي البعيد وتاريخه العظيم ليربط بين الماضي والحاضر أملاً في مستقبلٍ مشرقٍ لهذه الأمة العربية، لذلك فإنَّ مقاربتي النقدية في هذا البحث ستنصبُّ حول رواية “الإسكندرية 2050”. والبحث في الغرابة لديه، وكيفية تناولها واستخدامها في هذا العمل الضخم.
من هنا أصبح لزاماً علينا أن نبحث في أدب صبحي فحماوي للتنقيب عن آليات الإبداع لديه وشعريته فكانت الغرابة من تلك الآليات التي انتهجها في بعض أعماله للتعبير عن بعض تلك الأفكار التي كانت تمور في عقله تجاه أمته العربية، لأنَّ الأدب ما هو إلا تعبير عن الحياة، وفي الوقت نفسه إذا كان هناك نوع من الغرابة فيه فهو خارج عن المألوف، وما هو خارج عن المألوف يدخل ضمن الغريب، وكما نعلم أنَّ الغريب في الأدب له أسبابه وتفريعاته النفسية والاجتماعية، والثقافية والاقتصادية،
“والغرابة ليست مصطلحاً أحادي البعد، بسيط المعنى؛ بل إنه مصطلح متعدد الأبعاد، مركب المعاني، متنوع الدلالات، وإن من معانيه؛ حضور الموت في الحياة وحضور الحياة في الموت. ومن معانيه أيضاً المألوف في سياق غير المألوف..”[1]. وهو ما سنتقصى أثره وبعض المعاني الأخرى للغرابة في الأدب في هذا البحث. ولما كانت الغرابة مرتبطة بحياة الإنسان شرقاً وغرباً كان لزاماً أن نستخدم المنهج السيسيولوجي لأنَّ الرِّواية تتعامل مع واقع اجتماعي؛ سواء أكان في الداخل أم الخارج وأصبح الاهتمام بدراسة الرواية اجتماعياً مطلباً أساسياً في علم اجتماع الأدب. ويعود ذلك إلى أنها أكثر الأجناس الأدبية اهتماماً بتصوير الإنسان في علاقته بالمجتمع واتساع رصدها وتعمقها لمظاهر الوجود وقدراتها على سبر الكينونة بطريقتها الخاصة ومنطقها المميز وتأسيسها معادلاً جمالياً للتجربة الإنسانية على صعيد الإشكالية والرؤية والبناء والتمثيل واحتوائها صنوف تغير وتحول الشرط الإنساني”[2]. ومن هنا سنبحث في هذا العمل كما ذكرت عن شيء مهم عند الأديب هو الغرابة، بمعنى أنه قد تغرب كثيراً عن موطنه الأصلي، فهل جاء الأدب معبراً عن تلك الغرابة التي عاشها أو رآها أو أرادها أن تكون، وما نتيجة ذلك على النفس في أدبه، والتي كانت سبباً طبيعياً للتعبير عنها سردياً، لأن ما يأتي به صبحي فحماوي في أدبه يبعث على التأمل، وأعتقد أن الغربة وآلامها تقتضيان وجود الغرابة، والإتيات بأشياء من الممكن وصفها بالغرابة. والغرابة دائماً ما تأتي بما هو مقلق ومزعج للإنسان، لأنها بطبيعة الحال ضد الألفة، وهي حالة وسطية بين الوعي واللاوعي، وهو ما رأيناه كثيراً ظاهراً في الأدب العالمي نحو رواية “رجل الرمال” للكاتب آرنست هوفمان، ورأينا تحليلات عديدة لهذا النص المقلق، والذي يحوي غرابة واستغراب في كل مناحيه، واعتماد الكاتب على بنية نصية غير عادية هي الرسالة، وبالتالي فإنَّ دراسة تعتمد على البحث في آليات الغرابة عند أديب كبير يجب أن تكون محاطة بهالة من الثقافة الاجتماعية والنفسية والأيديولوجية، خاصة إذا ما كانت تلك الدراسة لأديب لديه مشروعٌ كبيرٌ، منفتح على عوالم ثقافية مختلفة وقارئ نهم للأدب العالمي، وهو ما لمسناه في معظم أعماله الأدبية، فضلاً عن حبه الشديد للتراث العربي ومدى ارتباطه بهذا التراث بمعنى أنه انطلق من أرض صلبة، وبدأ في كتابة الرواية بأساليب مختلفة، وكانت تلك الأسباب كفيلة للبحث في أدب صبحي فحماوي خاصة الأعمال الأدبية التي أعتقد أنها من الأهمية بمكان دراستها الآن، في ظل الانكسار العربي ومدى الخذلان الذي نعانيه، حتى نفيق من غفلتنا وننتبه كما انتبه أجدادنا من قبل إلى إعمال الفكر حتى نضج، وإيقاظ الوعي حتى سادوا العالم، وعلينا أن نساير الأمم في نهضتها، ولن تكون النهضة إلا من خلال القوة الناعمة المتمثلة في الثقافة، والبحث في الإبداع؛ لأنه المعبر عن الحالة التي نحياها الآن، والتي من خلالها نستجدي الرفعة والسمو لأوطاننا.
كلمة الغربة تحمل معاني كثيرة، أقل تلك المعاني قاسية على النفس، وأصعب ما يحمله معناها تلك الغربة التي تكون بداخل الأوطان، والأديب صبحي فحماوي قد تغرب عن موطنه ورحل إلى بلاد عديدة، ذاق من خلالها طعم الغربة والغرابة، وهو ما ظهر بجلاء في أعماله الأدبية، فجاءت “الإسكندرية 2050” لتعبر عن الأمل والألم وما اعتراهما من غرابة، فهي من أهم روايات الكاتب، تلك الرِّواية التي يبدؤها بأقوالٍ لمشاهير الكتَّاب، والتي تتسم بنوع من الغرابة، وتحتاج إلى قراءة، وكانت مقولة “جبران خليل جبران” من الأهمية بمكان: “لو نقدر أن نعيش على عبير الأرض، فنكتفي بالنور كالنبات.. وليس دمنا سوى عصارة أُعدت منذ الأزل، غذاء لشجر السماء.. فأنا كرمة مثلك وستجمع ثماري وتُحمل إلى المعصرة” جبران خليل جبران”.
تأتي هذه الجملة وهذه المقولة في بداية الرِّواية باعتبارها جملة أو عبارة توجيهية أو مقولة مرتبطة بتلك الغرابة وذلك الخيال العلمي الموجود بداخل العمل، وهي مقتبسة أو تصدير؛ لأن التَّصدير الذي يأتي به الكاتبُ دليلٌ على العملِ نَفْسِهِ, باعتبار أنَّه توجيه للمتلقي، من خلال ارتباطِه بالعمل إشارياً ودلالياً؛ ذلك أنَّ التَّصديْر موجهٌ إلى القارئ أولاً؛ حتى يستطيع من خلاله فكِّ طلاسم النَّصِّ بحكم أنَّه مرتبطٌ بهذا النَّصِّ ؛ فالتَّصديرinscription أو المُقْتَبَسَةُ “جملةٌ توجيهيةٌ يوظفها الكاتبُ في الصَّفحاتِ الأولى لمؤلَّفه التي تسبق عادة متنه لتوضيح القصد العام منه, وقد عرَّفها قاموس الطَّرائق الأدبية بأنَّها: “شاهد يوضَع في مستهل عملٍ أو فصلٍ للإشارة إلى روح هذا العمل أو الفصل”، واعتبرها جيرار جنيت بمثابة حركة صامتة Gestmnet لا يمكن إدراك مغزاها وقصدها إلا من خلال تأويل القارئ”[3]. والمقتبسة تأتي لإنارة طريق المتلقي فهي “شاهد يوضع في أول العمل أو الفصل, وله وظيفة تنبيهية وتوجيهية وتناصية ودلالية. المقتبسة تقليد أدبي وثقافي امتد لفترات طويلة عبر الزَّمان من خلال الإبداع والكتابة وتخطيط العمل أو الكتابة , ويرى ميكائيل ريفاتير أن المقتبسة هي بمثابة مؤولة وتشتغل نموذجاً للاشتقاق الإبداعي, وبالتَّالي. فالمقتبسة تركز أول ما تركز على التناص؛ لأنها تقود القارئ إلى تلك الزاوية مباشرة, سواء رغب في ذلك أم لم يرغب؛ كما هو موجود في روايات عديدة”[4]. ونرى الكاتب يحلل هذه المقتبسة أو هذا القول لجبران خليل جبران ويفسِّره بداخل العمل، من خلال العلاقة بين برهان وأبيه بكون الأب معلماً لابنه؛ وبكون المقتبسة دليلاً استرشادياً للعمل، فيعيش الكاتب في عالم الغرابة أو الخيال، في تحليله لتلك المقنبسة، ولأنَّ جبران نفسه كان هائماً في تلك الحالة المعبرة عن الألم العربي، وما تعانيه هذه الأمة من ضعف وتشرذم فيذكر قوله:
“عندما كان برهان صغيراً، كنت تقرأ له كتاب “النبي” لجبران خليل جبران، ومازلت تذكر بعض عباراته التي تقول: “لو نقدر أن نعيش على عبير الأرض فنكتفي بالنور كالنبات..” وكانت تُدهشك عبارة “وليس دمنا سوى عصارة أعدت منذ الأزل، غذاء لشجر السماء. وتستوقفك عبارة أنا كرمة مثلك، وستُجمع ثماري وتُحمل إلى المعصرة..” وتعشق جبران الذي يغسلك بعصير العنب وهو يقول: “يا ليتكم تنشدون بعضكم ككروم العنب، ثم تعودون حاملين عطر الأرض في طيات أثوابكم. ثم يختتم بقوله: “ولكن هذه تمنيات لم تحن ساعتها بعد. “يبدو أن الفكرة عششت في ذهن برهان منذ الصغر وحان وقتها الآن، فأنتج ولده الأخضر كنعان” ص27، 28؛ وإذا كان الأمر به غرابة، فإن الكاتب ومنذ البدء يؤكد هذا الأمر وفي الوقت نفسه لديه حلمٌ طموحٌ وكبيرٌ في تخطي الأزمنة والأمكنة، فهو يتحدث بطريقتين؛ الأولى التذكر والاستنتاج من قبل المخابرات وهذا الجهاز الذي صمم خصيصاً للتنصت على عباد الله، والثانية من ناحية المستقبل الذي يسعى إليه محملاً بكل الطاقات العلمية والثقافية، وكانت المقتبسة التي صدَّر بها العمل مع بعض الاقتباسات الأخرى طريقاً ممتداً بداخل العمل للتأكيد على ما انتواه وخاصة الإنسان الأخضر، وما يتعلق بهذا الأمر، من سعي للبحث عن بديل لذلك الإنسان الذي ملأ الدنيا ظلماً وقتلاً وتدميراً. فكان لزاماً على الكاتب أن يصدر لنا عمله بهذه المقولة وبعض المقولات الأخرى التي تؤكد على فكرته الداعية أولاً إلى التأمل في حال الأمة ثم اليقظة لما يحاك حولها وتحويل ذلك إلى طريق من طرق الاستنارة والبحث العلمي، وإعمال العقل. ومن ضمن الأقوال أيضاً ما قاله هرمان هيسه، حيث يقول: “إنَّ انهيار عالم عتيق وشيك بالفعل. إن شيئاً سيحدث على نطاق واسع. العالم يريد أن يجدد نفسه”. وهو الأمر الذي اتبعه الكاتب ليصل إلى الرجل الأخضر الذي يبحث عنه ليملأ هذا الكون حباً وأماناً، ويقصي تلك الصراعات والحروب جانباً، وهو ما سنراه خلال هذه المقاربة.

[1] شاكر عبدالحميد، الغرابة، المفهوم وتجلياته في الأدب، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يناير 2012 العدد 384 ص9.
[2] محمد حافظ دياب، الجولدمانية والتلقي العربي: جدل المتن والهامش في سوسيولوجيا الأدب، دار رؤية للنشر والتوزيع القاهرة 2009 ص9 المقدمة
[3]يوسف الإدريسي , عتبات النص, بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر, منشورات مقاربات, الطبعة الأولى, المغرب 2008 ص 55.
[4] د. عزوز علي إسماعيل، المعجم المفسِّر لعتبات النصوص، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2019 ص365



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2184554

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع النقد والأدب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2184554 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 3


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40