السبت 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019

رواية «وأطوف عاريا» : نموذج للوعي المقارن في السرد

ابراهيم الحجري*
السبت 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019

ينطلق الروائي طارق الطيب في بناء عوالمه الروائية من أرضية معرفية خصبة، خولها له تكوينه الأكاديمي المتين، الذي تلقح، تدريجيا، عبر خبراته في السفر واكتشاف العالم البراني، أرضية أشبه ما تكون بالكشوفات الأنثروبولوجية الأولية، المؤهلة لخوض السُرّاد في المقارنة بين البيانات والرؤى والمواقف والتصورات عن الذات، الجسد، المرأة، الطبيعة، الثقافة، المعتقدات، والأحاسيس، مستفيدا من تجربة الغربة في القارة العجوز، طارحا الأسئلة نفسها التي طرحها الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، بل زاد عليها من خلال تمثل القيم المستحدثة، وكيفية انتقالها من جغرافيا إلى أخرى، وتحولها من حالة إلى حالة، مستحضرا ذاكرته المليئة بالعناصر المقلقة، وواضعا تجربته على المحك، باعتباره عايش ثقافتين: ثقافة أصلية استضمرها وتشبع بها، منذ طفولته الأولى، وثقافة ساقته إليها الظروف الاجتماعية، وسياقات البحث عن الذات، وعن آفاق أرحب، حيث ضاقت به الأوطان بما رحبت، فكان يتنقل بين هذه الثقافات والجغرافيات؛ متسائلا عن أسرار الاختلاف، عقب كل خطوة يخطوها، مركزا على المشترك والمختلف الإنسانيين.

الطواف بين المقدس والمدنس

منذ عتبة العنوان، يطل بنا الروائي على عالم العري أو التعري، كما يتم تمثيلهما في ثقافتين مختلفتين، ثقافة عربية إسلامية تستهجن سلوك التعري؛ بشكل مقصود في الشارع العام، درءا للفتنة، خاصة بالنسبة للمرأة، مع الدعوة إلى غض البصر، وتجنب التحديق في المواقع الجسدية المثيرة للرغبة الجنسية، والمشترطة للسلوك نفسه مع ستر العورة، بالنسبة للطائفين حول الكعبة المشرفة، وفي الآن نفسه، يعرض نظرة الآخر الأوروبي إلى سلوك التعري نفسه، حيث يشتهي الناس تجريب هذا التصرف، ولو لمرة في حياتهم، حيث يقصدون بشكل منتظم، فضاءات خاصة بالمتعرين، يقصدونها ليتحرروا من كل ما يستر جسدهم نساء ورجالا، مع احترام القوانين الخاصة بالفضاء، من عدم التحرش، وممارسة الحميميات، والنظر إلى الأماكن الحساسة في الجسد أكان أنثويا أو ذكريا، وكأنما يمرنون أنفسهم على غض الطرف، والتحرر من عقدة الضغط الجنسي، وعموما، فالتعري يفيد أنثروبولوجيا، كما يتصوره الوعي الروائي، ضربا من التطهر والخلاص والتحرر من أشكال الثقل والنكوص والرذائل والهموم، والعودة إلى الطبيعة البشرية في نقائها، وملمحها الأصلي، بعيدا عن كل الأقنعة التي اختلقها الإنسان بالتدريج، لمواراة سوءاته، وتقنين سلوكياته الغريزية، ونقلها من الطبيعة إلى الثقافة، تحت ذريعة حفظ الكرامة، وصون الشرف، إقامة الحدود.

يشكل الطواف بوصفه نشاطا بشريا، نوعا من التطهير والتصالح مع الذات والعالم، وسعيا للسمو بالروح، في لحظة تتخلى فيها الذات عن مطلق شهواتها، وأسئلتها الحياتية الحسية، لتعيش تجربة مختلفة.

ونسجل كون الشخصية التي تطوف حول الكعبة؛ تدور عكس عقارب الساعة، وعكس اتجاه الطائفين، بوعي منها، رغبة منها في قلب المعادلات المعتادة، وطرح الأسئلة اللامطروقة، وتجريب الأعمال العكسية، وقلب المسلمات والبديهيات؛ خاصة أنه يعيش ضمن ثقافة كشفت لديه كثيرا من المفارقات والمتناقضات، التي تسود ثقافته الأصلية، وأيقظت فكره الذي كان مشلولا بفعل عادات مجتمعية متواترة، ومطلسما بأقنعة لا منطق لها، مؤسسة على أساس الاطمئنان، والوراثة، والتواتر، بدون إعمال للعقل، أو طرح أسئلة تبريرية، أو تدوير الفكرة في المخ حتى! وبالتالي، العمل على ترديد ممارسات وأفعال وأفكار وتصورات غير مقتنع بها، وليس فيها من سلطان. يقول السارد متسائلا: (هل فعلا كان الحجيج رجالا ونساء في زمن ما يطوفون حول الكعبة عرايا، ظنا بأن الثياب التي ارتكبت فيها الذنوب لا تليق بأن يطاف بها حول الكعبة؟)، ويضيف السارد الشخصية، مستعيدا حلمه، الذي يرى نفسه من خلاله في مكة رفقة أمه وهي حبلى، يطوف عكس الحجيج: (كنت في ملابس الإحرام حليقا مرتديا إزارا ونعلا لونهما أبيض، وأرى كفي مخضبتين بحناء في لون ريش العقاب. طويلا جدا كنت، لم أستغرب حالي، ولم أر استغرابا على وجوه الحجيج. كنت الوحيد الذي يطوف عكس مسار الجميع. كنت أسير في الحرم عكس اتجاه الساعة، والحجيج يسيرون مع اتجاهها، موقنا من أنني على صواب، ومع ذلك، لم يعقني أحد في سيري. كان طريقي مشرعا خاليا لمسافة ممتدة بين أفواج الناس، سائرا على أرضية من رخام تسري منها برودة مريحة لباطن قدمي الحافيتين، في الحلم الذي انقطع، كنت أرى أمي حبلى في رمسيس، تطوف قريبا من الكعبة في عباءة سوداء. عيناي عليها، وأنا في الطرف الطائف بعيدا أدور دورات واسعة، وكلما صارت هناك فجوة نظر، برق لي ظهورها عن بعد).
يشكل الطواف بوصفه نشاطا بشريا، نوعا من التطهير والتصالح مع الذات والعالم، وسعيا للسمو بالروح، في لحظة تتخلى فيها الذات عن مطلق شهواتها، وأسئلتها الحياتية الحسية، لتعيش تجربة مختلفة، ولتتهيأ للعبور نحو مرحلة جديدة، لذلك، فحال ما قبل الطواف لن يكون شبيها بحال ما بعد الطواف أبدا، بالنسبة للشخصية الروائية، وإلا فلا معنى لذلك النشاط الروحي، ما دام لن يؤدي وظيفته الرمزية، سواء كان طوافا قدسيا حول كعبة أو مزار، أو حول فكرة أو مشهد طبيعي أو رمز من الرموز المتعالية. يقول السارد: (تنبهت في تلك الليلة إلى هذه الحركة الدائرية للدراويش، تلك الالتفافات التي تدور عكس عقارب الساعة، والتي تشبه حركة الكواكب، أو اعتبار أن الكعبة بقلب الصوفي، ويطوف حولها إلى اليسار! لاحظت أيضا، عدم استخدام الآلات الموسيقية باستثناء الدفوف والمزاهر).

العراء والعودة إلى الأصل الطبعي:

من الثيمات المركزية التي يعالجها النص جماليا واجتماعيا وأنثروبولوجيا ثيمة العراء، باعتبارها سلوكا مفكرا فيه، واختيارا جماليا له خلفيات ثقافية وفلسفية، قبل أن تكون له خلفيات شهوانية، غير أن هذا النزوع في العصر الحالي، صارت له أضرب وغايات مختلفة، قد تصل حد التعارض، بفعل هيمنة الأيديولوجيا، والقصدية الفكرية والدلالية، عكس ما كان في الأزمنة الغابرة، حيث كان العراء سلوكا اضطراريا، وهو حاضر في الأزمنة بأشكال مختلفة. يستحضر الروائي طقس التخلص من الثياب، إلا ما ستر العورة عند الرجل، إبان الطواف حول الكعبة، رابطا إياه من جهة بطقس الولادة العارية، حيث يأتي المخلوق الآدمي إلى هذه الحياة مجردا من أي ستر يحجب طبيعته الأولى، ورابطا إياه من جهة ثانية، بطقس الاستجمام الخاص الذي يوفره شاطئ العراة، حيث يمنع على المستترين ارتياده، وله شروط وقواعد لا بد من احترامها من لدن المقبلين عليه.
ويعود السارد إلى طفولته الأولى، ومراهقته، متأملا علاقته بجسمه، متعقبا نظرته للتعري، مستحضرا تلك القيود المكبلة لتلك العلاقة، وما يثيره فيه سلوك ظهوره عاريا أمام الآخرين، فيقول: (فجأة، انفتح باب الحمام عليّ، ووجدت أختي الأكبر مني تنظر لي في استغراب ولوم، لاقترافي جرم الخروج عن الأحكام العرفية الصارمة لوقت القيلولة، فتوقفت عن القفز، واستدرت محرجا بجنبي تلقائيا، ولويت عنقي نحوها، وأغلقت الدش، فسكنت كل الأصوات. ورغم أن فتحها للباب، ونظرتها لي لم تستغرق إلا ثواني، لكن إحساسي بعريي مدد لي الزمن وغمرني بغيمة خجل طويلة بسبب هذا المنتصب «الأبيح». كانت اللحظة الأولى في عمري التي أحسست فيها بخجل العري).

التعري جاء في النص الروائي مثقلا بالدوال، يجمع كل ذلك، ويزيد عليه، فيكون بذلك، سلوك التعري دعوة إلى إعادة التفكير في طبيعة أقنعتنا، ومراجعة الأساليب التي نظهر بها أمام الأنظار؛ متسترين على تشوهاتنا، وأعطابنا، لنخدع أنفسنا قبل العالم

إن طقس العراء هنا، بوصفه دالا نفسيا واجتماعيا، لا يستحضر لأجل الرغبة في التحرر من الأكسية الأيديولوجية والسياسية، أو لخلق إثارة من نوع ما في المحكي، أو تمردا على قيم سخيفة وجدت فيها الشخصية الرئيسة قيدا وحسب، بل إن التعري جاء في النص الروائي مثقلا بالدوال، يجمع كل ذلك، ويزيد عليه، فيكون بذلك، سلوك التعري دعوة إلى إعادة التفكير في طبيعة أقنعتنا، ومراجعة الأساليب التي نظهر بها أمام الأنظار؛ متسترين على تشوهاتنا، وأعطابنا، لنخدع أنفسنا قبل العالم، لذلك، يستحضر الراوي – الشخصية طقس الإحرام؛ مرتبطا بالطواف، ومستعيدا، في لحظات متعددة، طقوس التحمم، والسباحة، من جهة، مثلما ربطه بسلوك اللجم الذاتي للنظر وحب الاستطلاع، وفضول البحلقة في أجساد الآخرين؛ والتحكم في الرغبات الغريزية التي تبدأ من الرغبة في نظر جسد المرأة، والتلصص على مفاتنها، ومعاكستها، ومضايقتها بالنظرات الجائعة، الجافة؛ الخالية من الحس الإنساني الطهراني، هنا، يصل الفرد مستوى راقيا من الصفاء.
ونجد أيضا، أن السارد- الشخصية يوظف موضوعة العري في الفن، موضحا كيف فرض عليه، أن يستعمل جسده نموذجا فنيا، وديكورا ضمن مشهد أدائي حي، يعرض أمام جمهور مختلط من الناس، لا رغبة منه في ذلك، بل ضمان لقوت يومه، ومرتب مُر يقضي به مآربه الكثيرة في بلد استضافه بشق الأنفس، مستعرضا محنته في ترويض متخيله حول جسده، وتقليم شراسة التقديس المكبلة لعوالمه النفسية تجاه مظهره البراني، المشبعة بتربية تقليدية، وقيم عقدية، وتقاليد اجتماعية مستحكمة، ناهيك من اجتهاده من أجل الظهور بمظهر مقنع أمام المنظمين والمخرجين والمشرفين على المشاهد الأدائية، وأمام الجمهور العريض المتحمس لمثل هذه العروض، على حد سواء. يقول السارد الشخصية: (مشيت بضع خطوات إلى نهر الدانوب لأسبح. كانت المرة الأولى في عمري التي أسبح فيها عاريا تماما. إحساس طفولي حر جريء هزلي عابث ناعم لين كحلم آسر. حين خرجت لم أر في عيون العاريات والعراة سوى ابتسامات المجاملات الطبيعية عند تلاقي الأنظار، لم تصدمني عين واحدة مبحلقة، لا عين هنا، ترغب في رسمي طبعا. استلقيت حرا خفيفا وسط المجموعة ناظرا للسماء الزرقاء، مفكرا في كوننا خلقنا عراة، وأزعم أن نظرتنا في أول الخلق لعرينا غير نظرتنا الحالية له، فهل تطورت نظرتنا لأنفسنا أم تخلفت؟). يستلهم المحكي الروائي موضوعة العري Nakedness أو Nudity من عالم الفن الغربي؛ بوصفها دالا متعدد الأبعاد، نفسيا، وسلوكيا، واجتماعيا، وتاريخيا، ورمزيا، وينتقل من عالم المشاركة والمشاهدة إلى عملية نقل التجربة إلى اللغة السردية، وتقديم عالم متناقض من الأحاسيس، والانطباعات، والتمثلات حول ظاهرة «العري»، وكان لا بد له من الاستعانة بكل المقارنات والمجازات، وكأنها ضرورية للكشف، واستثمار ذلك الجانب الزائل، مهما كان صغره، من جوانب العالم. فمن جهة، تجعلنا المشاهد العظيمة للطبيعة نفكر بالجسد- تبعا للأسطورة القائلة إن الإنسان كون صغير- ومن الجهة الثانية، يدفعنا الجسد للتفكير بكل جوانب الطبيعة والفن الإنساني، وكأننا نكتشف فيه، في الواقع، جميع تلك الأوهام التي يمكنها أن تضعنا بقلق أمام لحظات خاصة، مثل الكوكب القريب من اليد أو البعيد عنها، اهتزاز الأوراق، تلألؤ المحيط، أو الشمس الباهرة.

٭ ناقد وروائي من المغرب



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2184557

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع رواية وفضاءات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184557 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40