الجمعة 14 حزيران (يونيو) 2019

قراءة في كتاب «تأويل المتخيل»: السرد والأنساق الثقافية

الجمعة 14 حزيران (يونيو) 2019

- رامي أبو شهاب

كتابه الصادر مؤخراً يسعى الناقد عبد القادر فيدوح إلى تقديم مقاربة نقدية عابرة للأنساق، حيث ينتقل بين أكثر من عمل سردي، ولكن في مواجهة قضايا ثقافية وفنية تأخذ تكوينها من التحولات التي يشهدها العالم العربي، الذي يمور في العديد من الصراعات والتحولات، في ضوء بنى متغيرة نتيجة تكوينات سياسية وثقافية متعددة.
ينهض الكتاب على أسئلة عميقة تذهب لقراءة صيغ العصر الجديدة، التي تبدو أقرب إلى نسق من القطيعة مع ما سبق، فالكتابة اليوم تأخذ مظهرها وهويتها من ممارسات تتجلى آثارها على الأرض، وهنا يبدو أن خطاب التنظير انسحب لصالح القيم الجديدة، ونعني سياسية الأمر الواقع، التي تفرضها العولمة، ونظم الرقمية الجديدة، كما انهيار السرديات الكبرى، وقيم الاستقطاب الثنائي التي كانت تسود العالم، فضلاً عن بروز ما يمكن أن ننعته بقيم الكولونيالية الجديدة، التي تفارق النهج القديم للفعل الاستعماري الكلاسيكي، إلى صيغ جديدة حيث تتحرر الآلة الاستعمارية مع أدواتها التقليدية لتتوجه إلى تمكين سياساتها في نماذج من الممارسات التي تشتغل على تفتيت الهويات، والذوات، وتمكين العنف الداخلي، وقيام نموذج جديد من الهيمنة والتحكم، وينهض على تراجع التدخل المباشر لحساب نموذج يهدف إلى تعميق السيطرة، عبر خلق وكلاء استعماريين جدد، أو إشاعة شكل من أشكال فقدان اليقين، وتهشيم الذات، ودفعها إلى احتراب داخلي، كما نعاينه في نموذج العراق، الذي شهد عودة الممارسة الكولونيالية التقليدية، ولكن لتمكين ديمومة الهيمنة من خلال الانتقال، في ما بعد، إلى مرحلة الكولونيالية الجديدة، وما صحب ذلك من إطلاق العنف بكافة صوره، الذي استمر مع تداعيات الربيع العربي عبر التدخل في توجيه قوة هذا الحراك ليكون في مصلحة القوى الغربية.
التوصيف السابق ما هو إلا شكل من أشكال اختزال المقولات العامة للكتاب، الذي استخلص هذه النتائج من خلال اكتناه عدد كبير من الروايات، وإن بدا التوجه الأكبر منشغلاً على رواية واسيني الأعرج «حكاية العربي الأخير» بالتجاور مع روايات أخرى.
الكتاب جاء في (325) صفحة من القطع المتوسط من منشورات صفحات للنشر والتوزيع في دمشق. الكتاب يشكل إضافة لأعمال أخرى لناقد له تجربة نقدية وأكاديمية ممتدة في عمق الثقافة العربية، ولاسيما في عدد من أعماله المحورية، ونعد منها «الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي»، «ودلائلية النص الأدبي»، وغيرهما الكثير. الناقد عبد القادر فيدوح – ابن مدينة وهران في الجزائر- يكتشف في عشرة محاور عدداً من الإشكاليات الفكرية والحضارية المجسدة في نظام سردي جاء من لدن عدد من الروائيين العرب، إذ يقدم عدة مقاربات تتصل باكتناه الأثر ما بعد الكولونيالي، ممثلاً بالكولونيالية الجديدة، كما تداعيات العنف في الرواية، إضافة إلى سرديات الواقع الجديد والهوية.
في هذه المحاور التي تشكل نصف الكتاب، ثمة منظور سياقي معرفي للبحث في تشكيل الرواية العربية المعاصرة، وهي تأتي مسبوقة بمقدمة حملت عنوان «شعرية المنفى في المتخيل السردي»، وفيها نقرأ بياناً حول ارتهانات الواقع العربي، وتشظيه على مستوى البنى السياسية الذاتية التي تطال الهوية، وتهشيمها كما أفرزتها نماذج العولمة، والكولونيالية الجديدة، بما تحمله من نزعات للاستهلاك، وتحويل الإنسان إلى كائن مشيأ تتنكبه قيم الاستهلاك، والسيولة الرقمية، ما يعني نموذجاً من نماذج المقاربات التي يمكن أن نعدها قريبة من توجهات مدرسة فرانكفورت في رثائها لصيغة الإنسان المعاصر، نتيجة إقصائه عن وجوده الحقيقي، والأهم من ذلك نقض مفهوم الأيديولوجية مقابل تقديم صيغ أو قيم سائلة لا تحتفي بأفكار لم يعد لها حاجة، وهذا ربما يكاد يقترب مما قاله الراحل المفكر السوري طيب تيزيني، في حديثه عن التنوير والنهضة، حين حلل عوامل تعطل التنوير العربي، إذ شدد على دور العولمة والصهيونية في الإجهاز على معنى الأفكار والصراع الأيديولوجي، وتقديم قيم مادية جديدة بغية فكفكة عصر الأفكار. وهذا لعله يقترب مما نسمعه مؤخرا من دعوات لعقد صفقات سياسية مقابل إفراغ الأثر القيمي والفكري والعقائدي من أي صراع قائم.

في محور سرديات الواقع الجديد ثمة اتكاء على تنظيرات المفكر جان بودريار بخصوص شكل الواقع الجديد، الذي سبق أن تحدثنا عن علاماته الجديدة، والقائم على نقض مفاهيم الهويات الثابتة، مقابل هويات هلامية ومتشظية.

في محور سرديات الواقع الجديد ثمة اتكاء على تنظيرات المفكر جان بودريار بخصوص شكل الواقع الجديد، الذي سبق أن تحدثنا عن علاماته الجديدة، والقائم على نقض مفاهيم الهويات الثابتة، مقابل هويات هلامية ومتشظية، كما الانزياح نحو مجتمع يؤمن بالخارجي والزائل والطارئ على حساب الثابت. فالرواية تحولت كما يرى عبد القادر فيدوح من صيغة الرواية الواقعية إلى صيغة رواية العولمة التي تؤكدها ممارسات العالم الافتراضي الجديد، ومن ثم ينتقل المؤلف إلى فضاء العنف الذي اتخذ من الرواية منصة ليعكس فعلاً ممارساً أو مُعايناً، كما يتجلى في عدد من الروايات التي يحللها فيدوح، ولكن الأهم من ذلك أنه يقرأ هذا العنف وتداعياته على صيغة الرواية، أو التشكيل السردي، فالسرد بات ملتبساً كما في رواية واسيني الأعرج على سبيل المثال، وغيرها من الروايات التي تبرز أثر السلطة، وتمكينها في الوعي القائم في يوميات الواقع العربي، كما تتجلى في رواية «حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصر الله، ورواية «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي، وراية «نزوح مريم» لمحمود حسن الجاسم، وغيرها.
في محور آخر، نقرأ تشكيل هوية الإنسان العربي في سياقه المعاصر المرتبك، ولكن في مرايا التاريخ كما في رواية «حكاية العربي الأخير» لواسيني الأعرج التي شكل متنها محوراً مركزياً في هذا الكتاب، في حين أن فيدوح يبحث في فصل شديد الأهمية تمثلات الكولونيالية الجديدة في الرواية عينها، وفيها يرى أن الكولونيالية الجديدة قد سعت لتحطيم الثقافة المحلية وتقويضها، بما في ذلك تحويل الذات المحلية إلى تابع، انطلاقاً من مقولات جاياتري سبيفاك، التي طورت هذا المفهوم، كما عملت على نقده في العديد من دراساتها من منطق التقابلية القائمة على حضور الأنا مقابل الآخر، وجدلية علاقة الهيمنة في سياق ثقافي وحضاري شديد التعقيد. في محور آخر، نرى أن فيدوح يتخفف من سياق الأثر الحضاري لينحو منحى قراءة الصيغ السردية في تكوينها، ولكن بدون التضحية بالعامل الثقافي، وقيم الرؤية التي تحكم عصرنا المضطرب، كما في رواية «كولونيل الزبربر» للحبيب السائح، التي تحفل بمنظور تاريخي استرجاعي يلمحه فيدوح، ولاسيما في علاقة المتخيل بالتاريخ، وما يمكن بينهما من حوار جدلي في تمكين الصيغة أو الحقيقة في ما يتعلق بالنضال، وغير ذلك من القضايا التي حفل بها تاريخ الجزائر، ومنتوجاتها الدلالية، وهنا يستعين فيدوح بعدد من المقاربات كالنموذج العاملي والمنهج البنيوي في التحليل، حيث يحلل الأدوار السردية، وهذا ينسحب على فصول الكتاب الأخرى، ولاسيما عند قراءته لرواية رجا عالم بعنوان «حبي» من حيث دور صيغ العجائبي والمتخيل، وهو ما يمكن ان نعده نسقا سردياً للتشكيل والبناء بالتعالق مع صيغة المكان، وتكوينه وتحديداً الوحدات السردية في تكويناتها الدلالية، وانعكاسات المكان، وقيمه الافتراضية، وهو ما يتقرب من شعرية السرد التي تشكل مركز عملية التحليل السردي.
في المحاور الأخيرة نقرا وعيا بخصوص الفكر، وتجلياته في الخطاب السردي، من خلال نموذج نجيب محفوظ، وأسس التكوين الفلسفي الذي بدا منزاحاً نحو صيغة تعبير متخيلة، تحتفي بالمنطق الفلسفي، ولكن في وضعية تتخفف من الأثر المباشر نحو طرح تساؤلات عميقة، كما نجدها في نموذج أشار له فيدوح، ونعني شخصية «كمال عبد الجواد» في رواية «الثلاثية»، أو من خلال روايات أخرى للروائي نجيب محفوظ.
وختاماً، ثمة محاور أخرى، تستند إلى قراءة التخيل الذاتي بين تمثل الذات، وتوقع الآخر وهنا يستعيد فيدوح نموذج السياقات، أو ذلك الاقتران بين الفواعل السردية، والمنظور الفكري القائم على البحث في نموذج سرد ذاتي أو سيرة ذاتية، كما في رواية «لقبش» لعياش يحياوي، ولا سيما جدلية الواقع، والقدرة على تمثيلها في نص يقترب من الصدق، ويبتعد في الآن ذاته في فسحة من الفعل التخييلي، ومعنى التخفف من الذاكرة بما تحمله من ألم، في حين يترك فيدوح المحورين الأخيرين لمناقشة ظاهر تتصل بالرواية الجزائرية، وتمثيل الذات تبعا لموقع الأجيال والمنظورات التي يحملها كل جيل، وما هو متوقع منه، وما يكتنف الرواية المعاصرة من إشكاليات حضارية وتعليمية وتربوية، وغيرها… ومن ثم يتحدث عن ظاهرة الرواية العربية في حوار أجرته صحيفة «البلاد» البحرينية مع مؤلف الكتاب عام 2009، ويتمحور هوس الكتابة الذي بدأ في التمكن من الكتابة العربية، نحو بوح أقرب إلى التعبير النفسي، والتوجه نحو الثالوث المحرم، والنموذج التفكيكي للقراءة النقدية، وغيرها من القضايا في هذا الحوار الذي يضمنه فيدوح في المحور الأخير من كتابه، الذي يعد إضافة حقيقية للمكتبة العربية كونه يقترب من قضايا وتشكيلات تمس واقع العالم العربي، وصيغ تعبيره في جدلياته الراهنة ضمن رؤية نقدية تتسم بالخبرة، والقدرة على الإفادة من نزعة التأويل، والأنساق الكامنة على الرغم من حيوية التاريخ، وتحولاته المستمرة.

٭ كاتب أردني فلسطيني



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 67 / 2184565

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع النقد والأدب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2184565 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40