السبت 8 شباط (فبراير) 2020

رواية «موت مختلف»: على هامش الرد والمقاومة

السبت 8 شباط (فبراير) 2020

لا يجادل اثنان في تماشي رواية «موت مختلف» للكاتب المغربي محمد برادة، مع الخطابات الثقافية الأكثر معارضة لدعاوى احتكار الحقيقة وتمثيل التحولات المختلفة، التي تحيط بالذهنيات والهويات والأنساق الناظمة للمجتمع، وتنهض على أساس التفاعل الثقافي والهجنة، واستثمار ثقافة الآخر من أجل تفكيك بنيات السيطرة في ثقافته.
لقد انتقد السارد منير التجربة الفرنسية وتعاملها مع غير الفرنسيين، بعد تبنيه للفكر اليساريّ الفرنسي، وصوغه فكره الاجتماعي والاقتصادي بناء عليه، فوجَّهَ له نقدا حادا، من موضع هامشي مضاد، تمكن من خلاله فضح الأوهام الكائنة داخل الأنظمة الغربية، وتقويض الأفكار الرجعية، التي شكلت تَمَلُّكا وتصدُّرا على الآخر، وتكوين نموذج بديل عبر الكتابة وما تتيحه من إمكانات.
وقد أخذ برادة عبر سارده الفكر الغربي، من خلال ما وصل إليه من تشهير لقيم الإرهاب والعنصرية، وعدم قبول الآخر، لاسيما إذا كان مسلما، وكشَفَ وهم الأعراف والأيديولوجيات والقوى الثقافية والاجتماعية، بالنظر إلى قطع جسر العلاقات الإنسانية، خصوصا ما يعانيه المهاجرون، الذين ليسوا من أصل فرنسي، ليكشف أن أوروبا ما تزال تعاني من حيف ونقص على مستوى المبادئ، يبرز معه فساد المجتمع، وأن التنديد بالديمقراطية واحترام الإنسان بصفته إنسانا شيء بعيد المنال، في مجتمع جماعة حارب/ حاربت أهل وطنه تحت ذريعة الإثنيات والعرق.
وعلى هذا الأساس، نقَّب محمد برادة في حيوات المهمشين والمنسيين، وانزاح بمعاني الأدب عن الثابت والمكتمل، وجعله مشرعا على ما هو دنيوي ومتحول، واستثمر متخيل الرحلة، لإضاءة حالة الامتهان، التي يتعرض لها الأفراد في سياقات اجتماعية وسياسية، تنتهك حقوقهم وأحلامهم، وبقدر ما يتعين الترحال سبيلا للتحرر، ومعانقة الدائرة المحلوم بها، فإنه يشكل عاملا مولدا لأسباب الحيرة والأسى، خاصة حينما تتكشف تلك المسافة الفاصلة بين ما عاشه الإنسان في فضائه الأصلي، وما يواجهه من ضروب التمرد والمسؤولية الفردية في الفضاءات الجديدة. ومن خلال ما تعرضه الرواية من أفكار، نلاحظ أن الكاتب محمد برادة يرد على أندريه جيد في روايته ”اللاأخلاقي”، التي هاجم فيها الفضاء العربي، يقول ميشيل بطل جيد: ”لم نجد أي فندق؛ بل كان هناك نزل مرعب”، فضلا عن اعتباره فضاء واحاتيا مثيرا للضحك، ليس فيه سوى الرمال والحجارة والأدغال، مقارنة مع الفضاءات الغربية، كما أنه سوَّق فكرة المرأة العربية، المومس، الشبقية، من خلال رحلة بطله في تونس والجزائر، وارتياده الحانات، يقول في وصف نساء الحانة: ”أمسكتني واحدة منهن بيدي، وتبعتها، جذبتني المرأة نحوها”، ويقول عن فتاة أخرى ووصْفِ سلوك أخيها:” إنها جميلة، وكم عانت في الأسابيع الأولى، تجيء أحيانا لقضاء الليل معي، ولكن أخاها الصغير عليا، فاجأنا ذات صباح معا، فثارت عصبيته”، فلا ريب أنه عبر هذه الصور تم تمثيَل الفضاء العربي في السرديات الكبرى ذات النزعة الكولونيالية.

واستند برادة في نصه ”موت مختلف” أثناء الرد على المركزية الثقافية الأوروبية، والفرنسية منها خصوصا، إلى النفاذ إلى أعماق الفضاء الاجتماعي الفرنسي، وفضح عالمه المسكون بانزياحات مستمرة، عبر ما اكتشفه ”منير” حينما حلّ في باريس المدينة الضاجة بالمتع وإيقاظ الشهوة، والتحريض على تجريب الحالات القصوى للحرية، إذ يجد وهو الشرقي المحافظ، المهموم بالتعلم، والمسكون بهوس المعرفة، صعوبة في التأقلم مع العالم الجديد، فالمنفى أمر دنيوي صعب، لكنه كاشف لالتماعات لا حدود لبهائها وشرف معناها. وقد مكنته علاقته بالطلاب في الجامعة من فتح مسار حياتي جديد، جعله يندمج معهم، ويحيا حياة اللذة والمتعة والجسد، وهو رد آخر على ميشيل بطل أندريه جيد، خصوصا أن هجرته رافقت انتفاضة الشباب في مايو/أيار 1968، الداعية إلى التحرر، واكتشاف أسرار الجسد، ولعل هذا ما جرَّه للافتتان باللحظات والإنصات للجسد، مع أول تجربة خاضها مع جوسلين، التي روضت الشهوة عنده، ولا شك أن منير، وهو يقرأ ”بؤس العالم” لبورديو، ويجسد التحامه الإيروسي مع جوسلين ، يحقق هدفين متراكبين في الوقت نفسه، إذ يصل بجسده إلى عمق الحياة وقوانينها النقية، ويضمن لأفكاره المستمدة من بورديو قيمة ملموسة من جهة أولى، وينفتح بجسده بعد ذلك على علاقات مع نساء أخريات، ككاترين، وإيفلين من جهة أخرى، ويصل التحرر (الحرياتية) عندهن، النابع من قيم الثورة التحررية المعادية للتزمت، (ثورة 1968) المؤمنة بحرية الفرد في معتقده، إلى صوغ شعارات تندد بتحرير العلاقة بين النساء والرجال، ومعاشرة النساء لبعضهن، وهو ما تنفتح عليه الرواية عبر معاشرة كاترين صاحبتها ومساعدتها لويز.
ويفتح لنا بذلك الكاتب أفقا نشرئب من عليائه لمعاينة انبثاق النقيض من حالات الطمأنينة، والاطلاع على أسرار انجذاب المرأة نحو مثيلتها، ويجول بنا عبر رسم مبهر في لوحة ”نساء تاهيتي” التي أبدعها ”غوغان”، إذ تحضر النساء بوصفهن ذواتا فاعلة مليئة بالسحر والإثارة، للتأكيد على أن حب المرأة جزء أساسي من حب الحياة، وأن حب الحياة المتمثل في المرأة رمز اللذة الحسية والاتقاد العاطفي، يتكامل بدوره مع استقامة المبادئ الكائنة مع القيم التنويرية لثورة 1789 الفرنسية، ولأهداف انتفاضة الطلاب في سنة 1968. وينتقل الكاتب إلى أفق أكثر تطلعا للرد عبر سارده، فلا يجد (منير) وهو بطل الرواية، إلا الوقوف عند حياة باتت لا مجدية أمام ذلك المسار الذي تميزت به فرنسا، خصوصا بعد اتساع دائرة اليمين، وانتشار ثقافة الخوف والحيرة والشك والتغير الذي طال سلوك الفرنسيين مع المنفيين عن أصولهم، مدافعا عن مبادئ الثورة، مخلصا لعقيدته الاشتراكية، باحثا عن أفق جديد لقناعاته، مستعينا بتنظيرات نيتشه وسارتر وفوكو ودريدا ودولوز، محاولا استيعاب ”الكراهية” التي يحملها شبان الضواحي، كما عرضها المخرج ماتيو كاسوفيتز في فيلمه ” الكراهية La haine” وأيضا من تجربته في التدريس.
ومن أجل فهم القيم التي راهن عليها، يضيء منير طريقه أحيانا بواحدة من اجتهادات ريشارد رورتي، مراجعا جيل دولوز الذي كتب عن ”مجتمع المراقبة”، ذلك أن المراقبة تعتبر أقوى استراتيجيات الهيمنة؛ لانطوائها على وجود مراقب يستقر في نقطة استشرافية، وتوحي بالقدرة على معالجة وفهم المرئي، وتشيّؤ المهمش واسْتيداعه بطريقة تحدد هويته، وهو ما تحقق في تلك الرؤية التي يحملها الأصلي للمنفي المغترب، المخندق في زمرة الإرهاب والفكر المتطرف.

- نبيل المكي



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 43 / 2184662

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع رواية وفضاءات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2184662 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40