السبت 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

«الأرشيف» والتاريخ المحظور في الجزائر

سعيد خطيبي
السبت 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

كلما طرأ الحديث عن «الأرشيف» في الجزائر، يتبادر إلى الأذهان أرشيف ثورة التحرير (1954- 1962)، أو حقبة الوجود الفرنسي إجمالاً، كما لو أن البلد لا ذاكرة له قبل 1830، ولا بعد 1962.
«الأرشيف» هو واحد من الموضوعات التي تندر الدراسات عنها، في البلد، على الرغم من أهميته وضرورته في فهم ما سبق، في تحري حياة الناس وما جرى لهم. الأرشيف ليس مجرد وثيقة مكتوبة أو صورة، بل شاشة نتصفح فيها تاريخ أرض وناسها وحكاياتهم، وسلطتهم وخوفهم، وانتصاراتهم وضعفهم وهزائمهم. لكن في الجزائر لا يزال قضية حساسة، والسبب ليس أنه غير متاح أو محفوظ في خزائن من حديد وفولاذ، بل لأنه ـ ببساطة ـ غير متوفر، وتوالت عوامل وقرارات وأخطاء في الدوس عليه أو دفنه، وصارت الجزائر اليوم بلداً بلا أرشيف.
إذا أردنا البحث في أرشيف الجزائر، فلن تتجاوز أقدم المواد المُتاحة القرن الخامس عشر، خلال الفترة العثمانية، ولن نعثر على شيء عما قبلها، لن نجد وثيقة واحدة عن الحقب السابقة، مما قبل التاريخ إلى القرن الخامس عشر، لا عن النوميديين ولا الوندال ولا الدويلات المتأخرة، من رستميين أو أغالبة أو زيانيين أو غيرهم، ويضطر الباحثون في الغالب إلى الاعتماد على نصوص غير مكتملة، من رحلات أو رسائل على ندرتها، ومنذ 1830، توالت كتابات دوّنها بعض المثقفين الفرنسيين ولوحات فنانين، تلك هي مادتهم الوحيدة في البحث، مع مراسلات أو كتابات لشخصيات سياسية، وأخرى دبلوماسية. إن بداية التدوين الحقيقي للحياة في الجزائر، من جوانبها المختلفة، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، بدأت منذ وصول الفرنسيين، منذ لوحة دولاكروا «نسوة الجزائر في مخدعهن»، ويوميات أوجين فرومنتان، الذي طاف الصحراء والتل، إلى يوميات ألبير كامو وروايات إيمانويل روبلز، مع ما رافقهم من ظهور الصحافة، منتصف القرن التاسع عشر، مما يبرر أن الأرشيف مسألة «فرنسية»، لغة وتوثيقاً، ولا يمكن أن نفهم تاريخ البلد من دون إلمام بلغة المحتل القديم، لأن الجزائريين، آنذاك وقبلاً وبعداً، لم يهتموا بالتدوين ولم يورثوا مادة تفتح أعيننا عما حصل في أزمنتهم.
هناك اعتقاد يتجه نحو الجزم بأن الجزائر كانت تتوفر على أرشيف هائل، لكن العثمانيين استحوذوا عليه مثلما استحوذوا على ممتلكات لامادية أخرى من الجزائر، وقد ضاع ذلك الأرشيف منذ أن سلموا البلد للفرنسيين. وهو افتراض غير علمي، بحكم أنه لا يحدد طبيعة الأرشيف الذي ضاع، ولا مكوناته. وهناك من يعتقد أن الأرشيف انتقل إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط، بعد الاستقلال، وهو افتراض أيضأً لا يمت للواقع بصلة، بحكم أن الأرشيف الفرنسي مشاع، بل إنه صار، في السنوات الأخيرة، أرشيفا رقمياً، ويسهل على من شاء أن يطلع عليه. بالتالي، بعيداً عن العاطفة، وإحقاقاً للحق، لم تتوفر الجزائر تاريخياً على أرشيف قبل قرنها الخامس عشر، وما توفر بعد ذلك التاريخ ليس أكثر من جهود فردية، مما يضع كتابة التاريخ في البلد أمراً متعسراً، لا يخلو من الجدل ومن الصدامات، فكيف نثق في الماضي إذا كنا لا نملك أرشيفاً؟

هكذا يصر النظام على لعبته الأثيرة في محو الذاكرة كي ينبعث من جديد. يسمح للتاريخ الذي «يُمجده» بالتسرب في كتب مدرسية وفي مطبوعات دورية، ويمنع كل ما يكشف عورته، غير مبالٍ بما يصنعه الشعب، ويصنفه في باب: «التاريخ المحظور».

بُعيد الاستقلال، لم يكن الأرشيف من أولويات السلطة الجديدة حينذاك، بل كانت مهتمة بتصفية صراعات شخصية وأخرى عسكرية، والبلد كان يموج في خلافات احتدمت بين أحمد بن بلة ووزير الدفاع هواري بومدين، وانتهت بانقلاب أطلق عليه «تصحيح ثوري» (1965)، ورغم أن بومدين انفرد بالسلطة حينها فقد غض الطرف عن مسألة الأرشيف، إلى غاية 1971، أي تسع سنوات بعد الاستقلال، حيث تم استحداث «مؤسسة الوثائق الوطنية»، وللغرابة فقد أُلحقت برئاسة الحكومة، ثم تعددت تسميات هذه المؤسسة، وتنقلت بين وزارات مختلفة، من وزارة التوجيه، ثم وزارة التربية إلى وزارة الثقافة، فوزارة الداخلية، وصار اسمها اليوم «مركز الأرشيف الوطني». نشعر كلما دخلنا إلى واحد من فروعه الثلاثة (في الجزائر العاصمة، قسنطينة ووهران) أننا ندخل مستودعاً وليس مؤسسة يفترض أنها حافظة للذاكرة الوطنية. فقد اكتفت بتجميع الأرشيف المتاح منذ 1962، من دون أن تفسح لها التشريعات بالبحث واستعادة أرشيف أقدم، مع العلم أن كمية معتبرة من أرشيف الجزائر تُباع وتشترى في مزادات علنية، في فرنسا وغيرها كل سنة، من دون أن تهتم هذه المؤسسة باسترجاعه، هكذا تكاد تصير «مؤسسة قاصر»، لا سلطة لها ولا قانون يوسع من صلاحيتها، بل إنها لا تتوفر حتى على موقع إلكتروني، كما إن ما تحوزه لا يعدو أكثر من وثائق مكتوبة أو خرائط، ولا تعرض على الباحثين أرشيفاً سمعياً بصرياً. لقد تحولت إلى مؤسسة شكلية، ويصير على المهتمين البحث عن الأرشيف في مكان آخر.
قد نقبل جدلاً، أي فرضية تبرر ندرة أرشيف الجزائر قبل 1962، ونعوز الأمر إلى الظروف التي عاشها البلد، من احتلال إلى آخر، لكن كيف نفسر ندرة أرشيف ما بعد الاستقلال؟ ولا سيما أرشيف أحداث ووقائع حصلت بعد تأسيس مؤسسة الأرشيف الوطني؟ لن نعثر على أرشيف يربطنا بالماضي، ويمدنا بمادة مفيدة.
ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى انتفاضة 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988، التي مضى عليها واحدة وثلاثون سنة فقط، يشقى أي مؤرخ أو مختص في التوصل إلى أرشيف حقيقي حول مجريات ذلك التاريخ، الذي شهد أول هبة شعبية في الجزائر. كادت البلاد أن تحترق، وخرج الشباب من كل صوب، غضباً وثأراً من السلطة التي بالغت في فسادها وتعسفها، ظن البعض أنه قد نُفخ في الصور وقامت القيامة، مع ذلك، يغيب الأرشيف اليوم، كما لو أن شيئاً لم يحصل. أستأصل ذلك الحدث من الذاكرة وتناثرت كل المواد التي أرخت له في حينه.
هكذا يصر النظام على لعبته الأثيرة في محو الذاكرة كي ينبعث من جديد. يسمح للتاريخ الذي «يُمجده» بالتسرب في كتب مدرسية وفي مطبوعات دورية، ويمنع كل ما يكشف عورته، غير مبالٍ بما يصنعه الشعب، ويصنفه في باب: «التاريخ المحظور».

٭ كاتب من الجزائر



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 32 / 2184527

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2184527 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40