السبت 7 أيلول (سبتمبر) 2019

«فضاء ضيق»:الدلالة والبناء السردي

السبت 7 أيلول (سبتمبر) 2019

- محمد سمير رجب

في كتابه «الروائي الساذج والحساس» يفرق الكاتب التركي أورهان باموق بين شكلين من الروائيين: الساذج وهو الروائي الذي يكتب بشكل فطري بدون معرفة تامة بأدوات وتقنيات الكتابة الأدبية، لكنه مع ذلك قد يكتب كتابة جيدة ومقبولة.. والكاتب الحساس الذي يعي تماما هدف وغاية كل خطوة في عمله وإلى ما ترمي، بحيث يثير داخل القارئ – بقصد تام- الحد الأقصى من المتعة والتوريط. وتنتمي رواية «فضاء ضيق» لعلي لفتة سعيد إلى الشكل الأخير الذي قصده باموق، خاصة وقد جعل سعيد من المشاهد، الحوارات، وأسماء الأبطال؛ سلسلة متتالية من الدلالات يصعب فصلها، ومن ثم توظيفها داخل سرد العمل ككل.

الدلالات

تبدأ متوالية الدلالات بداية من غلاف الرواية وعنوانها «فضاء ضيق»؛ كلمتان ذات دلالتين متعاكستين تشيران إلى التناقضات التي يقع فيها العراق، بل يمكن سحب الدلالة لتعبر بيسر تام عن الواقع العربي كله. فضاء شاسع جغرافي، وتاريخي لكنه ضيق رغم ذلك، فضاء من الصيرورة ممتد إلى بدايات العالم، حيث بابل وسومر، البدايات الحقيقية للحضارة كما يتصوّرها المؤرخون، حيث ملحمة «جلجامش» أقدم النصوص الأدبية في التاريخ، التي يجعل منها الكاتب افتتاحية لعمله، يكمن التناقض في أن شعب هذا الامتداد يعيش الآن في ضيق واختناق، ضيق فكري وعقائدي وسياسي واقتصادي، لكن الضيق الأهم بالنسبة للكاتب هو الضيق الفكري، الذي يدل عليه الغلاف، حيث يجلس شخص بدون رأس يخرج من مكان رأسه عمود دخان هو رمز الضياع والخراب.

الهوية المفقودة

تتحدث الرواية عن «محسن» الروائي الذي لا يكف عن البحث عن امرأة تدعى «سلوى». في غيابها يتذكرها «محسن» في كل ما يحيط به. «سلوى» هي الرمز الدال على العراق المفقود تحت وطأة الحروب. يدعم سعيد هذه الدلالة حين يشير إلى زوجها الذي فقد نصفه السفلي في انفجار من الانفجارات التي لا تكف في العراق، نصفه السفلي الذي يدل على فقدانه لذكورته وفحولته، بل هويته كذلك، وكأنه بهذا يقر بأن «سلوى» أو العراق يفتقر إلى النموذج البطل. تتحول «سلوى» إلى رمز أسطوري يربط الحاضر بالماضي، يكشف المفارقات التي تغوص فيها بلاد الرافدين. هي حاضرة في وعي البطل لكنها دائما – على الأقل في «فضاء ضيق» ـ غائبة، يسبب غيابها شكلّا من أشكال عدم التوازن لمحسن، فهو حائر بين اليمين واليسار، يؤمن بالإله لكنه متشكّك دائما حتى إنه يطلق على نفسه لقب «المقندس»، كحالة وسط بين المقدس والمدنس، إن في غياب «سلوى» غياب تام لهوية «محسن».

الفضاء السردي في العمل لا يقتصر على المكان فقط، بل هو المخزون التراثي والحضاري والإنساني. هو مرآة للواقع العراقي، وهو الأصل الذي تنبثق عنه شخوص الرواية.

البداية والنهاية

لعل بداية العمل الروائي ونهايته هما أهم نقطتين يجب أن يستحوذا على فكر الكاتب أثناء معالجته لعمله، فالرواية تبدأ برسم لوحة دقيقة عن حالة الانتخابات السياسية التي تجري في البلاد، حيث الأعلام واللافتات والشعارات الفارغة تسد أفق الناظر. الأحزاب تتصارع في ما بينها لا على حمل المسؤولية، ولكن على الوصول للكرسي. إنهم يتناحرون من أجل مصالحهم الخاصة لا مصلحة بلدهم، يتزامن ذلك مع موجة الحر الشديدة ودخان السيارات ومولدات الكهرباء، التي تشعرك باختناق تام «كنت قد سمعت وناقشت وجادلت إن صيف هذا العام سيكون شديد الحرارة ومزعجا حتى سياسيا، وهذه بوادر سخونته التي جعلت من الأيادي تسارع لمسح العرق من الوجوه وتحت الآباط، والمنبجس من مسامات أخرى جعلت البعض يفتح ساقيه ليزيل حكة بدأت في المناطق الحساسة». أما النهاية فهي نتيجة حتمية للمعطيات التي قدمها المؤلف خلال عمله، حيث تنتهي الرواية بحادثة اغتيال «علاء» صديق «محسن»، المفكّر اليساري الذي لا تلقى أفكاره ترحيبا وسط الجماعات الأصولية، بـ»13 رصاصة اخترقت جسده ودراجته الهوائية على صدره». هذه هي نهاية «علاء» والرواية كذلك. وحين نتأمل ما بدأ به وانتهى إليه نجد هذا البناء الدائري للعمل، هذه الدوامة التي لا تنتهي. إخفاق سياسي واغتيال. فكأن الرواية بلا نهاية تقريبا، نهاية مفتوحة تصلح لبدايات أخرى. هذا البناء يجعلنا في حيرة وارتباك، متى نخرج من هذه الدائرة؟

الراوي

يستخدم «سعيد» شكلين من أشكال الرواة داخل عمله.. الراوي العليم والراوي بضمير المخاطب، لكنه يقدم شكلا ملتبسا من الروي في بداية العمل، إنه الروي بضمير المخاطب، لكن حركة الكلام والسرد تشعرك بأنه يتحدث إليك أنت كقارئ، فيقول في مفتتح الرواية «كنت تمشي وحدك.. يصاحبك تفكير عميق زاد من سخونة جسدك ورأسك وأفكارك.. تمد يدك لتمسح العرق المتصبب من أعلى رقبتك حتى منتصف صدرك بمنديل رخيص أخضر اللون». هذه اللعبة استخدمها المؤلف لتوريط القارئ داخل عمله، ليجعله يلمس عالمه المتخيل ويتأثر به ويحيا أجواءه. إنها تكسر حياد عالمه الروائي وتجعلك منحازا تجاهه، معه أو ضده، لكنك محبوس فيه. بعد توريطنا يترك سعيد هذه الحيلة وينتقل إلى راوٍ عليمٍ يسرد الحركة من الخارج، ثم يعود مرة أخرى إلى طريقته الأولى في السرد، ليظهر لنا أن الراوي مرّة أخرى بضمير المخاطب، لكن حركة الكلام موجهة ناحية «محسن». الراوي هنا هو محسن، أو ذات محسن مخاطبة محسن، هذه الحيلة تجعلنا نشعر بالمفارقة مرة أخرى، نستشعر الازدواجية التي يعيش فيها بين اليمين واليسار «ألح عليك بالانتباه إلى عمرك الذي قارب الأربعين، وتذكر حين تعرفت على سلوى كان عمرك سبعة وعشرين عاما وترفض أن تكتبه ربيعا، عام واحد معها في كل ليلة حتى انقلب عليك العشق إلى محرقة، لذا فأنت حتى الآن تبحث عن مغفرة لا تنفعك بشيء، فلست من المؤمنين بحتمية الاستغفار، ولست من الكافرين بالدين. أنت رجل واقعي تؤمن بما جاء به الله، ولكنك لا تؤمن بما جاء به البشر». وما بين الراوي العليم والراوي المخاطب ينشأ مستويان من الزمان والإيقاع داخل العمل. فالراوي العليم يحكي عن الزمان الواقعي الخارجي بإيقاع سريع. والراوي المخاطب يحكي عن زمان محسن الداخلي، الزمان السيكولوجي، بإيقاع هادئ بطيء. هذا التنوع في المنظور ينفي النظرة الأحادية ويؤكد حالة الحيرة التي يعيشها البطل.

الفضاء السردي

الفضاء السردي في العمل لا يقتصر على المكان فقط، بل هو المخزون التراثي والحضاري والإنساني. هو مرآة للواقع العراقي، وهو الأصل الذي تنبثق عنه شخوص الرواية. تفاصيل صغيرة مبعثرة، من خلالها تم تفعيل المكان الذي تدور فيه الأحداث والشخصيات. مثل «النافورة المعطلة»، «المبرد الصدئ»، «الكراسي الخشبية المتكسرة»، و»إعلانات الانتخابات التي تسد الأفق». كلها مكونات حية تعكس أكثر مما تتحدث عنه، كلها تشير إلى الخراب والدمار الذي لحق بالأرض والناس والأخلاق، إنه واقع متهدّم ينتج شخوصا متهدمة مأزومة مختنقة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 4150 / 2184609

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع النقد والأدب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2184609 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40