السبت 20 تموز (يوليو) 2019

فلسطين وثورة يوليو والصهينة المخيمة على العرب

محمد عبد الحكم دياب
السبت 20 تموز (يوليو) 2019

بعد مرور سبعة وستين عاماً على قيام ثورة يوليو 1952 انقلبت الأوضاع رأساً على عقب من زمن.. ولم يبق منها إلا نشاط المضارين منها في شيطنتها واغتيال ذكراها، وهو نفس النهج الذي عوملت به الثورة الفلسطينية، ويصوره البعض واجباً مقدساً للتقرب إلى الله.. وهذا شأنهم وما نقدر عليه هو الإشارة إلى التغيير الاجتماعي الذي أحدثته، ودورها في رفع مستوى المعيشة، والاهتمام بالتعليم، وتوفيره بالمجان لعامة الناس، وتمكين أبنائهم من الالتحاق بالمستوى التعليمي الذي تؤهله قدراتهم ومستوى تحصيلهم وطاقة استيعابهم.. وأنهت بذلك عصور العبودية السافرة والمقنَّعة التي استوطنت واستشرت بنفوذ الإقطاع وكبار الملاك وقوة الاحتلال الذي جثم على صدر مصر من عام 1882؛ عام الغزو البريطاني حتى سنة 1956؛ سنة خروج آخر جنود الاحتلال.

وبذلك، تُرجم شعار «ارفع رأسك يا أخي، لقد مضى عصر الاستعباد» ترجمة عملية وإنسانية. ولأول مرة من آلاف السنين تتغير العلاقات الاجتماعية في الريف والحَضَر، ويحل «تحالف الشعب العامل»؛ تحالف الأغلبية، محل «تحالف النصف في المئة»، وأتاحت الثورة للتحالف الأول أن يتَبَوأ مكانته المُسْتحَقة، واستهدفت بذلك تذويب الفوارق بين الطبقات، والتوسع في الحيز الذي تشغله القوى المنتجة، وزيادة المساحة المتاحة لنمو الطبقة الوسطى؛ بما لعبت من دور تاريخي حول مصر لورشة كبرى للإنتاج الزراعي والصناعي والعسكري، والخفيف والثقيل، والمنزلي والنفطي والإكتروني.. وغذت بذلك «حراكاً اجتماعياً» كان جامداً، وسيولة اجتماعية سمحت بالانتقال من طبقة أدنى إلى طبقة أعلى، وارتفع مستوى وعي الفلاحين والعمال والحرفيين وصغار الكسبة، وساعد على ذلك الدور المتميز للأكاديميين والعلماء والمثقفين والخبراء والمبدعين في كل مجال، ووصل الأمر حد أن كل ما كان يُستهلَك من إنتاج مصر تقريباً.. وحين تيقن حلف النصف في المئة من صحة مقولة شمول الإنتاج «من الإبرة إلى الصاروخ»؛ سخروا وتندروا من ذلك، وواكب ذلك ارتقاء الثقافة والفنون والآداب والمعارف بأنواعها..
وعلى مستوى آخر، تولى ثلاثي الهند ومصر ويوغوسلافيا (السابقة)؛ الدعوة لقيام تجمعات إقليمية وقارية ودولية مستقلة؛ بعيداً عن استقطابات الكتل والأحلاف الغربية المتصارعة والمتناقضة.. بدأت بمؤتمر التضامن الأفرو آسيوي في باندونغ 1955، وولادة تجمع الحياد الإيجابي وعدم الانحياز في ستينيات القرن الماضي، وجمع دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وبعض دول أوروبا، وصار له صوت مسموع في المحافل والمنتديات الإقليمية والقارية والدولية، وبذلك الحضور المكثف استشعرت القوى الاستعمارية بالخطر، وبتأثير العرب ـ وفي القلب منهم مصر ـ تحت أعلام ثورة يوليو ودعمها لقوى التحرر والثورة والتغيير.. وكانت فترة مادت فيها الأرض من تحت أقدام الاستعمار وإفرازاته العنصرية والاستيطانية.
ولما كانت مصر في ذلك الوقت رقماً صحيحاً؛ يمثل إضافة كبرى لقوى التحرر والتنمية والوحدة القومية، على المستويات العربية والعالمثالثية، وقتها وجد الاستيطان الصهيوني في فلسطين من يقاومه ويندد به ويدين تشريده شعبها وطرده من أرضه ودياره، وكان لزعيم ثورة يوليو وقائدها حضور طاغ وتأثير بالغ، بدرجة أقلقت الحركة الصهيونية وظهيرها اليورو أمريكي، واستشعرت خطر الأفكار والمبادئ التي عمل جاداً على تحقيقها، فحيكت المؤامرات ضده.. وعملت الحركة الصهيونية ورديفها الغربي والعربي والإسلامي على تصفيته، والقضاء عليه، والوقائع أكبر من أن تُحصر، ولم يتمكنوا منه ولا من ثورته في حياته، وحتى حين هُزِم في 1967 قدم استقالته؛ معلناً تحمله المسؤولية كاملة، ولما أعيد قاد ملحمة إعادة بناء القوات المسلحة..

كانت مصر في ذلك الوقت رقماً صحيحاً؛ يمثل إضافة كبرى لقوى التحرر والتنمية والوحدة القومية، وقتها وجد الاستيطان الصهيوني في فلسطين من يقاومه ويندد به ويدين تشريده شعبها وطرده من أرضه ودياره

وجند لها جامعيين ومؤهلين لاستيعاب التقانة الإلكترونية والأسلحة المتقدمة.. وأثناء إعادة البناء الإداري والعسكري والاقتصادي؛ اشتعلت حرب الاستنزاف بعد أسابيع قليلة من وقوع «النكسة»، وكانت الحرب الأطول في تاريخ الحروب العربية الصهيونية، وانطلقت خطط الاغتيال الشخصي والتاريخي والأدبي محمومة فور رحيله، الذي لم يكن مصادفة.. واندفع السادات في طريق التصفية الناعمة والمراوغة له ولثورة يوليو، وانقض عليها في 13 مايو 1971.
ووجد من الضروري فصم عرى العلاقات المصرية والعربية، وانتزاع القضية الفلسطينية من حواضنها الإقليمية، ومنها المصرية بعد حرب 1973، وانتزعت تماماً بعد زيارة السادات للقدس المحتلة، وإلقاء خطابه البائس في الكنيست (19 نوفمبر 1977)، وكان ذلك إيذاناً بتخلي العرب الرسميين عن فلسطين وقضيتها.. وذلك بدأ بعد أسابيع قليلة من اندلاع حرب أكتوبر.. وتحديداً في 7 نوفمبر 1973، عقب وقف إطلاق النار على جبهات القتال (22 اكتوبر 1973)، ووصف الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه «أكتوبر 1973 ـ السلاح والسياسة»؛ وصف حال القاهرة وقتها بأنها «تعيش في جو أشبه ما يكون بأجواء مهرجان كبير يأخذ بمشاعر الناس دون أن يتيح لهم فرصة التفكير .
ولعبت واشنطن الدور الأخطر في إفراغ النصر العسكري المجيد من قيمته، ونجح هنري كيسنجر في دفع غولدا مائير رئيسة الوزراء الصهيونية، وموشيه دايان وزير الدفاع، نحو «ثغرة الدفرسوار»، وهو ينقل إليهما أولاً بأول خطط ونوايا السادات، وكان قد استماله حتى تبنى المطالب والشروطَ الصهيونية في «سلام منفرد»، وهو ما تم في «كامب ديفيد» وبتوقيع معاهدة «السلام» المصرية الصهيونية، والالتزام المستمر به من الجانب الرسمي المصري للآن.
وطوال وجود عبد الناصر على قيد الحياة، سارت القضية الفلسطينية في مسارات مستقيمة وواضحة، وخلالها نجحت دعوته لعقد أول قمة عربية في 3 يناير 1964 من أجلها برئاسته، ورأس وفد فلسطين فيها الزعيم الفلسطيني الراحل أحمد الشقيري. ويختلف كتاب ومحللون حول جدوى «القمم العربية»؛ تأثراً بالمشاهدات الراهنة المُحْبِطة.. وبعملية «الصهينة» الجارية للسياسات العربية، وتبنيها لقرارات والمقترحات الصهيونية المترجمة من العبرية للعربية؛ وتلك القمم اتخذت في السابق قرارات بالغة الأهمية، ولنضرب مثلاً بما جاء في البيان الختامي للقمة العربية الأولى في يناير 1964 ونقتطف منه ما يلي:
ـ قيام (إسرائيل) خطر أساسي يجب دفعه سياسياً واقتصادياً وإعلامياً.
ـ إنشاء قيادة عربية موحدة لجيوش الدول العربية، يبدأ تشكيلها في كنف الجامعة العربية بالقاهرة.
ـ رداً على ما قامت به إسرائيل من تحويل خطير لمجرى نهر الأردن، تقرر إنشاء «هيئة استغلال مياه نهر الأردن» لها شخصية اعتبارية في إطار جامعة الدول العربية. مهمتها تخطيط وتنسيق وملاحظة المشاريع الخاصة باستغلال مياه نهر الأردن.
ـ إقامة قواعد سليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني لتمكينة من تحرير وطنه وتقرير مصيره. وتوكيل أحمد الشقيري أمر تنظيم الشعب الفلسطيني.
ـ يجتمع الملوك والرؤساء العرب مرة في السنة على الأقل، على أن يكون الاجتماع المقبل في الإسكندرية في أغسطس 1964.
وقد تبرعت ليبيا في ذلك المؤتمر بمبلغ 55 مليون دولار لصالح المجهود الحربي العربي، بينما تبرعت السعودية بمبلغ 40 مليوناً والكويت بمبلغ 15 مليوناً.
عصر قد ولى.. ولا تبدو له عودة لمدى طويل.. فلا يمكن له أن يعود بغير التخلي عن سياسة «الصهينة» الجارية، وتحكمها في مصير ومستقبل «القارة العربية» من الماء إلى الماء.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 103 / 2184606

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع منوعات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

2 من الزوار الآن

2184606 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 2


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40