الاثنين 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

تفكيك السودان واستراتيجية «شَدّ الأطراف ثمّ بَترها»

الاثنين 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par راكان المجالي

يتساءل أحد المسؤولين السودانيين، ومعه الدكتور عبد الله الأشعل، عن مغزى إصرار «جنوب السودان»، وعلى رأسه الحركة الشعبية لتحرير السودان، على الانفصال، و«هو منفصل فعلاً، وروابطه مع الشمال شكلية»، حيث أنشأت الحركة الشعبية «بعثات دبلوماسية موازية»، وتملك مساحات واسعة للحركة في الجنوب السوداني، ومع الخارج أيضاً.

والحقّ أنه تساؤلٌ مُحقٌ، وإن كان متأخّراً، ولا يشفع له وصم الانفصال بأنّ المقصود منه هو «تمزيق السودان، وإدخاله في دوامة جديدة من الصراع». فتلك مهمّة «مؤسسة القمة العربية» التقليدية بامتياز، ما أكّدته وطبعت به قمّتها المشتركة مؤخراً مع الاتحاد الإفريقي، في مدينة سرت الليبية. إذ لم تجد تلك القمّة، في أرشيف أدبياتها السياسية، في مواجهة ما يحدث في السودان، ومِن بعده سلسلة البلدان العربية المرشّحة للتفتيت، سوى التأكيد على «احترام سيادة السودان واستقلاله ووحدة أراضية، ودعم كامل المساعي الرامية الى تحقيق السلام فى ربوعه. والالتزام بتنفيذ بنود اتفاقية السلام الشامل كافة، بما في ذلك اجراء إستفتاء تقرير المصير فى جنوب السودان» (!). وكأنّ جنوب السودان بلدٌ محتلٌ ومستعمّرٌ، وجهود الجميع تتضافر لمنحه حق تقرير المصير، كما نصّ على ذلك «الكتاب المقدس، الموقّع في نيفاشا عام 2005»، برعاية الرئيس الأميركي العتيد «جورج بوش الإبن» (!).

بغياب الدعائم الواقعية لوحدة السودان، في ظل ظروفٍ ومعطيات سياسية قاسية، تحوّلت تلك الوحدة إلى مجرّد حلمٍ، حتى قبل إجراء الإستفتاء حول وحدة أو إنفصال الجنوب، في كانون ثاني / يناير القادم. بمعنى آخر، بات الحفاظ على شكل الخريطة السياسية السودانية التقليدية ومضمونها، كما يعرفها الجميع، ضرباً مِن الأوهام أو الأحلام، التي لا تجد ما يسندها في عالم الواقع، إلا إذا وقعت معجزة، في زمنٍ اختفت فيه المعجزات مِن حياة الناس.

لم تصل الأوضاع في السودان إلى هذه المرحلة، التي تحوّل فيها انفصال الجنوب إلى أمرٍ شبه حتمي، صُدفة أو بشكلٍ عفوي. بل تضافرت جهود قوى عديدة لإيصال الأمور إلى هذا الحد، ودفعها للسير على هذا النحو. فمنذ تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983، وحتى توقيعها اتفاق «نيفاشا» للسلام عام 2005، بدعم ورعاية الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، تمّت صناعة السكة الفعلية لمسارات الانفصال في السودان المُعذّب والمنكوب. وهي مسارات قررت للسودان والسودانيين ثلاث محطات مفصلية، غاية في الخطورة، عليه وعليهم أن يعبروها، وهي : محطة «الانتخابات الرئاسية والتشريعية العامة في السودان» ( نيسان/إبريل 2010)، ومحطة «إجراء الاستفتاء، حول الوحدة والانفصال لجنوب السودان، بموجب اتفاق نيفاشا للسلام الشامل 2005» (كانون الثاني/يناير 2011)، ومحطة «انتهاء الفترة الانتقالية ومفاعيل اتفاق السلام» (تموز/يوليو 2011). وفي كل تلك المحطات، قضت الخطط والمصالح الدولية، وتأسيساً على عجز وطني سوداني وقومي عربي، بأن يخسر السودان بعضاً مِن وحدته وسيادته. ففي المحطة الأولى، كرّست العملية الانتخابية في السودان سيطرة المؤتمر الوطني على مفاصل السلطة في شمال البلاد، كما كرّست سيطرة الحركة الشعبية على السلطة في الجنوب، ما عزّز المعطيات السياسية السابقة نفسها للعملية الانتخابية، وخلق أوهاماً لدى شريكي الحكم، القادمين لتوّهما مِن صراعٍ دام نحو عشرين عاماً، بأنّ اشياء كثيرة أصبحت ممكنة.

وهنا، ومنذ اتفاق «نيفاشا»، طفت على سطح الأحداث في السودان مجموعة من القوى السياسية، بدا أنّها الأكثر تأثيراً في الموقف من الوحدة والانفصال. وهذه القوى تمثّلت في ما يسمّى «المجتمع الدولي»، وعنوانه الأمم المتحدة ومؤسساتها التابعة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، والدول الأفريقية المجاورة للسودان، وبدرجة أقل البلدان العربية.
ومنذ الخريف الماضي، صدرت مجموعة من التقارير الدولية، حول السودان وأزماته، ترسم، وبشكل مخيف، حجم النهم والجشع لقوى دولية وإقليمية تجاه مستقبل السودان وموارده. فبالإضافة إلى تقرير معهد الولايات المتحدة للسلام : «سيناريوهات للسودان»، ظهرت ثلاثة تقارير كَشفت عن الرؤية والمقاربات الدولية لمستقبل السودان، وهي : تقرير معهد هولندي للدراسات : «السودان 2012 : سيناريوهات للمستقبل» (خريف 2009)، وتقرير المعهد الملكي البريطاني : «قرارات ومواعيد نهائية : عام حاسم للسودان» (شتاء 2009/2010)، وتقرير معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنيّة : «سيناريوهات ما بعد عام 2011 في السودان : أيّ دور للاتحاد الأوروبي؟» (خريف 2009). وكلها تناقش : سيناريوهات ما بعد الاستفتاء، ومشكلات ترتيبات ما بعد الاستفتاء، وحسابات الدول الإقليمية المجاورة للسودان، والاستراتيجية الغربية الموحدة للتعامل مع السودان، وحسابات القوى الدولية في السودان والمواقف المرتقبة فيما بعد الانفصال كاحتمال مرجّح. وتشمل تلك التقارير وتركّز على احتمالات عدّة، أهمها : سيناريو الوحدة مع الحرب، وسيناريو الانفصال مع الحرب، وسيناريو الوحدة من دون حرب، وسيناريو الانفصال من دون حرب. وتتضمّن هذه السيناريوهات أيضاً احتمال تحوّل السودان، بموجب دستور جديد، إلى فيدرالية ديموقراطية، حيث يتقاسم الجميع الثروة والسلطة، وذلك في الشمال والجنوب، وفي الخرطوم ودارفور وكردفان.

لم يكن تكرار الرئيس الأميركي «باراك أوباما» لالتزامه بإجراء‎ ‎استفتاء تقرير المصير في جنوب السودان بطريقة سلمية، مؤخراً، أمراً لافتاً، ولا حتى تأكيده على «أن الملف‎ ‎السوداني يشكل إحدى أولوياتنا». غير أن إشارته إلى «إمكانية سقوط‎ ‎ملايين القتلى»، في حال فشل الاستفتاء، أو اندلاع الحرب بين الشمال والجنوب، ينبغي أن تدقّ نواقيس الخطر، في طول القارة العربية وعرضها.

ذلك أنّ إصراراً كهذا، على تفتيت وحدة السودان، مع تهديد صريح بحربٍ تحصد الملايين، لَهوَ أمرٌ لا طاقة للسودان وحده بمواجهته. ناهيك عن ارتدادات ذلك على الدول العربية، فيما إذا تسامحت مع انفصال الجنوب أو تساهلت فيه، وهو ما بدأت معالمه، بمدّ مصر لخيوط تواصل دبلوماسي مع الحركة الشعبية في الجنوب. عندها سيكون تفكيك السودان هو كاسحة الألغام الجبارة، لتفتيت وتفكيك البلدان العربية الأخرى، التي وُضعت منذ أمد على مقصلة استراتيجية «شدّ الأطراف ثمّ بترها». فهل يُمكن للعرب أن يتداركوا في السودان ما «انفرط» مِن العِقد..؟ أم أنّ ما أفسده دهرُ «الدولة القطرية العربية» يحتاج إلى أكثر مِن عطارين ..؟!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 47 / 2182376

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

23 من الزوار الآن

2182376 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 27


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40