السبت 31 آب (أغسطس) 2019

مثقف غرامشي: بين الجابري والعروي

السبت 31 آب (أغسطس) 2019

حين كان غرامشي يُنَظِّر للطبقة العاملة، في صراعها المحتدم مع الرأسمالية، لم يكن ليغيب عنه مفكر إيطالي آخر في الجهة المقابلة.. إنه كروتشيه. لقد شكل هذا الفيلسوف رأس القيادة الثقافية العليا للبورجوازية الليبرالية. وعلى الرغم من صفته تلك، فإن هذا الفيلسوف لم يخرج عن إطار المثقف التقليدي، باعتبار نزعته الفلسفية المثالية. وللإشارة، فإن مثالية كروتشيه شكلت حركة ثقافية، تميز بها الجنوب الإيطالي الفلاحي، في مقابل الحركات الثقافية الوضعية والمستقبلية، التي تميز بها الشمال، بإضافة هذه الإشارة، ينضاف بعد آخر من أبعاد المثقف التقليدي. هكذا، كان ينتج الجنوب المثقف التقليدي، نظرا لسيادة نمط الإنتاج الفلاحي فيه من جهة، معززا بسيادة النزعة الفلسفية المثالية من جهة ثانية، بينما ينتج الشمال المصنع، ذو النزعة الوضعية المثقف العضوي.
إن التقابل بين غرامشي وكروتشيه، سيتم استدعاؤه من قبل المفكر عابد الجابري، أثناء قراءته لكتاب عبد الله العروي «العرب والفكر التاريخي». وإن كان المفكران المغربيان لا يخفيان تقديرهما لفكر غرامشي، إلا أن أحدهما يؤاخذ الثاني، في حدود تمثيل حقيقة الفكر الماركسي لغرامشي، ذاهبا إلى أن صاحبه يصدر عن نزعة كروتشية – مثالية. وتتعدد الملاحظات التي يقدمها الجابري، في نقده الشديد للعروي، حيث يمكن تلخيصها في النقاط البارزة التالية:
– المقارنة غير المشروعة: وهي مقارنة فكر بفكر، أو مقابلة كيفية بكيفية أخرى، بدون النظر إلى أن لكل كيفية/ فكر كما، أي اقتصاد ومعطيات اجتماعية خاصة.
– المفهوم اللاماركسي للتاريخ: ويتمثل في اعتبار العروي، تبعا للجابري، منطق التاريخ مُباطنا للتاريخ نفسه، أي باعتباره تاريخا كليا، صوريا ومجردا.
– المفهوم البورجوازي للنخبة: تأخُّر المجتمع، إضافة إلى نقص حدود التأثير فيه، يساهمان في ازدياد الحاجة إلى جماعة مستقلة منفصلة، تكون بمثابة عين نور تشع على المجتمع ككل. وحسب هذا الفهم، ليست هناك من حاجة للحديث عما يعنيه غرامشي بالطليعة الفكرية، تلك الطليعة المناضلة، المرتبطة بالجماهير.. لا نخبة أبحاث ودراسات.
– الدعوة إلى الفصل بين الثقافة والسياسة: وتتجسد هذه الدعوة في أن مهمة المثقفين العرب، تكمن في السيطرة الثقافية على حساب السيطرة السياسية، بما يخدم ما سماه الجابري ماركسية التفسير والتحليل لا ماركسية التغيير.
من تلك الملاحظات، ومن غيرها، يبدو المدى الذي يريد الجابري أن يقحم فيه العروي. إن الأمر يتعلق بشبهة «المثالية»، التي يلصقها الأول بالثاني، بحكم زعم الجابري أن العروي يقترب كثيرا من كروتشيه (الفيلسوف الإيطالي، المثالي، الروحي)، خصوصا حين يرجع أهمية النظرية الماركسية، فقط، إلى كشفها عن عدد من قوانين التأويل التي تخصب البحث التاريخي. وبقدر اقتراب العروي من كروتشيه، حسب الجابري، يبتعد عن غرامشي الذي يرى أن الماركسية هي منهجية كتابة التاريخ في جانبها النظري، وهي منهجية المبادرة التاريخية في جانبها العملي. هكذا، ينتهي الجابري، في ملاحظاته، إلى أن «تاريخانية العروي ليست ماركسية بالمرة»، وفي موضع آخر يصفها بكونها أفلاطونية جديدة معاصرة.
بناء على ما سبق، هل يحق أن نستنتج أن المثقف التقليدي يسكن العروي، بفعل نزعته المثالية التي أسرف صديقــه الجابري في سوق الأمثلة والأدلة عليها؟ وفي المقابل، هل يحق أن نعتبر الجابري نموذج المثقف العضوي، نظريا وممارسة، تماما مثلما جسد ذلك أنطونيو غرامشي، مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي؟

٭

عبد الدين حمروش

عبد الدين حمروش: كاتب مغربي



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 37 / 2184632

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2184632 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40