السبت 29 حزيران (يونيو) 2019

قراءة في عتبات كتاب «غُصن نيسان: خديجة الحديثي- فداءٌ وعطاء»

فاضل عبود التميمي
السبت 29 حزيران (يونيو) 2019

تريد هذه (المقالة) أن تقرأ عتباتيّا كتاب (غُصن نيسان: خديجة الحديثي- فداءٌ وعطاء)، لمحرّره ومقدّمه محمد حسين علي زعيِّن، الصادر عن مطبعة العهد في بغداد 2018، وهو آخر ما صدر من كتب عن حياة خديجة الحديثي (ت2018)، وتراثها اللغوي الثرّ في العراق بُعيد وفاتها بأقل من عام. وينتمي (غُصن نيسان) إلى كتب الاستذكار التي تحرّر عادة لتحفظ ذكرى مناسبة ما من غياهب الضياع والنسيان، وهو ما فعله زعين حبًّا واعتزازًا بأستاذته التي غدت بحكم شخصيّتها وإبداعها أستاذة أجيال ليس في العراق فحسب إنّما في البلدان العربيّة التي عرفت الدكتورة الحديثي عن قرب.

الغلاف

نبدأ من الغلاف الذي يُعدّ في أيّ كتاب (أيقونة) تدخل في علاقة تماثل مع حقيقة العالم الخارجي الخاص بها، فالغلاف امتلك موضوعًا بصريًّا أمكن الاستدلال عليه علاماتيًّا بوجود سطح يحمل شكلًا جامعًا لعدد من العلامات اللسانيّة التي أسهمت في تشكيل المحتوى، وتحفيز المتلقِّي نحو فعل القراءة الخاصّة بالكتاب. يحيلُ الغلاف على عدد من العتبات، والمعلومات التي دخلت في حيّزه ليكون لها أثرٌ في تشكيله، وتقديمه بإطاره العام وهي: العنوان الرئيس للكتاب، وقد اتخذ موقعًا في الأعلى قريبًا من جهة اليسار، وبخطٍّ سميكٍ شغل نصف المساحة، بلون جوزيّ فاتح، يشير إلى الهدوء والطمأنينة، فقد حرص المحرّر على تقديم العنوان بوصفه علامة لسانيّة موجزة، ومختصرة، ومفتقرة إلى فكرة الشرح والتفصيل، وهذا ما كشف عن جزء من أسلوبيّة التحرير التي مالت إلى التكثيف، والاقتصاد، لكنْ ليس على حساب المعنى العام الذي تدفّق في العنوان الموازي (خديجة الحديثي- فداء وعطاء-) ليكون بنية علاميّة لها سمة الشارح، والمفسّر للعنوان الرئيس: الأصلي، بوصفه عنصرًا من العناصر الأساسيّة التي دخلت الثقافة المعاصرة، ليحيل على الطبيعة المعرفيّة التي غطّت متن الكتاب، وأسهمت في فعل تلقيه. كما زيّنت الجهة الوسطى من الغلاف لوحة أبدعتها حفيدة الحديثي (إيناس) ممثلة بمنظر طبيعي متشابك الأغصان بلون الشفق الذي يحيل على الطبيعة الجغرافية التي كانت قد عاشتها جدتها في مدينة (السيبة) البصريّة أيام طفولتها الأولى.

الإهداء

بعد الغلاف مباشرة تواجه القارئ عتبة (الإهداء)، وهو في النقد الحديث يكشف عن عمق العملية التواصلية، والتداولية التي تربط بين المؤلف والمتلقي، ولكنه في الكتاب كشف عن عمق الامتنان الذي وجهه محمد زعين إلى صديق له أسهم في إنتاج الكتاب، ثم إلى صديق آخر قريب منه لم يشارك في انتاج الكتاب ظلّت مساحة اسميهما بياضًا منقّطًا يستعجل وضع الاسم ساعة الإهداء، وبعد الإهداء تأتي صفحة الآية القرآنيّة الكريمة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) سورة الفجر: الآيات: 27-30 لتكون بمنزلة التصدير الخاص بالكتاب مُحيلًا على ما يتمنّى المحرّر لنفس أستاذته، وهي في عليّين، فهو في موقف أخلاقي مميّز، ثمّ بعد ذلك نجد صفحة الشكر والتقدير وقد أوقفها زعين إلى (إيناس أثير) حفيدة الحديثي التي صمّمت غلاف الكتاب، ثم إلى (ياسر عبود عبد الله) لجهوده في تنسيق الكتاب، فالشكر -هنا- يكشف عن امتنان شخصي ودّ المحرِّرُ إزجاءه لمن كانت له يدٌ بيضاء في إخراج الكتاب. وقبل (المقدمة) تعمد زعين أن يضع (ومضة على لسان الفقيدة رحمة الله عليها) كانت عبارة عن ثلاثة أبيات شعريّة كتبها محمد هادي محمد، وقد استصعب أن يضع مقدمة لهذا الكتاب الذي يتحدث عن الحديثي، فكان الرأي عنده أن يتكلَّم على لسانها بأبيات ثلاثة أولها:(بهم أبقى على رغم المماتِ…فقد خَلَدَتْ بطلابي حياتي)، وعندي أن هذه الاستعارة التي أخذها محرّر الكتاب من أحد طلابها هي (ومضة) تحيل على طبيعة الخطاب العام للكتاب المبني على فكرة المحبّة الخالصة للحديثي التي لم ترحل عن محبيها فها هي تستهل الكتاب بخطاب مستعار على لسانها.

هذا الكتاب يقع في نمط كتب الاستذكار التي تحرّر عادة عن شخصيّة ثقافيّة، أو علميّة، أو اجتماعيّة نذرت نفسها للاستنارة زمنًا طويلا، وحظيت بإعجاب طلابها، والجمهور القارئ في كلّ مكان جرّاء التأليف، أو الترجمة، أو التمييز المعرفي.

المقدمة

أما (مقدمة) الكتاب فقد جاءت بعنوانٍ دالٍّ(مقدّمة…لا نعيَ يليق بها) فهي عتبة مائزة تحمل أكثر من إشارة دالّة على أهميّة المُحتَفى بها، التي لا يمكن لأيّ (نعي) أن يليق بها، وقد تنبّهت السيميائيّة إلى علاميّة المقدمة فرأت فيها فكرة تصديريّة، أو اقتباسا يتموضع (ينقش) على رأس الكتاب، أو في جزء منه، وقد حدّد (جيرار جنيت) أربع وظائف للمقدمة اثنتان مباشرتان هما: التعليق على العنوان: ويكون مرّة بشكل قطعي، وأخرى بشكل توضيحي، وهو لا يسوّغ متن الكتاب بل يسوّغ عنوانه، وهو ما بدا واضحًا في مقدمة (مقدّمة…لا نعيَ يليق بها) التي وضعها زعين، وقد انشغلت بالمساعدة في فكّ اشتباك دلالة (غصن نيسان) أولًا فنيسان هو شهر النماء والعطاء كما هو معلوم؛ ولأنّ الفقيدة لم تدّخر علمًا إلا نشرته فاخضرّ ذلك العلم بحثًا، وتأليفًا، وتدريسًا كان من ثمراته أجيال وأجيال فقد آثر المُعد أن يضع هذه الاضمامة من الكلمات بحق الحديثي تحت العنوان السابق، وهو يدرك، وغيره من القرّاء المقاربة الواضحة بين عطاء شهر نيسان، وعطاء الحديثي.
والثاني هو التعليق على متن النص ليكون أكثر وضوحًا وجلاء من خلال قراءة العلاقة الرابطة بين المقدّمة والمتن، وهذا ما انفتحت عليه مقدمة (الكتاب) التي تحدَّثت عن أقسام الكتاب الثلاثة؛ الأول سيرة خديجة الحديثي، والثاني آهات شعرية في موكب حزنها، والثالث دموع نثرية في موكب حزنها، فضلًا عن أنّ المقدمة تحدثت عن منهج جمع الكتاب من مواقع التواصل الاجتماعي والصحف، وممّا أخذه من الأستاذ أحمد مطلوب قبل وفاته.
أمّا الوظيفتان غير المباشرتين فهما: وظيفة الكفالة وهي منحرفة، أي غير مباشرة ؛ لأنّ المؤلف يأتي بها لغرض دفع شهرة المقدمة إلى الكتاب، وهي في سيرة (د. خديجة الحديثي) التي كانت قد أخذت شهرتها إلى المتلقي قبل أن يتحسّس متن الكتاب بلا كفالة، أو ضمانة بسبب شهرتها، وتميّز ابداعها.
ثم وظيفة الحضور والغياب وهي عند (جنيت) من أكثر الوظائف انحرافًا بسبب ارتباطها بحضور المقدمة الميسور كما أراده المؤلف جامع النص؛ لأنّ حضورها، أو غيابها يدلّ على نوع الكتاب، أو عصره، أو مذهبه، فحضور المقدمة علامة ثقافيّة وجوازٌ تثاقفيٌّ منقوشٌ على صدر الكتاب، وقد أدّت تلك المقدمة وظيفتها غير المباشرة في التذكير بحياة خديجة الحديثي من خلال علاماتها التي أحالت على أن الكتاب في سيرة الحديثي وثقافتها.
تعكس مقدمة (الكتاب) الطبيعة الثقافيّة التي ميّزت الحديثي من غيرها من المؤلفين، حين جعل لها المُعد عنوانًا واضحًا ومحدّدًا: (مقدمة …لا نعيَ يليقُ بها) لكي يحيل مضمونها على متن الكتاب، وقد استهلها بشرط غير جازم وسؤال: (إذا كان النعي في اللغة يمثِّلُ إعلانًا قد يكونُ طويلًا للإخبارِ عن وفاة شخص مع ذكر علاقته بأفراد أسرته والتذكير بمناقبه، فتخيَّلْ أنّ أسرةَ اللغة العربيّة فقدت الدكتورة خديجة الحديثي، فكم يكون طول نعيها لكي يليق بقامتها؟!)، وقد انفتحت المقدمةُ تلك على مسألتين أساسيّتين:
الأولى: أهميّة الحديثي في خارطة الدراسات اللغوية المعاصرة، وعلاقتها بطلابها في داخل العراق وخارجه على اختلاف مراحل تدريسهم .
الأخرى: إنّ عزاء محمد زعين ليس في الإضمامة من الكلمات التي ضمها الكتاب بل في تلقِّي من لم تكن كلماته ممَّا ضمَّها الكتاب، وهذا لعمري منتهى الكرم الذي يستشعر حبّ الحديثي في قلوب آلاف من طلابها، ومحبيها في ربوع الوطن العربي الكبير.

المتن

أما عتبة متن الكتاب فينقسم إلى ثلاثة أقسام كلّ قسم منها بمنزلة الفصل للكتاب وهي: الأول: السيرة والمسيرة: الذي كتب فيه د. أحمد مطلوب (خديجة الحديثي: علامات مضيئة) باسطًا القول في سيرتها الحياتية، والثقافية التي بدأت في البصرة العام 1934م،وانتهت في بغداد في 9/ 5/ 2018م، و(شيخة العربية خديجة الحديثي بين رياضة الحساب ورياضة الكتب) للدكتور يوسف خلف محل العيساوي، و(خديجة الحديثي والانتصار على التهجي النحوي) للدكتور هادي حسن حمودي، و(بكى الصرفُ وكسرَ النَّحو أقلامه) للدكتور جواد مطر الموسوي.
الثاني: آهاتٌ شعريّة في موكب الأحزان: وهو يتضمَّن خمسَ قصائد كتبها د. أحمد مطلوب في حق زوجته د. خديجة الحديثي (غصن نيسان)، و(نار الأسى غصن نيسان الأول)، و(صبر ما أقسى الداء)، و(خطاب وقفة على نعشها)، و(شيخة النحو يوم التشييع)، لعلّ أهميّة هذه القصائد تنبع من أنّها قيلت بعد وفاة الحديثي، وهي تنشر لأول مرة في الكتاب، إضافة إلى قصائد عدة لأصدقائها وتلامذتها ومحبيها.
أما الثالث: دموع نثرية في موكب الأحزان: فجاءت الكتابات المختلفة عن الراحلة وعالمها وأثرها العلمي وما تركته في نفوس الكثير من الطلاب والأساتذة والنقاد.
هذا الكتاب يقع في نمط كتب الاستذكار التي تحرّر عادة عن شخصيّة ثقافيّة، أو علميّة، أو اجتماعيّة نذرت نفسها للاستنارة زمنًا طويلا، وحظيت بإعجاب طلابها، والجمهور القارئ في كلّ مكان جرّاء التأليف، أو الترجمة، أو التمييز المعرفي، وكانت في حياتها أنموذجًا مترفّعًا عن كلّ سفاسف الحياة، وهذا ما ينطبق على سلوك خديجة الحديثي وحياتها، وعلمها؛ ولهذا كُتِبَ لها الخلود.

٭ ناقد وأكاديميّ من العراق.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 1722 / 2184605

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع النقد والأدب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184605 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 1


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40