السبت 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

القدس.. الإرهاب أم طواحين الهواء؟

ابراهيم عبد المجيد*
السبت 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

كيف تفكر في ما مرّ على مصر من مفكرين وكتاب وتنظر حولك فلا ترى شيئا؟ ترى الكثير إلا القوة الناعمة. كنت أجلس مع مجموعة من الأصدقاء وأخذنا الحديث إلى كتابي الذي ترجمته أخيرا «رسائل من مصر» للأديبة الإنكليزية لوسي دوف جوردون، التي أصابها السل فأتت إلى مصر كمكان دافئ عام 1862، وبقيت فيها إلى عام 1869 عام وفاتها، وكانت ترسل رسائلها إلى زوجها وأمها عن مصر والمصريين، هي التي تحولت إلى أيقونة عشقها الجميع، إذ كانت تعالجهم بالأعشاب والتف حولها الكبار من الشيوخ والأعيان في بيت فرنسا، الذي عاشت فيه في الأقصر، وصار مزارا ثقافيا.
أخذنا الحديث إلى الحياة المصرية، وحين تحدثت معهم عن شيخ شاب اسمه يوسف أبو الحجاج كان إماما لمسجد أبي الحجاج في الأقصر، وعمره تسع وعشرون سنة يعلمها اللغة العربية، وكان حديثه عن المسيحية واليهودية وغيرها من الأديان مليئا بالفهم والتسامح، هو الذي لم يتعلم في الخارج، وكيف أن أحدا لا يعرفه، كما يعرف مثلا رفاعة الطهطاوي، فأخذنا الحديث إلى من مروا بهذه البلاد من قامات ثقافية عظيمة منذ رفاعة الطهطاوي إلى الآن، مفكرين وأدباء ومترجمين وفنانين. لماذا حقا لا نجد أثرا لذلك على الأرض؟ الإجابة سهلة وما أكثر ما تحدثت فيها ويمكن إجمالها أنه منذ السبعينيات فتح الرئيس السادات البلد على مصراعيها للفكر الوهابي المتخلف رسميا. وعمليا كانت موجات الهجرة إلى السعودية تعني عودة الفقراء بهذا الفكر وأصبح هو الأرض الحقيقية، فقد امتلك أجهزة الدولة والحياة على الأرض. على الأرض صارت «العقيقة والكبسة» بدلا من احتفالات «السبوع» المصرية القديمة للمولود، وفي أعلي الفضاء صارت الطاعة واجبة للحاكم والخروج عليه إفك من عمل الشيطان. يعني من الميلاد للموت!
أخذنا الحديث مع أصدقائي إلى قامات عظيمة في الفلسفة ظلت محصورة بين المثقفين والقراء مثل محمد عبد الهادي أبو ريدة وعثمان أمين وعبد الرحمن بدوي وعلي سامي النشار وتوفيق الطويل وإمام عبد الفتاح إمام وعبد الغفار مكاوي ويوسف كرم وعبد الوهاب المسيري، وغيرهم عشرات من أساتذة الجامعات الذين أعادوا قراءة حياتنا وماضينا العربي والفرعوني واليوناني والروماني، وما تشاء وكل العصور التي مرت على مصر، وجعلوا العالم الخارجي في أيدينا بمفكريه وكتابه. وكدت أبكي حين وقفت أمامي كل هذه الأسماء شامخة تنظر لي وكأنها تسألني ما الذي جرى يا إبراهيم؟ هؤلاء وغيرهم عشرات تفرغت لقراءتهم أيام الشباب. لن يصدق أحد أنني يوما ما خصصت عاما كاملا لقراءة موضوع أو مجال واحد، عاما أقرأ فيه الفلسفة القديمة والحديثة، وعاما أقرأ فيه التراث الفرعوني أو المصري القديم، وعاما أقرأ فيه التراث الشعبي، وعاما أقرأ فيه النقد الأدبي. كنت أبني بيتي أو بمعنى أدق أبني نفسي، وشغلني هذا البناء عن الشعور بالأسف لما يحدث من انهيارات، فكنت مع غيري ضد كل هذه السياسات التي جعلت من مصر قبيلة عابرة في صحراء، لا نهاية لها أقصى غايتها أن تجد ضبًا تأكله.
تذكرت قصائد شعر عظيمة مثل «الأرض الخراب» لـ» ت. س. اليوت»، ومثل «في انتظار البرابرة» لكفافيس، ونشيد المدرسة ونحن في المرحلة الابتدائية زمان «مصر التي في خاطري وفي فمي. أحبها من كل ورحي ودمي». ولم يكن ممكنا إلا أن تستمر الجلسة، يعلوها الأسف لأن كل من تذكرناهم لم يصلوا إلى طلاب التعليم الأساسي في كتب الوزارة، ولم يصلوا إلى وزارة الثقافة إلا في بعض مشروعات الطباعة، ولم يصلوا إلى وزارة التعليم العالي، إلا في دراسات عليا للماجستير أو الدكتوراه، لكن لم يطلق اسم واحد منهم على شارع أو مدرسة، ولا قاعة محاضرات في الجامعات، إلا في ما ندر، رغم أن مصر متسعة للغاية بالأبنية العلمية والثقافية والبحثية، وطبعا لا أسم لهم على محطات المترو التي تمتلئ بأسماء الحكام المعاصرين والعسكريين، وصرت أفكر هل نحن في حرب فعلا.

دولة كانت مطمعا للعالم لموقعها الاستراتيجي في منتصف الدنيا، لكن الآن انتهى هذا الكلام، فالدنيا كلها مع أي شخص يحمل «موبايل» صغير في يده والدول الكبري ليست في حاجة إلى غزو مصر بجيوشها.

هي حرب مع الهواء وأكاد اقسم بالله على ذلك. يوما ما كانت السياسة الناصرية ودعوة القومية العربية وراء الانتباه للقضية الفلسطينية، ووجود إسرائيل ومشروعها القائم على الأساطير من النيل إلى الفرات. والآن العلاقة مع إسرائيل «زي الفل» ولا حرب تحدث ولا مناوشات بيننا وبينها، ولا حرب ستقوم بيننا وبينها. لم يعد لمصر عدو واضح غير الإرهاب، الذي يمكن القضاء عليه إذا اتسعت مساحة الحريات والعدالة وصارت تليق بدولة عرفت يوما طريق الليبرالية، وقطعت فيه مسافة كبيرة حتى حدث انقلاب يوليو/تموز 1952.
دولة كانت مطمعا للعالم لموقعها الاستراتيجي في منتصف الدنيا، لكن الآن انتهى هذا الكلام، فالدنيا كلها مع أي شخص يحمل «موبايل» صغير في يده والدول الكبري ليست في حاجة إلى غزو مصر بجيوشها. لا حروب عسكرية في الأفق. هناك حروب أخري مؤكدة في الاقتصاد مثلا، لكننا نخضع لشروط البنك الدولي مدمر الأمم، ثم هل ما يحدث في مصر من ردم للبحيرات العظمى والترع والموافقة على سد النهضة، الذي ستكون سنوات امتلائه بالماء خلفها سنوات تصحر في مصر. هل ما يجري ويجري من اعتداء على الأراضي الزراعية، والهجوم على المدن بالعشوائيات، وتحطيم أبنيتها التراثية، يتم بأيدي محتل متوحش لا نراه؟ والله تحت حكم المحتل البريطاني كانت مصر أم الدنيا مفتوحة لكل الموهوبين والمضطهدين في الأرض ليبنوا فيها وعليها ثقافة وأدبا وفكرا وعمارة وصناعة وزراعة، وما تشاء ومشت بينهم جماعات من المصريين نحو تحقيق وتطوير هذا كله. هل وقف المحتل البريطاني ضد مشروعات طلعت حرب الصناعية والسينمائية مثلا، من الذي باع مصانعنا وتسبب في هلاكها. ألم يكن الحكام المصريون ومن لف معهم، لم يعد لنا عدو قديم ولا جديد، وكل هذا الخراب بدأ قبل ظهور الإرهاب بالمناسبة واستمر. هل الإرهاب هو سبب أفكار المقاولين التي تتحكم في البلاد بالتعاون مع الأجهزة الرسمية وتطمس كل جميل من أجل المال السريع. يعني هل أي حاكم مدينة يقوم بسب الإرهاب، بإعطاء الحق لمقاول في إخفاء الشواطئ والبناء عليها؟ هل الإرهاب هو سبب خطط بناء مدن جديدة ستسكن فيها طبقة واحدة قادرة، لا تشغل أكثر 15٪ من الشعب؟ هل الإرهاب هو سبب تعطيل التابلت في الامتحانات المدرسية و»دَرْبكة « حياة الأسر والطلاب؟ أستطيع أن أضرب مئات الأمثلة على الأرض الخراب لا علاقة لها أبدا بالإرهاب. وبالمرة هل الإرهاب هو سبب عدم وجود درس واحد في التعليم عن الأدباء المعاصرين، أعني في التعليم العام؟ هل هو سبب هذه الحياة التي ينجح فيها كل من لديه فكرة عن الانقضاض على الجمال في الأرض والسماء، أعني مادة وروحا، الحرب مع الإرهاب هو عمل الدولة، أي دولة لكن حين يكون سببا تقوله لنا الدولة لكل ما جرى من ضياع للجَمال يصبح مثل دعوة لنا للحرب مع طواحين الهواء، جبارة ومذهلة حقا لكن لا تنتج شيئا.

٭ روائي من مصر



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2184601

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184601 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40