الجمعة 23 آب (أغسطس) 2019

الفلسطينيون في الأصل والفصل

الجمعة 23 آب (أغسطس) 2019 par أحمد الدبش

1
جرَّدت الدراسات التوراتية لفظ «فلسطين» من أيّ معنى كامن فيه، ولم يعد من الممكن فَهْمه، إلا إذا أُعيد تعريفه من خلال لفظ ديني أو لاهوتي آخر، كاللفظ المستعمل للدلالة على «الأرض المقدَّسة» أو «أرض إسرائيل». ولكن ما يلفت النظر أكثر من ذلك، أنه في حين أن لفظ «فلسطين» قد يكون مستعملاً، بشكل واسع، على الرغم من تجريده من أيّ معنى لذاته. فإن لفظ «فلسطينيون» باعتبارهم سكان هذه الأرض، هو استعمال نادر للغاية في الدراسات التوراتية، فإن كانت هناك أرض تُدعى فلسطين، فلماذا لا يمكن تسمية مواطنيها بالفلسطينيين؟

تتناول هذه المقالة، في جزئها الأول، الوجود الإنساني في فلسطين منذ أقدم العصور إلى الإنسان الناطوفي. أمّا الجزء الثاني، الذي سننشره لاحقاً، فسيضيء بصورة مفصّلة على سكان فلسطين في العصور البرونزية والحديدية، فضلاً عن تفكيك الدراسة الجينية «المجتزأة»، التي صدرت حديثاً، وصولاً إلى الإجابة من هم الفلسطينيون؟ Retour ligne automatique
حتى وقت قريب، كان الاعتقاد السائد أن أقدم بقايا الإنسان العظمية في فلسطين تعود لإنسان من نوع نياندرتال، وهي التي وُجدت في كهوف جبل الكرمل مثل مغارة الطابون ومغارة السخول في فلسطين، ولكن المسوحات الأثرية والحفريات التي جرت في عدة مواقع في فلسطين أبانت أن «الإنسان وجد في فلسطين منذ أقدم العصور، وأنه عاصر أقدم النماذج البشرية».

الهومواركتوس في فلسطينRetour ligne automatique
يري د. زيدان كفافي، أن دلائل وجود الإنسان في بلاد الشام عموماً، وفلسطين خصوصاً، تعود إلى حوالى مليون ونصف مليون عام. ويشير د. سلطان محيسن، إلى أن أقدم آثار الإنسان في بلاد الشام ــــ وبالطبع فلسطين ــــ تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى، الذي بدأ هنا منذ حوالى مليون سنة، واستمر حتى حوالى مئة ألف سنة خلت، وهذا العصر يرادف ما يسمى في أوروبا بالحضارة الآشولية، ذات الانتشار العالمي الواسع والتي اشتهرت بتصنيع الفؤوس اليدوية بخاصة، لقد سكنت منذ بداية هذا العصر بعض مناطق سوريا، ولبنان، وفلسطين، من قبل إنسان الهومواركتوس.Retour ligne automatique
فقد دلت المخلفات الأثرية للإنسان منتصب القامة في فلسطين، أنه عاش فضلاً عن موقع العُبيدية، فقد وُجدت آثارة في جسر بنات يعقوب، وعلى مقربة من بحيرة الحوالة، وفي وادي قطفة في الجنوب، وفي مغارة الطابون في جبل الكرمل، وغيرها على الساحل. فقد عثر حديثاً على عظام فخذ لإنسان الهومواركتوس ﻓﻲ موقع جسر بنات يعقوب. يتراوح عمرها بين 600.000 ــــ 100.000 سنة خلت، بالإضافة إلى بقايا أخشاب متحجرة وأدوات خشبية هي الأهم من نوعها ﻓﻲ المنطقة والعالم حتى الآن. والسؤال هنا: كيف وصل الهومواركتوس إلى فلسطين؟Retour ligne automatique
ويدل انتشار المواقع، وتتابعها الزمني، على أن الهومواركتوس، سلك في طريقه إلى بلاد الشام خطين اثنين، يشكلان ممرات طبيعية بين أفريقيا وآسيا، الأول ساحلي، أي على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسط، والخط الثاني داخلي على طول الانهدام السوري الأفريقي أو الأخدود الأفريقي العظيم الممتد من جنوب وشرق أفريقيا، مروراً بالبحر الأحمر فوادي الليطاني، وحتى نهر العاصي في سوريا شمالاً.

الإنسان النياندرتالي الفلسطينيRetour ligne automatique
في مطلع العصر المطير الرابع والأخير، المُعَاصِر للعصر الجليدي الأخير؛ فيرم في أوروبا؛ دخلت مجتمعات ما قبل التاريخ مرحلة جديدة؛ تُؤرَّخ بين حوالى (100.00 ــــ 35.000 سنة خلت، يُطلق عليها اسم العصر الحجري الأوسط أو الباليوليت الأوسط. في هذه المرحلة، ظهر نوع جديد من البشر هو «إنسان النياندرتال» حاملاً معه حضارة جديدة ــــ وهي الحضارة الموستيرية، أو اللفلوزاية ــــ الموستيرية، كما أَطلق عليها البعض في بلاد الشام.Retour ligne automatique
لقد اختفى الموازييك الحضاري؛ الذي ساد في العصر السابق؛ وتوارى «الهومواركتوس»؛ تاركاً المسرح لخَلَفِهِ «النياندرتال»؛ ووُجِدَتْ أولى متحجِّراته في جبل طارق بإسبانيا، في سنة 1848، وكانت تلك المتحجِّرات هي عظام جمجمة امرأة؛ ولم تُنشر المعلومات المفصَّلة عن تلك الجمجمة؛ إلا بعدما عُثِرَ في سنة 1856 على جمجمة أخرى؛ وعلى هيكل عظمي كامل لإنسان؛ في أحد كهوف وادي نياندر، بالقرب من مدينة دوزلدورف، بشمال ألمانيا. ولذلك سُمِّيَ إنسان نياندرتال.Retour ligne automatique
عُثِرَ في فلسطين، على هياكل بشرية من نوع نياندرتال في جبل الكرمل ما بين عامي 1924ــــ 1929 وذلك في كهفين: كهف الطابون وكهف السخول، وكان ذلك تحت إشراف د. دورثي غارود. ولقد دَرَسَ هذه الهياكل ماك كاون وكيث في عام 1939، كما تناولها زوينر من ناحية تقدير عمرها في عام 1959. ويرى زوينر أن هياكل الطابون ترجع إلى فترة غير جليدية، بينما هياكل السخول ترجع إلى أوائل الفترة الجليدية الأخيرة (فيرم 1).

النياندرتال تحوَّل في فلسطين ــ بشكل تدريجي ــ نحو الإنسان العاقل

لقد اتَّضَحَ أن جماجم الطابون أقلّ غلظة من جماجم نياندرتال أوروبا، ولكنها مثلها، تفتقر إلى الذقن، وذات حوافّ عظيمة بارزة فوق العينين. ولو اقتصر الأمر على هذه الجماجم لاكتُفِيَ بوضعها في نطاق نوع النياندرتال. إلا أن بعض جماجم السخول أقرب شبهاً إلى الإنسان الحديث؛ فهي ذات جبهة واضحة؛ وإنْ كانت عظام الحاجبين فوق العينين لا تزال غليظة، إلا أنها مُقسَّمة في الوسط كما نرى في الإنسان الحديث فهي ــــ إذاً ــــ لا تختلف كثيراً عن عظام الحاجبين لدى الأوروبيين الحديثين، أو الأوستراليين الأصليين. يضاف إلى هذا، أن مؤخِّرَة الجمجمة مستديرة؛ وليست مُدبَّبة؛ وهي ــــ في هذه الصفة ــــ شبيهة جداً بجمجمة الإنسان الحديث؛ كما أن للجمجمة عظمة ذقن، لا شكّ فيها؛ وعظام الوجه دقيقة؛ وليست غليظة. والذي يلفت النظر؛ بشكل خاص؛ من بعض هياكل جبل الكرمل؛ أنها تُظهِر بعض الصفات التشريحية للإنسان الحديث.Retour ligne automatique
تُشير نتائج الأبحاث الحديثة جداً، إلى وجود محتمل للإنسان العاقل، في فلسطين؛ منذ حوالى 100.000 سنة خلت؛ كما دلَّت على ذلك هياكلهُ، في جبل قفزة نفسهُ؛ وإذا علمنا بأن هياكل جديدة نياندرتالية، من مغارة الكبارا في فلسطين، أَرَّخَتْ لنحو 60.000 سنة، أدركنا أنه يمكن طرح نظرية جديدة تقول بأن الإنسان العاقل وُجِدَ، في بلادنا فلسطين قبل النياندرتال بزمن طويل ولم يكن متطوِّراً عنه وأن هذا النياندرتال ــــ ربما ــــ أتى من أوروبا أو غيرها، ولكنْ لا بد من المعلومات، حتى نُصبح أقرب إلى الحقيقة.

هل الإنسان العاقل أصله فلسطيني؟!Retour ligne automatique
إن كل المعطيات المتوفِّرة لدينا حتى الآن تدلّ على أن الإنسان العاقل كان النوع الإنساني الرابع والأخير في عصور ما قبل التاريخ، حيث ظهر هذا الإنسان، منذ حوالى 40 ألف سنة؛ أي في العصر الحجري القديم الأعلى (الباليوليت الأعلى). ولكنْ يذهب الباحث فرنسيس أور، إلى أن ظهوره لا يتوافق تماماً مع الباليوليت الأعلى لأنه وجد قبل ذلك بقليل في موقع قفزة في فلسطين. اعتَقَدَ العلماء طويلاً وحتى الخمسينيات من هذا القرن بأن الإنسان الحديث (Homo Sapiens)، كان من أصل أوروبي، فبعدما وُلِدَ ونشأ في كرومانيون (Cro-Magnon)، انتشر في قارتَي آسيا وأفريقيا.Retour ligne automatique
قد بتنا، منذ السبعينيات، نعلم علم اليقين بأن أسلافنا المباشرين (الأوروبيين) وُجِدُوا في الشرق الأوسط، قبل ذلك بنحو 60 ألف عام. وعلى ذلك، فإن ثقافتهم كانت مشابهة ــــ إلى حدّ كبير ــــ لثقافة إنسان نياندرتال (Neandertal)، وهو نوع بشري جدّ مختلف عن النوع الأوروبي. لقد أدّت الاكتشافات المتزايدة، منذ مطلع القرن العشرين، إلى تبايُن الآراء حول إنسان النياندرتال، ففي حين يعتقد بعضهم بأنه قد تطوَّر نحو الإنسان العاقل الحالي، يقول آخرون بانقراضه دون خلف ويعتبرونه فرعاً جانبياً على هامش العملية التطوُّرية.Retour ligne automatique
يعتمد أنصار تطوُّر النياندرتال، على المكتشفات التي أتت من فلسطين؛ حيث وُجِدَتْ في الكثير من المَغاوِرْ ــــ مثل مغارة السخول، والأميرة، والطابون، والزطية في جبل الكرمل، ومغارة جبل قفزة قرب الناصرة، ومغارة العمود بجوار بحيرة طبرية ــــ عِدَّة هياكل عظمِية بشرية؛ لها صفات فيزيولوجية مشتركة مع الإنسان العاقل مثل حجم الدماغ الكبير وهي حوالى 1500 سم3 والقامة الطويلة (170 ــــ 180سم)، بالإضافة إلى الذقن البارزة، وكلها صفات متطوِّرة حملها الإنسان العاقل. ولقد رافقت تلك الهياكل أدوات حجرية؛ بينها نصال متطوِّرة، أيضاً؛ استخدمها الإنسان العاقل بكثافة، في ما بعد.

مكّن اعتدال الجو الناس من الوصول إلى بعض أسباب التقدم

كل ذلك يشير إلى أن النياندرتال تحوَّل في فلسطين ــــ بشكل تدريجي ــــ نحو الإنسان العاقل. ومن جهة أخرى، فإن أنصار نظرية انقراض النياندرتال، يستندون إلى معطيات أتت من غرب أوروبا؛ من بعض المواقع في فرنسا (فونتوبشوفاد) وألمانيا (شتاين هايم) وإنكلترا (سوانسكومب) التي وُجِدَتْ فيها هياكل عظمية، لا تحمل صفات مشتركة بين النياندرتال والإنسان العاقل؛ ما دَفَعَ إلى الاعتقاد بأن النياندرتال لم يكن السلف المباشر للإنسان العاقل؛ وإلا حمل هذا الأخير صفاته، حسب رأيهم، وأن هذا السلف كان الهومواركتوس؛ مستدلّين بانتقال صفات هذا الإنسان إلى الإنسان العاقل؛ كما ظهر في عِدَّة مناطق من أوروبا، وأفريقيا. هكذا الإنسان العاقل قد تطوَّر من الهومواركتوس ــــ حسب أنصار نظرية انقراض النياندرتال ــــ دون أن يمرّ بمرحلة النياندرتال من الأساس؛ حيث يكون كل من النياندرتال، والإنسان العاقل فرعين مستقلّين من حيث التطوُّر؛ حيث ذهب الأول إلى الانقراض، وجاء الثاني كتطوُّر للهومواركتوس، وليس من الفرع الأول (النياندرتال)؛ حيث تابَعَ الفرع الثاني (الإنسان العاقل) طريقهُ التطوري. والواقع أننا لا نزال بعيدين عن البتّ النهائي في هذا الموضوع؛ ولا سيما أن المُكتشَفَات قليلة، والتفسيرات النظرية أكثر ممّا يَحتمِل واقع تلك المكتشفات لأننا إذا قَبِلنا بنظرية انقراض النياندرتال فليس لدينا دليل قاطع على السبب. هل هو تغيُّر مُناخي مُدَمِّر، وكوارث طبيعية أم وباء شامل أطاح هذا الإنسان أم مذابح جماعية، نفّذها العاقل، أدّت إلى مسح إنسان النياندرتال، المُسالِم في طبيعته عن الوجود؛ كما يقولُ بعضهم.Retour ligne automatique
فيما يَصعُب قبول هذا الافتراض الأخير، لسبب بسيط؛ وهو أننا لم نعثُر ــــ حتى الآن ــــ على آثار مثل تلك المذابح/ بل إننا لم نجد أيَّة هياكل عظمية نياندرتالية قُتِلَ أصحابها بأدوات الإنسان العاقل.Retour ligne automatique
في ضوء ذلك كله، يمكن أن نَفترِض أن كلاً من إنسان النياندرتال والإنسان العاقل؛ كانا وثِيقَي الصلة بعضهما ببعض؛ وربما تعايشا معاً، لزمنٍ قصير؛ أو طويل؛ قبل أن يسود النوع الأكثر تكيُّفاً؛ والأفضل؛ وهو الإنسان العاقل. ومهما يكن؛ فلا بد لنا، أيضاً، من قبول الحقيقة الراهنة، على الأقل، وهي أن النياندرتال الفلسطيني هو الذي تطوَّر وحدَهُ فيزيولوجياً وحضارياً نحو الإنسان العاقل جَدّنا المباشر وصانع الحضارة الإنسانية، بمفهومها الشامل، وأما مصير النياندرتال الأوروبي فكان الانقراض. ولكنْ؛ للأسف هناك مَن يرفض قبول هذه الحقيقة؛ مثل بعض الباحثين الغربيين، وبخاصة الألمان، حيث يصعُب عليه أن يكون أصلهُ من المشرق العربي؛ مدفوعاً باعتبارات عنصرية، لا تمتّ إلى جوهر البحث العلمي النزيه، بصلة.Retour ligne automatique
وأدل مثال على ذلك، عندما قال فرانز فيدنرايخ في مؤتمر علماء الأنثروبولوجيا الطبيعية (علم الأجناس البشرية) في كوبنهاغن، قبل الحرب العالمية الثانية مباشرةً: «يبدو أن الإنسان العاقل جاء من فلسطين إلى شمال أوروبا»؛ حيث ثارَ ــــ حينها ــــ المندوب النازي، وخرج من غرفة الاجتماع.

الحضارة الناطوفيةRetour ligne automatique
إن اعتدال الجو، وملاءمة مناطقنا لحياة الاستقرار، مكّنا الناس من الوصول إلى بعض أسباب التقدم وجعلتهم يتقدمون في بعض مراحل الثقافة، وبالأخص عندما خلف الإنسان وراءه حياته كجامع للغذاء، وأصبح منتجاً له، وأخذت تستقر جماعات منه على مقربة من موارد المياه، يزرعون الأرض ويستأنسون ببعض الحيوانات.Retour ligne automatique
وتتمثل هذه الحضارة في بلادنا فلسطين بـ«الحضارة الناطوفية»، التي سميت لذلك باسم وادي النطوف شمالي غربي القدس، ودامت نحو ستة آلاف سنة اعتباراً من حوالى عام 12000 قبل الميلاد،. ويعتبر الناطوفيون خلفاء الكباريين [الحضارة الكبارية]، ولكن بخصوصية متطورة جديدة، فقد ازدادت رقعة السكن، وتطورت الأدوات المصنّعة. ينتمي أصحاب تلك الحضارة إلى عنصر البحر المتوسط، تدل الهياكل العظمية التي عُثر عليها في مواضع مختلفة، على أن أصحاب هذه الثقافة كانوا أقرب إلى قصر القامة، ويمتازون بالنحافة، يحملون صفات البحر المتوسط، برأسها الطويل، ووجهها الضيق ــــ المسكون ــــ مثل كثير من العرب الحاليين.Retour ligne automatique
في هذا الصدد يقول، عالم الآثار الأميركي، وليم أولبرايت، وكان الناطوفيون أنفسهم من شعوب البحر المتوسط القديمة، التي تتميز بهياكل عظمية نحيلة، ورؤوس مستطيلة، وتقاطيع دقيقة، ومتوسط طول الرجال يزيد قليلاً على خمسة أقدام. وحيث إنه وجدت هياكل بشرية مشابهة جداً لهذه الهياكل في حضارة البداري في مصر، وكذلك من العصر النحاسي المتأخر في جازر وجبيل (بيبلوس)، فإنه يبدو أن هذه الشعوب انتمت إلى أسلاف السلالة السامية ــــ الحامية التي لم تكن قد أصبحت بعد منقسمة إلى مجموعات متباينة بعضها عن بعض تبايناً واضحاً لغوياً وقومياً كما حدث في ما بعد. ولعل التغير الوحيد الملحوظ في الصفات الجسمانية حدث في الطول، غير أنه من المعروف تماماً الآن أن التحسن في التغذية لبضعة أجيال قليلة جداً تنتج منه زيادة محسوسة في الطول.Retour ligne automatique
فقد كشف تحليل الحمض النووي الميتوكوندري والنووي المستخرج من سبعة هياكل عظمية عمرها 15 ألف سنة تم التنقيب عنها وإخراجها من كهف الحمام الذي يوجد بالقرب من بلدة تافوغالت في الشمال الشرقي من المملكة المغربية، عن خليط من مجموعتين من الأسلاف: مجموعة من الشرق الأدنى، أكثر شبهاً بالصيادين ــــ الجامعين القدامى المعروفين باسم الناطوفيين، ومجموعة أخرى غير مفهومة بشكل جيد تشبه المجموعات التي استوطنت جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.Retour ligne automatique
«ثمة الآن ما يكفي من العينات القديمة من الشرق الأوسط وأوروبا للتأكد إلى حد ما من أن عينات تافوغالت كانت بالفعل أوثق صلة بالناطوفيين مقارنة بصلتها بالمجموعات الأخرى من غير الأفارقة». Retour ligne automatique
[لمزيد من التفاصيل يُراجع: ميريدث براند، وضع التسلسل الجينومي لأقدم البشر الأفارقة، نيتشر ميدل ايست، بتاريخ 24 أبريل 2018].Retour ligne automatique
في (16/6/2016)، نشرت دراسة من قبل قسم الهندسة الوراثية ــــ جامعة هارفارد الأميركية بالتعاون مع مراكز بحثية أخرى، تحت عنوان، “The genetic structure of the world’s first farmers”، حيث أجريت الدراسة على رفات عدد من العيّنات من حقب تاريخية متعددة في الشرق الأوسط، ومن بينها عظام تعود للحقبة الناطوفية وما قبل الفخاريات في جنوب وغرب بلاد الشام (الأردن وفلسطين)، وكان مجموع عدد العيّنات 44 عيّنة تعود للأعوام 12 ألف قبل الميلاد إلى 1400 قبل الميلاد. وأظهرت النتائج أن العينات تنتمي للفرع E-Z830 المنحدر من E-Z827، والذي تجتمع أسفله كل من E-M123 و E-M81 و E-V1515. وتؤكد دراسة جينية نشرت بتاريخ (15/03/2018)؛ لـ 17 عالماً في الجينات يترأسهم العالم الألماني Loosdrecht، وحملت عنوان: “Pleistocene North African genomes link Near Eastern and sub-Saharan African human populations”، الأصل المشترك بين الناطوفيين والإيبوروسيين (الوهرانيون القدامى)، أقدم سكان في شمال افريقيا.Retour ligne automatique
فقد جاء في الدراسة: «تعد شمال إفريقيا منطقة رئيسية لفهم التاريخ البشري، لكن الأصول التاريخية الجينية لشعبها غير معروفة إلى حد كبير. نقدم بيانات الجينوم (جينات) لسبعة أشخاص من الإنسان المعاصر القديم أعمارهم 15000 سنة من المغرب ينتسبون إلى الثقافة الإيبروموروسية. نجد تقاربًا وراثيًا (جد جيني مشترك) مع الشرق الأوسط (المشرق العربي) منذ العصر الهولوسيني، وبالتحديد مع جينات قديمة من الثقافة النطوفية المشرقية، ما يوحي بوجود علاقة ما قبل الزراعة بين أفريقيا والشرق الأوسط». وكان القرب الجيني مع النطوفيين (المشارقة) بالتحديد مع السلالة الشقيقة (E-m123 )، التي هي شقيقة السلالة (E-m78)، المكتشفة في جينات للإيبيروموريسين (أقدم سكان شمال افريقيا) مرجحة علاقة جينية مشتركة بالمشرق، كما وجدت 3 سلالات للإيبيروموريسين في جينات جثث النطوفيين في الأردن. وأكدت أن جينات الإيبيروموريسين (أقدم سكان شمال افريقيا) تتشارك في الأصول الجينية المشتركة مع النطوفيين (المشارقة) بما نسبته 63%.Retour ligne automatique
يعني هذا أن كلاً من الحضارة الإيبيريسية في شمال افريقيا والحضارة الناطوفية في ساحل الشام (المشرق العربي) ينتميان إلى أصل (جيني) ــــ وسلف ــــ مشترك.Retour ligne automatique
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن المكونات السكانية المحلية بشمال إفريقيا تعود أصولها الجينية في غالبيتها العظمى إلى أصول أوراسية (غرب آسيا) ارتجاعية (عائدة) عبر الشام وسيناء.Retour ligne automatique
هناك دراسات حديثة تقول إن أصوله القديمة مرتبطة بأصول مكون المشرقي. وكشفت أحدث دراسة لـ Lazaridis et al. 2018 عن وجود أصل وراثي (جيني) مشترك لدى معظم شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأجزاء من أوروبا، وقد سمت الدراسة هذه الساكنة اختصاراً بـ PGNE أي ساكنة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا لما بعد العصر الجليدي الأخير Post-glacial Near Easterners and North Africans.

2
يلمس المؤرخ في تاريخ فلسطين، منذ العصر الحجري الحديث، بعض الظواهر الحضارية الخاصة، التي تؤكّد توافد سلالات بشرية من الصحراء إلى هذه المنطقة، لا شك أنها سامية أو بالأصح جزرية. في هذا السياق، يقول توماس طمسن، إن هذا التغيّر في سوريا - فلسطين، أواخر العصر الحجري الحديث، وأوائل العصر النحاسي يجب ألّا يُعتبر غزواً كثيفاً، أو اقتلاعاً للسكان المحليين. إبّان العصر الحجري الحديث كان الخليط الإثني في فلسطين قد أصبح معقداً، ولا معلومات لدينا عن أية تطورات مهمة، خلال فترة الانتقال إلى العصر النحاسي، وأكثر من ذلك فإنّ وجود مستويات ثقافية، ومادية لدى السكان المحليين، ووجود قرى ومدن ذات حجم كبير، ونظام اجتماعي تفوق أي شيء يمكن توقعه، يجعل من الصعب أن نتصور سوريا - فلسطين عرضة لغزو قام به عدد، لا بد أن يكون صغيراً، من الفلاحين والرعاة الساميين (الجزريين) والأحرى هو أن السكان المحليين استمروا وأن التغير كان لغوياً وتدريجياً. ويضيف طمسن قائلاً: «مهما كانت هذه الهيكليات التاريخية احتمالية فإنها توحي بوضوح بأن السكان الأصليين في فلسطين لم يتغيروا كثيراً منذ العصر الحجري. وخلال فترة الألف السادس ـ الرابع قبل الميلاد أصبحت فلسطين سامية (بمفهوم لغوي)، وخلال العصر البرونزي القديم أقامت نمطاً استيطانياً واقتصادياً بقي من خصائص المنطقة حتى الحقبة الآشورية، في الأقل».

كنعانيون
أطلق مؤرّخو الشرق الأدنى القديم، على العناصر التي قطنت فلسطين ولبنان وسورية، منذ أقدم العصور تسمية كنعان وكنعانيين، كتسمية تقليدية عامة لمنطقة فلسطين والساحل الفينيقي، من دون تحديد دقيق. استناداً إلى العديد من الحقائق استنتج سباتينو موسكاتي، أن تسمية «كنعان» لا تبعث على الرضا من نواح عدة، فإنّه يبدو من تمحيص المصادر أن لفظَي كنعان والكنعانيين كانا يعنيان قبل كلّ شيء فينيقيا والفينيقيين، ولم يُستعملا إلّا في عصر متأخّر للدلالة على مدلولَين أوسع نطاقاً؛ أحدهما جغرافي، والآخر جنسي. وكان لفظا كنعان والكنعانيين يُطلقان قبل ذلك على المنطقة السورية - الفلسطينية بأسرها وعلى سكانها. ثم إنّ الكنعانية من حيث هي مجموعة لغوية ليست وحدة حقيقية، فلفظ «كنعاني» يُطلق كما لاحظ الأستاذ فريدرش عن حق، على أيّ عنصر لغوي سوري - فلسطيني لا ينتمي إلى الآرامية.
يذكر طمسن، أنَّ تعبير (كنعاني) أساء استعماله معظم العاملين في الأركيولوجيا ودراسات الشرق الأدنى القديم اليوم.. تعبير (كنعاني) كما هو مستعمَل في الأركيولوجيا التوراتية، اسم قبلي تعود أصوله إلى مرويات العهد القديم خلال مرحلة ما بعد النفي، الهادفة لمحاربة عبادة بعل. فهو القطب المضاد لإسرائيل، وفي العصر الحديدي الأول، لا يبدو مناسباً أبداً. إطلاق (كنعاني) على ثقافة الدولة المدينة في السهول والوديان الرئيسية مثيرٌ للاعتراض. هذا لأنه ليس تعسفياً في تحديداته فحسب، بل لأنه يفترض وحدة إثنية - سياسية ومادية هي ببساطة لا تتوافق مع أيّ حقيقة نعرفها، حتى خلال العصر البرونزي. وتعبير (كنعاني) ليس اسماً جغرافياً فحسب، ولا يُعرف كاسم قبلي في هذا التاريخ المبكر، بل إن إطلاقه على الأراضي المنخفضة في فلسطين كمنطقة يسود فيها نظام الدولة المدينة في العصر الحديدي الأول، مثير للسخرية.
يعود طمسن ويشير في كتاب «الجديد في تاريخ فلسطين، الفصل الثالث: من العصر الحجري إلى إسرائيل» إلى: إن كلمة (كنعاني) تقوم بوظيفتها مصطلحاً ازدائياً بالإشارة ليس إلى الإثنية أو حتى إلى شعب منطقة ما، بل إلى الطبقة التجارية في المجتمع، على نحو يتماشى كثيراً مع التمييزات الاجتماعية كما هو موجود ضمناً في الإشارة العربية إلى البدو والفلاحين والمدنيين. في الورودات الكثيرة للاسم (كنعاني) في التراثات الكتابية، فإنّ المشار إليه هم السكان الأصليون الأسطوريون لـ (أرض كنعان)، مع الإشارة إلى فلسطين. المرة الأولى التي يستخدم فيها هذا المدلول معرّفاً لذاته ذو دلالة إثنية هي في نصّ فينيقي متأخر، من دون الإشارة إلى فلسطين إطلاقاً.

تعبير «فلسطين» يشير مبدئياً إلى حقيقة جغرافية، وفي القصص التوراتية يكتسب سمة إثنية محدودة خيالية

ويكفي أن نذكر أن اليونانيين تحدثوا عن الفينيقيين، ولم يذكروا الكنعانيين، بدءاً من هوميروس إلى هيرودوتس. ومن المسائل الواجب أخذها بعين الاعتبار أن سكان الساحل السوري لم يطلقوا على أنفسهم اسم كنعانيين، بل كانوا يعرفون أنفسهم بأهل صيدا، وأهل صور، وأهل جبيل.. إلخ. وتمتدّ حركات (الفينيقيين) من الناحية الزمنية إلى مراحل ما قبل التاريخ، حيث كان موطنهم الأصلي في جنوب الجزيرة العربية.
يسجّل المؤرخ هيرودوتس (484 - 425 ق. م)، التأكيد على موطن الفينيقيين بقوله: «والفينيقيون كانوا يسكنون سابقاً سواحل بحر إريتريا (البحر الأحمر) كما يقولون هم أنفسهم. إذ قدموا من هناك إلى سواحل سورية فقطنوها. والقسم من سورية مع كل البلاد التي تمتد إلى تخوم مصر يسمى فلسطين».

أموريون ــ عموريون
يذهب بعض المؤرّخين الجدد إلى اعتبار أن تحركات الأموريين (العموريين) لم تكن إلّا نتيجة من نتائج التبدّلات المناخية الشاملة ــ فالأموريون ليسوا جماعات غريبة وفدت إلى بلاد الشام من هجرات الجزيرة العربية، بل هم أهل المناطق التي نكبها الجفاف فهجروا أراضيهم الزراعية وتحولوا إلى حياة الرعي والتنقل، وخصوصاً في فلسطين وسورية الجنوبية التي تلقت أقوى ضربات الكارثة المناخية، ومن هؤلاء شرائح معدمة ارتحلت باتجاه الدلتا المصرية أو باتجاه الفرات.
يؤكد طمسن أنه، حتى منتصف السبعينيات كانت البحوث الكتابية والأثرية تفهم الانتقال ما بين العهدين البرونزي المبكر والبرونزي الوسيط بلغة النظرية القديمة لهجرة البدو الرّحل الساميين من شبة الجزيرة العربية. وقد ربط كثيرون تلك النظرية بالنصوص المسمارية والمصرية التي كانت تشير إلى «عمّورو» و«عمو». وخلق المؤرخون تاريخاً للهجرات والغزوات العمورية التي اجتاحت الهلال الخصيب من الخليج إلى الدلتا المصرية. كان يُعتقد أن هذه القبائل البدوية قد دمّرت ثقافات العهد البرونزي المبكر لبلاد ما بين النهرين وفلسطين، وأنها خلقت العهد الوسيط الأول لمصر، وبعد عده قرون، أدت إلى نشوء الهيمنة العمورية بين دول ما بين النهرين في سورية وفلسطين. ربطت الآثاريات الكتابية تلك (الحركة العمورية) بحكايات الآباء الكتابيين، وخصوصاً بقصتي إبراهيم ويعقوب، فهي تقرأ من خلال القصص تاريخاً لحركات الشعوب.
بفعلها هذا، خلقت البحوث الكتابية تاريخاً مزدوجاً لأصول إسرائيل القديمة: واحد بصفتهم (شعب إسرائيل) بدو رحّل من شمال بلاد ما بين النهرين في أوائل الألف الثاني، وآخر بصفتهم رعاة أشباه بدو في نهاية العصر البرونزي، حوالى (1200 ق.م). ذلك (التاريخ) يعتمد على قصص كتابية منتقاة بعناية بسبب ترابطها المنطقي. فإبراهيم انتقل من أور في جنوب بلاد ما بين النهرين إلى حران في الشمال. من هناك دخل (كنعان) مع عائلته. ومع ذلك نزل يعقوب وعائلته إلى مصر في وقت لاحق، ثم عاد إلى فلسطين تحت اسم يشوع. وكان يُعتقد أن تلك الرواية تعكس غزواً ثانياً لفلسطين قام به الإسرائيليون، الذين اشتركوا في هجرة (آرامية) أوسع خلقت شعوباً عبر الأردن. لم تكن تلك حقّاً فرضية تاريخية ولا إعادة بناء تاريخية على أساس من الجدل، فلقد كانت إقحاماً للتناغم والتماهي بين قصص كتابية منتقاة ومعطيات آثارية.
لقد ثبت ــ علمياً ــ أن الهجرة الغربية المفترضة لمجموعات ما بين النهرين نحو كنعان، والتي سُمّيت بالهجرة العمورية، والتي وضع أولبرايت ـ ضمنها ـ هجرة إبراهيم وعائلته إلى أرض كنعان، لم تعد كونها فكرة خاطئة ووهمية؛ إذ فنّد علماء الآثار ــ بشكل كامل ــ الزّعم بأن ثمة حركة انتقال سُكاني جماعي ومفاجئ حدثت في مثل ذلك الوقت.

الفلسطينيون
يشير طمسن، إلى أن كلمة فلسطين لا تُستعمل لوصف مهاجرين من بحر إيجه وكيليكا، كما أنها لا تُستعمل لوصف العناصر المشاغبة في الإمبراطورية المصرية الأخيرة، فقد استُعملت في وقت متأخّر جداً اسماً لشعب السهل الساحلي الجنوبي ولجماعة تنتسب إلى سكان الدول المدينية في فلستيا. أما سكان السهول الساحلية الفلسطينية فكانوا من أصول مختلفة معظمهم من الساميين الغربيين الأهليين في فلسطين، من حيث ثقافتهم المادية ولغتهم وديانتهم. وتعبير (فلسطين) يشير مبدئياً إلى حقيقة جغرافية، وفي القصص التوراتية يكتسب سمة إثنية محدودة خيالية، كمناهض رئيس لظهور شعب إسرائيل، كما في قصص القضاة وصموئيل 1ـ 2. الفلسطينيون لم يوجدوا بوصفهم شعباً إلّا في المنظور العرقي التوراتي اللاحق، وإشارات النصوص الآشورية إلى (بي ـ ليس ـ تي) مثل الإشارات إلى ( آ ـ يو ـ دي) جغرافية تناقض الإشارات الإثنية.
والكلام ما زال لنفس العالم: والقول بأن الفلسطينيين يمثّلون شعباً غريباً متطفلاً على فلسطين، يجب إنكاره. التأثير الوارد من بحر إيجه جزئي، وعلى أساس البينات المعروفة كان هذا التأثير هامشياً وسطحياً في اللغة والديانة والأشياء المادية حتى في أقدم أشكال الفخار المدعوة فلسطينية. كانت ثقافة المنطقة الساحلية وطنية تماماً ويمكن القول بأنها متأثّرة بحضارة بحر إيجه ولكنها سامية تماماً وذات طابع حضاري فلسطيني.
والحقيقة أن المخلّفات الحضارية الفلسطينية في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد وضمن ذلك الساحل الفلسطيني، تُعتبر استمراراً لحضارة العصر البرونزي الأخير. ومن أهم المكتشفات التي تُنسب عادة إلى الفلسطينيين فخار ملون بأشكال هندسية وطيور، وتظهر أيضاً أشكال حلزونية ومجموعات من أنصاف دوائر متشابكة، أمّا أشكال الأواني نفسها فمشابهة للأواني التي عُثر عليها في جزيرتَي رودس وقبرص، ولكنها غير مطابقة لها، ومن الصعب اعتبارها مستوردة، بل على العكس فإن طينة الفخار محلية وصانعوها محليون أيضاً رغم تأثرهم بصناعة الفخار المعروفة في الجزر الإيجية.
وظهرت التأثيرات الكنعانية [الفينيقية] المحلية على مخلّفات الفلسطينيين من خلال أسماء آلهتهم أمثال داجون وعشتروت، كما أن العمارة من مبانٍ عامة ومنازل مستمدّة من التقليد المعماري للعصرَين البرونزيين الوسيط والأخير، والحياة الدينية عند سكان الساحل الفلسطيني كنعانية [فينيقية] الأصل، وكذلك المباني الدينية وأهمها: سلسة المعابد المتعاقبة في تل القصيلة التي أنشئت على غرار المعابد الكنعانية/ الفينيقية مع ما يظهر عليها من تأثيرات مصرية وإيجية.
وبذلك يصعب على الباحث التفريق بين ما يُمكن نسبته إلى المجموعات البشرية التي سكنت فلسطين في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، فوجود هذا الصنف من الفخار أو ذاك في منطقة معيّنة لا يدلّ بالضرورة على سكان هذه المنطقة من مجموعة إثنية مختلفة، ولكنها غالباً ما تعني أن هذه المنطقة وقعت تحت تأثيرات خارجية.
ومن الجدير ذكره أيضاً أنّ الكثير من المدن قد استُعمرت يوماً بواسطة الفينيقيين ضمن «الهجرات العربية» القديمة ما قبل التاريخ التي «امتدت إلى أفريقية الشمالية والبلقان وإيطاليا وإسبانيا، وعُرفت بأسماء موجات أقوام البحر المتوسط»، كما صرّحت به المراجع الأثرية الحديثة. فقد نزل الفينيقيون في جزيرة كريت وجزر الاسبوارد والكيكلاد [وهي جزر الأرخبيل] على قول توسيديد. ويقدّم ف. لينورماند (F. Lenormand) في مؤلّفه المسمّى «أسطورة قدموس والمنشآت الفينيقية في بلاد اليونان» الإيضاحات التالية: «... انطلاقاً من كريت بعد ذلك للوصول إلى مناطق نفوذهم ومراكزهم التجارية كان أبناء كنعان [الفينيقيون] يتوغلون في بحر إيجة وعلى السواحل اليونانية...».
ومن المحتمل جداً أن بعضهم [الفينيقيين] بعد أن اتصلوا طويلاً بالقبائل اليونانية رجعوا ثانياً شرقاً إلى موطنهم الأصلي فلسطين، فبغضّ النظر عن أسماء بلدانهم، فإنّنا نرى عدداً من أسماء أشخاصهم سامية/ جزرية، ومنهم أبيمالك، دليلة، عبيد أيدوم ـ وربما أيضاً أشبي، صاف، جوليات، رفح.

الفلسطينيون هم مزيج عرقي له نواة قوية عريقة في القدم

ويظهر أن ديانتهم تطبّق الأساليب السامية نفسها في تقديس معبودَين اثنين ذكر وأنثى، فلداجون آلهة من الأسماك بجانبيه، والأسماء داجون وبلعزبوب آلهة كنعانية [فينيقية] أصلاً، ولا ينفي هذا كون الفلسطينيين لا يمارسون عمليات الختان، فربما أبطلوا إجراءها عندما هاجروا إلى كريت.
يؤكّد الباحث الأثري الفرنسي هيلير دو بارانتون (Hilaire de Baranton) في كتابه «الايتروسكيون في غربنا وفي أصولنا الفرنسية» (Les Etrusques en Notre Occident et nos Origines Francaises) ما انتهينا إليه، قائلاً: إنَّ «الإيتروسكيين» هم فرع من الفينيقيين السوريين، وإن «الفلسطينيين» هو أحد أسمائهم، وأن معنى «الإيتروسك» في اللغة المصرية القديمة هو «بحارة النيل»، وأن معنى «الفلسطينيين» هو الجنود المحاربون. وزاد الباحث على ذلك فقال عن هؤلاء الفينيقيين السوريين إنهم يحملون أسماء كثيرة مختلفة، وذلك تبعاً لمهنهم أو لعقائدهم، ثم أخذ يعدّد هذه الأسماء ومنها «الفلسطينيون» عملاً بمهنتهم الحربية.
وفي عام 1980، كتب الباحث مايكل غرانت (M. Grant) كتاباً عن الإيتروسكيين وكانوا عنده، في خلاصة القول، ينحدرون من أصل كنعاني [فينيقي].
لذلك ولكلّ ما مر ّبنا، فإنّي مضطر للاستنتاج بأنّ «الأصول الأجنبية لفلسطينيي الحقبة الآشورية وأصولهم المزعومة من (كفتور) مجرّد خيال خلقته الروايات التوراتية قريناً لأصول يهوذا نفسها، فيهوذا والفلسطينيون كلاهما كيانات ثقافية أهلية في فلسطين، وناتجة عن حضارة العصر البرونزي وسكانه، الذين كانوا خلال العصر الحديدي الثاني، متمايزين في مجموعات شبه إثنية، على شكل دويلات تحت حكم إمبراطورية خارجية».
ولكن ماذا عن عمل الأبحاث الجينية؟
ـ في عام 2001، درس الملف الجيني للفلسطينيين، وذلك بواسطة التقلب الجيني (Gene Variability) لمولد مضادات كريات الدم البيضاء البشرية (HLA). وقد أُجري البحث باستخدام عينات من 165 فلسطينياً من قطاع غزة غير مرتبطين مع بعضهم أو أقارب. وقد نُشرت نتيجة البحث كاملة في «مجلة المناعة البشرية ـ التابعة للجمعية الأميركية للتوافق النسيجي والجينات المناعية». وقد جاء في نتائج البحث، «إنه لمن الثابت أن المسافة الجينية بين الفلسطينيين واليونانيين بعيدة، ويؤكد ذلك اختلاف الخلفية الجينية لليونانيين والذين انسابت لهم جينات كثيرة من جنوب صحراء إفريقيا». وأن «الفلسطينيين قريبون للمصريين، اللبنانيين». ويؤكد البحث بـ«أن الخلفية الجينية لـ HLA الفلسطيني تأتي من الشرق الأوسط».
ـ في دراسة جينية للعالمتَين أنا تيريزا فيرنانديز وريتا غونكالف في عام 2011، استخدمت عينات من ١٦٣ فرداً لا علاقة لهم بجدة الأب الأكبر: ٤٤ مسيحياً فلسطينياً و١١٩ مسلماً فلسطينياً، أثبتت النتائج أن السلالة التي ينتمي لها الفلسطينيون، مسيحيين ومسلميين، هي (E1B1B)، أي هي نفس السلالة التي يحملها الإنسان الناطوفي الذي وجد منذ 12000 سنة ق.م. وأيضاً السلالة (J1) التي لا يقل عمرها عن 10 آلاف سنة، ونشأت هذه السلالة في جنوب الهلال الخصيب وهو جنوب العراق، وقد حصلت هجرتان قويتان الأولى حصلت قبل عشرة آلاف سنة واتجهت شمال الهلال الخصيب وجنوباً إلى جنوب الجزيرة العربية، ومن ثم أصبحت الجزيرة العربية بعد ذلك بآلاف السنين من المراكز المصدّرة للعرقية (J1).
ـ في عام 2017، صدر بحث جديد، شارك في إنجازه 16 باحثاً جينياً، شمل هذا البحث فحص جينات 5 رفات فينيقية تمّ اكتشافها مؤخراً في المدينة الأثرية القديمة وسط مدينة صيدا اللبنانية، ثم مقارنتها مع جينات السكان المعاصرين فتمّ فحص جينات 99 شخصاً من عائلات حضرية من نفس المدينة (صيدا) وبعض البدو من لبنان والأردن.
وخلص البحث إلى أن أصحاب هذه الرفات الـ 5 عاشوا في الفترة ما بين 3650 و3750 سنة و«أنها تنتمي لأفراد يحملون جينات سلالتين شقيقتَين J1 وj2» كما أشارت الدراسة إلى «وجود قرابة جينية بين جينات الرفات الفينيقية والشعوب المجاورة في الشام». كما ذكرت الدراسة أن «جينات الرفات الفينيقية المكتشفة في مدينة صيدا الفينيقية قريبة جداً من جينات لجثث وُجدت سابقاً في كهف بمنطقة عين غزال في الأردن».
وأكدت الدراسة أن معظم فروع القبائل العربية في دول المشرق (اليمن، العراق، الكويت، قطر، السعودية... إلخ) تنتمي إلى تحورات كثيرة جداً من السلالة J1.
ــ في 4 يوليو/ تموز 2019، نشرت مجلة الرابطة الأميركية للعلوم المتقدّمة، دراسة جينية حول رفات مقبرة عسقلان التي تعود إلى (1200 ــ 800 ق.م). وجاء في النتائج أن 10 رفات فقط من أصل 108 استخلص منها فريق البحث الحمض النووي. وقسمت الدراسة المكونات الجينية كالآتي:
• المكون الأوروبي
• المكون المحلي
• المكون الإيراني
وكانت النتائج، أن «المكوّن الأوروبي لم يظهر إلا بنسبة صغيرة جداً في المجموعات السكانية من العصر البرونزي وأنه فقد سريعاً بعد بضعة قرون فقط». وأكدت الدراسة أن جينات مقبرة عسقلان تشبه جينيات السكان القدامى في فلسطين.
إذاً، في الخلاصة، يمكن القول إن الفلسطينيين هم مزيج عرقي له نواة قوية عريقة في القدم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 5007 / 2183332

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع نوافذ  متابعة نشاط الموقع أحمد الدبش   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2183332 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40