نتنياهو يحصد الفشل والسلطة ثاني الخاسرين

“جِنين” المخيم إذ يتحول إلى “جَنين” مقاومة في كل مخيم وقرية ومدينة فلسطينية..جنين المخيم يصنع “أسطورته” بنفسه، بصمود أهله وبسالة مقاتليه، هي ليست المرة الأولى، فقد فعلها من قبل، وسيفعلها من بعد، فالمعركة انتهت، لكن الحرب مستمرة... في العام 2002، تحوّل المخيم إلى ركام وأنقاض، واقترفت “إسرائيل” واحدة من مجازرها الأبشع بحق البشر والشجر والحجر، و“المجزرة” مفهوم مؤسس في الفكر الصهيوني، ولبنة أساسية من لبنات الكيان الاستعماري – العنصري، لكن المخيم أذاق “إسرائيل” طعم الألم والفقدان، وتحوّل إلى مقبرة للغزاة... وفي العام 2023، يعاود المخيم سيرته في صنع الملاحم وتقديم الأنموذج والمثال. جنين المخيم، الذي لا تزيد مساحته على نصف كيلومتر مربع، ولا يربو تعداد ساكنيه عن السبعة عشر ألفاً، يختصر بين مبانيه المتهالكة وأزقته الضيقة حكاية “النكبة والمقاومة”، وسرديات الألم والبطولة.

خرج نتنياهو وغالانت على رأس حملة مسعورة ضد المخيم، بعد أشهر طوال من عمليات الشحن والتحريض، التهديد والوعيد، استخرجا ما في أدراج حكومة بينت - لابيد من مخططات “معدّة سلفاً” لضرب المخيم واجتثاث مقاومته، وأضافا إليها بصمات الفاشية – الدينية للائتلاف القائم. جندوا لواءً معززاً، واستدعوا الطائرات الحربية والعمودية والمسيّرة. جلبوا الدروع و“دفدوفان” وجنرالات الشاباك لتمهيد الطرق والأزقة للوصول إلى “مكامن الإرهاب”. استعانوا بالجرافات الثقيلة لتسوية شوارع المخيم وبيوته بالأرض، وقضوا 48 ساعة ثقيلة، فكيف كان حصاد العملية التي أعطيت اسماً على غير مسمى: البيت والحديقة؟

لقد نجحوا، نعم نجحوا، في تدمير المنازل (أكثر من 80% من الوحدات السكنية البالغ عددها ألف وحدة) تم تدميرها كلياً وجزئياً، تشريد ثلث سكان المخيم إلى المدينة والبلدات المجاورة (4000 مبعد قسراً عن منزله)، القضاء على البنية التحتية من ماء وكهرباء وطرق واتصالات وصرف صحي، أسقطوا 12 كوكباً (8 منهم من شهداء الجهاد الإسلامي) و10 أضعافهم من المصابين والجرحى، واختطفوا عشرات الشبان كأسرى ورهائن... الفاتورة ثقيلة على مخيم بهذا الحجم.

لكن نتنياهو لم يخرج في حملته على جنين المدينة والمخيم، لتحقيق هذه الأهداف أساساً، مع أنها أهداف مرغوبة وتُرضي نهم الصهاينة للقتل والتدمير والتخريب، “إسرائيل” خرجت في حملتها لتحقيق هدفين اثنين: الأول؛ مباشر، ويتعلق باجتثاث شأفة المقاومة وتمريغ أنف المخيم بالوحل، واستعادة ما تبدد من صورتها الردعية. والثاني؛ بعيد الأجل، كشف عنه نتنياهو قبل يوم واحد من الحملة العسكرية على جنين: اجتثاث أحلام الفلسطينيين في الحرية والاستقلال في دولة. فما الذي تحقق من هذين الهدفين؟

يمكن القول، بكل موضوعية، بعقل بارد، ومن دون الغرق في “النزعات الانتصارية” التي تنتعش في مثل هذه المناسبات، بأن “الجيش الذي لا يقهر”، خرج مهزوماً من مخيم جنين، يجرجر أذيال الخيبة. عجز عن قطع عشرات الأمتار إلى قلبه وعمقه، وظل على حواشي المخيم وأطرافه. لم يتمكن من السيطرة على مساحة منه، إلا بعد تهجير سكانها، لاستخدام منازلهم كطرق التفافية على المقاتلين اليقظين، بعد أن يهدّم جدرانها، ويحيلها إلى ما يشبه الأنفاق في مدن الحرب الأهلية وحروب الشوارع.

المقاومة صمدت، وتفوقت على نفسها في مخيم جنين. امتصت صدمة اليوم الأول والهجوم البري والجوي الكثيف، وحوّلت ميزان المعركة لمصلحتها مع ساعات الشروق الأولى لليوم الثاني، واضطر العدو إلى الانسحاب تحت النار، وتكبّد أكبر خسائره وهو في طريقه للعودة إلى قواعده، غير آمن وغير سالم.

بدل تعزيز صورة الردع الإسرائيلية، وإعادة “الهيبة” إلى “الجيش الذي لا يقهر”، قضم الفلسطينيون في جنين جزءاً إضافياً من “هيبة” هذا “الجيش” وصورته الردعية. حتى إن نتنياهو المنتفخ كذباً وادعاءً، اضطر إلى القول: “لنا موعد قادم مع مخيم جنين”.

انتهت الجولة / الحملة، وبدأ الفلسطينيون يبلسمون جراح المخيم وساكنيه، وهم على موعد مع جولة/حملة جديدة، لكن طلائعهم القتالية الشابة، لن تتوقف عن “خوض المعارك الصغرى بين الحروب الكبرى”، وسيشرعون في مطاردة جنود العدو ومستوطنيه، بأسرع مما ظن نتنياهو وأركان حربه. لا شيء تغير بعد معركة “بأس جنين”، سوى أن مقاتلي الحرية الفلسطينيين قد اكتسبوا خبرات جديدة، وتمرس جيلهم الشاب الجديد، بخوض المعارك والمواجهات، تماماً مثلما الفولاذ، لا يُسقى إلا بالنار. جنين المخيم، بات “جَنين” مقاومة ينمو ويكبر في رحم كل مخيم وقرية ومدينة فلسطينية.

ليس في “إسرائيل” كثيرٌ من العقلاء، لكن هؤلاء على قلّتهم، ما عادوا يطيقون صبراً على أكاذيب نتنياهو وهيئة أركان حربه، فخرجوا يحذرون من موجة مقاومة جديدة، وينبّهون إلى أن “المهمة لم تنجز”، وأن جنين قد يتحوّل إلى نموذج ملهم، قابل للتكرار وإعادة الإنتاج في مختلف المخيمات والمدن والبلدات الفلسطينية المحتلة، وأن حملة نتنياهو جاءت بنقيض أهدافها ومراميها. وأن على “إسرائيل” أن تعتاد العيش مع مقاومة شعب عنيد، لا يعرف الهزيمة ولا الرايات البيضاء.

أما في الشق السياسي، أو بالأحرى السياق السياسي للحملة العسكرية على جنين، فقد أمكن تسجيل ثلاثة مواقف لنتنياهو أدلى بها في غضون 24 ساعة فقط، تكشف المستور، أو بالأحرى السر الذائع. الأول؛ أن هدف حكومته اجتثاث الحلم الفلسطيني بدولة مستقلة، نتنياهو والذين معه، لم يكتفوا بتدمير فكرة الدولة الفلسطينية على الأرض، حتى صاروا يطاردونها في “أحلام الفلسطينيين”.

الثاني؛ لا نريد للسلطة أن تنهار، ففي بقائها مصلحة كبرى لـ“إسرائيل”، ولأن السلطة التي يتحدث عنها ليست مشروع دولة، تعهد بمطاردتها في أحلام الفلسطينيين، فمعنى ذلك أنه يريد “كياناً عميلاً”، بوظيفتين أو ثلاث وظائف: وكيل أمني في المقاوم الأول، وجهة رسمية تمنح جوازات سفر للفلسطينيين تفادياً لضغوط الديموغرافيا الفلسطينية وإكراهاتها، ومزود خدمات يرفع عن الاحتلال كلفه ويعفيه من مسؤولياته... هكذا يفكر نتنياهو، بل هكذا تفكر “إسرائيل”.

أما الموقف الثالث؛ فيخص الأردن، الذي قال نتنياهو في وصف علاقته بالضفة الغربية بأنها علاقة احتلال، ضارباً عرض الحائط بوحدة الضفتين، وقاطعاً الطريق على أي دور أردني مستقبلي، نتنياهو الفرح بتحرير الضفة الغربية والقدس من “الاحتلال الأردني”، يحتفي ببسط السيادة الإسرائيلية على ما هو “حق لإسرائيل” بموجب الأساطير التوراتية، وما يعتقده “قانوناً دولياً”.

في هذا السياق، ننظر إلى معركة جنين، بوصفها حلقة في مسلسل تفريغ الأرض وإرهاب السكان بهدف تهجيرهم، وتدمير روح المقاومة، وتمهيد الطريق للضم الاستيطاني الزاحف على مختلف أجزاء الضفة الغربية، وجعل عملية ابتلاع الأرض والحقوق والمقدسات الفلسطينية، تتم بتسارع أعلى وكلفة أقل.

لكن حسابات حقل نتنياهو لم تتطابق مع حسابات بيدره، فجنين المخيم، ألهم الفلسطينيين في مختلف أماكن وجودهم، الصبر والثبات والتحمّل والمقاومة. وجنين المخيم، برهن أن الكف يمكن أن تقاوم المخرز وتكسره كذلك. وجنين المخيم، الذي ودّع بالأمس كوكبة من شهدائه، أصغرهم سناً لم يتم الستة عشر عاماً، وأكبرهم عمراً، لم يتجاوز الثلاث والعشرين سنة، يلهم جيل الألفية من الشبان الفلسطينيين، جيل ما بعد أوسلو وهندسات طوني بلير والجنرال كيت دايتون، الذي يتقدم الصفوف اليوم، رافعاً راية الحرية والاستقلال.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن مقاومة جنين المخيم، التي نجحت في طرد الغزاة المدججين بالسلاح والكراهية، ضاقت بالصامتين والمتواطئين، فرسان “التنسيق الأمني”، وأجهزتهم الأمنية التي تستنزف أكثر من ثلث موازنتهم، من دون أن يكون لها دور في حمايتهم، بل إن بعضها الأكثر ولاء لنظرية “الإنسان الفلسطيني الجديد”، لم يجد حرجاً في مطاردة مقاتلي “الجهاد” في جبع، في ذروة الاشتباك مع حملة نتنياهو / غالانت... لقد منح المخيم /الأسطورة، فرسان أوسلو وسلطتها، ما يستحقونه من “حسن الاستقبال” في مراسم تشييع الشهداء، فكانت السلطة الخاسر الثاني، بعد نتنياهو، في الحملة الأخيرة.