الأحد 6 آب (أغسطس) 2023

السلطة إذ تنتقل إلى خط الهجوم.. أي رهانات وحسابات؟

الأحد 6 آب (أغسطس) 2023 par عريب الرنتاوي

ثمة ما يكفي من مؤشرات للاستنتاج بأن السلطة الفلسطينية قررت، على ما يبدو، الانتقال من الدفاع إلى الهجوم في علاقاتها مع خصومها ومجادليها الداخليين، بعد سنوات من الانكفاء في مربعات المراوحة والتبرير ومحاولات “وقف التدهور” في صورتها ومكانتها، سجلت خلالها فصائل فلسطينية مقاومة، نقاطاً في ملعبها، ونشأت في أثنائها، ظواهر بدت عصية التطويع، من نوع “الكتائب” المنتشرة في المخيمات وقصبات وعرين الأسود، لترتفع وتائر التكهنات والتخوفات باحتمالية انهيار السلطة، سيما حين تلج عتبات مرحلة “ما بعد عباس”.

وكان منتظراً، وفقاً لنسق تطور الأحداث في الضفة والقطاع، الممتد لعدة أعوام، أن تقضم معركة “بأس جنين”، المزيد من هيبة السلطة ومكانتها، في ضوء الأداء الانسحابي – السلبي المقيت الذي ميز سلوكها قبل وأثناء المعركة، مقابل الصمود والبسالة اللذين ميّزا أداء المخيم ومقاوميه.

لكن ما لحِظناه، أن ثمة نفساً جديداً، ونبرة أشد حدة وارتفاعاً، قد برزت على غير صعيد.

في هذا السياق، يمكن النظر إلى الزيارة النادرة التي قام بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى جنين وأطراف المخيم، بوصفها التعبير الأول عن “الروح الجديدة” التي تُميز أداءها، ويمكن النظر كذلك إلى “الجرأة” على شن حملة اعتقالات طاولت مقاومين وناشطين من فصائل عدة، أكثرهم من الجهاد الإسلامي، الذي قاد معركة جنين، وقبلها خاض 3 مواجهات في غزة، متصدراً معاركها، أو متروكاً وحده، بوصفها مؤشراً إضافياً على سلوك وتوجه جديدين، يصح معه الوصف بأننا إزاء “انعطافة” في سلوك السلطة، لا ندري حتى الآن، إن كانت ظرفية ومؤقتة، أم أنها تعبّر عن توجه أعمق وأبعد مدى.

وثمة مؤشر ثالث يدلل على صدقية ما ذهبنا إليه، يتجلى في رفض السلطة المتعنت نداءات الأمناء العامين وقادة الفصائل، التي سبقت ورافقت اجتماعهم في القاهرة، لإطلاق سراح السجناء والمعتقلين، فقد وقفت السلطة بـ“صلابة” ضد هذه النداءات، التي كادت تتهدد الاجتماع نفسه، ورفضت الربط بين قضية السجناء واجتماع القاهرة، وجازفت بمقاطعة 3 فصائل له (أبرزها الجهاد بالطبع)، مثل هذا السلوك، لم يكن منتظراً من سلطة كُتبت عشرات المقالات والتقارير الإعلامية والدبلوماسية والأمنية، التي تتحدث عن تأكّلها وقرب مواجهتها لـ“سيناريو الانهيار”.

حتى إن اجتماع القاهرة نفسه، يمكن النظر إليه، كما فعل مراقبون كثر، بوصفه إنجازاً للسلطة والرئاسة في لحظة ضعفها، وهدفاً مسجلاً في مرمى الفصائل المقاومة، فالاجتماع تقرر في زمانه ومكانه وجدول أعماله، من جانب واحد، والاجتماع الذي ترأسه محمود عباس، بغياب الوسيط المصري، الذي لم يتعد دوره فيه، دور “المضيف”، أعطى الرئاسة “شرعية فصائلية” كانت بأمس الحاجة إليها، علّها تعوض بها قسطاً من خسارتها لشرعيتها الشعبية، التي تشفّ مختلف استطلاعات الرأي العام المتعاقبة عن تناقصها وتأكلها على نحو متسارع وغير مسبوق.

أما حكاية “البيان الرئاسي” في ختام الاجتماع، والذي جاء بديلاً من “البيان الختامي”، فهي وإن كانت تعبيراً ملطفاً عن فشل “لقاء اليوم الواحد” في إنجاز أجندة المصالحة وإنهاء الانقسام، فقد كانت لحظة مهمة بالنسبة إلى الرئيس عباس، فقد بدا كمن تم تفويضه للنطق باسم الجميع، ونجح في التغطية على الفشل، باقتراح “لجنة متابعة” لاستكمال ما أُجري من حوارات، رغم أن الجميع يعرف تمام المعرفة، بأن حظوظ هذه اللجنة، لن تكون أفضل من حظوظ اجتماع قادة الفصائل وأمنائها العامين.

أما في البعد السياسي، فقد بدا أن خطاب السلطة في حوارات “أنقرة – القاهرة”، استعاد بعضاً من مفرداته القديمة، من دون النظر إلى مستجدات السنوات الفائتة على المسرحين الفلسطيني والإسرائيلي، ذلك أننا منذ زمن، لم نسمع أحداً من قادة السلطة يتحدث بهذه النبرة القوية عن “سلطة واحدة، قانون واحد، وسلاح واحد”، وعن مطالبة الفصائل بإلقاء السلاح، أقله في الضفة الغربية، والذهاب إلى “مقاومة شعبية سلمية”، باعتبارها الوسيلة المثلى لنيل الحقوق وانتزاع المكتسبات، في الوقت الذي تجنح فيه “إسرائيل” للفاشية والعنصرية، وتعيث قطعان المستوطنين فساداً وقتلاً وتخريباً وتجريفاً للأرض والحقوق، وفي الوقت الذي تتنامى فيه مقاومة الضفة ويتصاعد غضبها، ويخرج جيل جديد من الفلسطينيين للتصدي بصدور عارية لـ“الجيش” والميليشيات المدججة بالسلاح والكراهية، ويتنامى التأييد الشعبي لظاهرة المقاومة المسلحة وكتائبها و“عرينها”.

طرح شعار “سلاح واحد”، كان يحتاج “جرأة” عالية، في هذه اللحظة بالذات، سيما أن هذا السلاح أظهر عجزه المتكرر والمزمن، عن حماية الفلسطينيين والدفاع عن بيوتهم وشبانهم وممتلكاتهم وحقوقهم.

وفي السياسة أيضاً، يمكن الافتراض بأن “العقل الفلسطيني” ما كان ليعدم الوسيلة لإدماج حماس والجهاد في أطر المنظمة ومؤسساتها، من دون الإضرار بالمكانة الدولية لـ“الممثل الشرعي الوحيد”، ولا باعتراف 140 دولة في العالم بها وبدولة فلسطين، لو توفرت أصدق النيات لفعل ذلك.

لكن التعامل الحرفي مع النصوص والصيغ، والإصرار على إلزام الجميع بالاعتراف بكل القرارات الدولية، وبكل التزامات السلطة، بدا أمراً مخيّباً للآمال، يعكس رغبة في إبقاء الحال على حاله، ورفض منطق الشراكة وفلسفتها، ولو أن التوجه للملمة الشمل الفلسطيني كان جاداً ومسؤولاً، لطُرحت صيغ تكفل النجاح لـ“المزاوجة” بين مصلحتين وطنيتين: التقدم على طريق المصالحة وإنهاء الانقسام من جهة، وتفادي الانزلاق لمواجهة غير ضرورية مع المجتمع الدولي من جهة ثانية.

لكن شتان بين “التفكير الإيجابي” بالحل والحاجة إليه، وبين “تفكير سلبي” يبدي شغفاً باستحضار “شروط تعجيزية”، ودائماً ضمن لعبة “تقاذف الكرات”، وتسجيل الأهداف في مرمى الآخر، ووفقاً لقواعد “اللعبة الصفرية”.

ولو أن المجتمعين في القاهرة خصصوا دقائق معدودات لاستحضار برنامج الائتلاف اليمين الحاكم في “إسرائيل”، واستذكار طروحات مكوناتهم واتفاقاتهم الائتلافية، لاستخلصوا أنه لن يكون بمقدورهم الركون إلى “التزامات” داسها الطرف الآخر بقدميه، ودفنها وأهال عليها التراب منذ زمن بعيد، ولتعلموا درس تخطي العقبات التي تحول دون إدماج أكثر العناصر فاشية وإرهاباً في النظام السياسي، مع أننا لا نقيم تماثلاً، ولا نعقد مقارنة بين فصائل العمل الوطني والإسلامي الفلسطينية، وقوى الفاشية العنصرية في “إسرائيل”، ومعاذ الله أن نفعل ذلك.
من أين تأتي السلطة بـ“حليب السباع”

ثمة مصادر ثلاثة تستقي السلطة منها جرأتها المُستجدة، وتفسر انتقالها من التبرير – الدفاع إلى المبادرة – الهجوم:

الأول؛ هي تدرك أنها تخوض معركة “بقاء”، بعد مسلسل الانهيارات والقضم المتدرج في هيبتها ومكانتها ونفوذها و“سلطتها”، إن بفعل عدوان الاحتلال أو تكرار تعديات المستوطنين، أو بفعل اتساع رقعة مقاومة الضفة وغضبها.

في معركة البقاء، حتى بالنسبة إلى “سلطة ضلت طريقها نحو الدولة”، لا ينبغي لها ادخار أي ورقة أو سلاح. هي تعرف أنها “حاجة” دولية وإقليمية وإسرائيلية، لتفادي سيناريو الانفجار الكبير، وهي تدرك، كما أي طفل فلسطيني، بأن “حل الدولتين” وفكرة “الدولة المستقلة على خطوط 67” باتت وراء ظهرها، ولكنها ما زالت تمارس “لعبة التكيف مع السقوف المتاحة”، والسقف المتاح إسرائيلياً، الإبقاء على سلطة تتولى وظائف استراتيجية ثلاث:

(1) الوكالة الأمنية عن الاحتلال.

(2) “الترانسفير القانوني” وهو التعبير الذي أطلقه أحد الزملاء على وظيفة منح وثائق لخمسة ملايين ونصف مليون فلسطيني في الضفة والقطاع، لا ترغب “إسرائيل” في منحهم وثائقها، وتدرك أنه لا يمكن إبقاؤهم في خانة “Stateless”، أو بالعرف العربي الدارج “البدون”.

(3) خفض كلفة الاحتلال وإعفاء القوة القائمة به من مسؤولياتها عن توفير الخدمات والاحتياجات الأساسية للشعب الرازح تحت نيره.

والمؤسف حقاً أن “السقف الإسرائيلي”، لم يعد منخفضاً كثيراً عن “السقوف” التي وضعها الإقليم للحل النهائي، إذ على الرغم من التشدق بحل الدولتين، والدولة على خطوط الرابع من حزيران وعاصمتها القدس، فإن ما يتناهى إلى أسماعنا من معلومات، يؤكد أن الناطقين بهذه الشعارات، عرباً وأجانب، لا يعنون ما يقولون تماماً، وأنها ليست أكثر من “قنابل دخانية” للتغطية على مضامين الحل الذي يجري بحثه والتداول فيه.

الثاني؛ ما يُكشَفَ من معلومات، ومن مصادر متعددة وموثوقة، عن انغماس إدارة بايدن، وبايدن شخصياً، في بلورة “صفقة قرن جديدة”، تتجلى هذه المرة، بإبرام صفقة تطبيع بين “إسرائيل” والسعودية، تقوم بموجبها واشنطن بإبرام “معاهدة دفاعية” مع الرياض، على غرار “الناتو”، وتزودها ببرنامج نووي طموح، لأغراض مدنية وتحت إشرافها، وإتمام صفقات تسلح فلكية معطلة منذ سنوات، فضلاً عن مطلب المملكة من “إسرائيل”، أن تدفع قسطها من ثمن الصفقة بالعملة الفلسطينية.

هنا، نفتح قوسين لنشير إلى أن الخطاب الرسمي السعودي ما زال مستمسكاً برؤية “الدولتين” وملتزماً بروح المبادرة العربية للسلام: التطبيع يلحق بإنهاء الاحتلال، وأن دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، ما زالت في محور الخطاب السعودي.

لكن التسريبات المحيطة بالجهد الأميركي الرامي إلى إتمام “صفقة القرن الجديدة”، تشير إلى انخفاض مرجح في سقف المطالب السعودية، والاكتفاء بتعهد رسمي بعدم ضم الضفة أو المنطقة (ج) منها، وتجميد الاستيطان وحصر توسعه في القائم منها، بالتوازي مع تعزيز قدرات السلطة الأمنية، وإلحاق بعض أجزاء من المنطقة (ج) بها. أي أن المملكة باختصار، لم تعد تشترط الوصول إلى “خط النهاية” قبل التطبيع، بل إطلاق عملية ‘Process”، لا أحد لديه يقين بأنها ستصل إلى خواتيمها.

هذا الحراك الأميركي على خط التطبيع بين “تل أبيب” والرياض، والذي يقال إن بايدن معنيّ شخصياً بإتمامه قبل الدخول في أتون حملته الرئاسية، أي قبل نهاية العام أو بداية العام المقبل، يراد به “ضرب عصفورين بحجر واحد”، الأول؛ إطفاء اعتراضات التيار التقدمي داخل حزبه الديمقراطي على سياسة واشنطن حيال “إسرائيل” والسعودية في آن.

والثاني؛ مزيد من الأصوات في صناديق حملته الانتخابية المثقلة بهواجس “كبر السن” و“فساد العائلة” وأهلية الرئيس لولاية ثانية وأخيرة.

رهان السلطة التي رفضت مسار التطبيع الإبراهيمي، بخس الثمن فلسطينياً، ينعقد اليوم، على “جائزة الترضية” التي يمكن أن يتحصل عليها الفلسطينيون من صفقة التطبيع السعودي – الإسرائيلي، إذ ليس في الأفق، ما يفسر “عودة الأوهام والرهانات الخائبة” سوى هذا التطور، المرتبط بحملة بايدن وحزبه الانتخابية.

لكنه ككل الرهانات السابقة، وأكثر منها، رهان خائب ويائس، ففي أحسن الاحتمالات، لن تحصل فلسطين بنتيجته سوى على نتيجة لا تتخطى كثيراً حدود “صفقة القرن” الترامبية ومعاييرها الحاكمة، أما الاحتمال الأكثر ترجيحاً، فهو فشل بايدن في إتمام الصفقة، إن لأسباب أميركية بحتة، عائدة لمقاومة كثيرين في واشنطن لها، أو لأسباب إسرائيلية، متصلة بالنفوذ المتعاظم لليمين المتطرف في عمليات ومؤسسات صنع القرار، أو لأسباب سعودية تتصل بقدرة الرياض على دفع الثمن لواشنطن، من كيس علاقاتها مع كل من روسيا والصين وإيران.

لكن، مع ذلك، يبدو أن الغريق الفلسطيني في رام الله ما زال يتعلق بحبال الأوهام، وبأي قشة يمكن أن تفتح “كوّة” في جدران الانسداد والانحباس.

الثالث؛ ويتصل بضعف أداء مجادلي السلطة وخصومها الداخليين، فجبهة القوى المقاومة الفلسطينية فشلت بدورها في الوصول إلى تفاهمات مشتركة لإدارة ملف المصالحة والحوار والمعتقلين واجتماع القاهرة، والجهاد ترك لمرة جديدة، وحيداً في معركة “المشاركة مقابل السجناء”، وهو فشل مردّه اختلاف مواقع الفصائل الذي ينعكس تبايناً في مواقفها وأولوياتها، فالجهاد متحررة من التزامات السلطتين المتنافستين، والجهاد أخرجت نفسها من لعبة الصراع على السلطة وتقاسمها، والجهاد لم تقل يوماً أنها بصدد الانخراط في ترتيبات وتسويات مع الإقليم، على حساب ما تعتقده مواقف مبدئية.

لكل هذه الأسباب، تجد السلطة نفسها في موقع جديد، وتتحدث بنفَس ونبرة جديدين، ولكل هذه الأسباب، لم يكن الذهاب إلى أنقرة والقاهرة، بغرض استعادة الوحدة، بقدر ما كان بحثاً عن “شرعية تمثيلية” واعتراف فصائلي متجدد، ورغبة في “تقطيع الوقت”، وإعطاء فرصة لبايدن لإتمام مشروعه، والأهم من كل هذا وذاك، كسب معركة البقاء بأي ثمن، وتوظيف الشقوق في جدران المعارضة.

وعلينا أن ننتظر، من الآن وحتى نهاية العام الجاري على أقل تقدير، فيضاً من الزيارات الأميركية خفيضة المستوى لرام الله و“ترمسعيا” كما فعل بالأمس، أندرو ميلر، مساعد نائب بلينكن، ورفيعة المستوى لكل من الرياض و“تل أبيب”، ويتعين علينا مراقبة مسار “العقبة – شرم الشيخ” الذي قد ينشط مجدداً، جالباً معه خطة الجنرال مايكل فينزل، وكحاضنة إقليمية – دولية لـ“التنسيق الأمني”، المرشح للتعمق والتوسع، من مخيم جنين إلى عين الحلوة، فتلكم هي مقدمات ضرورية لتسليك الطرق أمام “صفقة القرن الثانية”.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2183429

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع مقالات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2183429 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40