صيحة «الشعب يريد تحرير فلسطين» التي انطلقت بقوة هادرة من على بُعد مئات الأمتار من معبر «إيريز» الواقع في أقصى شمال قطاع غزة عند نقطة التماس بين القطاع وفلسطين المحتلة عام 48. في بيت حانون والتي رددها عشرات الآلاف من أبناء فلسطين داخل القطاع بمشاركة الوفد البرلماني المصري الذي صادفت زيارته لقطاع غزة ذكرى يوم الأرض (30 مارس/ آذار الفائت) كانت بمثابة خط فاصل بين مرحلة يجب أن تكون قد مضت ومرحلة أخرى يجب أن تأتي ليس فقط بالنسبة للعربدة «الإسرائيلية» التي لا تعرف حدوداً ولا ضوابط، لعربدة شملت التوسع الاستيطاني والتهويد المتسارع للأرض والمدن، وامتدت إلى الأقصى الشريف تستهدف هدمه وإزالته، ولم يردعها قانون أو علاقات والتزامات مع أطراف فلسطينية وعربية ودولية في شن الاعتداءات وقت تريد، ولكن أيضاً بالنسبة للعمل الوطني الفلسطيني في مجمله، ابتداء من المنظور الاستراتيجي لإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني وفق برنامج وطني أضحى ضرورياً وامتداداً للعلاقات المتهاوية بين الفصائل الفلسطينية وكل مشاكل المصالحة التي لم تعد تهدد فرص احتواء الانقسام المؤسسي والحكومي بين رام الله وغزة ولكنها تتعمق وتهدد بتحويل الانقسام إلى انفصال على الأرض من شأنه انهاء القضية برمتها.
صيحة «الشعب يريد تحرير فلسطين» جاءت على لسان رئيس وفد البرلمان المصري - رئيس لجنة الشؤون العربية في كلمته أمام حشود ذكرى يوم الأرض عند معبر «إيريز» ووجدت هوى صادف مشاعر وقناعات حقيقية لدى تلك الآلاف المحتشدة التي راحت تردد الصيحة وكأنها كانت حبيسة في أعماقها وذلك في إنذار لقادة الكيان وقادة الفصائل العاجزة عن تجاوز قيود ومعوقات إنهاء الانقسام، إنذار يقول إنه لم يعد من الممكن تحمل المزيد من الاعتداءات الصهيونية التي لا تجد رادعاً والتي من شأنها تصفية ما تبقى من صمود لدى الشعب الذي يعاني قسوة الاحتلال والانقسام والحصار وقسوة تجاوزات السلطات الوطنية سواء في رام الله أو في غزة.
هذه الحقيقة أدركها تقرير «إسرائيلي» أعدته وزارة الخارجية وعرض على المجلس الوزاري المصغر في الكيان قبل أسابيع ونشرته صحيفة «هآرتس» (26 فبراير/ شباط الماضي) يقول إن استمرار الجمود في ما يسمى بعملية السلام وعدم الاستقرار في «الشرق الأوسط» من الممكن أن يدفع قيادة السلطة الفلسطينية إلى تصعيد العنف ضد «إسرائيل» وإن القيام بعملية عسكرية في قطاع غزة سوف يؤدي إلى ردود حادة جداً من مصر.
وبحسب تقديرات هذا التقرير الذي أعده مركز الدراسات السياسية في وزارة خارجية العدو فإن سيناريو اندلاع انتفاضة ثالثة قائم في العام الحالي 2012، سواء جاء بقرار من القيادة أو في إطار تفجر شعبي متأثر بالثورات العربية في الأقطار المجاورة.
ما لم يقله هذا التقرير أن مثل هذه الانتفاضة، إن حدثت، فإنها لن تكون ضد الاحتلال فقط هذه المرة لكنها سوف تكون ضد السلطات الفلسطينية المتصارعة والعاجزة عن الوفاء بالمطالب الشعبية الوطنية منها والشعبية، عندها لن يقتصر الهدف على دعوة «الشعب يريد تحرير فلسطين» بكل ما تعنيه من رفض للسياسات الفلسطينية العاجزة عن تحقيق أي إنجاز وطني على طريق تحقيق السلام، والعاجزة أيضاً بصراعاتها الثنائية وتحالفاتها العربية والإقليمية عن توحيد الإرادة الوطنية وطرح خيار بديل للسلام الوهمي الذي تحول إلى استسلام، ولكن سوف يمتد إلى دعوة «الشعب يريد اسقاط النظام» التي باتت شعاراً موحداً للثورات العربية، وهنا ستكون الانتفاضة ضد من يحكمون في رام الله وفي غزة ومن هم عاجزون عن تجاوز تلك الثنائية البغيضة التي باتت تتهدد الوحدة الوطنية الفلسطينية.
قادة العدو أدركوا نصف الحقيقة الخاص بهم وراحوا يستعدون لمواجهة التحديات للحيلولة دون حدوث مثل هذه الانتفاضة ولكن على طريقتهم التي لا تقدم سوى الحلول الأمنية الفاشلة في ظل صراعاتهم الداخلية ومزايداتهم على بعضهم بعضاً داخل حزب الحكومة والائتلاف الحاكم وداخل حزب المعارضة الرئيس (كاديما)، لكن للأسف لم يدرك القادة الفلسطينيون هذه الحقيقة بعد، وما يتردد الآن من فشل يتهدد جهود المصالحة وما تم التوصل إليه في اتفاق القاهرة ومن بعده إعلان الدوحة يؤكد أن هؤلاء القادة لم يدركوا بعد أن شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» يقصدهم دون غيرهم، وربما يمكن استثناء عدد من قادة الطرفين الذين يحرصون على إنجاح المصالحة وتنفيذ بنود «إعلان الدوحة» وخاصة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة محمود عبّاس (أبو مازن) على نحو ما جاء على لسان موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» بخصوص الجمود الذي يسيطر الآن على جهود المصالحة حيث أوضح أن المبررات التي صدرت من الجانبين (السلطة وحماس) ليست كافية لتعطيل المصالحة بل هي ذرائع، مشيراً إلى «ضرورة التجاوب مع المطالب الشعبية الداعية إلى إنهاء الانقسام لأن الشارع الفلسطيني غير مرتاح، وكاد أن يفقد الثقة بكلا الطرفين لمواقفهما غير القاطعة تجاه المصالحة».
ما جاء على لسان أبو مرزوق ردده معظم ممثلي المنظمات والفصائل الفلسطينية الذين التقوا وفد البرلمان المصري أثناء وجوده في قطاع غزة (28-30 مارس/آذار 2012) فقد توافق كل هؤلاء باستثناء ممثل حركة «فتح» الذي لم يحضر اللقاء بحجة أنه لم يتلق دعوة جادة للمشاركة، بأن المصالحة الوطنية هي الحل الوحيد والحتمي الآن للخروج من مأزق الجمود المسيطر على كل شيء، ومن بينها بالطبع حلول أزمة الكهرباء المتفاقمة في قطاع غزة وغيرها من الأزمات التي ثبت بالدليل القاطع أنها من محصلة التفاعلات السلبية للانقسام السياسي وتعثر المصالحة.
هذا يعني أن المصالحة هي المفتاح السحري لمشكلات قطاع غزة، لكن نجاح المصالحة وتعثرها له أسبابه الكثيرة التي أهمها الشروط «الإسرائيلية» والغربية الأمريكية والأوروبية، التي تربط بين مشاركة حركة «حماس» في حكومة وحدة وطنية وقبولها بمطالب اللجنة الرباعية الدولية، وفي مقدمتها الاعتراف بالكيان الصهيوني ونبذ العنف أي التخلي النهائي عن خيار المقاومة، ما يعني أن المصالحة ستكون، في حال نجاحها، على قاعدة البرنامج السياسي للسلطة الفلسطينية، أي تصفية مشروع حركة «حماس» معنوياً.
أمام هذا كله يبدو أن الانتفاضة الشعبية ستفرض نفسها حلاً لا بد منه، لكن يبقى التحدي الأهم هو مدى قدرة الشعب الآن على فرض خياراته.