أثارت مقالة سليم بركات الكثير من التفاعلات حول شخصية محمود درويش ورمزيته، فضلا عما أثارته حول شخصية سليم بركات نفسه. وقد جاءت هذه التفاعلات في معظمها في سياق الفعل وردة الفعل، فهاجم البعض محمود درويش، ودافع البعض عنه، في حين انشغل آخرون في مهاجمة بركات.
بعيدا عن فكرة التحيز لدرويش، فإن ردود الأفعال التي أثيرت مؤخرا، تضعنا أمام أسئلة مهمة تتعلق بشخصية الشاعر ودوره الإنساني، فمن هو الشاعر؟ وهل ينبغي له أن يمثل كيانا أخلاقيا منسجما؟
لقد مر الشعر العربي بمراحل عديدة قبل تشكل المفهوم الحديث للشاعر في العصر الحديث، وقد انشغل النقد العربي الحديث بالتحولات التي طرأت على موسيقى الشعر ولغته وأدواته دون أن يولي اهتماما كافيا بالتحولات التي تتعلق بوظيفة الشعر ودور الشاعر، إذ تجاوز الشعر في العصر الحديث الأغراض التقليدية من مدح وهجاء وغزل ورثاء، ليتجه إلى تكوين رؤيته للكون والحياة.
إن الأغراض الشعرية التقليدية تضع الشاعر في موقف مرحلي من موضوع ما، ففي المدح يتموضع الشاعر في مقابل الممدوح، وفي الرثاء يتخذ موقعه أمام المرثي، لتبرز رؤية الشاعر في ثنايا هذه الأغراض، ولعلنا لا نغامر إذا قلنا إن تشكل المدينة والدولة في العصرين الأموي والعباسي قد أخذ الشعر في هذا المنحى بعد أن كانت تبرز فيه ملامح التأمل بصورة أكبر في العصر الجاهلي.
هذه الأغراض التي تستولي على الموقف الشعري تجعل الشاعر في حل من ثقل الرؤية، فنجد أن أبا تمام قد ملّ من قول الشعر والتكسب به، فعينه الحسن بن وهب على بريد الموصل، ونرى أن البحتري استطاع أن يجمع ثروة من قول الشعر. وسننأى بأنفسنا عن سلوك أبي نواس، وتوجهات بشار بن برد.
كتب عبد الوهاب البياتي في ستينيات القرن الماضي قصيدة بعنوان “إلى شاعر عدو” يهاجم فيها شعراء السلطة، ويحاول من خلالها أن يصوغ مفهوما جديدا للشعر ووظيفته في ظل عالم مختلف ومرحلة مختلفة لا تهمش المعطى الجمالي، كما أنها لا تتجاوز المعطى الرؤيوي. فهل ينبني على هذا التحول في مفهوم الشعر تحول في مفهوم الشاعر؟
لا شك أن من غير الممكن أن نطالب الشاعر بالنبوّة، فالشاعر في النهاية صاحب رؤية وليس صاحب رسالة، وتبني الرؤية يفترض بطبيعة الحال استخلاص هذه الرؤية من خلال التجربة بما فيها من إصابة وخطأ، على عكس الرسالة التي تأخذ طابع القداسة. غير أن الرؤية والرسالة لا تنفصلان بطبيعة الحال عن صاحبيهما، وإن أردنا أن نقارن الشاعر من ناحية انكشافه أمام الآخرين فسيبدو الأكثر انكشافا على الإطلاق، ولعلنا لا نجانب الصواب إن عرفنا القصيدة على أنها زلة لسان كبيرة.
لو لم يكشف سليم بركات سر درويش لانكشف بطريقة أو بأخرى، فلا أسرار للشعراء، والشاعر في تشكله الحديث ضمير الناس ووجدانهم الجمعي، وهو ليس نبيّا في الوقت نفسه، بل يخطئ كما يخطئ الناس ويصيب كما يصيبون. والناظر في مقالة بركات المنمقة سيرى وجهة نظر درويش في الأبوّة، إذ تبنى الشاعر الشعر، ولم يتجه إلى ذلك الحمل الثقيل، مكتفيا بخفة الشعر وثقل مسؤولية الرؤية.
ميراث درويش أكبر من أن يهزه خطأ، ورؤيته أكبر من أن يخلخلها سلوك. وإن كانت سير الشعراء تشكل قصائد تقوم بإزاء قصائدهم المكتوبة فإن قصيدة سيرة محمود درويش حملت قلق “لاعب النرد”، كما حملت ثبات “سجل أنا عربي” كما حملت انتكاسة “لماذا تركت الحصان وحيدا”، وهي في النهاية جدارية لا تقل عن تلك التي يمكن أن نقف من خلالها على جداريته الشهيرة.
الأحد 14 حزيران (يونيو) 2020
محمود درويش وأسئلة الشعر
د. شفيق طه النوباني
الأحد 14 حزيران (يونيو) 2020
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
20 /
2194886
ar ثقافة وفن مواد مقالات ومحطات ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
13 من الزوار الآن
2194886 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 12