السبت 18 كانون الثاني (يناير) 2020

أنشودة الفواجع والأسقام في رواية «جرحى الحياة»

السبت 18 كانون الثاني (يناير) 2020

- ناصر الحرشي

يتضح من خلال العنوان الذي تواتر في النص أن السارد بأر سرده على شريحة من البشر تعرضوا في حياتهم لانكسارات وإحباطات شتى في زهرة عمرهم وميعة شبابهم. وأصيبوا بجراح جسدية ونفسية، ما جعل أداءهم في الحياة ينحصر ويتراجع.
وتتمظهر قدرة الرواية في النفاذ إلى نفسية الشخصيات واستطلاع طواياها ومقاصدها. فعلاوة على سعة بنيات الراوية التي تلتقط تفاصيل الحياة اليومية لهؤلاء الأبطال المكلومين، فهي تستطيع أيضا أن تبين ما يجول في لاوعي هؤلاء. وهذا ما سارت على دربه رواية «جرحى الحياة» وأولته العناية المستحقة، لأن ما خفي من الجبل الجليدي أعظم مما نتوقع.
تمثل «جرحى الحياة» في نظر السارد تراجيديا الوجود ورجاته الموجعة، كاشفة النقاب عن ظواهر اجتماعية ونفسية يكتوي بنارها أبطال الرواية، كما تشخص أسقامهم بالنظر إلى أعداد الجرحى في مجتمع الرواية، كما وصفهم البطل السارد (يقظان) بـ«خريجي البلايا والشقاوات» و«بمتعبي الحياة»، وهم في مجملهم يعانون من أمراض وأزمات نفسية، بين حوادث السير ومشاكل الطلاق والحياة الزوجية الشاقة، أو العشرة النكدة، أو الفراغ الناجم عن التقاعد وموت أحد الأقارب. اهتمت هذه السردية بحال شرائح اجتماعية جريحة، أو مهمشة مقصية عن الفعل تعيش في الظل، أو جنح الدجى، متخبطة في مشاكلها ومعاناتها من دون أن تجد من يعتني بها. ومن خلال الحالات التي أوردها السارد طغت على الرواية موجة من القتامة والتشاؤم لكثرة المصائب التي انثالت تباعا على الشخصيات. فبمجرد أن تنتهي تراجيديا تلوح تباشير أخرى في الأفق. وهكذا دواليك إلى أن انتهت حياة الشخصية الرئيسية بفاجعة، مؤشرة إلى نهاية متوقعة، بسبب اتساع الهوة بين الذات ومطالبها وحاجاتها. ومما اتى السارد على ذكره من الفواجع نذكر :
ـ أصيب احمد ياسين بالزهايمر واضطرت زوجته مريم الماجدي إلى خنقه بالوسادة استجابة لطلبه حتى يتخلص نهائيا من آلامه المبرحة (الموت الرحيم).
ـ عانى عمر الماجد من داء السرطان إلى أن فارق الحياة. نقلت زوجته المطلقة
زهرة إلى مستشفى الأمراض العقلية، ثم ما لبثت أن انتحرت. أصبح أخوها الملاكم يمشي على كرسي متحرك بسبب جلطة دماغية.
ـ توفي عبدالواحد الراجي على حين غرة.
ـ أقدم عدنان العدوي على الزواج من مومس تصغره سنا، فأرغم زوجته الأولى زهرة على مبارحة البيت والاستقرار في مصحة، واضطر إلى قتل زوجته الثانية (المومس) التي سحبت منه ملكية المنزل، بموجب عقد عدلي فحكم عليه بالسجن فارتأى أن يضع حدا لحياته.
ـ فرت الخادم عفراء من بيت سيدها يقظان.
ـ توفيت زوجة عزيز علياء من جراء المرض الخبيث.

فالراوي أو الممسك بدفة السرد قام باستعراض هذه الحالات سعيا منه إلى الإلمام بمخلفاتها وعواقبها على مآل الشخصيات ومصيرها، وتأثيرها على نفسيته بصفته شاهدا على ما يجري من أحداث عصفت بشخوص الرواية، وهو الضمير الغائب الحاضر لهؤلاء الأبطال المدنفين. وهو ما اضطره إلى الاستعانة بتقنيات تيار الوعي (التشظي، الحوار الداخلي، الاستبطان، الحلم، الهذيان، المناجاة) حرصا منه على النفاذ إلى سرائر الذوات الساردة، لبيان ما يجول في داخلها من انكسارات. بيّن السارد منذ البداية وقع الرزايا على نفسيته، خاصة بعد وفاة زوجته نجاة، التي لقيت حتفها برفقة ابنتها في حادثة سير مروعة، حيث شكل رحيل زوجته وابنته جرحا غائرا لم يندمل، لأنه كان في عشرتهما ينعم بمباهج الحياة ورغدها. وهذا ما حفزه على كتابة أجود النصوص، وعلى مواصلة أنشطته كفرس منطلق، ولكن بعد رحيلهما أضحى منكسرا محشورا في عداد جرحى الحياة. وهو على عكس الشخصيات المثقلة بصروف الحياة، ظل متشبثا ببصيص الأمل، في زمن الردة السياسة والثفافية والقهر الاجتماعي.
لقد بذل يقظان (بطل الرواية الرئيسي) جهودا مضنية لنسيان الكارثة التي حلت بأسرته، مختليا إلى نفسه مؤثرا الانزواء في مكان قصي (بيت على شاطئ الحسيمة) ساعيا إلى مراودة الكتابة، يبحث عن الأكسير الذي يمثل جذوة متقدة تفجر الكتابة وتحولها إلى سيل ناعم متناغم. لكنه بعد أن فقد زوجته وابنته، أصبحت حياته نفقا مظلما، وهذا ما سبب له أزمة نفسية حاول أن يداريها بالسفر إلى الصحراء، بالبحث عن امرأة محتملة تملأ الفراغ الذي خلفته الراحلة (لقاؤه بكوثر ونساء أخريات) ما أوقعه في تجارب حب فاشلة. يعتبر يقظان وهو رمز ليقظة الفكر والضمير، قطب الرحى في هذا المنجز النصي، لأن كل الأحداث تتعلق به وتتفرع عنه. نتعرف من خلاله على نساء عابرات ومنكسرات وأناس من جرحى الحياة وشخصيات لعبت دورا كبيرا في إخراجه من شرنقة الاكتئاب الحاد والقلق الوجودي.
وهكذا يتضح أن رواية «جرحى الحياة» تندرج في إطار سرديات العلة لإبرازها علل المجتمع وأسقامه، وكذا قدرتها على حكي قصة هؤلاء التعساء، واصفة عجزهم عن أداء أدوارهم على النحو المنشود، جراء تفاقم الفساد السياسي والاجتماعي والثقافي، الذي أرغم المثقفين (يقظان نموذجا) على الانسحاب من الحياة العامة والانكفاء على ذواتهم. ورغم كل هذه البلايا التي ألمت بأبطال هذه الرواية، فإن يقظان حاول أن يسترجع توازنه في الحياة، بالبحث عن ذاته الضائعة في الكتابة والمرأة، كبديلين يجسدان فردوسه المفقود. وكذلك بتقديم العون لجرحى الحياة (مساعدة مريم وزوجها، تقديم النصح لخولة المنحرفة، مساعدة سعيد أبن كوثر على متابعة دراسته العليا في التجارة في كندا، استضافة محمود الصياد وزوجته، تسليم مبلغ مالي لوالدي الطاهرة، مساعدة نزلاء مارستان الرازي ) فهو في نزال دائم مع أعداء الحياة وسوداويتها.

٭ كاتب مغربي



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 41 / 2184556

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع رواية وفضاءات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184556 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40