الجمعة 23 كانون الأول (ديسمبر) 2011

وقفة مع خطابي أوباما وغنغريتش

الجمعة 23 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par عوني فرسخ

جرياً على عادة مرشحي الرئاسة الأمريكية في مطلع كل سنة انتخابية بالتنافس في إبداء تأييدهم للحركة الصهيونية و«إسرائيل»، أعلن الرئيس أوباما عن التزامه بأمن «إسرائيل» وأكد أن إدارته قامت بخطوات أكثر من أي إدارة أخرى لحمايتها. وفي المقابل غلبت العنصرية والجهل على خطاب غنغريتش، الأوفر حظاً بترشيح الحزب الجمهوري، لدرجة اتهامه شعب فلسطين بـ «الإرهاب»، وادعائه بأنه تم اختراع تاريخه. والسؤال، والحال كذلك، هل هذه المغالاة في إعلان تأييد «إسرائيل» مقصود بها كسب ود جماعة الضغط «اللوبي» اليهودية في المعركة الانتخابية، أو أنها نتاج متغيرات الواقع الأمريكي المتمثلة ببروز كل من حركة «الشاي» المتطرفة في يمينيّتها وعنصريّتها، وحركة «جي ستريت»، اليهودية المعتدلة والناقدة للغلو الصهيوني، وإقدام شباب «احتلوا وول ستريت» مؤخراً، على حرق علم «إسرائيل» في نيويورك؟ أم هي من بعض تداعيات القلق الذي سببه الربيع العربي للقادة الصهاينة؟

في محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات، ألاحظ بداية أن النظام الديمقراطي الأمريكي يتميز بما يوفره للناخبين من إمكانية التعبير عن مصالحهم من خلال جماعة ضغط «لوبي» تؤثر بصناعة القرار الرسمي من خلال انتخابات الرئيس وأعضاء الكونغرس بمجلسيه، وحكام الولايات ومجالسها. وبرغم كون اليهود لا تجاوز نسبتهم 4 .2% من مجموع الناخبين، فإن قوتهم الانتخابية تفوق نسبتهم العددية بكثير، إذ إنهم أكثر الأقليات الأمريكية تمركزاً في المدن المهمة انتخابياً كنيويورك وشيكاغو وميامي، وهم بين الأعلى مستوى تعليماً، والأكثر نشاطاً سياسياً، وأكثر أقليات العالم ثراء وإدراكاً لأهمية المال في النشاط السياسي. فضلاً عن الدور الكبير للإعلاميين والفنانين اليهود في الحياة الثقافية الأمريكية. ما جعل «الصوت اليهودي» بالغ الأهمية في صناعة القرارات الأمريكية على مختلف الصعد.

ولا خلاف على أن «الصوت اليهودي» بالغ التأثير في الموقف الأمريكي من الصراع العربي الصهيوني، إلا أن اعتباره الأول والأهم ليس إلا مغالاة ذات أهداف سياسية، الغاية منها إعفاء الإدارة والأجهزة الأمريكية من المسؤولية التاريخية والأخلاقية عن انحيازها الصارخ إلى العدو الصهيوني، فضلاً عن المساهمة سلبياً في توجه وفعالية الاستجابة العربية، خاصة الرسمية، للتحدي الذي يشكله موقع «إسرائيل» والصهيونية في الاستراتيجية الأمريكية الكونية. ذلك أن القراءة الموضوعية لواقع الأقلية اليهودية الأمريكية، توضح أنها من أكثر الجماعات اندماجاً في المجتمع الأمريكي الذي تشكل جزءاً فاعلاً فيه. والثابت أن حراك يهود الولايات المتحدة منضبط وفق الحراك الوطني الأمريكي، فهم يصوتون بصفتهم أمريكيين أولاً. وعليه فليس من الموضوعية في شيء تصور أن «الصوت اليهودي» في الانتخابات الأمريكية يقع خارج الإطار الأمريكي العام. فضلاً عن أنه لم يكن يوماً صوتاً موحداً وإنما هو متعدد وجهات النظر، وكما يتضح راهناً من تباين توجهات كل من «إيباك» و«جي ستريت».

ثم إنه منذ أقر الرئيس ويلسون وعد بلفور قبل أن يعلنه وزير الخارجية البريطانية في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 والإدارة والأجهزة الأمريكية تتعاطى مع مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني باعتباره رصيداً استراتيجياً يخدم مصالحها الآنية والمستقبلية ليس في المشرق العربي فحسب، وإنما أيضاً في عموم الوطن العربي وجواره الآسيوي والإفريقي. وهو تعاط شديد الحساسية لمتغيرات ومستجدات الواقع العربي، خاصة ما له صلة بقوى الممانعة والمقاومة الرافضة للمشروع الصهيوني.

وبالتالي يبدو جلياً أن كل تأييد ودعم للمشروع الصهيوني، إنما يصب في قناة القوى الاجتماعية الأشد تأثيراً في صناعة القرارات الأمريكية على مختلف الصعد. وهذا ما يفسر الدعم الأمريكي للحركة الصهيونية و«الوكالة اليهودية» زمن الانتداب البريطاني، وتواصله بعد قيام «إسرائيل» برغم تعزز قدراتها ومكانتها إقليمياً ودولياً، نظراً لدورها الوظيفي في خدمة الاستراتيجية الأمريكية الكونية. وعليه فإعلان الالتزام بدعم «إسرائيل» لا يخرج في التحليل الأخير عن كونه إعلاناً بالالتزام بالاستراتيجية الأمريكية لإدارة الصراع مع شعب فلسطين وأمته العربية، وإن كان ذلك لا ينفي انطواءه على تطلع إلى كسب أكبر قدر مستطاع من أصوات اليهود في الانتخابات الأمريكية على جميع مستوياتها.

وتعود مغالاة الرئيس أوباما والمرشح المحتمل غنغريتش بإعلان دعمهما «إسرائيل»، إلى متغيرات ومستجدات الواقع أمريكياً وعربياً. فعلى الصعيد الأمريكي يشكل الحراك الشعبي المتنامي تحت شعار «احتلوا وول ستريت» تهديداً لتغوّل الرأسمالية المتوحشة الحاضنة التاريخية للمشروع الصهيوني، فيما تؤشر حركة «جي ستريت» إلى بداية تحول في موقف اليهود التقدميين تجاه «إسرائيل»، وهو تحول مرشح للتطور مع تصاعد دور اليمين التلمودي في صناعة القرار الصهيوني. فضلاً عن تنامي إدراك الرأي العام الأمريكي للطبيعة العنصرية للكيان، ومعرفته الظلم الواقع على الشعب العربي الفلسطيني في وطنه المحتل من النهر الى البحر والشتات العربي والدولي، بحيث تبدو مغالاة أوباما وغنغريتش وكأنها تعبر عن قلق رأس الإدارة الراهنة والمستقبلية تجاه المتغيرات والمستجدات المقلقة في الواقع الأمريكي وانعكاساتها السلبية على الكيان الوظيفي المسخر لخدمة المصالح الأمريكية.

ولما كانت «إسرائيل» تعيش واقعاً مأزوماً على أكثر من صعيد، ففي حكم المؤكد أن يجد صناع قرارها في مغالاة أوباما بتأكيده التزام إدارته بأمنها ما يعزز ثقتهم في مواجهة ما يساورهم من قلق تجاه تداعيات الربيع العربي، لا سيما أن محاولات احتوائه الأمريكية تنطوي على توسيع إطار النخب العربية الملتزمة خيار التسوية بشروطه الصهيو - أمريكية. كما سيجد فيها التجمع الاستيطاني العنصري ما يطمئنه إلى توافر الدعم المالي الذي يحتاج إليه في مواجهة تفاقم أزماته الاجتماعية. وأغلب الظن أن تشكل مغالاة غنغريتش في موقفه العنصري الجاهل تجاه الشعب العربي الفلسطيني حافزاً إلى النوازع العدوانية المتجذرة في الثقافة الصهيونية، وما لا يحول دون الاندفاع في مغامرة غير محسوبة تجاه المحيط العربي الإسلامي، على غرار ما اعتاده صناع القرار الصهيوني كلما اشتد تفاقم أزمات المجتمع غير الطبيعي المزروع قسراً في الأرض العربية.

وعليه، فصحيح أن كلاً من أوباما وغنغريتش يسعى إلى كسب تأييد «إيباك» وسواها من الجماعات اليهودية بالمغالاة في إعلان تأييده للصهيونية و«إسرائيل»، إلا أنهما لم يخرجا في ذلك عن الالتزام بالاستراتيجية الأمريكية التاريخية في دعم كيان وظيفي يخدم مصالح القوى الدولية التي أقامته وترعاه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2183115

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2183115 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40