الاثنين 16 آب (أغسطس) 2010

الفكر القومي في لحظته المعاصرة : في الاستبداد والديمقراطية

الاثنين 16 آب (أغسطس) 2010 par د. عبد الاله بلقزيز

مثلما اصطدم الفكر القومي العربي بالمسألة الاقتصادية (التنمية) والمسألة الاجتماعية (الاشتراكية) ومسائل الأمن القومي، منذ نهايات الأربعينات وبدايات الخمسينات من القرن العشرين الماضي، فأضافها إلى إشكاليته الأساس : الوحدة العربية، كذلك اصطدم بالمسألة السياسية وما يقع تحتها من شؤون تتصل بالسلطة السياسية والشرعية والحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، والنظام الدستوري والنيابي والمشاركة الديمقراطية، والتداول السلمي على السلطة، أي بمجمل ما بات يندرج اليوم مع بعضه تحت عنوان المسألة الديمقراطية، وهي مسألة سبق أن اعتنى بها، قبل عقود من اهتمام القوميين بها، من سُمّوا بالليبراليين تماماً مثلما سبق اهتمام الماركسيين بالمسألتين الاقتصادية والاجتماعية قبل أن ينتبه إليها القوميون بقليل. وللانشغال بالمسألة السياسية في الوعي القومي العربي، منذ نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، أسباب تاريخية وموضوعية تفسره وتبرر جنوحه للتفكير في معضلة جديدة هي معضلة الاستبداد.

ربما كان السؤال الأجدر بالتناول قبل الذي طرحناه (ما أسباب الاهتمام القومي بالمسألة السياسية؟) هو : لماذا تأخر ذلك الاهتمام بينما ترددت صور التعبير عنه في الفكر العربي منذ أحمد لطفي السيد وتلامذته في العقود الأولى من القرن العشرين، بل منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر مع رفاعة رافع الطهطاوي ثم مع من عاصره أو تلاه من النهضويين العرب؟ هل كان إهماله، طيلة سنوات الخمسينات والستينات، نتيجة نقص في الوعي بأهميته لدى المثقفين القوميين؟

من المؤكد أن الإهمال ذاك ليس ذا صلة بنقص في وعيهم مفترض، على الأقل بالنسبة إلى بعضهم، كان قسطنطين زريق أبرزهم، وإنما هو يعود - في المقام الأول - إلى حسبانهم إياه أقل أولوية من غيره من الأسئلة حتى لا نقول دونها مرتبة. إنه، عندهم، في جملة ما يقبل التأجيل والإرجاء إلى حين تحقيق ما يفرض نفسه بإلحاح على الوعي والواقع : مواجهة التجزئة والاستعمار والخطر الصهيوني والتخلف الاقتصادي..إلخ.

والحق أن في قلب العوامل التي ساعدت على إهماله وإرجائه أن المثقفين القوميين نظروا بإيجابية عالية إلى الأنظمة السياسية القومية، وتحمسوا لبرامجها الاقتصادية والاجتماعية التحررية ونضالها ضد الأحلاف الامبريالية والمشروع الصهيوني، فتحاشوا أن يثيروا مسائل السلطة والمشاركة وحقوق الإنسان والديمقراطية، خشية أن يتقاطعوا في الموقف مع معارضيها في الداخل ممن حملوا هذه المطالب، وخشية توفير ذريعة داخلية للحملات الإمبريالية عليها من الخارج باسم تسلطيتها ومعاداتها للحريات، أو هكذا خالوا الأمر حينها وقرّوا عليه.

قد يكون هذا الذي ذكرنا سبباً يفسر ذلك الإهمال. وهو - مثلما يلاحظ القارئ - تعليل يفترض أن المثقفين أولاء ما كانوا يجهلون قيمة المسألة السياسية وأهميتها،ومسألة الديمقراطية منها على نحو خاص، بقدر ما كانوا يحاولون النظر إليها بعين الأولويات. وليس في هذا التعليل حسن ظن بهم، كما قد يقرأ ذلك قارئ، وإنما فيه البعض القليل من التسليم بأن الأفكار الديمقراطية لم تكن لتغيب، في أحيان كثيرة، عن نصوص بعضهم في عز حماستهم للمشروع القومي وارتباطهم به (قسطنطين زريق، ياسين الحافظ). على أنه في الوسع افتراض أسباب أخرى لذلك الإهمال ربما كان منها أن الوعي القومي العربي لم يكن قد تحرر تماماً - في سنوات الخمسينات والستينات - من الاعتقاد بالتلازم بين معنى الديمقراطية ومعنى الليبرالية. ولما كانت الليبرالية ممجوجة في عهدهم وتقترن إما بالنموذج السياسي الغربي الذي ناهضوه باسم الاشتراكية، أو بالفساد السياسي الذي طبع الحقبة الليبرالية العربية بين الحربين، فقد انتهى بهم مطاف المماهاة تلك إلى إسقاط مطلب الديمقراطية. ولهذا التعليل قدر من الوجاهة أيضاً، ومما يبرره أن الديمقراطية لم تكن ثقافة ذلك العهد عند التقدميين، لا في الوطن العربي ولا خارجه. أما أن يكون بعض المثقفين القوميين قد وطّن بعض قيمها في كتاباته، وهذا صحيح، فقد كان ذلك في مرحلة متأخرة من عقد الستينات من القرن الماضي، أي في الوقت عينه الذي انتبه إليها عبدالناصر (وبيان مارس 1968) وأياً يكن السبب في ذلك الإهمال، فالنتيجة هي هي : الإهمال.

ولقد أتى رحيل عبدالناصر والانقضاض على نظامه القائم على الشرعية القومية، يرفع حرجاً عن خطاب الديمقراطية في الفكر القومي، وخصوصاً بعد أن تبين أن الاستبداد لم يتناقص معدلاً بعد خروج النخب القومية من السلطة ومجيء أخرى نقيض لها، مرتبطة الولاءات والسياسات بدول الغرب (الديمقراطية)، وإنما هو تعاظم واستفحل بدرجات مخيفة : ولكن هذه المرة من دون تعويض بمكتسبات وطنية وقومية على نحو ما حصل في العهد القومي للنظام السياسي العربي. وقد صادف هذا التحول الابتدائي في الوعي القومي نحو التفكير الديمقراطي الانتعاش الجديد للثقافة الديمقراطية في العالم، وأثر ذلك في مجتمعات وثقافات خارج النطاق الجغرافي والثقافي الغربي (مجتمعات أمريكا اللاتينية وشرق آسيا والوطن العربي). وهكذا شهدنا، منذ أواسط السبعينات من القرن العشرين، ازدهاراً لمفاهيم المواطنة، وحقوق الإنسان، والمشاركة السياسية، والتداول الديمقراطي، والمجتمع المدني ..في الخطاب السياسي العربي والخطاب القومي منه بخاصة، مقترناً مع ميل صريح إلى تنزيل مسألة الاستبداد منزلة الإشكالية الأساس أو الإشكالية الأولى في التفكير والمناقشة والانتداء والتأليف، وفي صور مختلفة من ذلك التنزيل، تحت عنوان الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو المجتمع المدني، وهو ميل أخذ مداه أكثر منذ النصف الأول من عقد الثمانينات.

وليس من شك في أنه طرأت متغيرات سياسية عالمية ساعدت على تجذير خيار التفكير في المسألة الديمقراطية في نطاق الفكر القومي، وأهمها انهيار الاتحاد السوفييتي و«المعسكر الاشتراكي»، وما نجم من ذلك الانهيار من سقوط متجدد للنموذج الكلاني (التوتاليتاري) في السلطة ونظام الحكم، غير أن أكثر العوامل دوراً وتأثيراً كان العامل الداخلي، فسيرة الاستبداد ساءت أكثر من نظم الحكم العربية، ونتائجها بلغت من الفداحة حداً لم تأخذ معه الحياة السياسية إلى الانسداد فحسب، وإنما هزّت به الاستقرار الاجتماعي والسياسي لتأخذ المجتمعات العربية إلى ظواهر العنف السياسي والأهلي، بل أخذت معها الوحدة الوطنية في كل بلد عربي إلى الانفراط. ويكفي دليلاً على مستوى السوء الذي بلغه الاستبداد السياسي جولات العنف الدموي التي كان قسم كبير من المجتعات العربية مسرحاً لها طيلة الفترة الفاصلة بين اندلاع الحرب الأهلية في لبنان (1975) و«نهاية» الحرب الأهلية في الجزائر (1998).

على أن المثقفين القوميين الذين أرادوا الديمقراطية وسيلة للوحدة العربية، في أول أمر اهتمامهم بها في السبعينات، سرعان ما سيكتشفون أنها مطلوبة في ذاتها من أجل وقف سرطان الاستبداد في المجتمعات العربية، قبل أن يدركوا أنها وحدها العلاج لتجزئة أخرى قادمة في شكل تقسيم جديد للكيانات الوطنية القائمة. ليس المجال هذا مناسباً لتحليل نوع الالتزام الديمقراطي في الخطاب السياسي القومي ودرجة تشبّع الخطاب هذا بالقيم الديمقراطية، وإنما نكتفي بالتشديد على أن هذه المحطة الرابعة، والإشكالية الرابعة في الفكر القومي، تشكل منعطفاً شديد الأهمية في تاريخه المعاصر حتى إن كان التأصيل الفكري فيه ضعيفاً، والإنتاج النظري يكاد يكون في حكم المعطل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 33 / 2182838

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

41 من الزوار الآن

2182838 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 41


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40