الجمعة 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

حرب أكتوبر صنعتها العقلانية السياسية

الجمعة 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par د. عبد الاله بلقزيز

أثبت تاريخنا المعاصر أن حرب 6 تشرين الاول ـ أكتوبر 73 لم تكن آخر الحروب بين العرب و«إسرائيل»، كما أرادها مَن أرادها أن تكون كذلك، وإنما محطة عسكرية كبيرة في مسلسل صراع مديد لن ينتهي بتسويات مغشوشة، هذا إذا كان لمثل هذه التسويات المفترضة أن يقوم. فلم تكن قد انقضت خمسة أعوام على اندلاع حرب 6 أكتوبر 73، حتى كانت شهية القتال والعدوان قد ملكت على الدولة الصهيونية نفسها ودفعت بآلتها الحربية إلى ممارسة عادتها الأثيرة، وفي ما لا يزيد عن ثلاثين عاماً اندفعت جحافل جيوشها في ست مغامرات عسكرية متلاحقة : في حرب الليطاني على جنوب لبنان (1978)، واجتياح لبنان وحصار بيروت (1982)، واجتياح الجنوب اللبناني (في تموز 1993)، وحرب «عناقيد الغضب» (1996)، وحرب تموز (2006)، ثم اجتياح غزة (2009). وهي حروب تُبطل الاعتقاد أن زمن الصدام العسكري ولّى في المنطقة، أو أن المخاطر على الأمن الوطني والقومي في البلاد العربية تراجعت، أو أنه يكفي العرب أن يعبّروا عن إرادة السلام ويترجموها في برنامج عمل ـ كما في قمة فاس الثانية (1982) وفي قمة بيروت (2002) ـ وأن يتمسكوا بالقول إن «السلام خيار استراتيجي» ليتوقف جحيم الموت والدمار الصهيوني!

أسقط العرب خيار القتال منذ حرب أكتوبر 73، لكن الحرب ظلت عقيدة سياسية لدى الكيان الصهيوني لم تبرح وعيه وسلوكه السياسي. ولقد أسقط العرب ذلك الخيار من حساباتهم من دون أن يتحصّلوا شيئاً من الحقوق. أما «إسرائيل»، فتمسكت به وقد أخذت كل شيء! مفارقة غير قابلة للفهم بمفردات العقلانية السياسية التي ترسم للأمم والدول، في العالم المعاصر، استراتيجياتها وسياساتها العليا. ولعلها المفارقة التي لا تبدد إلا متى سلّمنا بفرضيات أخرى من قبيل أننا لم نُتقن بعد فهم لغة العصر الحديث ولغة المصالح وتصميم السياسيات والخيارات على مقتضاها... حتى لا نقول شيئاً آخر.

لكن من العرب من لم يُسقط خيار القتال، ولو كخيار دفاعي، هو في حقيقة أمره اضطرار أكثر منه خيار. ويتعلق الأمر، هنا، بالحالة الدفاعية التي نشأت في قسم من الوطن العربي تحت عنوان المقاومة. قد يختلف الناس في تقدير ما استطاعته المقاومات العربية (في فلسطين ولبنان ثم في العراق) في مواجهة الاحتلال، في هذه الحقبة العجفاء المديدة منذ أكتوبر 73، بين مستعظم شأنها ومستصغر، بين معوّل عليها ولا معوّل، بين نصير لها وناقد، فهو اختلاف في الرأي من وجه، وتنازع في الخيارات بين جبهتين في السياسة متقاطبتين من وجه ثان، لكن أحداً من المختلفين ليس يقوى على إنكار حقيقة أن هذه الحالة من المقاومة التي نشأت ونمت، طيلة العقود الماضية، إنما ولّدتها حالة الفراغ العسكري الناجمة من إسقاط خيار الحرب في السياسة الرسمية العربية، ولو نهضت المؤسسات العسكرية العربية بوظائفها الطبيعية في تحرير الأرض وصون السيادة والدفاع عن الأمن، لما احتاجت الشعوب إلى أن تنهض بما على الدول النهوض به من أعباء هي في جملة ما يبرر للدولة وجودها.

وإذا كان في حكم المشروع أن يتساءل قسم كبير من الرأي العام العربي عن الأسباب التي دعت السياسة الرسمية العربية، وتدعوها، إلى إسقاط خيار الحرب في مواجهة الاحتلال والغطرسة والتوسع، لأن الجيوش ما وُجدت إلا لأداء وظيفة حماية الأرض والسيادة والأمن، فإن مما يزيد من معدّل شرعية ذلك التساؤل أن قسماً عظيماً من الثروة والمقدرات والموارد المالية يُنتزع من برامج التنمية الوطنية ومن رغيف الخبز لتسليح الجيوش وتوفير احتياجاتها من العتاد. وهذا إذا كان مما ترتضيه الشعوب وتتحمل ضغطه الذي لا بد منه لحماية أمن أوطانها من الخطر الخارجي، فإن رغبتها في رؤية جيوشها قوية غير محتاجة لا يتناسب وشعورها بأنه لا عائدات، حتى الآن، لتلك القوة على حقوقها، فلا أرضها المحتلة استعيدت، ولا سيادتها المستباحة صينت، ولا أمنها القومي تحصّن من استباحة الأعداء. وليس هناك ما هو أخطر من أن يعزو الناس أسباب بؤسهم وفاقتهم لجيش يكدّس الأسلحة ولا يقاتل، فيما الأسباب قطعاً غير ذلك ولا صلة لتسلح الجيوش بها، ناهيك بأن العسكرية العربية لم تتخل يوماً عن واجبها في مواجهة «إسرائيل» كلّما طُلب منها أداؤه.

ولا يكفي هنا أن يقال إن العرب اختاروا السلام خياراً استراتيجياً لترتيب استنتاج على ذلك مقتضاه أن من يختار السلام لا يخوض الحرب ولا يتهيأ لها، ذلك أن مقولة السلام العربية لا يقابلها التزام «إسرائيلي» بالمبدأ نفسه، ناهيك بأن الدولة الصهيونية لم تتوقف عن شن الحروب في ظل عهد المقولة هذه، وآخرها حربها على لبنان وحربها على غزة. ثم لماذا نذهب بعيداً في سوق الأمثلة على أن حروبها على العرب ما انتهت، أليس احتلالها لفلسطين والجولان وأجزاء من جنوب لبنان ـ هو في حد ذاته ـ حرباً مستمرة ونقضاً للسلام والسلم؟ أليس رفضها الانسحاب من الأراضي المحتلة والانصياع للقانون الدولي والتجاوب مع «المبادرة العربية» تمسكاً بالعدوان واستخفافاً بدعوات السلام؟! لماذا تتكدّس الأسلحة وتتجيّش الجيوش والنفوس تحضيراً لصدّ «الخطر العراقي»، فيما الخطر الصهيوني الفعلي داهم وقوته العسكرية تمرح في مأمن من الخطر؟!

أسئلة تبعتها في النفس ذكرى حرب أكتوبر ولحظتها السياسية والعسكرية التاريخية. لا ترمز أكتوبر، في نظرنا، إلى الشجاعة والبسالة والكرامة ـ ولو أن فيها الكثير الكثير من ذلك ـ وإنما ترمز إلى العقلانية السياسية والمسؤولية عن مصالح الأمة ومصائرها، وهذان معدنان نفيسان في السياسة المعاصرة وفي استراتيجيات الدول الحديثة. لا أحد في العالم اليوم يشتهي الحرب، وخاصة إن كان من الضعفاء، ولكن ماذا عليه أن يفعل إن لم يجد من وسيلة أخرى للدفاع عن وجوده وحقوقه وكفّ الحروب عنه؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2182757

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2182757 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40