الاثنين 1 أيار (مايو) 2023

حزب الله و“إسرائيل” ومرتكز الردع.. دراسة تحليلية

الاثنين 1 أيار (مايو) 2023 par حسن لافي

تعد “إسرائيل” حزب الله من التهديدات الاستراتيجية على أمنها القومي، وقد تكرس هذا التصنيف الإسرائيلي للحزب على مدار تاريخ طويل من الصراع، و شهد الكثير من التحوّلات.

تعد “إسرائيل” حزب الله من التهديدات الاستراتيجية على أمنها القومي، وقد تكرس هذا التصنيف الإسرائيلي للحزب على مدار تاريخ طويل من الصراع، و شهد الكثير من التحوّلات، إذ نظرت “إسرائيل” إلى حزب الله - حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي - على أنه تنظيم لبناني شيعي، ضمن منظومة المقاومة اللبنانية محدود الفاعلية، يعتمد على مجموعات عسكرية بسيطة بدائية، ولكن بدأت النظرة الإسرائيلية تختلف مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وتوقيع اتفاق الطائف عام 1989، فقد تحوّل حزب الله في النظرة الإسرائيلية إلى حركة المقاومة العسكرية الرئيسة ضدها في لبنان، والتي تعتمد على أسلوب حرب العصابات ضد القوات الإسرائيلية، و“جيش لبنان الجنوبي” الموالي لها، في منطقة جنوب لبنان المحتلة.

ارتفع تهديد حزب الله بالتصنيف الإسرائيلي درجة أعلى، مع امتلاكه سلاح صواريخ “الكاتيوشا” قصيرة المدى، التي هددت المستوطنات الإسرائيلية في الشمال منذ أواسط التسعينيات، ما أجبر “إسرائيل” على النظر بجدية أكبر إلى خطر حزب الله على أمن “إسرائيل”، خاصة بعد عمليتَي “الحساب والعقاب” عام 1993 و“عناقيد الغضب” عام 1996، التي حملت بطيّاتها جذور التغيير، في معادلة الردع الإسرائيلية تجاه حزب الله، وتجاه ما يمكن تسميته بداية معادلات الردع المتبادل، ما جعل “الجيش” الإسرائيلي يشك في كفاءة المصطلحات التقليدية للردع في العقيدة العسكرية الإسرائيلية من حيث ارتباط الردع الإسرائيلي بقدرة العمليات العسكرية الإسرائيلية، على تحقيق الحسم تجاه حزب الله، وبدأ التفكير الإسرائيلي العسكري بالتوجه إلى العمليات العسكرية الهادفة إلى إحداث تأثيرات محدودة، ينتج منها احتواء سلوك حزب الله الاستراتيجي تجاه “إسرائيل” وتقييده، كأسلوب ردعي جديد.

يعدّ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، مرحلة تاريخية مهمة في الصراع بين حزب الله و “إسرائيل”، باعتبارها المرة الأولى التي تنسحب فيها “إسرائيل” من أرض عربية، تحت وطأة ضربات المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، وبعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، بدأت استراتيجية إسرائيلية جديدة في التعامل مع تهديدات الحزب، اتسمت بالاحتواء، وعدم الاندفاع بالرد العسكري المكثف على عملياته، ما دام لم تتخط تلك العمليات السقف المقبول إسرائيلياً من جهة، والامتناع عن ردود الفعل الإسرائيلية التي من الممكن أن تؤدي إلى حرب مفتوحة، والاقتصار على عمل عسكري عقابي محدود، معتمد على النيران الموجهة، من جهة أخرى

وقد ارتكزت سياسة الاحتواء على عوامل عدة، أهمها ما ذكره الباحث الإسرائيلي، يائير عفرون: “التهديد العسكري العقابي المتبادل من جهة، والعوامل السياسية الاجتماعية من جهة أخرى”، وسعت الحكومة الإسرائيلية، إلى عدم تعطيل الحياة في الشمال، والعمل على استعادة نسيج الحياة المدنية، وازدهار الاقتصاد للمستوطنات هناك، بعد فترة طويلة من الاضطراب (قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان)، وبناءً على هذه الخلفية، لم تجد “إسرائيل” أي جدوى من الرد المكثف ضد حزب الله وتصعيد الموقف، علاوة على ذلك، كانت هناك تلميحات أولية في عام 2005، أن النظام السياسي في لبنان سيتغير للأفضل، من وجهة نظر المصلحة الإسرائيلية مع خروج القوات السورية من لبنان، وفقاً لقرار مجلس الأمن (1559)، الذي منح “إسرائيل” بارقة أمل بتشكل ضغط لبناني داخلي، لسحب سلاح حزب الله، ناهيك بالخوف الإسرائيلي من فتح جبهة قتال ثانية، في الوقت الذي كان “الجيش” الإسرائيلي منخرطاً، في الجبهة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة ( انتفاضة الأقصى).

الأمر الذي أنتج توازناً شبه ردعي، بين حزب الله و“إسرائيل”، تعتمد معادلته على ردع “إسرائيل” حزب الله، من الاستمرار في استنزاف المستوطنات الإسرائيلية، في المقابل، استطاع حزب الله ردع “إسرائيل”، من مغبّة القيام بعملية هجوم عسكري شامل، بهدف هزيمة الحزب وسحقه، مع الاستمرار في تعزيز قوته العسكرية خلال الفترة من 2000-2006، وعلى مستويات متعددة، ناهيك بتنفيذه عدة عمليات عسكرية ضد “الجيش” الإسرائيلي، وصلت إلى أكثر من عشرين هجوماً عسكرياً حتى يوم 12 تموز/يوليو 2006، لكن ردة الفعل الإسرائيلية حافظت على سياسة الاحتواء تجاه حزب الله، الأمر الذي ولّد لدى الحزب قناعة، كما كتب الباحث الإسرائيلي عمير دوستري “أنه لن تجرؤ أي حكومة إسرائيلية على وضع أكثر من مليون من مستوطني إسرائيل في الملاجئ يعيشون في شمال البلاد، وكل ذلك بسبب جندي أو حتى جنديين مختطفين”.

من الممكن أن نخلص إلى أن حرب لبنان الثانية، كانت نتيجة تأكّل طويل الأمد، في الردع الإسرائيلي تجاه حزب الله من جهة، وعدم قدرة “إسرائيل” على توصيل رسائل واضحة إلى الحزب عن عدم رغبتها في الاستمرار في سياسة الاحتواء تجاهه، خاصة مع انتهاء انتفاضة الأقصى في الجبهة الفلسطينية، والتغير السياسي في الحكومة الإسرائيلية، وصعود رئيس الوزراء، إيهود أولمرت، الذي لا يعاني من عقدة لبنان، كما كان يعاني منها رئيس الوزراء السابق آرييل شارون، من جهة أخرى.

في نهاية المطاف، فشلت سياسة الردع الإسرائيلية السابقة في حرب لبنان الثانية، في أن يدرك حزب الله بأنه لا يمكنه الاستمرار في توسيع حدود مناورته، من دون كسر قواعد اللعبة من الجهة الإسرائيلية.

وضعت حرب تموز 2006 “إسرائيل” أمام حقيقة أنَّها لم تستطع على مدار 33 يوماً من القتال أن تحقّق الحسم العسكري، كما تنصّ عليه عقيدتها العسكرية ويتوقّعه المستوطنون من “الجيش”.

اندلعت “حرب لبنان الثانية” (حرب تموز) في 12 تموز/يوليو 2006، إثر عملية نفذها حزب الله على الحدود اللبنانية أسفرت عن مقتل 3 جنود وأسر جنديين إسرائيليين.

ومن الجدير بالذكر أنَّ القيادة العسكرية الإسرائيلية لم ترَ في البداية أنها تخوض حرباً مفتوحة، بل تعاملت معها على أنها عملية عسكرية “عقابية” ضد حزب الله، الأمر الذي تدلّ عليه التسمية التي أطلقها قسم العمليات في “الجيش” الإسرائيلي على تلك العملية، وهي “تغيير اتجاه”. ولم تقرّ الحكومة الإسرائيلية بأن الحملة العسكرية في لبنان، من تموز/يوليو إلى آب/أغسطس 2006، هي “حرب لبنان الثانية” إلا في آذار/مارس 2007.
اقرأ أيضاً: حزب الله و“إسرائيل” ومرتكز الردع… دراسة تحليلية (1)

ركّزت الخطة الإسرائيلية الإستراتيجية في حرب تموز - على مدار 33 يوماً - على المساس بقدرة حزب الله، وقبل كل شيء تدمير نظام إطلاق الصواريخ الطويلة المدى والمتوسطة المدى، بالاعتماد على المعلومات الاستخباراتية النوعية وقدرات سلاح الجو الإسرائيلي الهجومية الدقيقة.

وقد اعتمدت “إسرائيل” في تعزيز قوة ردعها أثناء الحرب على كثافة قوة النيران من سلاح الجو في قصفها البنى التحتية اللبنانية والمناطق السكنية في بيئة حزب الله، وهو ما أطلق عليه “عقيدة الضاحية”.

في المقابل، اعتمد حزب الله في قتاله على المزاوجة بين أسلوب حرب العصابات القتالي وإمكانياته العسكرية التقليدية، مستفيداً من شبكة الأنفاق والمحميات الطبيعية والكمائن التي أنشأها بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، إضافةً إلى منظومته الصاروخية، وخصوصاً القصيرة منها، ما جعله قادراً على رفع مستوى التهديد على الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي كانت تتلقى للمرة الأولى في تاريخ “إسرائيل” هذا الكمّ من الصواريخ.

وضعت حرب تموز “إسرائيل” أمام حقيقة أنها لم تستطع على مدار 33 يوماً من القتال أن تحقّق الحسم العسكري، كما تنص عليه عقيدتها العسكرية ويتوقّعه المستوطنون من “الجيش”، وهو ما عبر عنه الجنرال المتقاعد موشيه كبلينسكي، نائب رئيس أركان “الجيش” الإسرائيلي، بقوله: “لم يفعل الجيش خيراً في الحرب، ولم نقم بالمهمّة. كل ما فعلناه لم نفعله بشكل صحيح وجيد”.

لم تنتهِ تداعيات الحرب مع وقف إطلاق النار، بل أنتجت تأثيرات مهمة على مستويات متعددة في المشهد الإسرائيلي الرسمي والشعبي، وزادت تلك التداعيات حالة السخط والانتقاد الواسع لأداء المستوى السياسي والعسكري خلالها، ما زاد أهمية تداعياتها الإستراتيجية بشكل كبير، من أهمها:

أولاً: أدرك الجميع في “إسرائيل” أنّ القيادة السياسية والعسكرية لم تكن مستعدة بشكل مناسب للحرب ضد حزب الله في صيف 2006، إذ اعتمدت السياسة الإسرائيلية التي تم تبنيها بعد الانسحاب من جنوب لبنان على أنَّ الردع الإسرائيلي قادر على منع اندلاع حرب مع الحزب.

هذا الأمر أدى إلى آثار سلبية مهمة في جاهزية “الجيش” الإسرائيلي، الذي لم يعتقد بأنّ هناك حاجة إلى شنّ حملة عسكرية واسعة النطاق في لبنان. وقد أشار الباحث الإسرائيلي الإستراتيجي أفرايم عنفر، في شرحه أسباب الفشل الإسرائيلي في “حرب لبنان الثانية”، إلى أن “الافتراض السائد في ذلك الوقت هو أن حرباً تقليدية واسعة النطاق على طول حدود إسرائيل غير متوقع، وأن إسرائيل في المستقبل ستشن حروباً صغيرة بشكل أساسي”.

برزت عدم جاهزية “الجيش” الإسرائيلي في عدم قدرته على إيقاف صواريخ حزب الله في أي مرحلة من مراحل الحرب، وكانت تطلق بمعدل 200 صاروخ على الجبهة الداخلية الإسرائيلية يومياً، رغم تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، إيهود أولمرت، في بداية الحرب بأنّ “إسرائيل لن توافق على العيش في ظل تهديد الصواريخ لسكانها... ولن يُسمح بأن تكون رهينة لتلك الصواريخ”.

ثانياً: تمثلت خصوصية “حرب لبنان الثانية” في إزالة الحدود بين ميدان المعركة والجبهة الداخلية الإسرائيلية، الأمر الَّذي كانت العقيدة العسكرية الإسرائيلية تحرص على عدم حدوثه، من خلال مبدأ نقل المعركة إلى أرض العدو.

وبذلك، استطاع حزب الله إدخال الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى ميدان المعركة من خلال صواريخه، إذ أطلق 4000 قذيفة صاروخية على الجبهة الداخلية الإسرائيلية خلال فترة الحرب، سقط منها 901 في أماكن مأهولة. وقد تلقت مستوطنة “كريات شمونة” أكبر عدد منها، بما يقارب 520 صاروخاً.

أخفقت القيادة الإسرائيلية في إدراك الأهمية الإستراتيجية للسلاح الصاروخي لدى حزب الله، وقدرته على إحداث تأثيرات حقيقية أثناء سير المعركة، وتداعيات ذلك على معادلات الردع بعد انتهاء المعركة، إذ كانت رؤية “الجيش” الإسرائيلي للصواريخ، وخصوصاً قصيرة المدى (الكاتيوشا)، أنها أسلحة منخفضة التأثير، وليست سلاحاً حاسماً، بسبب عدم دقتها وصغر حجم رؤوسها المتفجّرة نسبياً.

في المقابل، اعتمدت خطّة حزب الله في “حرب لبنان الثانية” على إحداث نوع من أنواع معادلات الردع مع “إسرائيل”، من خلال إدارة ذكية لإمكانياته الصاروخية في الضغط على الخاصرة الرخوة الإسرائيلية (الجبهة الداخلية).

هذا الأمر ساهم في خلق حالة من حرب استنزاف ضد الجبهة الداخلية الإسرائيلية (مستوطنات الشمال بالذات)، بهدف المسّ بنظام حياة المستوطنين في تلك المناطق، من خلال إثارة الرعب وعرقلة نظام الحياة الاعتيادي للمستوطنين الإسرائيليين، ما يجعل هناك حالة من التوازن الردعي النسبي بين استهداف “إسرائيل” للسكان المدنيين اللبنانيين واستهداف حزب الله للجبهة الداخلية الإسرائيلية.

في المحصّلة، أنتجت حرب تموز معادلات ردع جديدة، إذ أثبتت استعداد “إسرائيل” لتدمير البنية التحتية في لبنان، وزرع الدمار الكبير بين السكان المدنيين، وطرد سكان الجنوب من قراهم باتجاه الشمال، في محاولة لزعزعة النسيج الاجتماعي الحساس في لبنان، الأمر الذي اعتقدت أنه نجاح لـ“عقيدة الضاحية” في ردع حزب الله إلى حد كبير، وخصوصاً في ضوء الضغوطات الداخلية اللبنانية والإقليمية عليه، لكن هذا الردع جزئي، والأهم أنه بات متبادلاً من الطرفين، بمعنى أنه منع الحزب من مهاجمة “إسرائيل”، ولكنه لم يمنعه من تثبيت قواعد اشتباك معها، ناهيك بسعي حزب الله لتطوير قدراته العسكرية على مرأى الاستخبارات الإسرائيلية ومسمعها، من دون أن يقدم “الجيش” الإسرائيلي على مهاجمته في الداخل اللبناني.

إنّ عدم جاهزية “الجيش” الإسرائيلي في “حرب لبنان الثانية” يعدّ سبباً في ردع “إسرائيل” عن مهاجمة حزب الله قبل الانتهاء من عملية إتمام الجاهزية والاستعداد التي تضمن تحقيق النصر الحاسم.

وباتت هناك حاجة إسرائيلية إلى البحث عن إستراتيجية جديدة تجاه إدارة الصراع مع حزب الله تتعامل مع معادلة الردع المتبادل الناشئة بعد “حرب لبنان الثانية”، بحيث تحقّق استمرار حالة الهدوء من أجل منح المؤسسة العسكرية والسياسية الوقت اللازم لاستكمال عملية الجاهزية والاستعداد للمعركة المقبلة مع حزب الله من جهة. ومن جهة أخرى، العمل على إعاقة تعاظم قدرات حزب الله العسكرية أثناء تلك الفترة، كي لا يتكرّر خطأ المفاجأة الإسرائيلية الذي حدث آنذاك.

من هنا، نبعت الحاجة الإسرائيلية إلى إستراتيجية “المعركة بين الحربين” كإستراتيجية تدير “إسرائيل” من خلالها توازنات الردع الجديدة بينها وبين حزب الله بعد تلك الحرب.

“إسرائيل” باتت تبحث عن إبعاد المعركة المقبلة مع حزب الله، إلى أطول فترة ممكنة، لتستعد وتعالج أخطائها من جهة، ومن جهة أخرى تتجنب الوقوع في الخطأ السابق نفسه بعد عام 2000.

خرجت “إسرائيل” من حرب تموز 2006 (حرب لبنان الثانية)، مقتنعة أنها في حاجة ماسة إلى عملية تغيير جوهرية، من أجل موائمة قوتها العسكرية لطبيعة التهديدات الجديدة، التي أظهرها حزب الله في تلك الحرب، وبقيت المعضلة الإسرائيلية أنها تعلم أن هذا التغيير، يحتاج إلى وقت طويل حتى يتمّ إنجازه، ومن الخطأ خلال تلك الفترة ترك حزب الله يطوّر من قوته العسكرية، والتي من الممكن أن يفاجئ “إسرائيل” بحرب جديدة لا تكون جاهزة لها، أو على الأقل فرض قواعد اشتباك غير مريحة لـ “إسرائيل”.

بناء على ذلك، باتت “إسرائيل” تبحث عن إبعاد المعركة المقبلة مع حزب الله، إلى أطول فترة ممكنة، لاستكمال استعداداتها ومعالجة أخطائها من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن أن تسمح لنفسها، أن تقع في الخطأ السابق نفسه بعد عام 2000.

لذا فهي بحاجة إلى منع حزب الله من إعادة قدراته القتالية، إضافة إلى عرقلة تطويرها بعد حرب تموز. من هنا نبعت الحاجة الإسرائيلية إلى استراتيجية (المعركة بين الحربين) كاستراتيجية تدير “إسرائيل” من خلالها توازنات الردع الجديدة، بينها وبين حزب الله بعد الحرب.

دفعت عدة عوامل المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، إلى الالتزام في استراتيجية (المعركة بين الحربين) ويمكن تلخيصها في اتجاهين متكاملين:

الأول/ ما يتعلق بالوضع الاستراتيجي لـ “إسرائيل”، حيث:

1. ظهرت الحاجة الإسرائيلية الماسة، إلى أطول فترة ممكنة من الهدوء، لإعادة بناء جاهزيتها للمعركة المقبلة، على ضوء نتائج حرب تموز.

2. برز التهديد النووي الإيراني كخطر ملح، يتطلّب التركيز عليه إسرائيلياً، وقد صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في12 آب/أغسطس 2012 أن “جميع التهديدات على الجبهة الداخلية تتضاءل أمام تهديد آخر، ألا هو امتلاك إيران أسلحة نووية”. من ثم يمكن الاستنتاج، أن جزءاً كبيراً من موارد “إسرائيل”، تمّ توجيهه إلى هذه القضية.

3. أزمة الحالة الاقتصادية الإسرائيلية، وقد عبّرت عنها الاحتجاجات الاجتماعية، التي اندلعت عام 2011. بناء على ذلك، من الممكن فهم تصريح رئيس القسم السياسي والأمني، بوزارة الدفاع اللواء “عاموس جلعاد” في 8 حزيران/ يونيو2015 أنّ “مئة ألف صاروخ التي وجّهت ضد”إسرائيل“من الجبهة الشمالية، أحدثت تغييراً في الخطاب المجتمعي في”إسرائيل“، من خطاب عسكري أمني، إلى خطاب أكثر اهتماماً في الاقتصاد، خاصة بعد الاحتجاجات المجتمعية عام 2011”.

4. قلق “إسرائيل” من التغيرات التي حدثت في الوطن العربي، على ما أطلق عليه “الربيع العربي” وانعكاساته على المنطقة، وخاصة بعد تفجّر الأزمة السورية، والتي اعتبرت “إسرائيل” أنها مستنقع من الوحل، من يدخل فيه لن يخرج أبداً. لذلك أسست تعاملها مع حزب الله على أن الأزمة السورية، معركة استنزاف شاملة لحزب الله على المستويات كافة، تبعد الحاجة الإسرائيلية للتدخل العسكري ضد حزب الله، إلا في أضيق الحدود، وضمن خطوطها الحمر.

الثاني/ ما يتعلق في وضع حزب الله الاستراتيجي في الداخل اللبناني، حيث:

1. ركّز حزب الله مجهوداته في عملية إعادة الإعمار للدمار، الذي خلّفته الحرب، وتعزيز ترسانته العسكرية وتطويرها خاصة قبل اندلاع الأزمة السورية.

2. انشغال حزب الله في الساحة السياسية اللبنانية الداخلية، التي عجت بالكثير من الأحداث، بدءاً من الانقسام الداخلي المتزايد، مروراً باتهامات تورّط عناصر من حزب الله من المحكمة الخاصة للأمم المتحدة، للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء السابق “رفيق الحريري”.

3. اشتراك حزب الله في الأزمة السورية عام 2013، أدى إلى تأثيرات قوية، وازدياد الضغوطات السياسية على الحزب داخلياً وخارجياً.

في المحصلة النهائية اقتنع الجمهور الإسرائيلي أن شن معركة عسكرية واسعة، ضد حزب الله مغامرة غير ضرورية، يمكن تلافيها من خلال استراتيجية (المعركة بين الحربين) والتي تهدف إلى:

1. تأخير نشوب الحرب، وردع الأعداء عبر المثابرة، على إضعاف آليات تعزيز قوتهم، وإلحاق الضرر بأصولهم وقدراتهم.

2. ترسيخ شرعية ممارسة “إسرائيل” القوة مع الإضرار، في الوقت نفسه بشرعية العدو.

3. تهيئة الظروف المثلى لـ “الجيش الإسرائيلي”، إذا نشبت الحرب في النهاية.

وبالتالي ظهرت استراتيجية (المعركة بين الحربين) بعد حرب تموز، كإطار استراتيجي للجهود الأمنية الإسرائيلية المتواصلة الهادفة، لمنع أو على الأقل تأخير السياقات، التي تؤثر سلباً على الأفضلية الاستراتيجية لـ “إسرائيل”، وبذلك ابتعدت الاستراتيجية الجديدة، عن المقاربة الثنائية المتمثلة في الاستعداد للحرب أو شنها علناً، بل تقوم على اتخاذ إجراءات هجومية استباقية، تستند إلى معلومات استخبارية عالية الجودة وجهودٍ سرية.

وذلك بمعنى أن (المعركة بين الحروب) تختلف عن استراتيجية الاحتواء الإسرائيلية بعد الانسحاب من لبنان، بحيث لا تعتمد فقط على الاستراتيجية الدفاعية، بل تحتوي بداخلها على مركب هجومي، لكنه يختلف عن الردود الهجومية السابقة، لمفهوم الأمن المستمر، حيث تعتمد على هجوم ديناميكي يتبع منهجاً صارماً لإدارة المخاطر مع الأخذ بالحسبان وتيرة التصعيد الذي يحتمل أن يكون سريعاً، وتقليص احتمال نشوب الحرب.

أضف إلى ذلك مرتكزاً أساساً في استراتيجية (المعركة بين الحربين) بأنها تعتمد على منطق الحرب السرية ذات الطابع الأمني، وتترك مساحة من الضبابية والإنكار من “إسرائيل”، تتيح للطرف المتضرّر عدم الرد، من دون النظر إليه على أنه ضعيف نتيجة ذلك. وهكذا لا يجبر الطرف المتضرر على ردّة فعل قوية تجبر “إسرائيل” على الرد القاسي، الأمر الذي يدحرج الأوضاع، إلى حرب غير مرغوب فيها.

لذلك تعتمد (المعركة بين الحربين) على التقييم الدائم لوضع“إسرائيل” الاستراتيجي، مقابل وضع حزب الله الاستراتيجي، من أجل فهم طبيعة رد فعل الحزب على أي اعتداء إسرائيلي، في إطار (المعركة بين الحربين).

أضف إلى ذلك أن استراتيجية (المعركة بين الحربين) جمعت المكوّنات السرية والحرب المعرفية، مع الجهود الأمنية والاقتصادية والسياسية الدولية. كل ذلك بهدف ممارسة السلطة اللازمة، للدفاع عن مصالح “إسرائيل” الأمنية، من دون تصعيد الموقف والوصول إلى الحرب.

استخدمت “إسرائيل” استراتيجية (المعركة بين الحربين) رغم ما تحمل تلك الاستراتيجية من مخاطر قد تدحرج إحدى عملياتها إلى حرب. وكما يقول “غور ليش” الباحث في مركز أبحاث أكاديمية الأمن القومي التابعة للجيش الإسرائيلي “لا يمكن إقامة (المعركة بين الحربين) من دون أخطار”.

لذلك حرصت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، على تفعيل استراتيجية (المعركة بين الحربين) في مستويات الخطر المنخفضة، وبحسابات مدروسة بدقة كي يبقى الصراع تحت مستوى الحرب.

يعتبر تقييم “إسرائيل” للوضع الاستراتيجي العام لحزب الله، من أهم شروط إدارة المخاطر في استراتيجية (المعركة بين الحربين)، فدراسة الوضع الداخلي لحزب الله، والطريقة التي ينظر فيها المجتمع الدولي إليه، إضافة إلى مقدار الدعم الدولي الذي تحظى به “إسرائيل”، وغيرها من العوامل لها تأثير قوي، على درجات الخطورة التي من الممكن أن تستخدمها “إسرائيل” في إطار (المعركة بين الحربين).

فكلما كان حزب الله في وضع استراتيجي غير مريح، يصعب عليه دحرجة الوضع إلى حرب شاملة، وبالتالي زادت مساحة الأفعال الإسرائيلية، وتزداد مجموعة الأدوات العسكرية التي من الممكن استخدامها، والعكس صحيح.

لذلك أدركت “إسرائيل” أن انتهاكها العلني للسيادة اللبنانية، بمعنى القيام بعملية عسكرية، أو أمنية ضد أهداف حزب الله في لبنان بشكل علني، سيستوجب رداً من حزب الله، ومن الممكن أن يدحرج الأوضاع إلى حرب مفتوحة.

وبذلك تم تثبيت قواعد الاشتباك بين حزب الله و“إسرائيل”، مفادها أن الفعل الغامض من “إسرائيل” لا يقابله ردة فعل علنية من حزب الله، بل سيتم الذهاب إلى فعل أمني خارجي من دون أن يعلن حزب الله مسؤوليته عن ذلك، أما إذا كانت هناك مسؤولية معلنة من “إسرائيل”، فإن الرد من حزب الله سيكون معلناً، ومن عبر الحدود اللبنانية.

لكن مع تغيّر البيئة الاستراتيجية المحيطة بكل من حزب الله و“إسرائيل” بعد انتهاء الأزمة السورية، لغير صالح سياسة الردع الإسرائيلية، بدأت مرحلة جديدة من السعي إلى تطوير قواعد الاشتباك بين الطرفين على ضوء تلك المتغيّرات الاستراتيجية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2184667

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع مقالات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2184667 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40